الفصل التاسع: "الظلال الغامضة"

0 0 0
                                    

كانت ياسمين تسير في أزقة غرناطة الضيقة، وقد غمرها شعور غريب بالكشف عن أسرار قديمة. كل خطوة كانت تحمل عبءًا من الماضي، وكل زاوية كانت تحمل وعودًا بمفاتيح مخفية تنتظر أن تُكتشف. لم يعد التاريخ مجرد صفحات في كتاب قديم، بل أصبح جزءًا منها، يلاحقها في كل مكان تذهب إليه. كان الكتاب الذي وجدته يحمل أبعادًا لا يمكن تصورها، وكان كأنما يتنفس الحياة في يديها.

كانت قد فكّت العديد من الرموز في الكتاب، وبدأت تقترب من الوصول إلى مكان كان يحاول الجميع محوه من الذاكرة. لكنها كانت تشعر أن الوقت بدأ ينفد. كما لو أن هناك قوة ما، غير مرئية، كانت تلاحقها، تطارد كل خطوة تخطوها. لكن ماذا كانت تلك القوة؟ هل كان التاريخ نفسه يحاول أن يحمي سرّه؟ أم أن هناك شيئًا أعمق يكمن وراء كل هذا الغموض؟

في تلك اللحظة، رن هاتفها فجأة. كانت الصورة المألوفة لوالدتها تظهر على الشاشة. كان الاتصال مفاجئًا، فقد مضت أيام لم تتواصل مع عائلتها. أجابت ياسمين بسرعة، ولكن صوت والدتها كان يحمل شيئًا غريبًا.

"ياسمين، أريدك أن تتابعي بحذر، هناك شيء ما يحدث في المدينة. لقد بدأ الناس يتحدثون عن تحركات غريبة في الجبال التي تحيط بالغرناطة. لا أستطيع أن أشرح لك كل شيء الآن، لكن يبدو أن هناك من يبحث عن شيء، شيء قد يؤثر علينا جميعًا."

كان قلب ياسمين يدق بسرعة. "ماذا تقصدين؟ من هؤلاء الناس؟"

لم تجب والدتها مباشرة، بل قالت بصوت هادئ، ولكن مملوء بالقلق: "تذكري أن هناك أسرارًا لا يجب أن تُكشف، أحيانًا يكون ما نبحث عنه هو ما يجب أن يبقى مدفونًا."

أغلقت ياسمين الهاتف وهي تشعر بشيء ثقيل يضغط على قلبها. كانت كلمات والدتها تحمل تحذيرًا واضحًا، لكن ماذا كانت تعني؟ هل كانت تلك هي الرسالة التي كانت تحاول المدينة أن تخبرها بها؟ هل كانت حقًا تغامر بمسعى يهدد ليس فقط حياتها، ولكن حياة من حولها أيضًا؟

أصبحت ياسمين أكثر حذرًا الآن. كان الكتاب الذي بين يديها ليس مجرد مصدر للمعرفة، بل كان محفزًا لشيء أعظم بكثير مما كانت تدركه. ومع ذلك، لم تستطع أن تتوقف الآن. كانت قد قطعت شوطًا طويلاً، وعينها كانت ثابتة على الهدف.

كانت المساء قد حلّ، وبدأت شوارع غرناطة تتغير، حيث بدأ الظلام يحل على المدينة القديمة، ويُضيء النور الخافت من المصابيح القديمة الطريق أمام ياسمين. كانت الأزقة التي تسير فيها مليئة بالحياة، لكنها كانت نوعًا آخر من الحياة، الحياة التي تحمل في طياتها ذكريات مفقودة، وأصواتًا خافتة، وأسرارًا غير مرئية. كان تاريخ هذه المدينة يشبه إلى حد كبير الفخ الذي لا يراه أحد، فكل زاوية تحوي شيئًا يخفي خلفه معانٍ أعمق.

في تلك اللحظة، مرَّ رجلٌ غريب من أمامها. كانت نظرته نافذة، كأنما ينظر إلى شيء بعيد جدًا، وكان يحمل نظرة ملؤها السرية. كان يرتدي ملابس سوداء، لكن ما لفت انتباه ياسمين أكثر هو أنه كان يحمل حقيبة قديمة. كانت حقيبته مصنوعة من الجلد الداكن، وقد تآكلت أطرافها مع مرور الزمن. لكن الشيء الغريب كان ما بداخله. كانت الحقيبة مرصعة بحروف ونقوش مشابهة لتلك التي وجدتها في الكتاب.

