15

778 20 0
                                    

الفصل الخامس عشر
ظل عاصم واقفا متسمرا بمكانه عدة لحظات .. السكون الذي يسبق العاصفة , جاسر رشيد !! ... اندفع هذا الأسم من غيمة ذكرياته القديمة ... تلك الذكريات التي كان يفضل أن ينساها ,حيث لم يكن عاصم رشوان البارحة هو عاصم رشوان اليوم ... أيام التمرد و الجموح ...... أيام الغضب الأعمى و قتال الشوارع
و الآن بمجرد سماع الاسم حتى اندفعت المشاعر القديمة في عروقه , و تذكر قسمه بأن يقتله إن رآه مرة أخرى بعد أن سافر و ترك حنين قبل أيام من زفافهما ....
لم يتجرأ أحدا على إهانة الحاج اسماعيل رشوان بهذه القذارة من قبل .... لا يزال يتذكر شكل و الده حين عاد ليجلس في كرسيه الكبير مسندا جبهته الى يده بتعب .... بينما معالم الاحساس بالذنب مرتسمة على وجهه . وكأنه هو المسؤول عن فشل زواج حنين من ذلك الحقير ....
يومها أقسم عاصم أن يقتله إن رآه مجددا .....
كل الفترة السابقة وهو يتعامل مع شركة حنين دون ان تخبره !! ..... من المؤكد أنه عاد ليلهو بها من جديد , فالحقارة في دمه منذ صغره ...
و هي ... كيف لم تتجرأ و تطلب مساعدته الا إن كانت راضية بما يحدث , وصبا !! ...... صبا !!!
اشتعلت عينا عاصب بنيران الهمجية و الغضب و اندفع جاريا يصعد السلالم كل درجتين معا ,حتى وصل الى غرفته فاقتحمها اقتحاما و صفق الباب خلفه بقوة .....
كانت صبا واقفة تنظر من النافذة وهي أيضا تشعر بالقلق على حنين ... الحمقاء لم تستمع لنصيحتها و ذهبت بمفردها للحفل , أي تفاهم ذلك الذي يدعيه ذلك المبتز و هو يأمرها أن تذهب اليه ترتدي مثل فتيات الاستعراض
و طبعا سيكون التفاهم بعد الحفل , وما لو أخذها لبيته ... و حنين المسكينة لن تستطيع صده إن حاول معها شيئا ....
اشتعل الرعب في نفس صبا اضعافا مضاعفة حين و صلت بتفكيرها الى تلك النقطة ... ماذا لو كان فخا لحنين و كان ناويا على أن ........
رفعت اصابعها الى وجهها وهي تشحب بشدة ... وما الذي سيمنعه ذلك المجنون الذي يظن ان له حق عليها ....
كيف ... كيف ... كيف سمحت لها بالذهاب ؟ ..... لكن ماذا كان بإمكانها أن تفعل وقد أصرت حنين بشدة و الحاجة روعة كانت راضية وهي غير ملمة بالكوارث الخافية ........
و في اثناء تفكيرها المرعوب و قبل ان تلتقط هاتفها لتطمئن على حنين و تأمرها بالعودة حالا .... كان باب الغرفة قد فُتح بصوتٍ أرعبها و دخل عاصم صافقا الباب من خلفه بقوة .....
استدارت برعبٍ اليه .... و شاهدت نظرته المتوحشة التي لم ترها في عينه من قبل .... ما الجديد ؟ هناك كارثة قد وقعت , تراجعت صبا حتى التصقت بالنافذة بينما اقترب من عاصم و الغضب جعل منه وحشا مرعبا في أسوأ صوره ....
تقدم عاصم اليها في خطوةٍ واحدةٍ و قبل أن تجد الفرصة لتسأله كان قد مد يده ليمسك بشعرها بقوةٍ وهو يصرخ عاليا
( كنتِ مع جاسر رشيد ؟ ...... كذبتِ و خدعتني و ذهبتِ للقاء رجلٍ غريب و بكل هدوء كنت تخبريني أنه لقاء عمل ؟؟ !!! )
صرخت صبا على الرغم من رعبها وهي تحاول جذب شعرها من يده بشراسة
( اتركني .... اتركني , لا تعاملني بتلك الطريقة , أنا لست عبدة لك )
ترك شعرها بأن قذفه بعيدا بغضب ثم رفع اليه سبابته محذرا وهو يقول بشراسةٍ خطرة
( انها ثان مرةٍ تتجاوزين حدودك في الكلام معي .... و أنتِ لستِ بقادرة على تحمل عواقب غضبي صدقيني , )
مد يده ليمسك بذراعها بقسوةٍ وهو يجذبها اليه ليقول هادرا
( كلمة واحدة و لا أريد غيرها ..... هل تعرض جاسر لحنين ؟؟ )
كانت تلهث بقوةٍ ... وهي ترى غضبا أسود قادر على إحراقها حية و حين تأخرت في الرد شدد عاصم اكثر على ذراعها و هو يصرخ بغضب
( أجيبي ........)
صرخت صبا بخوف و غضبٍ معا ( نعم ........نعم ....)
اشتعلت عينا عاصم و هو يترك ذراعها ببطء مما جعلها تفكر في حكمة ما تفوهت به للتو .... ابتعد عنها ليلتقط سترته و مفاتيحه بحركةٍ سريعة ... مما جعلها تركض خلفه و امسكت بذراعه قبل أن يخرج من الغرفة لتقول برجاء
(عاصم .... انتظر , لا تذهب و أنت في هذه الحالة , انتظر حتى تأتي حنين و اهم منها الأمر بهدوء )
نفض يدها عن ذراعه بقوةٍ ... و نظر اليها نظرة مرعبةٍ طويلة قبل أن يقول بصوتٍ خطير
( أنا و أنتِ لم ننته بعد ...... وحسابك على ما فعلته سيكون حين أتفرغ لكِ و حتى ذلك الوقت إياكِ و أن تتجرأي حتى على التفكير في مغادرة باب هذا البيت )
التمعت عيناها رفضا و تمردا من لهجته الغريبة ... الا أن الحالة التي كانت مرتسمة على وجهه جعلتها تلتزم الصمت رفقا بحنين أولا ثم بها ..... و به .......
خرج عاصم بعنف .... بينما وقفت صبا مشبكحة يديها معا فوق صدرها اللاهث
يالهي ... الآن فهمت خوف حنين من اخبار عاصم , وماذا إن علم بالباقي من القصة , .... كل خوفها حاليا على مصير حنين المسكينة , أما بالنسبةِ لها ..... فلم يكن خوفا بالمعنى المفهوم , لكن أحساس غريب لا تعرف له تفسيرا ... يشعرها بالضيق .
تجاهلت مشاعرها الغريبة حاليا و اتجهت الى هاتفها لتطلب حنين .... الا أن الهاتف أخذ يصدر صوت الرنين دون ان ترد . اشتعل قلب صبا خوفا عليها و هي تعض على شفتها .. وتهمس
( يا رب ... يا رب سلم العواقب ... )
.................................................. .................................................. ....................................
في نفس اللحظة التي خرج فيها من البيت , كان مالك مقبلا عليه , ودون كلمة جذبه عاصم من ذراعه ليتجه به حيث سيارته ليركبا و ينطلق عاصم بكل جنون ..
حاول مالك سؤال عاصم عما به و قد انتابه القلق من منظر عاصم المخيف ..... فرد عاصم بكلمةٍ واحدة من بين أسنانه وهو ينظر أمامه بكل بأس
؛( جاسر رشيد ......)
تجمدت ملامح مالك .... و عينيه .... و قلبه , و شعر من مجرد سماع الاسم بالفِ خنجرٍ يدب نصله في صدره ......
جاسر رشيد .... اسم جلب اليه ذكرى العويل و النواح .... ذكرى السواد و الدعاء على آل رشوان جميعهم .....
ذكرى طفلةٍ كانت كزهرةٍ يرعاها لتطير مع الريح أمام عينيه .... ابتلع مالك غصة في حلقه وهو الآخر ينظر أمامه غير قادرا على النطق بكلمة أخرى .
الي متى يظل الألم نابضا دون أن يمحو ذكراها ........
.................................................. .................................................. .....................................
تلك النظرة في عينيها ... نظرة غريبة , ضربته رأسا و كأنه حجرا ضرب صدره في غفلة ....... طال التقاء أعينهما بينما بهتت ابتسامته العابثة قليلا ....أمام نظرتها . .........
ارتجفت ابتسامته ومالت قليلا ... الا أنه رفض أن يفقد مظهر تسليته وعبثه , رفض أن يفقد ولو لحظة من انتصاره .... كم هو جميل أن يحظى بما هو ملكا له ....
عادت القسوة ممتزجة بالزهو ..... بينما بداخله شيئا ما يخدش ابتهاجه ......
عم سكون تام القاعة بعد الهياج و التصفيق ..... منتظرين أن يكتمل المشهد العفوى الذي تأتي نهايته دائما سعيدة كما في الأفلام .... حيث يدبر الحبيب عرض زواج لحبيبته في أغرب الأماكن ....
و كانت أعينهما في صراعٍ من نوعٍ غريب .... بدأت الهمهمات من حولهما بينما هو واقفا , ممسكا بالعلبة المخملية المفتوحة لتظهر خاتما من أروع ما يكون .... خاتما منقوشا بنقوشِ تكاد تحاكي نقوش خاتمه ..
أخيرا و بكل و ضوح خرجت الكلمة من بين شفتيها , ودون تحيد عيناها عن عينيه ......
( لا ............. )
تعالت الهمهات و بعض الشهقات .... و توتر الجو في لحظة , بينما برقت عينا جاسر قسوة و تصلبت ملامحه و من بين نظراته لمحت طيفٌ خفي من الصدمة ......
مالت شفتي حنين في شبه التوائة لإبتسامةٍ قاسية ... مصدوم ؟؟!! ..... حتى في اللهو بحياة البشر شعر بالصدمة لأن الضحية أعلنت أنها لا تأبه بفخه الذي نصبه لها .... و كأنه لم يتخيل أن تستطيع الاستفاقة من ضربته المحكمة .....
كل هذا الحوار دار في نظرتهما لبعضهما خلال ثوانٍ معدودةٍ من إعلان رفضها ........
قال جاسر بصوتٍ بطىء ... بطيءٍ جدا و ممطوط بتهديدٍ خفي
( حنييين .........)
قالت حنين بصوتٍ عالٍ قوي
( يبدو أنك نسيت الخاتم الذي في إصبعك أنت يا سيد جاسر ...........)
لا إراديا حانت منه نظرة الى الخاتم الفضي المنقوش في خنصريده اليسرى .... ثم ببطءٍ عاد ليرفع عينيه اليها فتابعت حنين و هي تشدد على كل حرفٍ بقهرٍ و غل ..
( هناك زوجة لك تركتها تنتظرك في مكانٍ ما ......أم أنك نسيتها و أنت تقدم عرضك الحالم )
تعالت أكثر الشهقات .... و تحدته عيناها و تجمدت عيناه على هذا التحدي السافر , لكن ليس التحدي هو ما سمره .... بل عودة تلك النظرة ..... و كأن روحها هي من انتفضت لتصرخ قهرا ... غضبا ..... كرها ....... ألما ....
.................................................. .................................................. .......................................
كان عمر لا يزال واضعا يده على جبهته مذهولا مما يحدث أمامه ... الغبي المجنون , لم يتخيل في أسوأ كوابيسه أن يقدم جاسر على فعل مثل ها التصرف الحقير ليضع حنين أمام الأمر الواقع .......
أفلتت منه كلمة واحدة همسا بكل غضب العالم
( غبي ........)
لكن رنيم المذهولة بجواره سمعتها ووصلت الي أذنها كالقذيفة , فالتفتت اليه بسرعةٍ وهي تراقب ملامح وجهه المشتدة غضبا , ظلت مسمرة نظرها على عينيه الغاضبتين و هي تتسآل هل تتآكله الغيرة الآن ؟
رغما عنها شعرت بشعورٍ قاسٍ و طعمٍ كالمعدن الصدىء في حلقها ... فأبعت نظهرها عنه بسرعةٍ و هي تحاول تخبئة خيبتها الغريبة من شخصٍ لا و لن يمت لها بصلةٍ يوما ......
سمرت نظرها المحبط على أرض القاعة الي أن سمعته يتابع و هو يكاد يركل الأرض بقدمه
( الغبي فضح كل شيء .......)
نظرت اليه رنيم مذهولة مما قاله و هتفت قبل أن تستطيع إمساك نفسها
؛( هل تعرف بإرتباطه بحنين ؟؟ !!! ............ )
جاء دوره ليستدير اليها مذهولا ثم قال بخفوتٍ خطير
( ماذا تقصدين ؟؟ ...............)
ابتلعت ريقها و شعرت بالخوف من نظراته القاسية و بأنها قد خاضت في مياهٍ خطرةٍ بالنسبة له فتمنت لو كانت قد استطاعت امساك لسانها الغبي قبل أن تتهور
ارتبكت و عضت على شفتها و هي تنقل عينيها ترمش بهما منه الي جاسر وحنين ..... و حين لم ترد مال عليها ليقول بغضب
( ماذا تقصدين عن ارتباطهما ؟؟ ......... )
تسائلت رنيم بينها و بين نفسها عما ستكون ردة فعله إن علم بزواج حنين في تلك اللحظة .... لكنها طبعا لم تكن لتفشي هذا السر بعد أن وعدتها ...... لذا أخفضت راسها و هي تهمس بخفوت
؛( قصدت أن .....أن شكلهما يوحي بأن شيئا ما بينهما منذ فترة )
فجأة طار من عينيه أي حنانٍ كانت قد لمحته فيهما من قبل في لحظةٍ ما .... وحلت محله نظرة تحوي بعض الإزدراء جعل قلبها يسقط من بين ضلوعها ..... ثم قال بجفاء
( يبدو أنكِ كما توقعت .... ممن يحبون نقل الأقاويل و ليس بناءا على معلوماتٍ حقيقية بل على مجرد رغبةٍ تافهة في تصيد الخبر اللامع المشوق .... تماما كما يحدث في أنديتكم التافهة التي أصبحت مستنقع للإشاعات حول أعراض البشر .... لكن هنا .... هنا يا آنسة رنيم , لا مجال لخوض مثل تلك الأحاديث عن زملائنا ........ )
كانت تنظر اليه خلال خطبته الطويلة بعينين متسعتين بصدمة .... وقلبٍ يرجف بشدةٍ من عمق الإهانة التي تتلقاها كضربات الرصاص ....
و ما أن انتهى حتى عقدت حاجبيها قليلا بينما عينيها المصدومتين امتلأتا فجأة بالدموع ..... ثم همست ما أن استطاعت بصعوبة
( لست أنا من هذا النوع أبدا ...... و لن أكون , و ما يفعله عميلك المحترم الآن و سابقا .... قد فتح ابواب الأقاويل للجميع )
ثم ودون كلمةٍ أخرى استدارت بعيدا عنه و قد بدأت أول دموعها في التساقط على وجنتيها .... و هي تبتعد بعرجٍ طفيف زاد أكثر عما دخلت دخلت به ......
فتح عمر فمه يريد أن يناديها لكن جملة صادرة عن حنين في وسط الجمع جعلته يرتد بسرعة و هو يسمع عبارتها المدوية
( هناك زوجة لك تركتها تنتظرك في مكانٍ ما ......أم أنك نسيتها و أنت تقدم عرضك الحالم )
تعالت الشهقات المصدومة ... بينما همس عمر بيأسٍ و غضب
( يالهي ..... يالهي ..... الوضع تدهور لأسفل حد )
نقل نظره بين الباب الذي خرجت منه رنيم تتعثر ... و بين جاسر وحنين و هو يشعر بغضبٍ على الجميع ..... و على نفسه قبل الكل ...
ظل جاسر ينظر الي حنين قليلا بعد أن فجرت تحديها ..... وملامحه غامضة غير مفهومة وهو ينظر الي شراستها التي فقدت السيطرة عليها و كأنها قد ضربت عرض الحائط بكل مخاوفها ..... ثم قال بهدوءٍ بطيء ودون أن تتغير ملامحه
( ليست لي زوجة غيرك يا حنين ........ فلا تتهربي بخلق الاكاذيب )
ابتسمت .... حقا ابتسمت بسخريةٍ مريرة و عادت نفس النظرة الي عينيها .......وهي تراه يقف أمامها بكل ثقة العالم , متلاعبا بحياتها و كأنه يحاول ربح سباقا وضع رهانه عليه ..
همست لمرةٍ اخيرة و لعينيه فقط
( لا ...... )
ثم ابتعدت عنه و فستانها الأحمر يتطاير حول ساقيها من عنف خطواتها و شعرها يتقافز من خلفها .... لتخرج من باب القاعة مارة بعمر الذي كان واقفا ينظر اليها و كأنه يطلب منها السماح على شيءٍ لا يد له فيه ....
لكنها نظرت اليه و هي تهمس بداخلها .... ابتعد عني , طويت صفحتك يوم تخليت عن مساعدتي ....... ابعدت نظرها عنه للأبد وهي تخرج .......
