الأيام تمضي ولا زلت استيقظ كل يوم. ألا يُمكن لأَحدهم أَن يقضي عَليّ بهدوء؟ منذ وقوع حادثة أورديفال وأنا عالقة في دوامة لا تنتهي من الهواجس التعيسة. لا زال بإمكاني سماع صوت صراخ الطفل الذي عجز عن إنقاذ أمه. تعابير الجدة المتألمة والجَزِعة لا تزال في ذهني. لا يمكنني نسيان أي شيء من تلك الليلة المشؤومة.
أعاني من الصداع على الدوام، لذلك يستمر الطبيب في زيارتي للاطمئنان علي. إنه شخص صالح. ربما هو كذلك؟ لا يهم، وصفاته الطبية مفيدة للغاية لذلك دعنا نتجنب كل ما هو شخصي. طالت مُدة علاجه إياي إلى ما يُقارب الشهْرَين ولم يغِب قط طوال تلك الفترة. أتساءل لما لم يحضر اليوم؟ إنه دقيق في مواعيده. أيعقل أنه مريض أو ما شابه؟ من سيأتي لي بالدواء إذن؟ خلطته الجديدة فعالة إلى حد كبير. ولسبب ما أريد المزيد منها وأشعر بالضيق لعدم تناولها. بالإضافة إلى أنها تريحني وتخفف من قلقي. يتوجب علي الذهاب إليه. لكني مطالبة بعدم الخُروج من الغُرفة بِشكل عبثِي.. لا يهم، إنه أمر مهم الآن، الصداع يقتلني ولم أنم منذ يومين. سأذهب بسرعة ثم أعود. لن يلاحظني أحد.
تسللت خَارجا و توجهت لمكتب الطبيب. لكن لسبب ما أشعر أن هناك شيء ما خاطِئ. أعنِي، الأمر كما لوْ كان الجَميع يتجاهل وجودِي ويتجنب النظر إلي عمدًا. لا يهم، الأمر يصب فِي صالحِي بعد كل شيْء. طرقت الباب مُستأذنة للدخول. هناك وجدت المعالِج مستَرْخِيًا فوق أريكته. يقرأ كتابًا قديمًا بعنوان "الأخْتام"، متناسيًا أمري تمامًا. قاطَعت قراءته بقَولي: "أيها الطبيب!" أشاح بنظَره عن كتابه و تفقدَني لثويْنَات. ثم قال: "يَبدو أنكِ في حاجة ماسة لدوائك." كدت أفقد أعصابي. هل يظن أنني أعبث مَعه الآن؟ ردّيْت عليه بقولِي: "إذن، أين هو؟ أسرع أيها السيد. أكاد أفقد عقلي." أغلق كِتابه ووضعه بقربِه. نهض من مطرَحه وتقدم نحوي ثم أمسك يدي ليأخذني إلى كنبته المقابلة لتلك الرفوف المليئة بالنباتات. طلب مني الجلوس ثم قال بصوت منخفض: "يمكنكِ مناداتي بلوثار." بعد ذلك اقترب من إحدى الزجاجات الموضوعة فوق رفها الخاص. استأنَف حديثه قائلا: "أخبريني يا آنسة ما الَّذي تعرفينه عن نبات القرطوم؟" أجبته: "سمعت أنها نبتة غير مرخصة للاستخدام كعلاج في العديد من المناطق. لكون مضارّها تغلب منافِعها." فور سماعه لجوابي، ابتسم ابتسامة باهتة تكاد تكون منعدمة. فتح الجرة الزجاجية بين يديه. سحب إحدى أوراق النبتة وأراني إياها ثم نطق: "وهل تعرف الآنسة لماذا تعتبر هذه الصغيرة خطيرة كعلاج؟" ما خطبه؟ أريد شرب دوائي وحسب. لماذا يستمر في المماطلة؟ نَفيت برأسي ثم قلت: "أيمكنك تأجيل هذه الأسئلة؟ أين هو دوائي؟" أسرع أيها الأحمق! رأسي سينفجر قريبا. تنهد لوثار وهمس: "تريدين الدواء؟ ستحصلين عليه." توجه إلى مختبره و أحضر بعض الأدوات التقليدية وعدة مكونات أخرى. وضعهم فوق مكتبه وطلب مني الجلوس في الكرسي المقابل له. جلس هذا الأخير بهدوء وبدأ بوضع القرطوم في آلة الطحن التقليدية. فور مباشرته في الطحن تلفظ ببعض الحقائق: "نبتة القرطوم شبيهة بعشبة القديس يوحنا. كلاهما يتميزان بتأثير مهدئ ومسكن للأعصاب والآلام. لكن نبتة القديس يوحنا تعتبر أكثر أمانا وفعالية، لذلك يلجأ لها الجميع. لكن بالنسبة إلي أفَضِّل نبتة القرطوم. لما؟ دعيني أجيبك. أشعر أنها الأقرب إلى طبيعة الانسان. فهي مفيدة للغاية حين تتوافق مع جسم مستضيفها. ومُضرة حِين تتعارض مع جسَد المستضيف. وعند استغلالها بكثرة، تسبب تلفا في الكبد، مشاكلا في القلب ومشاكل كبيرة على مستوى الكلى بالإضافة إلى الإدمان. ألا تظنين أن البشر و هذه النبتة سيان؟ حين تُحبين الطرف الآخر. تحرصين عادة على إفادته بكل ما تَقدرين عليه. بل وقد تؤذين نفسك من أجله. وعندما تكونين على خلاف مع الطرف المقابل، تضرّينهم بالتأكيد سواء بشكل مباشر أم لا، مقصود أم لا. أما عندما يتم استغلالك بكثرة، تقومين برد فعل عنيف بلا شك. لذلك لا ألومها. كما أنني أفضل الاستفادة من مخاطرها لأغراضي الشخصية." انتهى من الطحن وأضاف بعض السوائل ليجعلها قابلة للشرب. قدم ذلك المشروب في كأس لأجلي. قال الطبيب بلطف: "ها هو دواءك." إذن، لقد تعمد جعلي مدمنة على هذا الشيء. لقد قال بالفعل أن هذه النبتة تسبب الإدمان عند الإكثار منها.. حتى أنه قام بتغييره بِشكل ما لجعله عبارة عن مشروب. لكن لماذا قد يفعل شيئًا كهذا؟ استقمت من مُستقرّي قائلة: "أنت حقير مثل آليون! لا أحتاج دواءك بعد الآن." توجهت نحو الباب بغية الرحيل لكنه أوقفني بقوله: "هل تظنين أنه بإمكانك اعتزال ما كنت مدمنة عليه لوقت طويل بسهولة؟ إن اشتد بك الحال. ستجدينني دائما هنا. ومن يعلم قد نتفق وأعلمك عن بعض الاشياء المجهولة بالنسبة لك." هرعت نحو غرفتي واحتجزت نفسي بها مجددا. لن آكل ذلك الشيء بعد الآن.
أنت تقرأ
قَفزَةٌ
Gizem / Gerilim"فِـي ذلك اليوم، هَل كنت أستطيع تَجنب مَا حدث لـِي؟.. هَل كنت أستطِيع أن التقيها فِي وَضعٍٍ مُلائمٍ أكثر؟.. عِندَها كنْت سأُعبَّر عن حُبي لها بِشكْلٍ أفضَل.. في ماذا أختَلف عَنه إن كنت قد تَخلَّيت عن إنسانيَّتي بهذه السهُولَة؟.. كل هذا لأعيش فقط...