لم تستطع ياسمين أن تمنع نفسها من الاقتراب. كانت خطواتها غير محسوسة، وكأنها دخلت في عالمٍ آخر، حيث لا مكان للزمن. كانت تسير خلفه دون أن يُلحظ، بينما كانت الأنفاس ثقيلة في صدرها، وعقلها يحاول فك كل اللغز في تلك اللحظة.

ثم توقف الرجل فجأة، كأنه شعر بوجودها. التفت ببطء، وابتسم ابتسامة غامضة لم تعرف كيف تفسرها. كانت عيونه مليئة بالحكمة، وكأنما مرّ عبر عصورٍ طويلة.

"أنتِ تبحثين عن شيء، أليس كذلك؟" قال بصوت هادئ لكنه عميق، وكأن صوته يخرج من الأعماق. "لكن هل تعلمين ما الذي ستجدينه عندما تكتشفين كل شيء؟"

أصابتها كلماته كالسهم. كانت تعلم أنه يعرف ما تخفيه عن الآخرين، وأنه يملك جزءًا من الإجابة التي كانت تبحث عنها. لكنها لم تكن مستعدة لطرح أي سؤال.

"ماذا تعني؟" سألته بحذر، متمسكة بالكتاب الذي في يدها.

أجاب بابتسامة أكثر عمقًا: "كل شيء له ثمن، ياسمين. وأنتِ على وشك دفع الثمن."

بقيت ياسمين صامتة، وأشاحت بوجهها بعيدًا عن نظراته. كان يحيط بها شعور غريب، كما لو كان التاريخ نفسه يراها، ويعرف أنها على مشارف اكتشاف شيء أكبر بكثير مما كانت تأمل.

واصلت السير في الأزقة القديمة، وشعرت بشيء ثقيل يراقبها. كانت غرناطة تتنفس من حولها، تحمل في طياتها أسرارًا لا تُعد ولا تُحصى. وبينما كانت تمشي، بدأت تشعر أن المكان ذاته لم يعد كما كان. كانت الجدران تخفي خلفها همسات قديمة، وكانت الطرق التي سلكتها مليئة بالذكريات التي عاشت فيها ذات يوم. كان هذا العالم الذي كانت تكتشفه مليئًا بالأشباح، والأرواح التي تبحث عن الإجابات.

ومع حلول المساء، دخلت ياسمين إلى مكانٍ قديم، ربما كانت قد مرّت عليه كثيرًا، لكن هذه المرة كان له طابع مختلف. كانت رائحة الهواء في المكان تحمل عبقًا من الماضي، وكان الزمان والمكان يتداخلان.

كانت هذه البوابة التي أمامها ليست مجرد مدخل إلى غرفة، بل كانت مدخلًا إلى ماضي المدينة. وكأن كل حجر في الأرض، وكل جدار في هذا المكان، كان يهمس لها بحكايات قديمة. كان هناك شيء غريب في هذا المكان، شيء غير مريح، ولكن في الوقت نفسه كان هناك جذب قوي لا يمكنها مقاومته.

وهنا، بين الغرف المظلمة والممرات الضيقة، شعرت ياسمين بشيء غريب: كان المكان مليئًا بالأشياء المخبأة، وكل خطوة كانت تحمل معها احتمال اكتشاف سر قديم. سر يعود إلى زمنٍ بعيد، كان يحمل مفاتيح لمدينة لم تُكتب بعد. قد يكون هذا هو اللغز الأكبر، السر الذي سيغير كل شيء.

ومع كل خطوة تخطوها في المكان المظلم، كان قلبها يدق بسرعة أكبر. كانت تشعر وكأن الزمن قد توقف، وكأن المكان نفسه كان يستقبلها في حضنه، يحاول أن يكشف لها أسرارًا قد دُفنت منذ مئات السنين. كانت غرناطة تتحدث إليها بطريقة غير مرئية، تأخذها في رحلة عبر الزمن، تحملها في قلبها العتيق، وكأنها أصبحت جزءًا من التاريخ نفسه.

بينما كانت تقترب من الغرفة النهائية، شعرت بشيء ثقيل في الجو، شيء كان يتراكم حولها. كان الغموض يزداد كثافة، وكانت تقترب من اللحظة التي ستكشف فيها السر الكبير. وكانت تعرف أنها إذا عبرت هذه البوابة، لن يكون هناك رجوع.

ظل الاندلسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن