31

965 22 0
                                    


الفصل الحادي و الثلاثين :
وقف مستندا الي اطار الباب ... مكتفا ذراعيه , ينظر اليها بحنان .... رغما عنه لم يسرع الى ايقاظها على الفور ... بل وقف ليتمتع بتلك الهالة من الرقة ...
تبدو كالأطفال و روحها النقية لا تزال ظاهرة على وجهها بكل وضوح ... على الرغم من أوسأ النواع البشر و الذي اختلطت بهم رغما عنها ...
لقد خلقت لتكون بريئة ... نقية ... لم تستطع أي ظروف أن تلوثها حتى ولو روحيا ....
لذا فإن شعوره بالذنب يتزايد حين يقارن نفسه بالعديد ممن قابلتهم في حياتها و الذين تصرفوا تصرفاتٍ مماثلة لتصرفاته ....
مط شفتيه لا يصدق أن يكون بالفعل قد تحرش بها .... تحرش بها !! ... الكلمة في حد ذاتها اثارت الرجفة في أعماقه و أشعرته بالمرض .... الأمر لم يكن بتلك الصورة ..... لكن بأي صورةٍ كان حقا ؟؟؟ ....
انتبه من شروده على نظراتٍ ثابتةٍ تنظر ناحيته ...
شعر بالصدمةِ للوهلة الأولى حين طالعته تلك النظرات الهادئة و التي بدت و كأنها قد نفذت الى أعماقه كي تقرأه مباشرة .... لذلك الرجل النصف مستلقٍ بجوارها و الذي كان نائما للتو ....
أمال مالك رأسه قليلا ناظرا اليه متوقعا أن يتكلم الرجل بشيء أو ربما يطرده طردا من الغرفة وهو الذي اقتحهمها دون اذن ووقف كي راقب ابنته وهي نائمة بجواره !! ......
تنحنح مالك ليهمس بصوتٍ خافت مرتبك
( صباح الخير ....... )
الا أنه بالطبع لم يتلق جوابا من الرجل ذو الملامح الطفولية و التي تزينها شيب سنوات عمره ....
شعر مالك بالحماقة وهو يعلم بأنه لا يشعر بوجوده من الأساس .... لكن ذلك لم يمنع شعوره بالرهبة لرؤيته ينظر اليه بهذا الشكل ....
أخفض مالك عينيه للحظة ... ثم عاد يرفعهما اليه وهو يتخذ قراره و يقترب بطءٍ هامسا بحرج
( اعتذر ..... عن دخولي الى الغرفة , هكذا .... دون اذن .... )
استمر يقترب دون أن يحصل على رد .... الى أن وصل الى حافة السرير .... فوقف قليلا قبل أن يتابع هامسا بخفوت كي لا يوقظها وهو ينظر اليها ...
( لكني ..... كنت خائفا عليها , انها .... حمقاء نوعا ما ..... و تزج بنفسها في المشاكل بكل تهور ..... )
لم يحصل أيضا على رد ..... فسحب كرسيا جانبيا ووضعه دون صوت بجوار الرجل النفص مستلق ...
ليجلس عليه .... مائلا مستندا الى ركبتيه بكلتا مرفقيه وهو ينظر اليها بشرود ... هامسا
( انها صغيرة .... و بريئة جدا كي تواجه هذا العالم بمفردها ..... )
دون أن ينتظر رد ... شرد في ملامحها طويلا قبل أن يهمس
( كنت كالمجنون في تلك الساعة الأخيرة و أنا أتخيل أسوأ أنواع القصص من ذئاب حاولوا استدراجها الليلة الماضية .... )
سكت ليضحك ضحكة خافتة شاردة .... ثم تابع بصوتٍ لا يكاد يسمع
( لكنها بخير ......... )
ثم أدار نظراته الي الرجل الصامت ليؤكد عليه هامسا
( إنها بخير ........ )
لم تكن نظرات الرجل موجهة للباب كما كانت حينما استيقظ ... بل كانت مائلة تجاه مالك نوعا ما , فارتبك قليلا وهو يشعر ... بل هو متأكد من أن جزءا بداخل هذا الرجل يجعله يشعر بمن حوله ... حتى و إن لم يكن يدركهم .... لكنه همس ينظر اليه
( لا تخف عليها ....... انها ..... ستكون بخير )
توقف مالك حين شعر بها تتململ في مكانها من تكورها بجوار والدها ... رغما عنه ابتسم وهو يراقبها تفيق كقطة ... وهاهو نفس القميص القطني الذي يحمل صورة قدمين صغيرتين مطبعوتين على صدره الذي اهترأ و ضاق من كثرة غسله .....
رفع احدى حاجبيه وهو ينظر الى جواربها ... انها ذات أصابع !!! ... ملونة ذات أصابع مثل القفازات !!
الحقيقة أنها لن تتوقف عن ابهاره بأناقتها .....
كانت أثير في تلك اللحظة قد فتحت عينيها تتأمل سقف الغرفة للحظات ... و الجدران ... ووالدها .. مالك ... حادت بعينيها للحظة ثم لم تلبث أن أعادت نظرها اليه , تحاول استيعاب ما تراه ...
ابتسم مالك وهو يتابع مراحل الإستيعاب .. و التفكير العميق .. ثم الصدمة ...
الى أن ضيق عينيه وهو يفكر بأنها سرعان ما ستهب شاهقة ... أو ربما صارخة ....
و بالفعل ... لحظة واحدة و كانت أثير تهب من السرير واقفة شاهقة بعنف وهي تهذي بكلماتٍ غير مفهومة بينما تلون وجهها باللون الأحمر الصارخ ....ثم لم تلبث أن هدأت نفسها وهي تأخذ نفسا مرتجفا قبل أن تهتف بغضب
( كيف دخلت الي هنا دون اذن ؟؟ ...... و كيف سمحوا لك .... و كيف تسمح لنفسك من الأساس أن تدخل غرف الناس بتلك الطريقة !!!! ...... كيف عرفت بأنني هنا ؟؟ )
لم تختف ابتسامة مالك تماما الا أنها تحولت الي هادئة وهو ينظر اليها بثقة دون أن يتحرك من مكانه.... ثم قال أخيرا بصوتٍ هادىء لا أثر للمرح به
( ربما لو التقطتِ أنفاسك أولا ... لاستطعت أن أرد على أحد أسئلتك على الأقل )
ازداد غضبها و حنقها عليه ... بينما تضاعف ارتباكها كذلك , وهي التي كانت تتعمد التهرب منه بعد ما حدث بينهما أخيرا ... الا أنها لم تكن مؤهلة لأن يباغتها بهذا الشكل في أول مواجهةٍ بينهما ...
قالت أخيرا بحزم دون أن تنظر لعينيه مباشرة
( لا حاجة بك للرد على أيا منها ... و تفضل الآن بدون مطرود , هذه غرفة خاصة )
رفع احد حاجبيه ليقول مستفسرا
( اصبحتِ الآن تطردينني من شيء يخصك ؟؟ ..... هل هذا هو رد الجميل ؟ )
ضربت الأرض بقدمها وهي تهتف قائلة بينما وجهها يتحول الى أحمر قان
( لو كنت أعلم أنك ستعايرني و تذكرني بجميلك في اول فرصة لما كنت قبلته ...... )
اختفت الابتسامة من وجهه .. و قست عيناه وهو ينهض من كرسيه ليقترب منها ببطء بينما تراجعت هي للخلف الي ان اصطدمت بالطاولة من خلفها ... فتوقف مكانه لينظر اليها قليلا قبل أن يقول بفتور
( اعايرك ؟؟ ........ هل هكذا ترين الأمر ؟ )
لا ... لا .... لم تره أبدا بتلك الصورة , الا انها قالت كاذبة بحدة
( و كيف تراه أنت ؟ ............ عامة , ليس هناك فائدة من هذا الكلام , من فضلك اخرج حالا و لا تضطرني الى أن ......... )
صمتت غير قادرة على مواجهته بشجاعةٍ أكبر .... الا أنه كتف ذراعيه وهو يقول بهدوء
( هيا تابعي .... لماذا توقفتِ ؟ ..... و الا اضطررتِ لماذا ؟؟ ........ )
اخذت نفسا مرتجفا وشجعت نفسها قبل أن تقول ببرود
( والا اضطرتت أن استدعي الأمن ليخرجك من هنا .......... )
رفع حاجبه وهو ينظر اليها قائلا بتوعد ( حقا !! .......... )
ردت وهي تشد نفسها و ترفع ذقنها
( نعم حقا .......... )
امال مالك رأسه قائلا بمنتهى البرود ... ينافسه عليه أشد البشر سماجة
( اذن لا تدعيني اعطلك عن هذا .... تفضلي و استدعيهم بكل سرور , ربما حينها استطعت تفسير قضائك الليلة هنا مع والدك سرا ... متسللة بعد غلق الأبواب ... على الرغم من أن هذا يخالف القوانين , لأن هذا ليس فندقا )
توقفت مكانها و هي تنظر اليه بصمت غاضب ... لا تجد القدرة حتى على الرد .. بينما تابع هو مكتفا ذراعيه ببساطة
( لولا ذلك الرجل الطيب الذي عطف على حالك حين طلبتِ منه المبيت هنا .... لما كنتِ استطعت التهرب من الباقين .... لقد حصلت منه على القصة كاملة بمنتهى البساطة , ..... أتعلمين أنكِ قد تتسببين في قطع رزقه بسبب تصرفك الأهوج هذا ...... )
عادت أثير لتضرب الأرض بقدمها بقوة وهي تهتف و أعصابها على وشكِ الإنهيار
( توقف عن ملاحقتي و التحقيق معي ... أنا حرة في حياتي , .... أنا هنا مع والدي ... وأنت الدخيل بيننا )
لم يهتم بغضبها و لم يهتز له جفن ... و ما أن صمتت أخيرا حتى قال بهدوء
( هل أنتِ مستعدة للتحدث بهدوء الآن ؟؟ ...... أم أخرج من هنا و أستدعي الأمن بنفسي ؟؟ و لا تخافي لن يمسوكِ بسوء بما انك ابنة نزيل هنا..... فقط سيطلبون منكِ الرحيل و عدم تكرارها مع التشديد في مراقبة الغرفة ...... )
رفعت عينيها الى عينيه بصمت ... و بثته رأيها الصريح في نظرةٍ واحدة , ... الا أنه ما أن أمعن النظر الي عينيها الزرقاوين , حتى ارتبكت ..... و طافت ذكرى اخر لقاء بينهما بداخلهما معا .....
تنحنحت اخيرا و همست بصوتٍ مهتز
؛( ماذا تريد ؟؟ ............... )
رمش مالك بعينيه مرة قبل أن يتكلم بخفوت .... همسا
( بالنسبة لما حدث آخر مرة ....... )
قاطعته أثير برعب و هي تنقل نظراتها منه الى والدها الساكن ... بينما الشعور بالخزي من تحدثه في الأمر أشعرها بأنها تريد أن تدفن حية
( أصمت ...... هل هذا مكان مناسب ؟ )
نظر مالك الى والدها وقال بصوتٍ خافت ( لكن .......... )
الا أنه توقف وهو يشعر بما تشعر به .... فهو نفسه تحدث الى الرجل ببضع كلماتٍ و كأنه يشعر بوجوده ...
فتابع يقول
( تعالي لنتكلم في الخارج ..... أحتاج حقا لأن أتكلم معك )
زفرت أثير و هي ترى أصراره المقيت .... فاندفعت خارجة من الغرفة الي الممر بشكلٍ يائس , ثم ارتمت بظهرها الى أحد الجدران و كتفت ذراعيها ناظرة اليه بشجاعةٍ زائفة دون أن تواجه عينيه قائلة
( ماذا تريد ؟ ............ )
تمهل مالك قليلا ... قبل أن يقول بحزم هادىء
( لم أكن أقصد أن يحدث ما حدث المرة السابقة ..... لقد كان خطأي بالكامل ,لذا أنا آسف )
لم ترد عليه ... ظلت تنظر اليه بعينين زجاجتين تخفيان تحت سطحيهما عذابا ألوانا .... وهي تصرخ بداخلها
" اخرس ..... اخرس ..... انه اسوأ ما يمكنك قوله الآن لتقتلني به ..... انك لم تقصد .... أنك آسف .... أنك تتغاضى عن ضعفي المخزي تجاهك و تجنبني المهانة فتنسب الخطأ كله لنفسك .... فنصبح متساوين ... و ربما تستطيع حينها أن تريح ضميرك من نزوةٍ كنت على وشكِ السقوط اليها ..... مع مجرد متسولة تعطف عليها ...
أخرس ..... ارجوك اخرس "
رفع مالك عينين ساكنتين الى عينيها الجليدتين .... و طال بهما النظر و الصمت قبل أن تهمس أثير دون أن تتحرك من مكانها
( ها قد قلت ما أتيت من أجله ...... انصرف الآن , رجاءا )
عقد مالك حاجبيه قليلا قبل أن يهمس
( أثير لا تشعريني بسوءٍ أكبر مما أشعر به حاليا ..... فأنا لست في وضع لأن ...... )
قاطعته أثير بنبرةٍ أقوى دون أن تتحرك
( لست أهتم بحالتك الآن ...... فأنا لدي ما يشغلني بما فيه الكفاية )
ازداد انعقاد حاجبيه و اهتز للحظة من عنفها ..... لكنه يستحق .... انه يستحق كل ما تنطق به , بل و أكثر ....
اطرق رأسه قليلا ثم قال
( حسنا .... أنا أعتذر )
رفعت احدى حاجبيها وابتسمت ساخرة بمرارة وهي تهمس
( تعتذر مجددا ؟؟ !! ......... )
رفع مالك عينيه اليها ليقول بخفوت
( أخبريني ماذا يمكنني أن أفعل ؟ ...... أي شيء أستطيع به أن أمحو ما حدث ..... )
"أن تحبني يا ابن الأكابر ....... "
الا أنها لم تنطق بصرختها المعذبة بصدى جرحها منه ..... من رغبته في محو مجرد لحظة بالنسبة له .......
رفعت ذقنها لتقول بأكبر قدر من ثبات الصوت تستطيعه
( انس الأمر ....... لو توقفنا لدى كل هفوةٍ في حياتنا لما استطعنا الصمود طويلا ..... انها أمور عادية و تحدث .... )
لم يرد عليها للحظات بينما تسمر مكانه يدقق في ملامحها الباردة كتمثالٍ رخامي
و حين نطق أخيرا ..... قال بصوتٍ لا تعبير له
( تتحدثين و كأنك معتادة الأمر ............ )
ساد الصمت بينهما لعدة لحظات لتقول بهدوء مستفز
( أنا في السادسة و العشرين ...............و كنت أعمل في حانة , و لو أنه مصطلح قديم جدا )
انقبضت يداه بجانبيه دون أن يشعر بهما ..... ثم هدر نفسا ساخنا قبل أن يقول بصوتٍ قاسٍ كالحجر
( نعم ...... و يبدو أنها قد تركت بصمتها على أخلاقك , من مجرد طريقة كلامك الوقحة ...... فأنا لا أصدق تفاهة كذبتك تلك ......... )
ابتسمت أثير ببرود قبل أن تقول بمنتهى الوضوح
( عامة هذا غير مهم .... فأنا سأعاود العمل بها من الغد ..... )
اتسعت عينا مالك و اكتسبت ملامح مالك شراسة وهو يهدر بين جدران الممر
( ماذا ؟؟ ........ هل جننت؟ ..... )
قالت أثير بعندٍ تحسد عليه
( انه المكان الوحيد المتوفر لي حاليا .... و صاحب العمل يتمنى عودتي , لأني الشقراء الوحيدة .... )
لم يصدق أنه سمع لتوه منها مثل تلك التفاهة و الابتذال .... فاندفع اليها يمسك بذراعيها قائلا بصرامةٍ أرسلت الرجفة الى أطرافها و جمدت الدم بعروقها
( والله يا أثير لو فعلتِها و خطت قدميك هذا المكان غدا فسوف ترين مني وجها آخر لم ترينه سابقا ..... )
صرخت أثير بفزع و هي تتملص منه
( ومن أنت كي تهددني ؟...... و بأي صفة ؟ ؟؟ ..... ابتعد عني و التزم حدودك )
الا أنه لم يترك ذراعيها بل زاد التشديد عليهما حتى كاد أن يرفعها على أطراف اصابعها وهو يقول بغضب
( بالصفة التي تختارينها ...... فأنا لا أحتمل الغباء لفترة طويلة , اليوم ستعودين الى أحلام بنفسك , و اياكِ حتى و محاولة التفكير في التوجه الى هناك غدا ....... )
اخذت تدفعه في صدره و هي تتنفس بهديرٍ غاضب كبركان هاتفة
( ابتعد عني ............ )
وهي لحظات كانت قد انتبهت الى سكون حركاته , فتجرأت على النظر اليه .... لتفاجأ به قد تغيرت ملامحه و ضاقت عيناه و أصبحتا أكثر عمقا .... حتى أنها هي الأخرى سكنت تماما رغما عنها و كأنها منومة مغناطيسيا....
حينها طافت عيناه على ملامحهها المتمردة .... ما بين خصلاتِ شعرها النحاسية الشقراء و التي تبدو كنبض أغنية متوحشة .... و مابين عينيها الزرقاوين الشفافتين , الى أن وصلت نظراته الى شفتيها الورديتين ....و طالتا عندهما
شهقت أثير بصمت قبل أن يحررها مالك فجأة و بخشونة .... قائلا بخشونةٍ غير ثابتة
( لقد قلت لكِ ما لدي ...... و أنذرتك )
ثم استدار مبتعدا عنها في الممر الطويل وهو يبدو كشخصٍ غاضب مذهول ... يهمس بداخله حانقا غير مستوعبا
" مالذي اصابني مؤخرا ؟ ..... أنا لا أعرف "
بينما وقفت هي مكانها تنظر اليه مبتعدا و يدها على قلبها الذي يناديه أن يعود ......
.................................................. .................................................. ..........................
تخطف النظرات اليه من بين رموشها ... ثم تعود و تخفضها مجددا , لتنظر بعدها الي البعيد .. الى ذكرى حبٍ بعيد ضاع من بينِ يديها ....
لكن الحقيقة , انها هي من ضيعته .... وما ان ابتعدت حتى اكتشفت عدم قدرتها على الصمود طويلا ...
( كيف حالك ؟ ........ )
جاء صوته الخافت متخللا ذكريات الفترة التي لم تعشها بدونه ... فنظرت اليه برقةٍ بينما شفتاها ترسمان ابتسامة حزن ...
شعرها البني الناعم يتطاير من حول وجهها فيحجب عينيها عنه قليلا متيحا لها حرية النظر الي عينيه من بين خصلاتها المتطايرة .....
الا انها تعود و ترجعه خلف اذنيها بخجل .... ليتطاير من شدة نعومته مجددا .. مغرقا ملامحها من جديد , يأبى الانصياع لتحكمات أصابعها التي تريد أن تقيد نعومته و تحد من حركتها ...
