اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
تتكدسكتبأبيفوقرفوفالمكتبة. يُودع في خزنات عليا مقفلة كتباً مصفرة أوراقها، تبعث رائحة عتيقة، يمنعالاقترابمنها. تحتها كتبٌ أقل قدماً، ثم تباعاً يخزن كتباً طُبعت حديثاً. لا يسمح أبي لأحد من إخوتي بالدخول إلى غرفة المكتبة،إلاأنا. أتاحها لي، وكان يترك لي حرية الاختيار، فكنت أختار كتباً تثيرني ألوان أغلفتها، زخارفها، وسمكها. وذات يوم دخلت المكتبة أبحث عن كتاب أزجي به الوقت. ارتقيت كرسيًا كي أختار واحدًا من الرفوف العليا. صعدت وسرى في قدميّ ارتجاف؛ إذ مططت جسدي ووقفت على أطراف أصابعي، فتمسكت بالرفوف، وصرت أجيل نظري بين العناوين المتنوعة والكتب المختلفة.
مددت يدي وسحبت كتابًا أعجبني جلاده، أملته للأسفل ليتحرر من ضغط الكتب المصفوفة معه، ولأرى ما نُقش على غلافه الأمامي. استمر بحثي دونما شيء، ثم نزلت من الكرسي ونظرت إلى كتاب فوق مكتب أبي. غلافه أسود لماع، طُرِّز بزخارف نباتية، أغصان متشابكة صاعدة إلى الأعلى، حُبست في إطارين، الأول مستطيل يأطر صفحة الغلاف، ومن تحته يبرز الإطار الثاني، مرسوم على نسق بوابة عباسية، وبين الإطارين تسلك الأغصان طريقها متسلقة. خُطَّ وسط الصفحة بلونٍ ذهبي "منهاجالصالحين".
أثارني الكتاب بألوانه وتذهيبه وزخارفه، فحملته من المكتب وجلست في مكاني المعتاد أتصفحه، وعندما دخل أبي ونظر إلى الكتاب في يدي، مسح على رأسي داعيًا لي أن يجعلني الله من الصالحين. وعلى عادتي، تركت فاصلاً بين الصفحات حيث وصلت، ثم حملت الكتاب بعد إن انتهيت وأعدته إلى المنضدة. ذات مساء، عندما أنهيت القراءة وأرجعت الكتاب وخرجت من المكتبة، دعانيأبيبعدساعة. وعندما حضرت ووقفت أمامه، رمقني بنظرة لم أعتدها. بقيت عيناه معلقتين عليَّ دون أن يقول كلمة، فأرجعت شريط اليوم في رأسي لأتذكر ماذا فعلت.
هلفيحجابيخلل؟
هل وشى بي أخي؟ إذ كان يهددني أن يُبلغ أبي كلما لمح شعرة أو شعرتين فرّتا من تحت الحجاب. هل وشت بي صديقتي في المدرسة؟ فقد طلبت منها أن أذهب معها للبيت، لأطلي أظافري، أشم رائحة صبغ الأظافر المحببة لي، أجرب اللون الزهري على أصابع يديَّ، واللون الأحمر على أصابع قدميَّ، ثم أرفع المريلة حتى ركبتيَّ، وأمشي في الغرفة ناظرة إلى قدميَّ وألوان أظافرها البراقة. ثم تحضر صديقتي الطعام لنا، فأمسك الملعقة فارجة أصابعي كيلا يتأثر صبغ أظافري. كنت مأخوذة بهذا الشعور، إذ كل ما ذكرت كان ممنوعًافيبيتنا.
ترى هل أخبرت أبي؟ صليت الفجر والظهرين، وقرأت القرآن بعد الصلاة، ولم أخلف أيًّا من وصاياه. هل وشى بي أحد الجيران؟ فهم ينظرون لي ولأختي نظرة مختلفة؛ ابنتا شيخ المسجد، لذا كان علينا أن نحذر عندما نقطع طريق المدرسة ذهابًا وإيابًا. عينا في الأرض، خرساوات بكماوات، فلا يخلو الطريق من شخصٍ ما يراقبنا، ويعد علينا أنفاسنا. رغم هذا لم أفعل شيئًا اليوم، فماذا حدث إذن؟
عينا أبي تخترقان عيناي، تصلان إلى عتمة دماغي، أخشى أنهما ستبصران ما أفكر فيه، فأصمت. تنزلانإلىشفتيَّالمرتجفتين،ثمإلىرقبتي. تتوقفانعندنهديَّالصغيرين،مثلحبتيتينبحجمهماوتكورهما. تسكن عيناه، يشهق نفسًا ثم يزفره، فتكمل عيناه طريقهما نحو بطني وتتوقفان. أشعر بهما تعبران الجلد واللحم وتنفذان إلى الأحشاء، فتعترضني نوبة مغص عابرة إثر حرارة نشبت في معدتي. يشير إلي أبي أن أنصرف، فأخرج من جمودي بالكاد، وأضع أول خطوة بعد أن أدير له ظهري.أشعربعينيهتتفحصاننيمنالخلف،تمسحانرقبتيوظهريوعجزي. تجلدني بسوط، تعاقبني على ذنبلاأفهمه. وما أن عبرت عتبة الباب وأغلقته خلفي، حتى شعرت بأني بُعثت من جديد. أخذ الدم يتحرك في عروقي، وعاد الهواء إلى رئتيَّ، وهدأ قلبي الذعر...
مذاك اليوم وأبي يتحاشاني. أشعرأحيانًابقرفهواشمئزازهمني. صار يقفل باب المكتبة إذا خرج من البيت، ولا يسمح لأمي أن تفتحه لي، ويوصده إذا دخلها، ولا يستجيب لطرقاتي إذا طرقت. فتقبلت الأمر وانسحبت أفكر مليًّا مع نفسي: ماذا فعلت؟ وماذا تستطيع أن تفعل فتاة في التاسعة من عمرها؟ أين الخطأ؟ أرقتني خطيئتي التي أجهلها، أشعربذنبيلكنيلاأعرفه... وكنت أنكبّ أبكي وحدي، يشتعل بيّ الشوق لأبي، لصوته الفخم، ورائحة التبغ المنبعثة من ثيابه، أشتاق لملمس يده، لنظراته الودودة، وعناقه الدافئ، وقبلاته العذبة. شفاهه الحارة الثقيلة والجافة طوال الوقت. أشتاقلأحضانهولكلماحرمتمنهوبعدتعنهقسرًا. وكنت أجلس قبال المكتبة، أستمع له يُجوّد القرآن على طريقته، يقرأ كمن لا أمل له، يناجي الله وكأنه عاد من معركة خاسرة، فينبعث آساه مع السور والآيات. ينساب صوته من الشريط السفلي الباب، مع الضوء السائل من تحت، ومن خرم القفل المرسوم كجسد أنثى. يحيطني مثل عباءة مجللة، وأسترجع عباءة أبي الوبرية، ملمسها الخشن واختبائي في أحضانه تحتها...
بعد أيام نادتنيأمي، وجدتها في المطبخ، يعلو وجهها الغم، تمسكسكينًابيدهاالمرتجفة،تقطع حبة بصل. عيناها تجريان دمعًا مدرارًا، فتمسحهما وأنفها بكمّ ثوبها. سألتني بصوت متكسر ولهجة متلعثمة، دون أن تنظر لي، وكأنها تريد أن تلفظ جمراً لا كلمات "ماذاتعرفينعنالجماع؟" ولم أكن أعرف وقتها ماذا تعني كلمة جماع. فأجبتها أني لا أعرف شيئًا. فسألتني "ألمتقرأيشيئًاعنالجماع؟" وبعد أن راجعت ذاكرتي أجبتها أني قرأت في كتاب "منهاجالصالحين" آداب الجماع، لكني لم أكن أفهم حرفًا مما كنت أقرأ، فقد كانت كلماته الفقهية صعبة مستغلقة، بدت كأنها طلاسم ورموز. فلم أميز عن ماذا كان الموضوع، وما هي آدابه. ولكأني ألقيت فرحًا على أمي، ابتسمت عيناها، وانفرج فمها، وتألق وجهها، فتركتالسكين وحبة البصل، وهرعتتركضإلىأبي،تنادياسمهبغبطةوسرور...