كانت قد وصلت لمدخل المبنى الرخامي قبل أن تسمع خطواتٍ سريعة من خلفها و صوته يقول برجاء
( انتظري حنين .... سأقلك أنا , لا تغادري وحدك )
تسمرت فجأة ثم دارت حول نفسها بقوةٍ وهي تنظر الي عينيه الحزينتين ... لتهتف بألم تشعب في كل حرف من حروفها
( بك الخير يا عمر ...... حقا , شكرا .... لكل شيء )
ثم عادت لتلتفت بقوةٍ تنوي الرحيل .... لكنه هتف بقوة
( حنين انتظري .... كان رغما عني , لم اتخاذل مع أحد احتاجني من قبل كما تخاذلت معك )
وقفت حنين مكانها دون أن تستدير اليه ..... ظلت واقفة مكانها لحظة لحظتين ثلاث .... الى أن قالت أخيرا بصوتٍ أجوف لا معنى له
( كنت تعلم ....... أنني أحبك , أنني احببتك منذ أن عرفتك و قبل حتى أن تعرفني أنت )
رفع عمر كلتا يديه الي شعره و هو يغرزهما بيأسٍ في خصلاته و هو يهمس ( لا ..... لا ..... لا تفعلي ذلك )
ناظرا الي ظهرها و شعرها الذي منع كل أمل في رؤية ملامحها ..... و لحظة أخرى كان الصوت عميق النبرات يأتي من خلفه ليقول برعشةِ مجنون
( أنتِ مخطئة في تلك النقطة يا زوجتي العزيزة ............. )
استدار كل من حنين و عمر في نفس اللحظة لينظرا الى صاحب الصوت و الذي وقف خلف عمر ينظر اليهما بعينين مخيفتين و كأن روحا قد سكنته و أصبح مغيبا عن الواقع بنظراته التي تبرق جنونا ..... لم يمنحها الوقت لينطقا بحرفٍ وهو يتقدم خطوة و يقف بجوار عمر وهو يبتسم بشراسة و يقول مستمتعا متعة غريبة و كأنه من المحبين لتعذيب أنفسهم
( أنت مخطئة يا صغيرة ...... فعمر يعرفك قبل أن تعرفيه )
ثم أحاط كتف عمر بذراعٍ واحدةٍ ليشده الي جذعه ضاحكا عاليا بجنون وهو يضرب على صدر عمر بقوةٍ و يقول من بين ضحكه العالي بينما عينيه لا تحملانِ أي أثرٍ للمرح
( ما لا تعرفينه أن عمر من أعز أصدقائي ...... وهو من كلفته برعايتك الى أن أخرج , ليمنع عنكِ كل السارقين )
فغرت حنين شفتيها المكتنزتين القانيتينِ حمرة .و هي تنظر بعدم فهم من جاسر الي عمر المصدوم ......
بينما خف ضحك جاسر قليلا وهو ينظر الي جانب وجه عمر الذي كان ينظر الي حنين بألم .... فقال جاسر وقد بهتت ضحكته
( بل هو أكثر ..... هو أكثر من اخي )
كانت حنين تنظر الي ما تراه أمامها و كأنها تشاهد مسرحية هزلية .... فمها الأحمر مفتوحا و عينيها تستجديانِ أن يتطوع أحد ليخبرها بأن كل هذا هو مجرد لعبةٍ سمجة من مجنون ......
استطاعت أن تنشج بهمسةٍ مستجديةٍ وكأنها تطالبه بتفسير
( عمر !! ...........)
و كانت نظرة عمر هي من أخبرتها بصدق ما سمعته للتو .... نظرة الألم و الاعتذار الشفافة التي نبعت من عينيه جعلتها ترفع يديها الى فمها بينما عيناها تتسعانِ أكثر و أكثر ......... والرؤية تتشوش أمامها بسحابةٍ ندية ...
همست دون وعي و الدموع تخزها أكثر ...
( لا ..... لا يمكن , كل هذا كان مجرد ..... وهم ؟؟ )
حينها ترك جاسر عمر ليتقدم اليها في خطوتين ثم جذبها من ذراعها بقوةٍ وهو يقول لعمر من خلف كتفه بصوتٍ قد يرعب اشد الرجال بأسا
( بعد اذنك يا صديق ...... ما تبقى هي مجرد أمور عائلية يجب إن نحلها على انفراد )
جرها خلفه بينما خطواتها تسابقت لتلحق به و قبل أن يخرجا ... استدارت لتلقي على عمر نظرة أخيرة الا أن دموعها منعتها من رؤية ملامحه بوضوح ........
جرى عمر خلفه عدة خطوات و تشبث بذراعه يقول بقوة
(؛ انتظر يا جاسر ..... لا تتهور و دع حنين الآن )
نظر اليه جاسر نظرة اوقفت كل الكلام في حلقه و هو يقول بهسيس مخيف
( ابتعد حالا يا عمر , إن أردت الا تزيد فضائح الليلة واحدة أخرى إضافية )
سكت عمر و هو ينظر الى حنين المصدومة , فقال بقوةٍ
( لن أدعك تأخذها ............ )
امسك جاسر بحنين بقوةٍ جعلتها تنتفض وهو يدفعها امام عمر وهو يمسك بخصرها بقوةٍ و هزها قليلا و هو يقول
( اخبريه ...... أتأتين معي , أم قسما بالله أتركك اليه و أخرج الى بيتك حالا )
رفعت حنين عينيها المغروقتين دموعا الى عمر .... و بعد لحظاتٍ همست بكره
( ابتعد عني ...... و إياك أن تتدخل في حياتي بعد الآن )
حينها انتهى الكلام لدى عمر و قد صدمته نظرة الالم و الكره في عيني حنين التي , خرج بها جاسر و هي مستسلمة خلفه الي أن وصلا الي سيارته ففتح الباب الأمامي ليدفعها الي المقعد الأمامي كبضاعةٍ مستهلكة .... ليدور حول السيارة في ثوان و يدخل بجوارها و ينطلق مبتعدا بها عن الجميع .....
كانت حنين تنظر أمامها دون أي تعبيرٍ سوى دموعها المتساقطة بصمت لتغرق وجهها بينما كان هو كمن يجلس على فوهة بركانٍ وهو يقود بسرعةٍ جنونية .....
.................................................. .................................................. ...............................
خرج عمر بسيارته من ذلك المكان بأسرع ما يمكنه وهو يشعر بغضبٍ و غثيان من كل ما حدث الليلة .... لكن وما أن خرج الي الطريق و ابتعد قليلا ..... حتى وجدها هناك , جالسة على أحد المقاعد المرصوفة أمام البحر ......
اتسعت عينا عمر قليلا وهو يتأكد مما يرى , في هذا الوقت ليلا و هي لا تزال جالسة هنا تنظر الى البحر أمامها , هل هي مجنونة أم ماذا .....
أوقف السيارة على الطريق لينزل منها مسرعا و ما أن وصل اليها حتى قال بخشونةٍ من خلفها
( ماذا تفعلين هنا ؟ ..... وكيف تجلسين هكذا بمفردك في هذا الوقت من الليل ؟ )
لم تلتفت رنيم اليه ....ولو كانت قد التفتت اليه لكان قد رآى وجهها مغرقا بالدموع .... حين لم ترد قال عمر بصوتٍ أكثر أرق قليلا
( رنيم ..... ألم تأتي بسيارتك ؟ )
ظلت صامتة الا أن اهتزاز كتفيها البسيط انبئه أنها تبكي ... فدار حول المقعد ليواجهها و ما أن رأى وجهها المغروق في الدموع حتى عبس بشدةٍ مع اتساع عينيه دهشة وهو يقول
( كل هذا البكاء ؟؟ ........... )
لم ترد رنيم و لم تجد القدرة على رفع عينيها اليه .... فقال عمر بهدوء لا يشبه ذرة مما بداخله
( هيا ..... سأقلك أنا )
و بعد لحظة صمت أعاد بقوةٍ أكبر قليلا
( هيا رنيم , منظرك هنا ليس سليما على الإطلاق )
نهضت بعد لحظةٍ في صمت دون ان ترفع راسها اليه و استطاعت النطق بصعوبة
؛( سأستقل سيارة أجرة ..........)
قال عمر بصلابةٍ لا تقبل الجدل ( مستحيل ....... هيا معي دون كلمة )
سارت رنيم بجواره و جلست حيث فتح لها الباب ...... بعد ان انطلق بالسيارة قال ببطء دون أن ينظر اليها
( لم يكن عليكِ الهروب و الإنهيار سريعا دون مواجهة ........... )
قالت رنيم بعد عدة لحظات بلا تعبير و هي تمسح وجهها
( لم أعد اريد المواجهة ..... و لا أريد ان يملي أحد علي كيف اتصرف )
ضحك عمر قليلا على الرغم من الحزن المحيط به .... و انتهت ضحكته بتنهيدةٍ مريرة جعلت رنيم تنظر اليه ثم همست بضعف
( كيف انتهى الامر ؟ ......... )
لم يرد عمر للحظات ثم قال بخفوت
( انتهى بسوء .... بمنتهى السوء , لم أتخيل يوما أن أتسبب في جرح انسان كما فعلت ........ )
اتسعت عينيها قليلا و هي ترى مقدار العذاب الذي يشعر به دون أن تفهم شيئا مما يحدث ..... من الذي جُرح ؟؟ ... اليس هو من جُرِح من ارتباط حنين بجاسر ؟؟ ..... فلماذا اذن يقول أنه جرحا شخصا ؟ ومن يكون ؟ .....
لكن طبعا لم تكن تتجرأ على أن تسأله عما يعنيه بعد الكلام المسمم الذي نالها منه منذ قليل ........