وصلها صوته خافتا مبتسما وهو يقول
( تبدين في أفضل حال في الواقع يا سلمى ............ )
نظرت اليه بنعومة و عيناها تنقلانِ اليه الرسائل ... ثم همست
( أنا بخير ..... شكرا لأنك قبلت مقابلتي .... )
ابتسم نادر قليلا .... ثم قال بلطف
( كان يجب أن آتي ............ )
حادت بنظرها عنه لتنظر الي البحر الأزرق من شرفة ذلك المكان الذي اعتادا المقابلة فيه سابقا .... دائما ما كان يقول لها بصوتٍ محب
( أحب الجلوس هنا لأراكِ تتصارعين مع نعومه شعرك في الهواء ........ )
تاهت نظارتها في البحر أمامها و غشاها حزن مرير .... قبل أن تعود اليه و تهمس بواقع حزين
( إنها المرة الأخيرة .......... اليس كذلك ؟ )
نظر اليها قليلا دون كلام ... و حين تكلم أخيرا قال بخفوت
( نعم ...... انها كذلك )
أومأت برأسها متفهمة دون أن تجد القدرة على النطق للحظات طويلة و هي تحيد بنظرها عنه الي البحر من جديد .... ثم همست بصوتٍ مبحوح .... ضائع في صوت الأمواج
؛( حتى الآن لم تخبرني صراحة بأنك تحبها ......... )
ثم أعادت نظرها اليه و همست مستجدية تستعطف عينيه
( أرجوك ....... ربما للمرة الأخيرة بالفعل , أطلب منك أن تكون صادقا في ردك هذا ....إن كان بيننا أي يوم تكن له معزة خاصة في قلبك ...... أخبرني ...... هل تحبها ؟؟ ...... )
نظر نادر الي وجهها الناعم طويلا .... الى طفولتها و رقة ملامحها النسيمية ... ثم قال بخفوت نبعت منه بساطة كل حرف
( نعم ........ أحبها ....... )
فغرت شفتيها الورديتين قليلا .... ثم عادت لتغلقهما و هي تشعر بقبضةٍ ثلجية تعتصر صدرها ... و حين استطاعت النطق أخيرا , همست بإختناق
( صفها لي ..... ارجوك )
أخذ نادر نفسا عميقا ... ثم رفع يده ليحك بها جبهته وهو يضحك ضحكة صغيرة مرتبكة ... لم تراها على وجهه من قبل .... ثم قال مفكرا
( حسنا ...... انها ....... انها مجنونة ..شرسة .... تحلق في عالم خاص بها .... تكاد تفقدني أعصابي دائما و أنا الذي لم أفقدها قبل أن أعرفها أبدا ...... وهي ...... هي دائما متذمرة كطفلة ... محطمة كبطلة درامية ...لكنها في نفس الوقت مضحكة ... أحيانا كثيرة أرغب في خنقها , لكن ما لا تعرفه هي هو أنني حين أختلي بنفسي ..أضحك على الكثير من حماقاتها و جنونها ...... )
سكت نادر قليلا قبل أن ينظر للبحر شاردا وهو يقول
( نظراتها لي تشعرني بأنني محور حياتها ..... بأنني العالم بما فيه في عينيها و ذلك يجعلني أشعر بالغضب .... يجعلني أشعر بالغضب لأنه يشعرني بالرضا الخبيث عن نفسي رغم كل شيء .... و هذا ما لا أحب أن أكونه .... )
سكت نادر تماما وهو شاردا في عالمٍ خاص به ناظرا للبحر .... بينما كانت سلمى تنظر اليه فاغرة شفتيها بتأوه صامت .... تتطلع اليه و في قلبها نصل مسمم .... لا تصدق أنه هو من همس بهذه القصائد للتو ....
ثم دون أن تدري همست من أعمق أعماق قلبها
( يالهي .... لقد أحببت عيوبها !!! ......... )
نظر اليها نادر بصمت دون أن يرد .... فتابعت تتأوه بصمت بعذاب
( انها النقيض من كل ما أحببته في أنا يوما ......... لقد أحببت ما تشكو منه ..... كيف اذن كنت تتدعي حبي ؟؟ )
قال نادر بخفوت
( اعتقد ان الحب يختلف ..... الآن فقط أشعر بأنه لا يخضع لقواعد أو شروط .... بعد هذا الطريق الطويل من تشبثها بعنقي بكل صبر , أجدني لا أملك سوى أن أتمسك بها ..... )
ثم ابتسم بعطف وهو يقول
( أحبها لأنها تشبه الشخص الأغلى على قلبي من العالم كله ...... بل في الواقع هو نسخة طبق الأصل منها و هي من حملته لي كأعظم هدية حصلت عليها ....... )
رفع نظره الي عينيها المصعوقتين وهو يقول بخفوت
( أحيانا أشعر بأنني أود لو أخفيها عن أعين العالم ... و عن أعين كل من يتربص بها .... فهي ملكي وحدي بصكٍ مختومٍ منها شخصيا .... حتى ولو كان دون اذنٍ مني ...... ارغب في قتلها و هي تجتذب الأعين اليها , لكن بعد أن أكون قد حملتها بعيدا عن الجميع ........ )
ابتلعت تلك الغصة المسننة الحادة التي كادت أن تزهق أنفاسها قبل أن تهمس مختنقة
( و أنا ؟؟ ....... ألم يعد في قلبك ذرة من العشق القديم ؟؟ ..... الهذه الدرجة كان سرابا ؟؟ ...... )
قال نادر بصوتٍ خافت يحمل نبرة عتابٍ قديم لشخصٍ نال حظه من التعب و انتهى
( لم يكن سرابا .... بل كان شيئا رائعا و كان ليكون أروع .... لكنك رحلتِ .... بكل قسوة رحلتِ و تركتني استجدي اخبارك ... اتسول معلومة عنكِ ..... الى أن تعبت ...... )
مدت يديها على الطاولة أمامها لتميل اليه باندفاع وهي تهتف هامسة بعذاب
( كنت اجنبك طريق طويل من العذاب ..... كنت ارحمك من مجهول مخيف لم تكن لتتحمله )
قال بقسوة
( من أخبرك أنني لم أكن لأتحمله ؟؟ .... من أعطاكِ الحق لتقرري بالنيابة عني ؟ .....كثيرا تسائلت من أين أتتكِ تلك القسوة كي تتركيني أبحث عنكِ كالمجنون .... أتسائل ربما إن حدث لكِ شيئا و ازداد وضعك سوءا على الرغم من حفظي لأدنى تطورات حالتك حتى بت أحفظها أكثر مما أحفظ أحرف اسمي )
انسابت الدموع من بين عينيها بعذاب وهي تعض على شفتها المرتجفة ألما و قهرا ....
بينما تراجع نادر للخلف مستندا بظهره ... ينظر اليها بتعب وهو يقول بصوتٍ مهزوم
( متى منحتك السبب كي لا تثقي بقوة حبي لكِ ؟ ...... كنت أدور كالمجنون أتسائل عن الذنب الذي أذنبته كي ترحلي بمنتهى البساطة .... و أنتِ تظنين أنكِ تحسنين صنعا معي !!! ...... )
هز رأسه بيأس متنهدا بأسى ...... وهو يسمع بكائها الناعم الذي تحول الى شهقاتٍ معذبة خافتة كصوت النسيم بينهما .....
( لم أهدأ .. ولم يرأف بي عذابي الى أن علمتك بمكانك ..... فسافرت و وصلت اليك أخيرا ............... )
ضحك بخفةٍ وهو يعاود هز رأسه بأسى مغمضا عينيه .... ثم تابع بهدوء
( لأجدك متزوجة ......... )
عاد ليضحك وهو يهز رأسه بمرارة ..... ثم نظر اليها طويلا دون الحاجة به الى الكلام بينما كانت هي تلهث بكاءا ناعما .... لتبعد عينيها المغشيتين عن عينيه الصلبتين و الحزينتين ....
وهمست باكية بأسى
( كي أقطع عليك كل السبل ...........و من أفضل ممن يشاركني نفس الألم كي يعاونني في ابتعادي عنك )
ثم قال بحزن
( حينها علمت أن قصتنا قد انتهت ..... و فعلت ما أجيده , فابتعدت بصمت ......... )
هتفت بعجز و ألم
( لماذا لم تحارب من أجلي ؟؟..... لماذا لم تحاربني أنا شخصيا ؟؟ .... إن كنت أحببتني يوما ..... )
قال نادر بقسوة
( من أحارب ؟...... أنتِ ؟؟ ..... كنت لأفعلها و أقف في وجه عنادك بكل قوتي .... لو لم تُدخِلي انسانا عاجزا مريضا الى حياتك .... يحتاجك كأنكِ الحياة اليه .... كأنك آخر أيامه السعيدة و التي يرى فيها حلما قد تحقق من المجهول ......... تريدين وحشا كي يستطيع مواجهته و ينتزع منه أمله الأخير في الحياة .... )
نظر نادر الى البحر و ملامحه القاسية يعلوها تعبير قاتم من ذكرى أيامٍ مريرة عاشها بضياع بعد أن ضاعت منه ...
ليسمع صوتها يأتيه مستجديا باكيا
( فعلت ذلك من أجلك ............ )
لم ينظر نادر اليها و هو يبتسم بمرارة ... ثم قال بهدوء مبتسم
( كتضحية ؟؟ ......... )
نظر اليها ليقول مبتسما
( أتعرفين ..... بما أنكِ سألتني عن زوجتي في بداية كلامنا .... فأريد أن أخبرك بشيء اضافي ... حور لم تكن لتضحي تلك التضحية أبدا ..... أبدا .... حتى ولو كانت تلفظ نفسها الأخيرة ما كانت لتضحي بهذه الطريقة أبدا ...... )
قال متابعا بعد لحظة .... بوجوم
( لم تضحي من أجلي ..... بل ضحيتِ بثقتك في قوة حبي لكِ ..... )
همست تتعذب بيأس
( الا يمكن أن تعطيني فرصة أخيرة ؟؟ .... ليس من العدل أن تعاقبني على تصرف تصرفته و أنا في أشد حالات ضعفي )
سكت نادر طويلا ... و حين تكلم , قال أخيرا بهدوء
( أنا لا أعاقبك أبدا ..... لكنك قلتِها للتو ..... لقد أحببت حتى عيوبها ....... قد لا تكون اكثر النساء مثالية , لكنها زوجتي .... و أنا ..... أحبها )
أغمضت عينيها و بكت بصمت ... و هي تشعر بأن هذا كله ليس عدلا .... ليس عدلا أبدا .....
سمعت صوته من خلف جفنيها المطبقين يقول بخفوت متألم
( أنا آسف يا سلمى ...... أنا آسف حقا , كم كنت أتمنى لو سارت الأمور بيننا كما تمنيتها طويلا .... لكنك الآن بأفضل حال .... و يوما ما ستجدين السعادة التي تستحقينها .... بعيدا عن كل حياتي المعقدة )
اخذت تبكي وهي تعض على شفتها مغمضة عينيها ... بينما هو ينظر اليها بأسى .. لا يملك وسيلة لمواساتها كما كان يفعل دائما ....
لم يتخيل يوما أن يكون هو سبب آلامها .... دائما ماكانت مهمته في الحياة هي ان يجعلها تبتسم .... كان يتأوه قبل أن تتأوه هي بفعل آلامها التي طالت و اشتدت عليها ....
حين كانت تغمض عينيها بألم كما تفعل الآن ... كان يسارع لضمها بين ذراعيه بقوةٍ عله يمتص ألمها ... مربتا على شعرها القصير الناعم الذي يتطاير أمامه كما كان دائما ...
كانت سهراتهم تطول ... ثلاثتهم .... هي وهو و أمها .... كان يلاعبها لعبة الورق ...يضحكها .... يتحامق و لا يهنأ له بال حتى يتركها متألمة من شدة الضحك ....
