دخل العيادة مسرعًا، فأثار دهشة الحاضرين.
اختار لنفسه مقعدًا معزولًا قرب باب المكتب، فغيَّرت المرأة الجالسة بالقرب منه مكانها، بينما غطت امرأة تجلس على بعد مقاعد عيني طفلها، وتمتم رجل كان منشغل يطالع مجلة عن الصحة النفسية، وصار ينظر المراجعون أحدهم للآخر بحيرة وذهول.
تشع صالة الانتظار بالدفء، تُزين جدرانها شهادات أكاديمية وفخرية، موزعة بشكل هندسي، وبلغتين مختلفتين، شهادات باللغة العربية، تناظرها أخرى باللغة الإنجليزية، تبرهن على جدارة المعالج وتميُزه في مجال التحليل النفسي.
ساد القاعة قلق وتوتر، وقعت عيناه الشاردتان على عيني رجل يجلس أمامه، فرمقه باشمئزاز وازدراء، لم يحتمل الأمر، لذا قام مسرعًا، دفع الباب ودخل غرفة المعالج. استلقى على مقعدٍ وافر، تتفحص عيناه غرفة فخمة مضاءة بإنارة خافتة.
تُناسق ألوان الجدران القاتمة، ألوان الأثاث والستائر الثقيلة. تابع شعاع شمس يخترق نافذة مزاحة، وينعكس على مكتب صقيل، فيحيله إلى مرآة عاكسة. شاهد صورته معكوسة على المنضدة، فعدل ياقة قميصه.
بادره صوت مُطمئِن:- تنفس...
أخذ يشهق ويزفر، فهدئ قليلاً، وراح صدره يتصاعد ببطء وسكينة، فأبصرت عيناه لوحة معلقة على جدارٍ أمامه، يظهر فيها مارد أسطوري، يقف في الهواء ضامًا يديه إلى صدره العاري، تنسدل من رأسه الأصلع جديلة سوداء، تنام بأريحية على صدره الأيمن، يسور معصماه سواران من الذهب، معلقًا بخيط دخان صاعد من مصباح سحري. يقف خلفه علاء الدين، يمسك عصاه ويحدق بعمقٍ وثبات. وعلى يمينه علي بابا اللعوب، ينظر بمواربة، بينما يبتسم السندباد على يساره، يعتمر عمامة بيضاء وقميصًا منزوع الأكمام، تقف على كتفه ياسمين، فتاة جميلة حولتها ساحرة مشؤومة إلى غراب أسود.
عاد الصوت:- منذ متى وأنت عارٍ؟
أجاب:
- منذ ساعة... (صمت قليلًا ثم عاد)
استيقظت، وغيرت ملابسي وقدمت إلى غرفة المعيشة لأفطر، وإذ دخلت؛ صرخت زوجتي، وغطت ابنتي عينيها بيدها: اذهب وارتدِ شيئًا، لم أنت عارٍ؟ أذهلني سؤالها وزادت ابنتي حيرتي، فلم تنزل يديها من عينيها، فأجبتها بذهول: ألا ترين؟ أنا بكامل ملابسي... عزز جوابي خوفهما، فزعقت: أنت عارٍ لا ترتدي شيئًا، هل جننت، كيف تظهر
هكذا أمام ابنتك؟هربت ابنتي مسرعة إلى غرفتها، وصرت أنا وزوجتي أحدنا مقابل الآخر، مربوطان بخيط غير مرئي من الذهول والحيرة، قالت: انظر إلى نفسك في المرآة.