لذا همست برقةٍ و خفوت
( لا بأس ........ )
نظر عمر اليها للحظةٍ و طالت عينيه على ابتسامتها الصغيرة الحزينة المتعاطفة ..... ثم لم يلبث أن نظر أمامه ليقول بخفوت
( لا ...... ليس لا بأس على الإطلاق )
تردد رنيم قليلا , الا أنها لم تستطع تركه في مثل هذه الحالة فهمست مرة أخرى
( لا تحمل نفسك أكبر مما تستطيع ........... )
لم ينظر اليها , لكنها رأت عضلة في حلقه تتحرك بصعوبةٍ بالغة .... ماذاك العذاب كله ؟؟؟ ...... تنحنح عمر بعد لحظات ليقول بلهجةٍ حاول ان يجعلها طبيعية
( اذن ...... يا آنسة رنيم , .......كيف تجدين عملك ؟ )
ابتسمت رنيم قليلا بحيرة ثم همست
( على أساس من الذي يسأل ؟؟ .........)
ابتسم عمر قليلا وهو يشعر برغبةٍ قهرية في الهروب من تلك اللحظات التي مر بها.... و رغبة أكبر في نسيان صورة عيني حنين المذبوحتين بسببه ......
فقال أخيرا برقة
( شخص عابر ..... نحن لسنا في العمل الآن , لذا خذي راحتك ........ )
ابتسمت رنيم اكثر قليلا بينما احمرت وجنتيها دون أن تعرف سببا .... و قالت برقة
( كنت أظن أن الأمر سيكون مأساويا ..... الا أنه في الواقع يتحسن كل يومٍ عما قبله )
سكتت قليلا ثم همست بخجل
( الا أنني أظن أن هذا ليس رأيي مديري المباشر ........ )
ضحك عمر و هو يرغب في هذا النقاش لأبعد حد ثم قال
( مديرك المباشر يحب الإصرار ...... الا أن من نبرة صوتك, أنه يبدو متعنتا و لا يطاق )
ازداد احمرار وجنتي رنيم الا أن ابتسامتها لم تختفي و عضت على شفتها و هي تهمس بخجل مستعيرة كلمته التي قالها أول الحفل
( لا تقل عنه ذلك ..... إنه رائع في كل أحواله )
ارتعشت ابتسامة عمر قليلا و قد أخذته المفاجأة حتى أن المقود اختل في يديه للحظةٍ و حاد عن مساره فأعاد السيارة بسرعة وهو يعقد حاجبيه بينما احمر وجهه قليلا الا أن ذلك لم يظهر في عتمة السيارة
نظرت رنيم مبتسمة من النافذة الي الليل الطويل الذي يجري معها بسعادة طردت عذابها الذي كان يفترسها منذ لحظات , مالذي جعله يجدها و يطير بها ؟ ......
مد عمر يده الي مسجل السيارة لتنبعث موسيقى كلاسيكية غمرت السيارة بأنغامها الحالمة مما جعل رنيم تغمض عينيها وهي مبتسمة برقة .... مفكرة في نفسها .... نعم هذا ما كان ينقصني لأقع على وجههى تماما في مثل تلك اللحظات المجنونة .....
انجديني يا حووور ....... ضحكة صغيرة أفلتت من بين شفتيها , فنظر عمر اليها بدهشةٍ ليقول بخفوت
( كنت تبكين بانهيار منذ للحظات و ها أنتِ تضحكين الآن دون سبب ...... و نعم المهندسات اللاتي عملت معهن )
ضحكت رنيم أكثر و هي ترفع يديها لتغطي وجنتيها الحمراوين دون أن تخبره أنه سبب كل الدموع و الابتسامات منذ فترة قصيرة في حياتها .......
قال عمر بجدية بعد فترة صمت ......
( رنيم ..... لقد أثقلت عليكِ في المجهود الفترة الماضية دون أن تخبريني بعمق اصابتك , يمكنك اخباري بصراحةٍ ولا تخافي ....... حتى أعلم ما يفوق طاقتك في العمل )
اختفت ابتسامة رنيم في لحظةٍ واحدةٍ وقد أعادها الي اصابتها التي نسيتها تماما و كأنها أكثر النساء اكتمالا ..... همست رنيم برقةٍ حزينة
( صدقني لن أخفي عنك شيئا .... أنا طبيعية تماما , و ككل البشر .... أنا فقط لا يجب ان أصعد السلالم الى طوابق عليا .... وكل الناس اصبحو كذلك في هذه الأيام .... أنا أعمل معك منذ فترة هل لاحظت أن هناك ما ينقصني أو أن هناك ما يجعلني ........)
رفع عمر يده يقاطعها تماما بنفس طريقة نائل ..... الا أن الوضع يختلف , ....... يختلف كثيرا , حيث قال عمر بصرامة
( رنيم .... رنيم ..... توقفي عن ذلك , أنتِ تبدين لي بخير تماما ... أنا كنت أسألك حتى أعرف ما يتعبك قليلا فلاداعي منه ..... و إن أردت الحق , فقد أخبرتك أنني أحب الإصرار ..... و بالرغم من كل ما كان يدل على أن عملك بعد تلك الفترة الطويلة مستحيلا .... الا أنك تقدمتِ بسرعةٍ تثير الإعجاب )
عادت لتبتسم بكل سعادة و حماقة .... اعجاب ؟؟!!!! .... اعجاب ؟؟!!! ..... انجديني يا حوور ....... مفاصل أطرافي تفككت من بعضها ....
تابع عمر حديثه و هو يقول برفق
( أنا أتسائل عما جعل إنسانة في مثل إصرارك لا تبدأ في تحقيق طموحها منذ سنوات ........... )
انكسرت ابتسامة رنيم قليلا الا أنها لم تختفي تماما ..... ثم قالت بهدوء
( بعد الحادث الذي تعرضت له ..... كنت دائما بين هنا و في الخارج في سفرٍ مستمر بسبب جراحاتي المتتالية كل عام , ... في البداية كان كل الإهتمام منصبا على إمكانية أن اسير على قدمي من جديد ..... و قد استغرق ذلك فترة طويلة , و بعدها بدأ الاهتمام بجراحات التجميل .... كل عام تقريبا , الى أن وصلت لأكثر شكلٍ مرضٍ و بعدها فقدت الإهتمام تماما حين وجدت أن لا جديد يذكر ..... فتوقفت و بدأت في بناء نفسي من جديد )
أومأ عمر برأسه متفهما .... ثم قال برفق
( يبدو أنه كان حادثا مروعا ..... و الحديث عنه صعب لكِ )
نفت رنيم وهي تقول بخفوت
( منذ فترة طويلة كنت أشعر بالنقمة على كل ما حدث لي .....لكن ما أن رأيت والدة صديقتي .......بالمناسبة لقد فقد إحدى صديقاتي في الحادث .. حينها بدأت أشعر بالإمتنان أنني لازلت على قيد الحياة , وأن هناك الكثير مما بوسعي تحقيقه ..... )
اكمل عمر بنبرةٍ غامضة قليلا
( وها أنت تعملين ... تقودين سيارتك ..... تندمجين مع الناس و ترفعين ضغط دمهم )
ضحكت رنيم عاليا ... ثم قالت من بين ضحكاتها
( قيادة السيارة جائت بعد عذاب ..... كنت أخشى من رؤية أي شيء متحرك حتى ولو دراجة ........ )
ابتسم عمر .... ثم قال بهدوء
( أنتِ أقوى مما تخيلت ......... )
فغرت رنيم شفتيها قليلا .... ثم عادت لتنظر الى نافذتها تعض على شفتها التي تورمت من عدد المرات التي عضتها هذه الليلة ......
لكن رنين هاتفها انبعث فجأة ليمحو هذا الجو الساحر .... فالتقطته من حقيبتها الصغيرة وما أن رأت اسم الطالب حتى عبست و كانت قد نسيته تماما ....
ردت بتلعثم تحت أنظار عمر
( مرحبا ..... مرحبا نائل , ن.... نعم ..... لا لم ينتهى حفل الزفاف بعد .... لكني رغبت في المغادرة مبكرا ,, ......لا أنا في الطريق الآن في ...... أنا في الطريق )
لحظاتٍ وكانت المكلمة المتقطعة الموجزة قد انتهت .... و انتهت معها اللحظات الحالمة , حيث اكفهرت ملامح عمر و هو يستمع الى كذبها الواضح و الذي شارك فيه بطريقةٍ غير مباشرة .... لقد نسي تماما أنها مخطوبة وها هي تكذب على خطيبها حول مكان وجودها و مع من تكون .........
فمد يده و أغلق المسجل بعنف ليقول بصرامةٍ صدمتها
( ما هو عنوان منزلك ؟ .........)
اجفلت رنيم بقوةٍ و ارتجفت .... الا أنها همست له بالعنوان ......و هي تدرك بأنه لم يسألها عن العنوان منذ أن انطلق بها
أوقف سيارته الى جانب الطريق السريع الخالي تقريبا ...... بسرعةٍ رهيبة جعلتها تنتدفع الى الأمام و تكاد ترتطم بالزجاج الأمامي .... ثم التفت اليها بوحشية ينظر اليها و على ضوء القمر الفضي ...... شاهد وجهها الذي لطخه سواد الكحل الأسود المنساب مع دموعها على وجنتيها .....
نظرت اليه حنين من بين دموعها بكل كره العالم ثم قالت بغل
(هل تعرف لماذا رضيت أن آتي معك الآن ؟؟ ...... فقط لأفعل ذلك )
ثم مدت يدها في سرعةٍ خاطفة و صفعته بكل تهور ...... اتسعت عيناه بصدمةٍ مما حدث للتو و ما لبث أن رفع يده ليرد اليها الصفعة .....
صرخت حنين وهي تمد يديها و تمسك بمقدمة سترته تصرخ بجنون
( أيها الحقير ....أيها الحقير , دمرت حياتي بكل حقارة العالم ...... )
أمسك جاسر بكلتا يديها و نزعهما بقوةٍ عن سترته ثم امسك بكتفيها يجذبها اليه وهو يهدر في وجهها
( ولك الجرأة على النطق بعد ما سمعته للتو منك ....... تحبينه ؟..... تحبينه و اعترفتى له بذلك ؟؟ ...... سأفسد لك كل لحظة من حياتك بسبب هذا الاعتراف يا حنين .....أعدك )
صرخت حنين بجنون وهي تضرب صدره بقبضتيها .....
( أكثر مما أفسدتها ؟ ...... أنت مجنون و أنا أكرهك ....أنا أكرهك ..... أنا أكرهك )
جذبها اليه بقوةٍ لينهي صرخاتها بشفتيه المجنونتين بينما أخذت تضربه و تضربه بقبضتيها و ركبتيها الا أنه قضى بقوته على كل مقاومتها .....
بعد عدة لحظات مت الشغف الغاضب ضمها بذراعه الي صدره اللاهث و امسك بذقنها يرفع وجهها اليه ليقول بصوت مرعب و عينين تضاهيانه رعبا في الظلام
(أنا اعتذرلك .... اعتذر عن تركك وحيدة صغيرة في مواجهة الجميع .......لكن غير ذلك ليس لك شيا عندي , أنتِ ملكي و هذا غير قابل للنقاش و سأدمر من يجرؤ على الإقتراب من زوجتي ..... أتفهمين ؟؟ ..... )
كانت عيناها متسعتان رعبا و هي تلهث هي الأخرى .... أين ضاعت فورة الشجاعة ؟؟ ... لكن أي شجاعة و هي بمفردها هنا مع ذلك المجنون الذي يبدو على وشكِ افتراسها ثم قتلها و رميها على جانب الطريق ..... وقد يذهب ليقتل الحقير الآخر صديقه بعد أن يقتلها ......
و حين وجدها صامتة مذهولة برعب أعاد شادا على ذقنها بقوة
( أتفهمين ؟؟ ..... أجيبي ..... )
أومأت برأسها رعبا ..... حينها أقترب منها ليعيد حرارة اشواقه لكن هذه المرة بأقل عنفا نوعا ما ... وأعمق عاطفة
كانت حنين ترتجف بين ذراعيه بمشاعر غريبةٍ لم تعرفها الا على يديه .... الى أن رن هاتفها فانتفضت بقوةٍ وهي تبتعد عنه بشراسةٍ مرعوبة .... فضحك جاسر قليلا على الرغم من عمق العاطفة في عينيه و التي لم يغادرها الغضب بعد ...
حاولت حنين الوصول الي هاتفها بشتى الوسائل من بين ذراعيه وهو ينظر اليها متسليا مقيدا حركتها .... الى أن استطاعت النظر الى اسم مالك أخيرا ..... فنظرت الي جاسر برعب وهي تهمس بترجي
( ابتعد ... ارجوك ابتعد قليلا , يجب أن أرد , لقد تأخرت في العودة ولا بد أن عمتى ستموت قلقا الآن ........ )
سمح لها جاسر أن ترد على الهاتف بخوف ... دون أن يتركها تماما ...
فقالت حنين بسرعةٍ وهي ترتجف قبل أن يتكلم مالك
( نعم يا مالك ....أعرف أنني تأخرت أنا آتية حالا ...... )
قاطعها مالك ليقول بصوت غريب يحاول التمسك بالهدوء
( أين أنتِ الآن يا حنين ؟؟ ...... أنا أعرف أنك مع جاسر )
توقف قلب حنين........و اتسعت عيناها برعبٍ أكثر وأكثر ..... ثم همست ترتجف
( م .... من ؟؟؟ ..... ماذا ..... تقصد ؟؟ )
قال مالك وهو يتنهد غاضبا
( أين أنتما يا حنين ؟ ... لقد ذهبنا الى الحفل و علمنا أنكِ قد غادرتِ بصحبته ..... )
أخذت حنين تشهق شهقات رعبٍ متقطعةٍ صغيرة على هيئة أنفاسٍ قصيرة ... ثم همست دون وعي
( من .... معك ؟؟ ......... )
رد مالك بإيجاز و اقتضاب
( عاصم معي ........ )
ضربت حنين وجنتها بقوةٍ أصدرت صوتا من قوة ضربتها ..... ولم تستطع النطق , حينها أخذ جاسر الهاتف من يدها دون أن تجد القدرة على الحركة .....
رد جاسر على الهاتف بهدوء مثير للأعصاب بينما الابتسامة القاسية تلوي شفتيه
( حنين بأمانٍ معي ...... منذ فترةٍ طويلة لم نتكلم , ........ أنا وأنت )
.................................................. .................................................. ........................................
شدد مالك قبضته على الهاتف وهو يستمع الى الصوت العائد من ذاكرته ..... ..............................
كان يسير هائما على وجهه في شارع حارتهم الضيقة ليلا ..... يبحث عما يجعله يتنفس من جديد , عما يجعله يجد القدرة على نسيان مارآه أمام عينيه ..
لا تزال أصوات البكاء و النواح تصم اذنيه .... لازال السواد يكسو ملابس السيدات المجاملات لعائلة رشيد .....
لا يزال الحزن يرمي سواده على الجميع .... بسببه هو ... لأنه فرض في زهرةٍ صغيرة سقطت من بين يديه .... لو كانت برفقة أي شخصٍ آخر لكانت الحياة أمامها طويلة بكل مباهجها .....
لكن هو .. ضيعها .... هو السبب في موتها ...... السبب في موتها وأنها لن تعود لحياته تضحك و تملأها مرحا من جديد ....
كان تائها في أفكاره ... الى أن انعطف في الزقاق الضيق , وأكمل سيره الهائم دون هدف .....
( كنت أنتظرك ...... لنصفي حسابنا أنا وأنت .... )
رفع رأسه ليرى جاسر واقفا مستندا الى الحائط القديم ناظرا الى الأرض دون أن يرفع نظره الى مالك .... رافعا ساقا واحدة ليسندها الى الحائط من خلفه .....
ثم صوت مدية حادة تستل لتفتح بسرعةٍ .......
.................................................. .................................................. .................................
رفع مالك يده يتلمس أثر جرحا قديما في فكه ..... وهو يسمع صوت جاسر على هاتف حنين , أغمض عينيه لحظة ببأس ثم قال بهدوءٍ قوي النبرات
( أين أنتما الآن ؟ ........ ما تفعله الآن قد يكلفك حياتك )
مد عاصم يده بقوةٍ جبارة جعلت السيارة تطيح من يده للحظةٍ وهو يختطف الهاتف من مالك ليقول صارخا بجنون
( أسمع يا ( ... ) .... إن لم تخبرني أين انتما حالا فقسما بالله لن أرحمك ولتترحم على نفسك منذ الآن )
سمع صوت ضحكةٍ شرسة متسلية زادته جنونا و غضبا ثم قال جاسر بهدوء ...
( لا داعي لمثل هذا الغضب .... أنت لم تعد صغيرا على مثل هذا الضغط يا عاصم , خاف على نفسك من المرض ...... بكل بساطة و أدب اسأل و أنا سأجيبك , على العموم نحن عند طريق البحر السريع ... كنا نستمتع ببعض ذكرياتنا القديمة )......
صرخ عاصم كالمجنون بكلامٍ غير مفهوم معظمه و شتائم و الفاظٍ صعبة ... فأبعد جاسر الهاتف عن اذنه قليلا وهو ينظر مبتسما الى حنين التي كانت ملتصقة بظهرها الى باب السيارة .... بعينين متسعتين رعبا , و يدٍ على وجنتها و فمٍ مفتوح .....
بينما كانت تلهث بقوةٍ حتى أنها شعرت ببوادر إصابتها بنوبةٍ قلبية ......
أغلق جاسر الخط و عاصم لا يزال يصرخ و يشتم ثم وضعه في حجرها بكل هدوء .....
همست حنين وهي ترتجف بشدةٍ و رعب
( ل.... لماذا ؟ .... سيقتلني ..... سيقتنلني )
ازدادت ملامحه قسوة ... ثم قال بخشونة
( لن يجرؤ على أن يمسك بسوء ..... إن آجلا أو عاجلا كانو سيعرفون بعلاقتنا ........)
همست حنين و هي تضحك عابسة و بوجهها الملطخ سوادا
( علاقتنا ؟؟ .......... )
قال جاسر بمنتهى الهدوء و هو يستند بظهره الى مقعده و يخرج سيجارة ليشعلها فأضاءت جانب وجهه القاسي ....