فكيف يستطيع أن يؤلمها الآن .... و الأسوأ هو أن شعورا غريبا بداخله يجعل الذنب ينحرف منها .... الي أخرى .... الى حور ... زوجته ....
في لحظة أدرك أنه لم يمنح حور حتى ولو نسبة بسيطة مما منحه لسلمى .... و لما ؟؟ .... لأنها لا تحتاجه كما كانت تحتاجه سلمى ؟؟؟
بل كانت تحتاجه أكثر .... لأنها زوجته ..... و ليس بالضروري أن تكون مريضة كي يوليها كل اهتمامه ...
للحظة و على الرغم من شعوره بالألم مما سببه لسلمى من أذى الآن .... الا أن كل مشاعره بالذنب حاليا كانت متجهة لحور .... حتى ولو كان شعورا غير منطقي .... لكن هذا هو ما كان يشعر به حاليا ...
.................................................. .................................................. ...........................
جلست بجواره في السيارة بقنوط ... تنظر أمامها بملامح أحباط غير موصوفة .... نظر الى جانب وجهها وهو يود لو يميل اليه و يقبل وجنتها و شفتيها المضمومتين بيأس .....
ابتسم وهو يقول بمرح
( هل ستظلين ممطوطة الشفتين هكذا طويلا ؟؟ ....... قد ادغدغك كي تبتسمي و حينها من المؤكد سأنال صفعة على وجهي ....... )
عقدت حور حاجبيها باستياء و قالت بفتور
( من فضلك يا رامز ..... الوضع لا يحتمل المزاح )
رفع حاجبه ليقول ببساطة
( حسنا .... هل يمكنني أن أعرف سر هذا اليأس الذي يتملكك الآن ؟؟ .... لم يجزم الطبيب باستحالة استعادة معتز لسمعه ....... )
هزت رأسها وهي تنظر أمامها بيأس حزين ..... ثم همست
( لم يجزم بشيء ...... لكن كل ما ذكره لم يكن به أي شيء جديد ... و لم يعطني أملا يذكر )
مد رامز ذراعه على ظهر مقعدها ليقترب منها قائلا بخفوت وهو يحاول أن يسترضيها ...
( هل سنيأس من بداية الطريق ؟؟ ......... )
قالت حور متأوهة
( لن أيأس .... لكن ذلك لو كانت هناك بداية ..... فقط اريد البداية و سأمضي في الطريق مهما طال )
تنهدت بقوة ثم نظرت اليه بحزن وهي تقول بخفوت
( أنت لا تعلم كيف تقلبت مشاعري تجاه حالة معتز منذ اليوم الأول .... ما بين الذهول ... الي الرفض ... ثم اليأس ... ومنه الى اللامبالاة المؤلمة طويلا .... حتى بدأت في تقبلها .... من التقبل انتقلت الى الإستمتاع ببناء لغة خاصة بيننا ... لا يجيد مفرادتها سوى أنا وهو فقط .....و الآن .... بدأت في الأمل من جديد .... أعرف أن هناك أمهات غيري يعانين من ظروفٍ أصعب ألف مرة لأطفالهن .... لكنني رغما عني أجدني مرهقة بشدة تقلب مشاعري تجاه حالة معتز ......)
سكتت قليلا قبل أن تنظر اليه بحزن هامسة
( هل تفهمني ؟؟ ......... )
أومأ برأسه دون أن يجيبها .... فأمالت رأسها تنظر الي معتز المختبىء خلف مقعدها يلعب بعربته الصغيرة بصمت لا يدرك شيئا مما يدور حوله ...... فاقترب وجهها من وجهه كثيرا في لحظةٍ واحدة كانت كفيلة بأن تجعله يغلق عينيه و يستنشق عطرها الجذاب ..... لكنه ابتعد ما أن عادت بوجهها تنظر اليه بحزن قائلة
( أريد العودة الآن يا رامز من فضلك ..... و شكرا لك على كل شيء حقا )
زم شفتيه وهو يدور بالسيارةِ رغما عنه و النار تأجج بقسوة .... لكن صبرا .... لقد اقترب منها كثيرا حتى الآن ..... و لن يمل الآن بعد كل ما وصل اليه .....
.................................................. .................................................. ..........................
سارت بتثاقل .. تغرس أقدامها في الرمال البيضاء .... شاردة في بساط المياه الفيروزية الممتدة أمامها ....
كان هذا المنظر فيما سبق كفيلا بأن ينسيها هموم العالم كله ... و كانت تعد نفسها دوما بأنه سيكون محطة شهر عسلها .... و قد كان ...
لكن كم تغيرت الأحوال , و أصبح المكان هو مقدمة لذكرى ألمٍ و ذل من أشد الناس قربا لقلبها ....
عمر ..
ذلك الوسيم الذي اقتحم حياتها اقتحاما في غفلةٍ منها ... و أصبح بالنسبة لها السماء بنجومها ...
من يصدق أن تلمس نجمات السماء أخيرا !! ...... لكن لتسقط بعدها الى سابع أرض , و بفعل يديها ....
و على الرغم من ذلك , فشعورا حارقا بالظلم يتزايد في أعماقها .... ليس عدلا أن يكون هذا هو عقابها على أولِ خطأ تخطئه في حياتها المسالمة .... ليس عدلا على الإطلاق ....
رن هاتفها في يدها ... فأسرعت تنظر اليه , تتأمل في أن يكون هو يسأل عنها .... الا أنها شاهدت رقم حور . تظللت عيناها بظلال الألم بذكرى آخر مكالمة بينهما ...
لذا دون تفكير أغلقت هاتفها .... تحتاج أن تكون وحدها , .... تحتاج أن تتعامل مع ألمها بنفسها .....
أخذها الوقت طويلا على ساحل البحر ..... فجلست ببطءٍ متعبة على الرمال , ترفع ساقيها الى صدرها و تضمهما بشدة .... شاردة في البحر أمامها ...
و على بعدٍ منها شاهدت زوجين شابين يبدو عليهما أنهما اوروبيين .... و قد تمددا على الرمال و تاها في موجة غزل أنستهما أنهما في مكانٍ عام تماما .... أو ربما لم يهتما ببساطةٍ وهما في سحرٍ تام ببعضهما ....
من الواضح أنهما يقضيان شهر العسل مثلها ....
ابتسمت فجأة بسخريةٍ مريرة على تفكيرها الهش .... تقضي شهر العسل !! .... و ياله من شهر عسل !! ....
منذ أن وصلا الى غرفتهما ... تركها وحيدة ليخرج دون أية كلمة ترضية لها ....
حاولت الإتصال به مرارا الا أنه لم يرد عليها اطلاقا ...
تاهت عينيها و هي تتذكر ملامحه القاتمة بعد مغادرة الشاب الذي حمل لهما حقائبهما ....
ابتلعت ريقها وهي تنظر اليه من تحت أهدابها المسدلة بحزن ..... و ما أن رأته متجها الي باب الغرفة حتى هتفت قبل أن تتمالك نفسها
( عمر ...... هل ستخرج من الغرفة ؟؟ )
نظر اليها من فوق كتفه نظرة طويلة جعلتها تصمت تماما و تتراجع للخلف خطوة .... حينها استدار و خرج تاركا اياها في الغرفة وحدها ببلدٍ غريبة ....
لم تظنه بهذه القسوة أبدا .... وبعد عدة ساعات لم تحتمل البقاء وحدها طويلا ... شعرت و كأن الجدران ستطبق عليها ... و كأن نفسها يضيق و تكاد تفقد وعيها من الصمت المحيط بها ...
فقررت النزول الى الشاطىء .....
استقام الزوجان الأوروبيان ... حينها فوجئت رنيم برؤية وجه الشابة .... كانت تقريبا .... لا تحمل أي مقياس من مقاييس الجمال المعترف بها أبدا ....
حتى أن زوجها كان يحمل وسامة بدرجةٍ أعلى جدا .... لكن الذي جذب نظرها أكثر هو أنه كان يهيم بها بدرجةٍ جعلتها تبدو كأكثر ملكات الجمال سحرا و أنوثة ....
لم تشعر رنيم بنفسها وهي تبتسم ابتسامة حزينة مذهولة قليلا .... يوما ما كان عمر هائما بها كنفس نظرات ذلك الرجل لزوجته ...
كيف كانت عمياء بهذه الصورة !! ...... كيف لم تستطع الحكم على حبه قبل أن ينطق به مباشرة و فضلت أن تضمن فرصة متوفرة الى أن ينطق بها ....
و ها هي قد ضيعت كل شيء من يدها ... و الأفظع أنها ضيعت حبا لن تستطيع تعويضه أبدا ....
نهضت ببطء ما أن أوشكت الشمس على المغيب .. لتنفض الرمال الناعمة عن يديها و ملابسها ... متجهة بيأس الى غرفتها الانفرادية ....
لكنها ما أن وصلت الي الغرفة حتى فتح بابها كاعصار و ظهر عمر بملامحٍ مخيفة ... تسمر مكانه حين وجدها أمامه للحظةٍ فقط قبل ان يمد يده و يجذبها من ذراعها الى داخل الغرفة , صافقا الباب خلفها ثم استدار اليها هادرا بغضب
( أين كنتِ ؟؟ ...... )
تراجعت رنيم قليلا بخوف من هيئته التي لم تره فيها من قبل ... لكنها همست بلعثمة
( نزلت الى الشاطىء قليلا .......... )
جذبها اليه وهو يقول بغضب مجنون
( و كيف تخرجين وحدك ؟؟ ....... )
تجرات على القول بأنين محتج ...
( أنت من تركتني هنا وحدي .... و لقد شعرت بالخوف من بقائي هنا وحدي )
فتح فمه ينوي الصراخ بجنون .. او ربما تكسير المكان , أو حتى ازهاق روحها .... الا أنه عاد يغلق فمه وهو يتنفس بصعوبة وهو يحرر ذراعها كي يستدير عنها .... كأنه لم يعد يطيق رؤيتها ...
شاهدت انحنائة كتفيه و كأنه تحت ثقل ضاغط عليه .... و كم ودت لو تمد يدها لتلمس ظهره عله يستشعر قهر ندمها دون الحاجة الى الكلمات ... لكنها لم تتجرأ على المحاولة و استدارت هي الأخرى تقاوم دموعا هددت بانهيار لن يتحمله حتما .....
قال لها بجفاء و ظهره الي ظهرها
( اياكِ و اعادتها مجددا ........ مفهوم ؟؟ )
لم تلتفت اليه بينما أغروقت عينيها بالدموع حتى استحالت عليها الرؤية فهمست باختناق بكاءٍ مكبوت بوضوح
( لا أحب البقاء وحدي ..... أشعر بالدوار و كأنني سأفقد وعيي دون أن يشعر بي أحد .... ان .... ان كانت تلك هي طريقة معاقبتك لي فأرجعني الى أمي و أبي رجاءا ..... لأنني لن أتحمل هذه ... هذه .... )
انقطع كلامها بغصةٍ و كأنها ستنهار في أية لحظة ....
قال عمر بخشونة بعد فترة صمت مشحونة
( هيا بدلي ملابسك .... سنخرج لتناول العشاء , فأنا أيضا لن أحتمل البقاء معك وحدنا طويلا ..... )
استدارت اليه تنظر اليه بالم بينما انسابت دموعها على وجهها دون ان تهتم باخفائها عنه الآن ... ثم هتفت بعذاب
؛( كف عن تعذيبي .... ارجوك يا عمر ..... ارجوك )
اتجه عمر الي الشرفة وهو يقول بصوتٍ جاف خشن
( لا أطيق الانتظار .... أمامك عدة دقائق ثم سأخرج وحدي )
وضعت رنيم يدها على صدرها وهي تبكي بصمت .. هامسة لنفسها
(أريد أن أرحل من هنا ..... لم تمر عدة ساعات و أكاد اموت لأرحل من هنا ... لن أحتمل أكثر )
.................................................. .................................................. .....................
شردت رنيم و هي جالسة الى طاولتهما ... مسندة ذقنها الى ظهر كفها .... مبتسمة بحزن و هي تراقب نفس الزوجين الذين رأتهما على الشاطىء ....
و قد أبدلا ملابسهما تماما مثلها هي و عمر .... كي يتناولا عشائهما و يبدآن سهرتهما ... و ها هما الآن يرقصانِ ببطءٍ .. متمايلانِ على أنغامِ موسيقى حالمة ...
تاهت بالنظر اليهما حالمة و كأنها تناشدهما أن يرقصا اليها رقصة حرمت منها ....
لكنها في لحظة خاطفة حانت منها التفاتة الى عمر ... لتصدم بوجهه وهو ينظر اليها بتعبيرٍ غامض غير واضح لكن بعضا من ملامح الألم كانت تحيط به ... أو ربما تتوهم فقط .... هل يعقل أن يكون لازال بقلبه ذرة حب لها ...
و هل يعقل أن ينتهي الحب في لحظةٍ واحدةٍ مهما بلغت فداحة السبب ....
أبعد عمر عينيه عن وجهها ما أن نظرت اليه .... و كأنه يبخل عليها بتلك اللحظة التي كانت الوحيدة الرائعة منذ أن وصلت الى هنا ...
حينها همست بحزن وهي لا تجد القدرة على تحمل الصمت الخانق أكثر
( المكان ...... رائع )
لم يرد عليها و لم ينظر لها ... بينما كانت أصابعه تتلاعب بخاتم زواجه االفضي ... جاذبا نظر رنيم بخوف الي ذلك التلاعب و كأنه يقصد منه شيئا ...
ابتلعت رنيم غصة الخوف ثم هدأت قلبها بيدها المرتجفة ... لتتنحنح مجلية حنجرتها وهي تهمس
؛( و هذه الأمسية .... أيضا .... رائعة .... كلها .... شكرا لك )
و حين تابع صمته و تجاهله لها ... تابعت هي بصوتٍ أكثر خفوتا
( أنا ...... أنا آسفة .... لأني خرجت اليوم ........ )
ايضا الصمت كان رفيقها ... فهمست مجددا دون أن يهاجمها اليأس من جديد
( أنا .... أنا فقط , أخاف البقاء وحدي ..... و أنا ......... )
قاطعها عمر بصلابةٍ وهو ينهض واقفا
( هيا الآن .... يكفي سهرا الليلة )
وقفت رنيم بصمتٍ تتبعه ... ووجهها تعلوه علامات الهدوء الذي يحوي ألما لا يمكن حتى التعبير عنه بملامح ...
.................................................. .................................................. .........................
حين عادا الى غرفتهما ... خرج عمر الي الشرفة , وصعقت و هي تراه يخرج سيجارة ليشعلها .... مستندا بيده الى سور الشرفة .... منذ متى يدخن ؟؟ .... لم تره يدخن أبدا , ومن اين أحضرها ؟ .....
اتجهت الى الحمام بيأسٍ حزين ... تتسائل عم سترتديه الليلة , ... لن تكون أبدا تلك المغوية المثيرة للشفقة مجددا ....
ان أرادت أن يعود اليها عمر , فهي حتما ستعيده بقوة حبه لها ان تمكن من مسامحتها ... لكنه لن يعود بقوماتٍ هي لا تملكها من الأساس ....
لذا ارتدت قميص نوم بنفسجي اللون يلائهم مزاجها الكئيب ... و فوقه روبه الخاص ... حين نظرت الي نفسها شعرت بالثقة نوعا ما و هي تبدو أنثوية رقيقة على الرغم من منظرها المحتشم ...
الا أن قماشه المخرم و أشرطته الحريرية الناعمة جعلتها تبدو كالعرائس من زمنٍ ماضٍ ....
و حين خرجت اليه , كان جالسا على كرسي تماما كذلك الذي جلس عليه ليلة زفافهما ... ليلة أمس ...
يالهي انها تبدو و كأنها منذ قرون ....
اتجهت نحوه و تحت أنظاره .... جلست على حافة السرير الواسع , تبتسم لعينيه بحزن .... و دون ان تنتظر منه كلاما قررت أن تكلمه هي و لا تستلم لصمتٍ يبعدهما أكثر ...
فهمست ما توقفت عنده اثناء جلوسهما سويا
( لم اكمل لك اعتذاري عن خروجي .... الا زلت غاضبا مني ؟؟ .... لم أقصد أن أفعل ذلك , حين .... حين فتحت عيني و أفقت بعد الحادث .... كنت وحدي تماما ... محاطة بأسلاكٍ و أجهزة كثيرة ... في غرفة بيضاء شنيعة .... حينها بدأت أشعر بالألم ..... و الذي أخذ يتزايد و يتزايد أضعافا .... كنت أريد أن اصرخ منادية أحدا ... لكن دون جدوى ... و أنا لا أتذكر تماما و لا أعرف سبب الألم المنتشر بجسدي بهذه الصورة المفزعة .....
أنا لا أحب البقاء وحدي يا عمر ..... فلا تعاقبني بذلك العقاب مجددا , أرجوك ....
أريد حين أصرخ , أراك بجانبي ..... معي ...... حتى و لو شاركتني الصراخ بي .... لكن لا تبتعد ... و لا تصمت هكذا ...... )
خفتت كلماتها الأخيرة تدريجيا حتى صمتت تماما حين وجدته غير ناظرا اليها و لا حتى مستمعا لها ...
بل نهض من مكانه .... متشاغلا بشيءٍ وهمي .... ثم خرج من الغرفة مجددا ليدخن سيجارة أخرى ...
صدمت رنيم من قسوته المتعمدة ... الا أنه يراعي مشاعرها و لا يدخن بالغرفة ... اليس كذلك ؟؟
ستفترض أن هذا هو السبب شاكرة .... لا تملك حلا آخر ... و الا فستموت قهرا ...
مرت تقريبا ساعة .... أو أكثر .... و هي تجلس على حافة فراشها ... كعصفورة كسيرة ... لم تعلم بأنها بدت كأجمل ما تكون ....
بينما ثقتها تضائلت الى ان انعدمت تقريبا .... اخيرا حين تعبت , استلقت على جانبها و ظهرها الى الشرفة و انخطرت في البكاء الى ان هدها التعب في النهاية و استسلمت للنوم ...
أما في اليوم التالي ... انهارت سيطرتها على نفسها تماما , حين استيقظت منتفخة العينين .... ليأمرها بخفوت أن تستعد كي يخرجا للفطور ....
فنهضت ميتة بلا روح و اتجهت للحمام الذي أصبح مخبئها منه حين تريد أن تنهار ....
نظرت للمرآة فوجدت فتاة شاحبة بلا روح ... متورمة العينين ... مشقوقة الشفتين ... و يبدو حزن العالم في نظراتها ... ...
ثم بدأت تخلع ملابسها في صمت كي تأخذ حمامها عله يريح اعصابها ... و ما أن خرجت و أثناء شرودها ...
انزلقت ساقها قليلا ... لكنها لم تسقط أرضا , بل ارتمى ثقلها فقط على الحائط و تأوهت بصوتٍ خافت لا يكاد يسمع .....
ثم استقامت من جديد ... و هي تدلك كتفها دون تعبير ...
الا أن مالم تتوقعه هو أن يفتح الباب فجأة و يدخل عمر ناظرا اليها مدققا بها .... حينها انهار كل شيء ... و انهارت هي بعد ساعات من تجرع الألم ....
لم تكن مستعدة اطلاقا في أن يراها و يباغتها على هذا النحو ... بينما تجلت كل عيوبها أمامه بمنتهى القبح ...
فلم تشعر بنفسها و هي تصرخ فيه عاليا لكي يخرج ... محاولة تغطية تشوهاتها قدر الإمكان ... الا أن الفظيع في الأمر هو صراخها به أثناء بكائها الهيستيري
( اخرج .... أخرج من هنا حالا ..... أنت قصدت أن تفعل ذلك ..... أردت أن تكمل اذلالي على أبشع نحو .... )
اقترب منها عمر بوجهٍ قاتم متجهم وهو يقول بصوتٍ مكبوت
( اهدئي .... لقد ظننت أنك قد فقدت الوعي أو سقطتِ و آذيتِ نفسك .... )
الا أنها لم تكن تسمع سوى نفسها و هي تتابع صراخها و بكائها العالي و هي تدفعه بيدها في صدره بجنون ...
( كاذب .... كاذب .... انا لم أصدر اي صوت لتظن ذلك .... أنت فقط أردت اذلالي ... )
بينما تغابت تماما عن سؤال نفسها عن كيفية معرفته بانزلاقها ... والذي لن يسمعه سوى شخص يقف خلف الباب متأهبا لحدوث أي شيء ...