تقدمت نحو مرآة معلقة على الجدار، فوجدتني بحلة العمل التي خرجت بها من الغرفة، فصرخت بها: أجننتِ أنتِ؟ فغر فاها، وتحنطت على كرسيها، وكأنها فقدت القدرة على النطق، بينما جلست اتناول فطوري. وبعد أن انتهيت حملت حقيبتي وخرجت إلى الشارع ذاهباً إلى العمل. وما إن سلكت الطريق حتى نشبت السيارات تزعق عليّ، والمارة يرمقوني بشزر، شاتمين، وآخرون يهربون مني، وأنا أسأل لمَ كل هذا؟ أقف قبالة زجاج نوافذ السيارات، فأشاهد نفسي بكامل أناقتي، وأحار بنعيق مزامير المركبات وصراخ المارة وشتائمهم، يرددون الكلمات ذاتها:
ألا تستحي...؟
استر نفسك..
احتشم يا عريان...بعدها تقدما نحوي شرطيان كانا يُنظمان حركة السير، وفور اقترابهما مني، هربت. فطارداني في الأزقة والممرات، حتى أضاعاني. ثم رميت نفسي في عيادة التحليل النفسي هذه، وما إن دخلت نهشتني عيون المنتظرين، مؤكدين ما قالته زوجتي وما يصرخ به الناس في الشارع، فانتابني قلقًا وشكًا أن أكون عاريًا حقًا. ساد صمت لدقيقة، التقط الرجل أنفاسه، وأخذ كوب ماء من سطح المكتب، فتناوله دفعة واحدة، ثم عاد الصوت:
- هل حدث هذا سابقًا؟
أجاب:
- في الأحلام فقط.
- حدثني.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال:- منذ الصِبا وأنا أراني في الأحلام أتجول في شوارع وأسواق مدن مختلفة، أسير وحيدًا، ثم أنتبه لأجد نفسي عرياناً، فيتملكني رعب وحياء، وأسأل نفسي لماذا أنا هنا؟ ولماذا أنا عارٍ أصلًا؟ أحير دون جواب، فلا أجد غير الهروب، فأركض حاجبًا أعضائي بيديّ، حتى أفيق.
أجابه الصوت:- وكيف تعرف أنك واعٍ الآن؟
ربما أنت في أحد أحلامك.
- لكني لم أستيقظ حتى الآن، لو كنت في حلم لاستيقظت بعد كل هذا الجري والإعياء.
- ربما ستستيقظ بعد قليل.
صرخ:
- وكيف لي أن أعرف؟
فرد الصوت ببرود:
- ومن يعرف؟فصاح منتفضًا:
- أنت مختص.. جد لي حلًا.
- لا أملك مصباحًا سحريًا.
- لكنك تعلق صورة مصباح كبيرة.- إنها لابنتي ياسمين، فتاة عجيبة، ترى في أحلامها قصصًا غريبة، تعتقد أنها عشيقة سندباد، وقد حولتها ساحرة شمطاء إلى غراب أسود، وفي كل ليلة تنطلق ورفاقها في رحلة بحث عن الساحرة، كي يمسكها السندباد ويبطل التعويذة ويعيد ياسمين إلى هيئتها الأولى، فيتزوجها ويقضيان ما تبقى من حياتهم في جزيرة معزولة من جزر بغداد أو البصرة أو دمشق...
حكت لي مرة قصة طريفة، حدثت في إحدى المدن القديمة، شاهدوا رجلًا يتجول عاريًا، مما أثار حفيظة الناس، فأخذوا يصرخون عليه، طالبين منه أن يرتدي شيئًا ويستر نفسه، بينما هو بقي يتجول في الشارع غير مبالٍ بالصراخ والزعيق، معتقداً إنه مرتدياً ثيابه. فقال علاء الدين لسندباد وعلي بابا: خلف هذا الرجل قصة لا بد أن نعرفها. فمشيا سندباد وعلاء نحوه، وما إن اقتربا منه وأحس بالخطر، هرب منهما، وبقيا يطاردانه في الطرقات والأزقة حتى ضاع.
سكت الصوت، وغرق الرجل بالصمت. ولم تمضِ سوى دقائق حتى فتحت زوجته باب المكتب، وألقت عليه ملاءة غطته بها، بعد أن اتصل بها السكرتير، يخبرها أن زوجها المعالج النفسي قدم إلى العيادة عاريًا.