( وماذا تسمين الفترة الماضية ؟ ..... كم مرةٍ قبلتِ بالركوب معي في سيارتي .... ذهبتِ الي بيتي .... كم مرة كلمتك على هاتفك ..... كم مرة .... قبلتك فيها ؟؟ .... أنتِ لست شديدة الحزم يا حنين )
اظهرت ملامحه علامة الأسف المزيف و هو يقول ..." أنت لست شديدة الحزم يا حنين ".........
فمضى و قتا طويلا وهي تنظر اليه مذهولة مما يقوله .....ثم أومأت برأسها بحركاتٍ لا ارادية و كأنها تهذي .... و همست
؛( نعم .... نعم ....... معك حق ..... أنا أستحق ما سيفعله بي عاصم )
ثم التفتت و هي ترتجف جالسة باعتدال في مقعدها ..... منتظرة مصيرها البائس ...
نظر اليها جاسر في الظلمة وهي جالسة تنظر أمامها بينما ترتجف لدرجة أنه يكاد يشعر بإرتجافها عبر المقعدين ..... ليست غلطته إن عرف عاصم بالأمر بهذه الطريقة
من المؤكد أن كل ذلك حدث بسبب غباءها هي و زوجته الحمقاء التي جاءت تمثل دور الحامي ....
نفث دخان سيجارته بقوةٍ ...لو كان بيده لكان أخذها عنوة لبيته , الا أن المشاكل ستنهال عليه يوما بعد يوم لذا فمن الافضل أن المشاكل قد بدأت الليلة من نفسها .....
إن كان قد نوى توريطها بعرضه في الحفل , لكنه لم يكن يتخيل أن تخدمه الظروف بهذا الشكل دون أن يثقل ضميره .....
سبحان من رحمها منه الآن بعد أن سمع اعترافها لعمر .... و على الرغم من أنه كان يعرف بمشاعرها مسبقا الا أن سماعها وهي تعترف بها لرجلٍ غريب جعله على وشكِ أن يقتلها .....
لقد حاول أن يبرر لنفسه مشاعرها السخيفةٍ تجاه أول من مد لها يد الصداقة .... حيث انها لم تكن تعلم بأنه سيعود لها يوما .... الا أن اعترافها جعل منه مجنونا ..... لذا كانت صفعتها له هي أفضل فرصة له ليرد لها الغضب الناري الذي يشعر به تجاهها .....
حتى ان شدة غضبه تجعله الآن متلذذا بخوفها الظاهر عليها الآن .....وهو يفكر بشماتة .." اين ذهبت تلك العاشقة الشجاعة التي لا تأبه لشيٍ في أعلانها لحبها ... ومن هي تلك التي تجلس مرتجفة رعبا الآن "
فجأة غمرهما ضوء قوي من خلفهما أقترب حتى أغشى بصريهما .... ثم صوت مكابح قويةٍ لسيارةٍ وقفت خلفهم بكل سرعتها .................
التفتت حنين الي جاسر و قالت بصوتٍ مرتجف الا أن بعض من الشجاعة نبعت من حروف كلمتها البسيطة
( لن أسامحك أبدا يا جاسر .....إن كان هذا من الممكن أن يؤثر بك )
ثم دون كلمةٍ نزلت من السيارة .........تاركة جاسر مكانه لحظة واحدة فقط وهو يتسائل أين ذهبت الشماتة .......
.................................................. .................................................. ............................
نزل عاصم من سيارته ودون حتى أن يهتم بالنظر الي مالك الذي أخذ يناديه و هو يلحقه جريا .... و ما أن استقام جاسر في وقفته حتى هجم عاصم عليه ليلكمه في منتصف وجهه لكمة كادت أن توقعه أرضا ......صرخت حنين بقوةٍ و هي تغطي وجهها بيديها
اعتدل جاسر مرة أخرى مبتسما وهو يلمس أنفه ليرى أن الدم قد غطى أصابعه ...... فأمسكه عاصم بكلتا قبضتيه من قميصه وهو يجذبه اليه صارخا
( ماذا تريد منها يا حيوان ؟ ....... و كيف تمتلك الجرأة على العودة بعد ما فعلته قديما )
ابتسم جاسر و قال بهدوء .....
( لما لا ننسى الماضي و نبدأ من جديد ..... لأنني عدت لإسترداد حنين )
و في حين غرة كان قد أرجع رأسه للخلف ليعود بها ناطحا جبهة عاصم .... الذي تمايل قليلا من قوة الضربة , حينها هجم مالك عليه وهو يخلصه من قبضتي عاصم ممسكا بقميصه رافعا ركبته ليضرب بها جاسر في معدته صارخا بغضب
( أيها الحقير ..... .... )
كانت حنين واقفة على جانب الطريق وهي ضامة ذراعيها الي معدتها منحنية و هي تصرخ لهم بأن يتوقفو ...... بينما كان جاسر و مالك قد تشابكا معا بجنون .... فتدخل عاصم ليبعد مالك عنه وهو يدفع جاسر بكل قوته ليرتطم بسيارته .... ثم اقترب منه ليمسكه من قميصه من جديد هادرا فيه
( ابتعد عن أهل بيتي ..... والا قسما بالله سأطلق رجالي عليك و لن يعثر لك احد على أثر ........ )
ضحك جاسر عاليا .....على الرغم من وجهه المكدوم , ثم نظر الي حنين التي كانت واقفة تبكي و تصرخ برعب ...... و منها نظر الي عاصم ليقول بهدوء على الرغم من لهاثه
( حنين لي منذ زمن ..... ولن أتنازل عنها بعد اليوم )
هجم عاصم عليه مرة أخرى ينوي سحقه ... الا أن مالك أمسكه بقوةٍ وهو يهتف بغضب
( دعه يا عاصم ..... هذا يكفي فهو لا يستحق أكثر )
ابتعد عاصم و هو يلهث و عيناه تحترقانِ غضبا .....بينما اقترب مالك من جاسر لينظر اليه طويلا و بادله جاسر كرها بكره ..... ثم قال مالك بهدوء
( اليوم عاصم معي ..... لذا لن تكون حربا عادلة , لكن يوما ما ...... أنا و أنت سيكون لنا حسابا لنصفيه سويا )
ثم ابتعد بهدوء يتبع عاصم الذي أمر حنين صارخا بأن تركب السيارة ...... حينها همس جاسر لنفسه
" وأنا سأكون في انتظارك يا ابن رشوان "
كانت الحاجة روعة جالسة تبكي كعادتها في انتظار عودة أبنائها من أحدى مصائبهم .... خاصة بعد أن حكت لها صبا عن ملخص الموضوع الذي جعل عاصم يخرج كالمجنون .....
ومن لحظتها و هي جالسة تبكي و بجوارها صبا تربت على كتفها دون أن تتركها للحظةٍ واحدة .......
و فجأة فتح الباب ..... ودخل منه عاصم بمنظرٍ مخيف .... جاذبا حنين خلفه من شعرها ليدفعها بكل قوته الى الداخل ,,
جرت حنين الى الحاجة روعة وهي تبكي و تشهق برعب و قد اسود وجهها بمنظرٍ مخيف من الكحل الأسود الذي لطخ وجهها .....
ضمتها الحاجة روعة الي صدرها وهي تبكي هي الأخرى .... الا أن عاصم لم يدعها وما أن أغلق الباب حتى هجم عليها ليسحبها من شعرها من بين حضن والدته ......فصرخت حنين بقوةٍ وهي تبكي بينما كان عاصم يصرخ كالمجنون
( أنا ؟؟ ..... أنا تتسببين لي بمثل هذه الفضيحة ؟؟ ......منذ متى وأنتِ تقابلينه ؟؟ .... انطقي ...... )
صرخت حنين من بين بكائها العنيف
( فقط ..... فقط ..... عدة مرات , أنا لا ذنب لي , هو يريد ......أن يردني اليه ...... و انتم السبب , أنتم جميعا السبب .... )
صرخ عاصم بوحشية
؛( و لكِ الجرأة على الجدال ........ )
رفع يده عاليا يريد ضربها الا أنه في لحظةٍ واحدة ٍ وجد صبا بينهما وهي تصرخ بثورةٍ عارمة
( إياك ...... إياك يا عاصم أن تمد يدك عليها .......)
صرخ عاصم بقوة
؛( ابتعدي يا صبا .......... )
عادت صبا لتصرخ
( إن أردت ضربها عليك أن تضربني أولا ........... )
صرخ عاصم وهو يمسكها من ذراعها بقوةٍ يحاول أن بعدها عن حنين .... بينما صبا مرجعة ذراعيها خلفها لتشبكهما بخصر حنين بمنتهى القوة ... وهي تبدو كدرعٍ بشري لها .....
( قلت لكِ يا صبا ابتعدي ..... لا تدعيني آذيكي )
عادت صبا لتصرخ بكل قوتها وهي متمسكة بحنين من خلفها
( قسما بالله يا عاصم لن تضربها ,...... الا أن تضربني أولا )
ظل عاصم ينظر اليها طويلا ........ وهو يتنفس بصعوبة , حينها قالت الحاجة روعة من بين بكائها العنيف
( والله يا عاصم إن ضربتها لا أنت ابني و لا أنا أعرفك ........... )
نظر عاصم الي أمه الباكية بعنف ..... حتى أنها لم تقل ما قالته للتو يوم أن ضرب حور ........
ابتعد للخلف ثم نظر الي صبا و حنين المتشبثتين ببعضهما .... وقال بصرامة وتعب
( أنتما الإثنتين ...... لا خروج لكما من باب هذا البيت ......)
ثم صعد الى غرفته دون أن ينظر اليهما ........ بينما هما الاثنتين يفكران في شيء واحد ..... أن ما خفي كان أعظم ......
.................................................. .................................................. ........................................
نزلت حنين صباحا كمن محكوم عليها بحكم الإعدام ....
فبعد أحداث الليلة الماضية , لم تنطق كلمة واحدة و فرت الى غرفتها . ملاذها الآمن لتختبيء فيها و هي تشعر بأن كل ما حدث كان فوق طاقتها ....... وما أن خلعت ثوب حور الأحمر حتى رمته أرضا و أخذت تدهسه بقدميها و هي تبكي وتبكي ........ الى أن ارتمت على سريرها تبكي ضياع حياتها و سمعتها وأحلامها و ....... وحبها ...........
و حين حل الصباح بعد ليلة فظيعة لم تذق خلالها النوم للحظةٍ واحدة ... سمعت طرقا خفيفا على الباب ثم دخلت الحاجة روعة ..... في عينيها العطف الا انه يحمل العتاب الشديد على كل ما أخفته حنين عنها خلال الفترة الماضية
لكنها لم تكلمها في الأمر ..... بل أخبرتها أن عاصم يرغب في رؤيتها و أن مالك أيضا بالأسفل بعد أن قضى ليلته في البيت القديم .......
نزلت حنين حيث وجدت عاصم جالسا على احد الكراسي الضخمة , دون أن تختفي القسوة عن ملامحه بعد ....... الغريب أن حنين لم تعد تشعر بالخوف .... حالة من التبلد قد أصابتها , وجعلتها تبدو كمن يشاهد من بعيد .... وكأنها انفصلت عن واقعها تماما .......
ها قد نصبت المحكمة ........
عاصم يجلس في الكرسي الضخم كالقاضي الذي سيحكم عليها بالإعدام ..... و مالك يقف مستندا الي المدفئة وهو ينظر اليها بوجوم مع بعض التعاطف ..
بينما الحاجة روعة كانت تقف في أحد الزوايا و هي تبدو قلقة لكن تنظر الى حنين نظرة تشجيع ......
صبا الوحيدة التى كانت واقفة بعيدا و تبدو عليها علامات عدم الفهم ...... يبدو أن عاصم لم يقض الليلة في غرفته عقابا لها , الا أنه لم يسمح لها بأن تذهب بأن تبيت ليلتها معها في غرفتها .......
وقفت حنين أمامهم بلا تعبير .... تتفرج عليهم و تراقب كل نفسٍ من أنفاسهم ...... و كان عاصم هو أول من بدأ الكلام حيث قال بجفاء لكن بهدوء
( تعالي يا حنين ......... )
اقتربت حنين خطوة و كانها تتقدم من منصة الحكم ..... ثم قال عاصم بخشونة
( حنين ........ منذ الآن , سنتعاهد أن ننسى كل ما حدث و لن نذكره أبدا بعد الآن ........ )
نفس العهد القديم ...... ذلك الذي قطعوه بعد رحيل جاسر قبل زفافهما ..... و بعد أن اشتعلت الدنيا نارا و بعد أن ظنو أنهم قد أخمدوها بفسخ العقد للابد ........ ها هو العهد يتجدد ........
تابع عاصم بمنتهى الهدوء
(حنين ..... ليس هناك من سيرعاكِ أفضل من ابن عمك وهو أولى بك ......... مالك خطبك مني ....... وأنا وافقت )
انتفضت و هي تتلقى تلك القذيفة فنظرت الى مالك بذهول ..... فابتسم لها ابتسامة ضعيفة متعاطفة و كانه يشجعها و يخبرها أنه موجودا بجوارها .......
اتسعت عينا صبا هي الأخرى ذهولا وهي تهتف بصوتٍ هامس وصل حنين ... ( ماذا ؟؟ ..... هذا جنون )
نظرت حنين الى مالك , وهي تعلم ما سمعته منذ أيام ..... أنه من المستحيل أن يفكر بها كزوجةٍ يوما ما .......و أكد على ذلك على مسمعٍ منها ........
اذن ..... أن الجلسة العائلية أسفرت عن أن عاصم قد أمر ...... وبأمر عاصم وجدو أن أفضل حل حفاظا على سمعتها هو أن يخطبها مالك ..... وطبعا مالك الشهم وافق , مضحيا بسعادته ..........
نظرت صبا اليها بتصميم و كأنها تأمرها بأن تنطق الآن ........ لكن حنين كانت تنظر اليها دون أي اشارة على الإستجابة .. و ظلت صامتة حتى أوشكت صبا على الإصابة بالجنون ........
قال عاصم بقوة حين طال صمت حنين المتجمدة
( لا مجال للمناقشة يا حنين ............. )
فكرت حنين في نفسها بغباء وكأنها تشاهد عرضا لا يخصها " وهل ناقشت شيئا ؟!! ....."
وضع مالك يده على كتف عاصم ليمنع عن المتابعة .... ثم تقدم الى حنين و أمسك بيدها وهو يقول برفق
( بإمكاننا أن نُنجح الأمر يا حنين ...... لا تخافي , لن أخذلك أبدا )
.................................................. .................................................. ........................................
وفي حين أن بيت آل رشوان كان على وشكِ الإشتعال منذ ليلة أمس ..... كان هناك شخصا آخر من آل رشوان في عالمٍ آخر تماما و هو يمر بأقصى درجات الحيرة .....
( وعاء أم مصطفى ........ )
وقفت حور بفستانها القصير حافية على أرض المطبخ .... وهي تضع يديها في خصرها , تمط شفتيها المكتنزتين على جانبٍ واحد وهي تعضهما في نفس الوقت ......ناظرة الى الوعاء ..
انه لديها منذ عدة أيام .... و لقد تأخر عندها جدا , لذا يجب ان تعيده ..... لكن لتعيده , يجب أن تعيده و هو ممتلىء بصنفٍ قامت بصنعه بيديها .... تلك هي القوانين , ..... نعم هي تتذكر هذه القوانين جيدا الا أنها لم تأبه بها أبدا و لم تتخيل أنا لازالت مهمة حتى يومنا هذا .....
لكن من نبهها هو مصطفى نفسه ...... فحين أعطته الوعاء الفارغ ليسلمه الى أمه ..... نظر مصطفى الى الوعاء بحيرة ثم قال بإندهاش
( الن تملئيه بشيء ؟؟ ........ )
اتسعت عينا حور بدهشةٍ ثم قالت غاضبة
( ألن تتعلم الأدب ؟؟ ......... )
قال مصطفى بحيرةٍ
( وماذا فعلت ؟؟ .... أنا أخبرك بما يحدث , .....أنا آخذ الوعاء ممتلئا الى الجيران , و بعد يوم أعود به ممتلئا الى أمي .... خالتي أم سعيد مرة وضعت به لقمة القاضي ..... خالتي نبيهة وضعت به مرة أخرى بلح الشام ..... خالتي أم سهير وضعت به محشو كوسة و باذنجان .... أما الخالة علية فوضعت به كنافة بالمكسرات صنعتها بنفسها و بعثت معها الغذاء ... بعثت سمكا مشويا و آخر مقليا .... و فواكه البحر , لكن كنافة الخالة علية كانت الأروع من بين باقي الخالات )
قالت حور بحنق وهي تهتف
(فهمنا يا سيدي فهمنا ......... لكن من عندي أنا ستأخذه فارغ ..... هل لديك مانع ؟؟ )
هز مصطفى كتفيه بلامبالاة وكأنه يخبرها ...." أنتِ حرة " ....
لكن حور أكملت العبارة الوهمية في بالها ......" لكن سيدات الحي سيضعنكِ في القائمة السوداء "...........
لذا جذبته من ياقة قميصه من الخلف قبل أن يخرج .... لتعيده , ثم أخذت منه الوعاء وهي تقول بخيلاء
(سأفكر في الأمر ........ هيا انصرف )
وها هي الآن تقف أمام الوعاء ...... ماذا بإمكانها أن تضع فيه ؟؟ .... لما لا تشتري أي شيء و تضعه ؟؟ ..... لا .... لا لن ينطلي الأمر عليهن ..... إنهن مصائب .....
حسنا يا حور .... دعينا نرى في ذاكرتك , ما هو الشيء الوحيد الذي تجيدين صنعه ؟؟ ......
ابتسمت حور ... وقد أضاء المصباح المحروق في عقلها ..... " أرز بحليب ".....
نعم ... نعم .... الوعاء عميقا نوعا ما و سيصلح .... صحيح أنهم سيضطرون الى غرفه كما يتم غرف الحساء لكن لا بأس ... المهم أن يكون مزينا بطريقةٍ فنية تبهر النظر ......
حسنا كل شيء موجود لديها , ينقصها ..... القشدة .... الكثير من القشدة , ......
اتجهت الى الشرفة فجرى خلفها معتز تلقائيا .... ففقرته المفضلة قد بدأت .....حيث تقفز أمه وهي تلوح بيديها و تكلم الهواء .....ثم تقذف ذلك الشيء من الشرفة .......
وقفت حور في الشرفة مستندة الى السور .... ثم مالت بنفسها وهي تنادي بصوتٍ رنان ....
( يا عم جلااااال ...... يا عم جلااااال ...... )
( ماهذا الذي تفعلينه ؟؟؟ ......... )
انطلقت تلك الصيحة الغاضبة المذهولة من خلفها مما جعلها تشهق مفزوعة وهي تستدير ضاربة صدرها الأبيض الظاهر جزءا منه من قميصها البيتي المزركش ....
عقد نادر حاجبيه بغضب وهو ينظر اليها من أولها لآخرها بفستانها القصير ... فجذبها من ذراعها دون كلمة الي الداخل
ثم هدر فيها
( ما هذا الذي تفعلينه ؟؟ ..... وكيف تخرجين الى الشرفة بهذا الشكل ؟؟ )
كانت حور لازالت لم تستوعب بعد ما الذي أعاده ... لكنها بعد أن هدأت نفسها من تلك الإنتفاضة .... قالت بتردد
( كنت أنادي على عم جلال ليبعث صبيه الى محل الألبان في الزقاق المجاور لأني أريد ... قشدة )
قالت كلمتها الأخيرة وهو ينظر الي فستانها المفتوح قليلا ...... تزامنا مع كلمتها , فخفتت ثم سكتت .... بينما رفع نادر عينيه المصدومتين الغاضبتين اليها ليهتف غضبا وهو لا يستوعب كل هذا الكم من المعلومات ثم هتف
(كيف تخرجين بهذا ال ..... هذا ال .... ال ...... )
رفعت حور يديها في الهواء تقول بحذر
( اهدأ ....اهدأ ..... هدىء أعصابك , انظر لقد فرشت ملاءة على السور الحديدي حتى لا تظهر ساقي ...... كلما خرجت )
صرخ نادر و هو يلا زال مذهولا مما يسمعه
( و شكلك و أنت تميلين من فوق السور؟؟ ..... و صوتك و أنت تنادين ؟؟؟ ........)
قالت حور وهي متعجبة منه
( كل النساء هنا يخرجن من شرفاتهن لينادين ..... أمر عادي , ...... )
هتف نادر بغضب
( لا دخل لي .... لن تخرجي بعد الآن بهذا المنظر أبدا , و لن تنادي بصوتك من الشرفة أبدا ........مفهوم ؟؟ )
قالت حور بتبرم كالأطفال ( مفهوم ........ ) بينما بداخلها كانت ترقص طربا .... هكذا هن النساء
قال نادر بعد أن هدأ غضبه قليلا ......
( ولماذا أصلا كنتِ تريدين القشدة ........ )
ردت حور ببراءة
( كنت أريد أن أعد أرز بحليب لأرسله لأم مصطفى لتتذوقه ....... )
كان نادر ينظر اليها مستفهما .... تعد ماذا ؟؟ .... لمن ؟؟ ..... أين ؟؟ .... وكيف .؟؟؟ ..... حوور ؟؟؟ !!!! ......
قال نادر بجفاء قليلا
( ومنذ متى تعلمتِ صنعه ؟؟ ....... )
ردت حور بعذوبة
( أنا ماهرة فيه منذ زمن ..... هل تحبه ؟؟ ........ )
قال نادر بنفس الجفاء
( الآن تسألين ؟؟ ..... يكفي أن ترسلي لأم مصطفى ..... )
رفعت حور حاجبيها و ابتسمت ثم همست برقةٍ تذيب الحجر
( لا .... ماذا تقول أنت ؟؟ .... والد معتز هو الأساس )
نظر اليها باستهانة ... بينما عيناه كانتا شبه مبتسمتين ........ ثم تنحنح أمام ابتسامتها الخلابة ليقول بجفاء
( أنا سأنادي على عم رشاد ليجلب لكِ ما تريدين ........ )
قالت حور بهمس ( عم جلال.......... )
قال نادر تائها قليلا في شفتيها الهامستين كأنها تنفخ ريشة لتطير .....( ماذا ؟؟ ........ )
أعادت حور برقةٍ ( اسمه عم جلال ....... )
قال نادر بخشونة
( حسنا .... رشاد , جلال.... لن تنادين أحدا مرة أخرى ...... )
همست حور بدلال وهي تهتز كعادتها ... فهي لا تستطيع أن تقف ثابتة أبدا , لا بد وأن تتمايل في مكانها .....
( حاضر ......... )
تأفف نادر بنفاذ صبر .... لكن حور كانت قد شبكت ذراعيها خلف ظهرها و هي تتمايل ثم همست بدلال
( نادر ..... أريد أن أطلب منك طلب , أريد أن أذهب الى النادي ......... )
عقد نادر حاجبيه ثم قال بخشونة
( هل اشتقتِ لحياة النوادي من جديد ؟؟ .......... )
قالت حور بسرعة
(بل سأخذ معتز معي ....... سأسأل هناك إن كان بإمكانه أن ينتظم في رياضةٍ بالنسبة لحالته ......)
نظر اليها نادر عدة لحظات .... دون أن تفهم شيئا من ملامحه ثم قال أخيرا
( حسنا ...... غدا سأقلك اليه , وفي منتصف اليوم سأعيدك )
ابتسمت حور شاكرة برقةٍ دون افتعال ... ثم استدارت و دخلت الى المطبخ دون أن تنطق حرفا آخر ...... فقلبها المجروح كاد أن يسلم راياته .... كادت أن تسقط على ركبتيها أمامه و تهمس ... احبني .... أرجوك أحبني ......
نظر اليها نادر وهي تبتعد ......شاعرا بغضب ... بوجوم ... برفضٍ لنفسه قبل أن يكون لها , يشعر بالتخاذل و كم يشعره هذا التخاذل بالحنق على نفسه ....
لماذا لا يحررها ؟؟ .... لماذا يبقيها رهينته بهذا الشكل ؟ .... لا شيء أبدا أرغمه على حور , وهو يعلم ذلك في قرارة نفسه .... و يكره أن يعترف بأنه دائما ما يحاول الإبقاء على شعرة الربط بينهما .....
أحيانا .... أحيانا يشعر بأنه يريد أن يمنحها صداقته فربما تحتاجها ..... الا أنه يعود و يهزأ من الفكرة .... ليست حور , ... ليست حور أبدا .....
لا يعلم لماذا أحيانا كثيرة يشعر بالإشفاق عليها ...... و يريد أن يمنحها بعضا من ثقته , لكن أكثر ما يخشاه أن يكون مجرد شيئا مرغوبا وما أن تحصل على اهتمامه حتى تزهده كما تفعل مع كل من تعرفهم و كل ما تمتلكه ......
نظر نادر الي معتز و رق قلبه له و هو يراه يهتز و يتمايل كأمه..... ثم همس له مبتسما بحنان
( ماذا تفعل ؟؟ ...... هل تريد أن تشترك في رياضة كما تقول والدتك ؟؟ )
الا أن معتز كان يميل بخصره يمينا و يسارا وهو يحرك أردافه بينما ذراعيه تتراقصان في الهواء
قطب نادر جبينه .... وهو ينظر الي معتز بريبةٍ وهو يميل بجذعه للخلف ثم يهزه بقوة .... فرفع نادر حاجبا و نظر بعيد ثم أعاد نظر ه الى معتز مرة أخرى مرتابا من حركاته التي لا تبدو غريبة على ذاكرته ......
.................................................. .................................................. ..................................
أمسكت حور بكف معتز وهي تسير به في النادي متجهة الى أحد المدربين .... و مرت على مجموعةٍ من الشباب جالسين الى أحد الطاولات ....
فتعلقت عينان خضراوان.... بذات القوام الساحر في بنطالها الاحمر و قميصها الأبيض و هي تسير كفرسٍ عربيٍ أصيل و شعرها الأسود الطويل خلب لبه وهو يتطاير من خلفها .....
مال على من يجلس بجواره ليهمس
( من تلك ذات البنطال الأحمر و الخلخال ؟؟ ....... )
نظر صديقه الى من يشير .... ثم ابتسم مسحورا وهو يقول
( إنها حور رشوان ..... كانت ساحرة الجميع هنا اثناء سفرك , لكنها متزوجة وعلى ما يبدو هذا ابنها معها ..... فلا مجال للوصول اليها )
عاد صاحب العينين الخضراوين الى مكانه وهو يلتهم كل ذرةٍ من صاحبة الخلخال و البنطال الأحمر وهو يهمس لنفسه مبتسما
( ربما .............. )

بأمر الحب 🌺بـقـلم تـمـيـمـة نـبــيـــل 🌺حيث تعيش القصص. اكتشف الآن