حين وجد أنها لا تستمع الا الي ما في عقلها .... جذبها اليه و لفها بالمنشفة الكبيرة بكل قوته و منها الي صدره رغم مقاومتها المجنونة وهو يصرخ بها بصرامة
( اخرسي حالا .......... )
و كأنه صرخ في فرسٍ شرسة .... فسكنت وهي تغص ببكائها و ارتمت على صدره تنشج بصعوبة و اختناق ... لتهتف بتقطع
( أريد العودة .... لا أريد البقاء هنا ...... لا أريد شيئا بعد الآن .... لم أعد أريد شيئا أبدا ...... )
وصلت حور و معتز الى محل علية التي أشرق وجهها ما أن أبصرتهما .... و بعد أن قبلت معتز دفعته برفق ليلعب مع باقي الأطفال الذين يلعبون أمام محلها كل يوم ....
ارتمت حور على كرسي خشبي صغير بجوار علية ... و لم تخف معالم الإحباط عن وجهها و هي تنظر الى معتز شاردة ...
قالت علية بهدوء و هي تدقق في ملامحها
( كيف كان موعدكما ؟؟ ............... )
تنهدت حور و قالت بلا تعبير
( لم يكن شديد الإبهار ............ )
ظلل بعض الحزن ملامح علية الجذابة ... لتقول بخفوت محبط هي الأخرى
( الا أمل على الإطلاق ؟؟ ........ )
ردت حور بإيجاز و بلا روح
( دائما الأمل موجود ............. )
قالت علية مشجعة و هي تربت على فخذها
( اذن هذا يدعو الى التفاؤل ...... دعي ثقتك بالله تطمئن قلبك )
تنهدت حور بقوة .... ثم قالت بخفوت
( ونعم بالله ....... المشكلة هي أنني منذ عدة ساعات فقط كنت قد بدأت أتخيل في رأسي كم المواضيع التي سنتحدث بها سويا .... يسمعني و أسمعه .... و أتخيل رنين صوته في اذني ..... )
ابتسمت علية بحنان و حزن و قالت مشجعة بكل قوتها
( ولما تركتِ الحلم ؟؟ ..... انه على الله هين يسير )
قالت حور بخفوت
( يا رب .............. )
ثم نظرت الي علية لتقول مبتسمة بوداعة
( انتِ طيبة جدا يا علية ....... شكرا )
نظرت اليها علية باندهاشٍ نوعا ثم ضحكت لتقول ممازحة
( انتِ في مزاج عاطفي جدا اليوم ....... هل للغالي دخلا في هذا المزاج ؟؟ )
احمر وجه حور امام نظرات علية بمنتهى السخافة و كأنها مراهقة ساذجة .... ثم تنحنحت لتقول مبتسمة مغيرة الموضوع
( اذن بما اننا هنا ... و الجو مشرق و جميل ... و نبدو كسيدات عاطلات , لما لا تخبرينني بالقصة التي وعدتني بها من قبل )
عقدت علية حاجبيها وسألت مبتسمة بحيرة
( أي قصة ؟؟ .......... )
قالت حور بفضول
( قصة زواجك ...... ألم تخبريني بأنكِ أنتِ من عرض الزواج على زوجك أولا ... هيا اخبريني بالتفاصيل ولا تتهربي ...... )
ضحكت علية عاليا ... الا أن حور لم تغفل عن مسحة الحزن التي اعتلت وجهها .... و شرود بعيد تاه بها عن وجودها هنا معها في نفس المكان .... و حين قررت حور بألا تلح عليها كي لا تزيد من ذلك الحزن الذي تراه في عينيها .... تكلمت علية همسا و هي شاردة
( في الواقع ...... ليس هناك الكثير لأحكيه ...... منذ اربع و عشرين سنة تقريبا , لم أكن بمثل هذا الإتزان الذي ترينني به .... كنت فتوة الحي كما كانو يطلقون علي .....
منذ طفولتي و أنا أدخل في شجاراتٍ مع أبناء الحي .... و الغريب أنهم كانو أكبر مني ... لكني لم أكن اخاف من شيء و لا يردعني رادع .... ما أن أرى شيئا مخالفا للحق ... كنت أدخل في عراكٍ بالأيدي و الأرجل ... و ظللت هكذا .... الى أن أصبحت مراهقة ... و حتى بداية أنوثتي ....
الا أنني و داخل كل هذه البلطجة .... كنت أحمل اعجابا فاق كل الحدود تجاه شخص واحد .... كان هو زينة شباب الحي كما كانو يطلقون عليه .... قويا وسيما طيبا و رائعا .... جدا .......
الجميع كانو يسارعون لإرضاؤه .... و كسب وده .... حتى أنا , كنت اتشاجر مع الجميع ... لكن أصل عنده و أتوقف ....
لكن هو لم يكن يراني أبدا ..... لست سوى بلطجية الحي ..... في مراتٍ كنت أقاوم نفسي و أحل شعري لأمر من أمامه لربما رآني كإمرأة و فكر في خطبتي ..... لكن لا احساس و لا شعور .... كان كلوح الثلج دائما ....
و في احدى المرات و من تدابير القدر .... سمعت خاطبة الحي تتحدث مع أحدى السيدات و تخبرها بأنه يعتزم الزواج ..... و طلبت منها أخته المساعدة في ترشيح بعض الفتيات ....
وحين نطقت بالأسماء المرشحة ..... طبعا و دون ادنى شك لم أكن بينهن .....
وما أن انتهى الكلام .... و غادرت الاخرى ... حتى اندفعت اليها لأجذبها في مدخل البيت ,.... و دون مقدمات امرتها ان تضع اسمي بين المرشحات ...
و بعد شتائم عديدة منها بقلة حيائي و انعدام تربيتي .... رضخت اخيرا على مضض بانها لن تفعل سوى ان تذكر اسمي .... دون اي مدح .... كي لا تغش الرجل !!.... )
ضحكت حور و ضحكت علية معها وهي تتذكر تلك الأيام ... ثم تابعت برقة
( المهم .... بائت المحاولة الأولى بالفشل , ورفض اسمي رفضا قاطعا دون تجريح ..... فانهرت لكن دون أن أظهر ذلك و ازدادت شراستي و عراكاتي في الحي خاصة بعد أن علمت بأنه قد خطب احدى المرشحات .....
لكن مرت فترة و علمت فيها انها قد فكت الخطبة نتيجة تدهور حدث في محلاته .... لكن ليس بشديد . لكنها كانت ذات طموح اعلى ......
و تكررت القصة بحذافيرها .... و بحث عن فتاة اخرى .... و أمرت الخاطبة أمرا و سرا من دون علم والدي
و تكرر الرفض ... وتكررت خطبته لفتاة اخرى و ازداد انهياري و جموحي في نفس الوقت ...
لكن التدهور الذي اصابه زاد ... و كأن القدر يعاونني ... و تقريبا أوشك على الإفلاس ... حينها تركته خطيبته الثانية ....
و بعد فترة علمت من الخاطبة بأنه رفض عرضها في ترشيح المزيد من الفتيات ... لأن ظروفه أصبحت لا تلائم اي أسرة .... و افلاسه أصبح معروفا لدى الجميع .....
حينها اتخذت قراري ... و ذهبت اليه بكل جرأة و عنفوان ....
لازلت اذكر ملامح وجهه الوسيمة الهادئة حين التفت الي و أنا أنادي عليه قائلة بحنق
( من تظن نفسك لترفضني أكثر من مرة !! ...... عشرات غيرك من أبناء أكبر "المعلمين " يتمنون اشارة من اصبعي )
صعقت حور لما تسمعه و ضحكت مذهولة ..... بينما قالت علية بحرج
( طبعا لم يكن هناك العشرات و لا حتى اثنين .... لم يكن هناك سوى ابن صاحب محل العجلات وهو الوحيد الذي كان يتباهى بأنه سيروض طباعي ...... المسكين كانت نهايته على يد من لا ترحم ... وحتى الآن حين يمر أمامي أرى اثر العشر قطبات في جبهته بعد أن قذفته زوجته بأداة فرد العجين أثناء شجارٍ بينهما )
توقفت علية قليلا تتذكر ثم قالت
؛( أين كنا ؟؟ ..... نعم حين التفت الي مصعوقا من كلامي و لن أنسى احمرار وجهه مما زاده جاذبية ووسامة ... ثم تلعثم بحرج وهو يعتذر بأنه لم يقصد ... و أنني زينة البنات ... و أنني أستحق من هو أفضل ....
طبعا كان كل هذا كذبا سافرا ... لأنه لم يشأ ان يخبرني بأنه لا يريد أن يتزوج من فتوة الحي .....
حينها أنا رددت عليه بشجاعة بأن يتوقف عن الكلام المحفوظ .... لأنه لا يخدعني .... ثم نظرت اليه و عيني في عينه لأقول بمنتهى الشجاعة
( للمرة الأخيرة ...... اتتزوجني ؟؟ )
مظهره حينها كاد أن يميتني ضحكا حتى أنني أشفقت عليه .... ورد علي بحرج بأن ظروفه حاليا لم تعد تحتمل أعباء الزواج ... و أنني مازلت صغيرة و الى غير هذا الكلام .....
لكني قبلت به ... و قبل بي في النهاية .... )
نظرت حور اليها بصمت حين توقفت عن الكلام شاردة ... و الحب يكاد أن ينطق من كل معالم وجهها الحزينة .... ثم همست
( عشر سنواتٍ معه ..... فقط عشر سنوات ... كم كان طريقا قصيرا للغاية .... لكنه كان يوازي عندي العمر كله)
شعرت حور بحزنٍ غريب ... أوجع قلبها اكثر مما كانت تظن , ثم همست بصوتٍ لا يكاد يسمع
( و هل أحبك بعد الزواج ؟؟ .......... )
ابتسمت علية بهيام وهي تجيب بكل ثقة
( بل هام بي عشقا ..... خلال أشهر قليلة من الزواج كان كأكثر أهل الأرض عشقا .....حتى أن عشقه لي و رعايته زادت أضعافا حين تأكدت من استحالة قدرتي على الإنجاب .... حينها أدرك كلانا أنه لا يملك سوى الآخر )
سألتها حور بخفوت
( من المؤكد أن حياتكما كانت شديدة الهدوء و الرقة .... لم تتشاجرا يوما )
ضحكت علية بقوة وهي تقول مندهشة
( يالهي .... هدوء و رقة !!! ..... بل كانت على النقيض من ذلك تماما , ..... كانت حياتنا معا كقصف المدافع , عيبي في الزواج من رجلٍ مثله هو أنني كنت شديدة التحكم فيما اراه صحيحا ... حتى اني كنت شديدة الاصرار فيما اراه من واجباتي ....
كنت ابيع كل ما املك من ذهب دون ان يعلم .... و اذهب الى معارف والدي و اقنعهم بمشاركته و دعمه من جديد .... فما أن يعلم حتى تندلع الحياة من حولي نارا ....
و استمر بنا الحال على هذا المنوال .... النيران تزداد اندلاعا ... و الحب في قلبينا يزداد يوما بعد يوم )
زفرت حور نفسا ملتاعا صامتا ... ثم همست بروعة
( أنتِ محظوظة للغاية ....... لقد وجدتِ حبك ووجدك بمنتهى السرعة .... دون أنين و عذاب طويل )
ضحكت علية بحزنٍ موجع وهي تهمس بأسى
( محظوظة !! ......... الحمد لله على كل شيء )
ثم التفتت الى حور لتقول بقناع مرح
( اذن ..... دورك , أخبريني عن خططك في الحصول على الغالي ........... )
شعرت حور بامتقاع وهي تشعر بأن ما بينها و بين نادر ليس بصفاء و بساطة تلك الحكاية التي سمعتها للتو ....
فابتسمت بحرج وهي تقول همسا
( طريقتي تختلف ..... لكني نجحت و تزوجته في النهاية ... اليس كذلك ؟؟ )
ابتسمت علية متأملة .... ثم قالت بهدوء
( نعم تزوجته ..... لكن هل حصلتِ عليه حقا ؟؟ )
لم ترد حور و هي تنظر الى معتز الذي يلعب بمرحٍ مع مصطفى .... ثم نظرت اليها وهي تقول مبتسمة
( أتعلمين ماذا أريد في تلك اللحظة ؟؟ ...... أريد أن أذهب خلفه كي أناديه كما فعلتِ أنتِ ... فربما يضع في عينه حصوة ملح و يحس بي و بمزاجي العاطفي اليوم )
قالت علية مبتسمة برقة
( وماذا تنتظرين ..... هيا اذهبي خلفه سريعا )
عبست حور وهي تقول ( الآن ؟؟ ...... انه في عمله ..... لا أستطيع )
قالت علية بحزم ..
( بلى تستطيعين .... أنتِ زوجته و من حقك أن تزوريه في الوقت الذي يعجبك و في المكان الذي يعجبك ..... هيا اذهبي اليه و اتركي ابن الغالي معي هنا )
ابتسمت لها حور و هاجس قوي بقلبها يحثها على أن تذهب خلفه كي تناديه ....
انه زوجها .... لقد حاربت من اجله طويلا , فلما لا تتمها في نهاية المطاف بأن تناديه ؟؟ ..... فان استجب لها ستسامحه .... في قلبها جرحا غائرا منه .... الا انه زوجها و هي احق الناس في المحاربة من اجله دون استسلام .....
لكن هذه المرة لن تفعل سوى ان تناديه .... وما أن يستدير اليها حتى تعلم الحقيقة .... ستعلم ان كانت بينهما مازالت هناك فرصة ام ان الطرق قد تفرقت بهم ...
هذا التفكير ارسل في قلبها حزنا باردا كالجليد اعتصر صدرها .....
لكنها و قبل أن تدع ذلك الحزن يسيطر عليها و يمنعها نهضت من مكانها بكل عزم ... و نظرت الى علية مبتسمة و قالت برقة و شجاعة
( سأذهب لأناديه ....... و لن أتركه حتى يبلي النداء )
ابتسمت لها علية و هي ترى فيها فتاة جامحة كانتها منذ عشرين عاما .... أحبت بجنون ..... فقط ينقصها أن تحب نفسها أكثر ...لكن ليست بتلك الطريقة التي تستهلك روحها بشكلٍ ظاهرا بوضوح في كل نظرة من نظراتها التائهة من حوله ......
.................................................. .................................................. ...........................
جلست تنتظره على كرسي صغير متهالك نوعا ما .. في مشفى تماثله تهالكا , الآن يحين بدء موعد مناوبته كما أخبرتها الفتاة الصغيرة خلف مكتب الاستقبال كما يبدو نوعا .... ... لكن اين ذهب منذ الصباح ؟؟
انها المرة الأولى التي تأتي اليه في عمله ....وهي تبدو في غاية التوتر وكأنها في انتظار ناظرا مدرسيا ...
بدأ اول المرضى في التوافد .... و بدأ الممر في يمتلىء نوعا ما ...
هل سيتأخر ؟؟ .... باقي دقائق محدودة و يصل وهي تعلم بأنه لا يحب التأخر أبدا ....
فركت أصابعها بتوتر قليلا .... ترى ماذا ستكون ردة فعله حين يراها ؟ .... لن تتحمل أيا من حركات جفاؤه بعد الآن ... لقد تعبت ... تعبت من ذلك الجفاء لسنوات طويلة ... و الآن .... و خاصة بعد ليلة الأمس و التي منحها أملا في صفحةٍ جديدة بينهما لن تتحمل أبدا أن يعود الى جفاؤه القديم ....
ها هي تتقدم الخطوة الأخيرة بينهما .... فهل يقابلها في الخطوة التي تليها ؟ .. أم يختار الأخرى ؟؟ .... وهل هذه الأخرى هى مجرد اختزال لكل ما كان بينهما يوما من زواج متزعزع ... أم ان الأمر أكبر من ذلك كما لا تحب أن تتخيل ؟؟ .....
لم تنتبه الى أن ملامحها الجميلة كساها حزن شرد بها بعيدا ... حيث بدت في تلك اللحظة مشتتة .. خائفة من لحظة فراق قد تكون حتمية ,هي لا تريدها أبدا .....
شعرت بأنها مراقبة من مكانٍ ما .... فانتبهت مجفلة لتجده ينظر اليها بقلق من سبب حضورها المفاجىء ... الا أن القلق كان يحتوى على نظراتٍ أكثر عمقا ... و كأنه كان يقرأ أفكارها للتو ....
اقترب الخطوات سريعا بقلق ... الا أنها ابتسمت له تدريجيا حتى اتسعت ابتسامتها فشملت وجهها كله كأجمل ما يكون ....
تباطأت خطواته في الممر الطويل وهو ينظر الى ابتسامتها التى أخذت تتسع لتخبره بأن ليس هناك أي سبب يدعو للقلق من حضورها ....
فأبطأ ليستمتع قدر الإمكان بتلك الإبتسامة .... وكأنها أصبحت الضوء الوحيد المضيء له آخر النفق ....
انتفض قلب حور وهي ترى شبه ابتسامة تظهر على شفتيه .... حتى أنها لمحت تلك الخطوط الصغيرة التي تجعدت عند زاويتي عينيه بحنانٍ كاد أن يهزمها شر هزيمة ...
ما معنى تلك الإبتسامة !!!
ما أن وصل الى كرسيها المصطف مع باقي مقاعد انتظار المرضى ..... حتى انحنى مستندا بذراعه الى ظهره مقعدها مقتربا بوجهه من وجهها ليهمس لها بخشونة
( هل حجزت سيادتك مكانا قبل مجيئك الى هنا ؟؟ .............. )
ازدادت ابتسامتها أكثر حتى لم يعد وجهها يتسع لها ... فأدارت وجهها له لتهمس بهدوء و ثقة
( سأحجز الآن ...... ما المشكلة في ذلك ؟؟ )
اشار بذقنه الى صف المرضى ثم همس لها
( اذن ...... ستضطرين معاليكِ الى أنتظار دورك بعد هذا الصف الطويل ...... )
ارتفع حاجبيها قليلا قبل أن تهمس
( من المؤكد أنني ذات أولوية كوني زوجة الطبيب ........ )
ازداد انحناءا اليها ليهمس بصوتٍ أجش
( زوجة الطبيب هناك في بيتك ... معاليكِ ..... أما هنا فأنتِ مجرد حالة )
رفعت احدى حاجبيها وهي تهمس بغيظ
( مجرد حالة !! ...... حسنا يا حضرة الطبيب , سأنتظر .... ليس لدي ما يشغلني .... معاليك )
اتسعت ابتسامته ليستقيم واقفا .... ثم اتجه الى عمله والابتسامة على وجهه كانت تحمل الكثير ... و تحمل شوقا للمرة الأولى في انهاء مناوبة عمله بأسرع ما يمكنه .....
خلال الفترة التالية كانت حور جالسة تنظر اليه بين الحين و الآخر وهو يخرج من غرفة عمله ... مرافقا احد المرضى و معه ورقة في يده ... ذاهبا بها أو عائدا بها ....
ومن بين كل مرة كان ينظر اليها بابتسامة خفية .... ثم يستعيد صرامة وجهه من جديد ...
وفي مرة من المرات أخذت سيدة عجوز في التذمر طويلا و الشكوى ... و حين خرج نادر ليجدها تشكو اقترب منها لينحني اليها مربتا على ذراعها هامسا لها ..... ثم أحنى رأسه كي يتمكن من فهم ما تشكو به ...
وكان من بين حديثه معها يدعوها " ماما " !! .... رفعت حور احدى حاجبيها " ماما !! "
نظرت اليه و هي لا تكاد تقوى على منع نفسها من الضحك وهو ينطق الكلمة بكل جدية ... موليا اهتمامه لكل شكاوى المرأة ... حتى أنها تشعبت الى شكاوى من ابنها الذي يهملها ... ومن زوجة ابنها التي تخبىء الدواء عنها كي تعيده و تسترد ثمنه ....
العمر ينتهي و تلك المرأة المسكينة لا تنتهي من الشكوى .... بينما لا يبدو عليه التذمر أبدا ....
رفعت حور يدها تغطي فمها وهي تنظر اليه بشرود طويل ....هامسة لنفسها من بين جنبات قلبها المرتعش بعذوبة
" أنا فقط أحبك ..... بكل بساطة أنا أحبك .... لست مهووسة و لست مدمنة عليك ... أنا فقط أحبك "
لكن حين انتبهت اليه وجدته ينظر اليها بصرامة ... أثارت فزعها , لتدرك أن مريضا شابا كالجدار ارتمى على المقعد المجاور لها ... و ساقه تكاد ترتطم بساقها ...فسارعت كي تجمع ساقيها ملتزمة بمكانها كي تتجنب غضبه ...
بعد مرور وقت طويل .... جدا .... كانت منهمكة في الإستماع الى اثنين من المرضى بجوارها .. حتى انها لم تنتبه اليه في البداية وهو واقفا في باب غرفته ينظر اليها مبتسما ...
فما أن انتبهت اليه حتى اشار اليها كي تدخل مبتسما .....
نهضت من مكانها متلهفة و ما ان دخلت و اغلق الباب خلفها حتى استدار اليها قائلا بخشونة
( هل كان حديثا شيقا ؟؟ ........... )
ابتسمت بحرج وهي تقول بمرح ( جدا ...... )
ابتسم لها وهو يجلس مبتسما الى حافة مكتبه ....ثم مد يديه لها , فطارت اليهما تتشبث بهما و هي تحمر خجلا بمنتهى السذاجة ....
قال نادر بلطف
( اذن ..... اخبريني سبب تشريفك لي بالزيارة و نزولك من البيت دون اذن مني )
نظرت اليه متحققة ثم همست بأمل
( لا تبدو غاضبا تماما .......... )
اخذ نادر نفسا عميقا وهو ينظر اليها نظرة جميلة أبعدت القلق عنها تماما ... ثم قبض على كفيها أكثر قليلا .. يتأملاها بغموض ... وكأنه .... وكأنه قد ألقى حملا من فوق كاهله .... وكأنه مستعدا لشيء ما ... بكل راحة بال .....
قال نادر بخفوت وهو يقربها منه
( لا لست غاضبا .... أنا كنت أفكر بكِ في نفس اللحظة التي دخلت فيها و رأيتك )
همست حور مبهورة في داخلها " لقد ناديته كحورية و سمعني !!" ..... ابتسمت لسذاجة تفكيرها و مزاجها العاطفي الذي يأبى أن يتركها اليوم ....
افاقت من تفكيرها و همست له مبتسمة بدلال .. تقترب منه أكثر
( حسنا يا حضرة الطبيب ..... أنا جئت أطالبك بتنفيذ وعدك في الخروج معي )
رفع نادر حاجبيه ليقول بحيرة ؛( الآن !! ........ )
قالت حور بإصرار ( نعم ..... الآن و حالا ... أم أن لديك المزيد من الحالات ؟؟)
ابتسم نادر ليقول بتشدق
( حسنا معاليك .... باقي الحالات تخص الطبيب الذي يليني , لذا ..... فأنا تحت أمر سيادتك .... )
ابتسمت حور بمكر وهي تقول بتحدي
( و أنا التي أقرر ........ )
أومأ نادر برأسه موافقا مبتسما
( و أنتِ التي تقررين ........ )
.................................................. .................................................. ..................
ضحك وهو يهز رأسه قائلا بصوتٍ أجش
( لا أصدق بأنني بدلا من أن أكون في عملي الآن ..... اجدني أمشي على طريق البحر مع زوجتي كمراهقين )
ابتسمت للبحر الأزرق الهائج بنفحات باردة قليلا ... قبل أن تسبقه بعدة خطوات ثم تستدير اليه مبتسمة و شعرها يهيج كالبحر فيغرق وجهها كله بموجةٍ حريرية سوداء و قالت بابتهاج
( أنا من أقرر ..... لذا .... أمامك حل من اثنين لا ثالث لهما , إما أن نخرج لعرض البحر على متن الأميرة حور .... و أما أنزل حالا لألقي بنفسي في البحر كما أنا .... منذ زمن طويل لم اسبح في البحر و اريد أن أفعلها الآن ..... )
رفع نادر حاجبيه وهو يقترب منها ببطء ويقول بخطورة
( تريدين النزول الي البحر !! .... الآن !! ..... بملابسك !! .... أمام هذا الجمع الغفير من البشر !! ..... لا مشكلة سوى اللكمة التي ستزين احدى عينيكِ إن فعلتها )
عبست حور وهي تقول بصرامة
( اذن ليس أمامك سوى القبول بالخروج لعرض البحر .... على مركبي )
قال نادر معاندا
( لا ..... لا .... مستحيل ..... لاخروج لعرض البحر )
ضربت الأرض بقدمها وهي تقول
( أنا من أقرر ............ )
وصل اليها نادر وهو يبحث عن ملامحها وسط الأمواج الكثيفة السوداء التي تغرق وجهها ... فأبعد شعرها الكثيف بكلتا كفيه عن جانبي وجهها ليبقيهما هناك وهو ينظر الى ملامحها المرسومة بدقة ... ثم قال اخيرا بصوتٍ خافت
( هل أخبرتك من قبل أنني أحب ابعاد شعرك عن وجهك باستمرار ؟؟ ....... )
هزت رأسها نفيا وهي تنظر اليه مبهورة .... قبل أن يتابع هو ببساطة مبتسما
( انه يبدو كمن يفتح هدية .......... )
اختفت ابتسامتها تدريجيا وهي تنظر اليه كمن تراه للمرة الأولى .... أنه يتكلم بمنتهى البساطة , تماما كما يفعل دائما , لكن صوته ..... صوته يبدو وكأنه يعني شيئا أكبر ...... يعني ما يقوله .....
ابتلعت ريقها وهي تتنحنح لتقول بخفوت
( حسنا ..... ماذا قررت يا صاحب الهدايا ؟؟ )
ضحك نادر ليقول بخشونة عبارة فيلم قديم أبيض و أسود
( حسنا ... ستنزل كلمتي الى الأرض اليوم , لكن فليكن في معلومك أنها لن تنزل مجددا أبدا ...... )
ضحكت حور و هي تنظر اليه سارحة به .... تخشى الأمل الذي جائت من أجله اليوم ....
.................................................. .................................................. ...................
في عرض البحر و بين ذراعيه , مستندة بظهرها الي صدره .... و شعرها يطير ليلامس وجهه ... بينما رذاذ البحر يغرقهما ....
حتى رائحة السمك التي اعتادتها في طفولتها ... كان لها وقعا مختلفا اليوم ..... شاردة في البعيد بينما تنعم به وهو يلامس كفها المتشبثة بذراعه المحيطة بخصرها ....
همس لها بداعبة خشنة
( هل أنتِ سعيدة الآن ؟؟؟ ......... )
همست بشرود
( كما لم اكن سعيدة يوما ........ )
أدارها اليه ليبعد شعرها عن وجهها و يحدق بها مليا ثم قال
( لماذا لا تظهر السعادة عليكِ اذن ؟؟ ....... )
أخفضت عينيها قليلا ثم نظرت اليه مجددا لتقول بألم لم تستطع أن تخفيه تماما
( ليلة أمس .... في حفل الزفاف , نظرت الي و كأنك ...... و كأنك تبغضني .... لما ؟؟ )
علا وجهه تعبير قاتم قليلا ... بينما ساد بينهما صمتا طويلا .... الى أن قال أخيرا بخشونة
( أكره سلطانك على من حولك .... لا أطيقه ... بل لا أتحمله ... رغما عني لا أتحمله ...... )
نظرت اليه بحزن دون أن ترد ..... فتابع قائلا من بين انفاسه
( أكره دور الملكة الجليدية التي تمثلينه ... فتسبين به من حولك ... الا أنا .... أكره تصنعك و الذي يأسر كل من حولك فيثير بي نيرانا لا أجد القدرة على تهدئتها ..... )
قالت بخفوت حزين متأوه
( لم أتصنع أبدا ...... بل على العكس دائما كنت أنا , لذا كنت أجذب من أختلف عنهم )
هز رأسه وهو ممسكا بوجهها بين كفيه ... ناظرا الي عينيها ... قائلا بقوة
( لا ..... ليس حقيقي ... تلك التي رأيتها بالأمس , و التي رأيتها أول مرة ... و التي رأيتها معظم فترة زواجنا ....معا أو منفصلين .... لم تكن هي أنتِ ......
لقد رأيتك حقا في لحظاتٍ نادرة ...... بداخلك شيء يشبه معتز .... يشبهه بقوة .....و يجذبني بقوة ..... )
فغرت شفتيها مبهورة ... لا تصدق ما تسمعه منه .... هل يمكن .... فهمست بلهفة
( و هل تحب هذا ..... الشيء ؟؟ ....... )
قال لها بجدية
( فقط سأجيبك حين تخبريني عن سبب عودتك لذلك الدور من جديد ..... و ليس بالأمس فحسب , ... منذ فترة و أنت تبدين كقنفذ مستعد لمهاجمة من أمامه ...... هل هناك ما تريدين أخباري به ؟؟ )
فتحت شفتيها بأسى .... و غامت عيناها بألم و هي تهمس
( وهل هناك ما تريد أنت أخباري به ؟؟ ........... )
قال نادر بجفاء و دون مقدمات .....
( عن وجود امرأة أخرى على ما أعتقد ..... اليس كذلك ؟ ...... )
نظرت اليه بعينين متسعتين الما ... قهرا .... غضبا ... و بصدرٍ لاهثٍ عنفا .... توشك على احراق كل الجسور التي بنياها بينهما الفترة الماضية ....
أن تسمع الأمر منه و بهذه البساطة كان فوق قدرتها على التحمل .... لكنه تابع بهدوء
( اقترح عليك و قبل أن تتهوري بما تنذر به ملامحك ... ان تأخذي نفسا عميقا و تعدي بداخلك حتى العشر .... لأني اريد أن احكي لكِ عن شيءٍ قديم ..... كان يخصني .... و انا لا أطيق الانهيارات العاطفية ... و ذلك العته الهيستيري , لذا إن لم تتمكني من لجمها الآن ,....... فأحب أن اخبرك : فرصة سعيدة ..... ربما حين تكونين اهدأ حالا و أرجح عقلا .....
ها .... ما هو قرارك ؟؟ ......... )
مرت فترة صمت مشحونة طويلة .... قبل أن تنطق من بين أسنانها و النيران تندلع من عينيها اللاهبتين
( سأسمع .......... )
.................................................. .................................................. ............................

بأمر الحب 🌺بـقـلم تـمـيـمـة نـبــيـــل 🌺حيث تعيش القصص. اكتشف الآن