ظلّت ياسمين واقفة في مكانها، مغمورة في الضباب الذي أخذ يحيط بها من كل زاوية، وتلك الكائنات الغريبة التي كانت تحوم حولها في ظلال غير واضحة. لم تعد قادرة على التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الماضي والحاضر. كانت تشعر وكأنها دخلت إلى عالم لا تعرفه، مكان لا يتبع قوانين الزمن التي اعتادت عليها، وكأنها في حلم متشابك أو كابوس لا نهاية له.
شعرت بشيء غريب في قلبها، وكأنها تسير في ممر ضيق، لكنها كانت تعرف أن هذا ليس مجرد ممر مادي. كانت هذه رحلة داخل نفسها، في أعماق أسرار غرناطة المخبأة، في تفاصيل لا يمكن لأحد أن يراها أو يلمسها إلا إذا كان يعرف الطريق إلى تلك العوالم.
فجأة، شعر قلبها ينبض بسرعة أكبر، وكأن الزمن نفسه بدأ يتحرك بسرعة غير مألوفة. أصوات غريبة كانت تتنقل عبر أذنيها، همسات خفية، كلمات مشوشة، وكأن التاريخ نفسه يتحدث إليها. كانت تسمع أصواتًا قديمة لأناس كانوا هنا قبل أن تبدأ هي في حياتها. شعرت وكأنها تسمع أصوات العلماء والفلاسفة الذين كانوا يدرسون في نفس المكان، الذين كانوا ينقشون الكتب القديمة على الجدران، الذين تركوا خلفهم معارف وكنوزًا مفقودة.
ومع تلك الأصوات، بدأ الضوء الأزرق يزداد سطوعًا. لم يكن ضوءًا عاديًا، كان يحمل في طياته طاقة غريبة، طاقة قديمة تعود إلى العصور المفقودة. تَحوّلت تلك الظلال إلى أشياء متحركة، وعادت الأشباح التي كانت ترافق هذا المكان إلى الظهور أمام عينيها. كل صورة كانت تكتمل أمام عينيها، لكن في نفس الوقت كانت تنكسر. كانت تجتمع وتتفكك وتتشكل من جديد.
بينما كانت تحاول التنقل داخل هذا العالم المشوه، تقدمت بخطوات ثقيلة، مستشعرة كل نبضة من قلبها، وكل خطوة من خطواتها في هذا المكان الذي كان يبدو غير قابل للفتح. وصلت إلى جدار ضخم بدا وكأنه يتنفس، حيث كان يظهر عليه نقوش قديمة تُظهر رموزًا وكلمات كانت تلمع بصوت غامض.
لم يكن هناك شك في أن هذا الجدار كان يحمل السر. كان يبدو كأنه مفتاح، لكن ما الذي كان يجب أن تفعله لتفتحه؟ تلمست الجدار بخفة، متفاجئة عندما شعرت أن يديها تلتصق به كما لو كان ينبض بالحياة. كان الجدار يتجاوب مع لمساتها، وكان النقش يتغير كلما مرّت أصابعها عليه. كلمات غير مفهومة بدأت تلوح في الأفق، وكأنها كلمات من لغة قديمة، لغة تم نسيانها منذ قرون. كان أحد الرموز يتلألأ بشكل خاص، يضيء لها الطريق.
في اللحظة التي ضغطت فيها ياسمين على هذا الرمز، اهتز المكان بالكامل، وكأنها قد فتحت بوابة قديمة كانت مغلقة منذ زمن طويل. فجأة، بدأ الحائط ينسحب للأمام، كاشفًا عن ممر ضيق مظلم بدا وكأنه يتسع في الأعماق. كانت تلك لحظة مفصلية في رحلتها، لكن ياسمين لم تكن خائفة. بل على العكس، كان شعور غريب يملأ قلبها، شعور بالانتصار والفضول الذي لا يمكن مقاومته.
خطت داخل الممر، قلبها ينبض بشدة، والأشباح التي كانت ترافقها اختفت وراءها. كان الممر مظلمًا، وكانت خطواتها هي الوحيدة التي تُسمع في المكان. كلما تقدمت، بدأت الجدران تتسارع في الانفتاح، لتكشف عن مجموعة من الغرف القديمة، كانت مليئة بالكتب والخرائط والمخطوطات. عرفت على الفور أن هذا هو المكان الذي كانت تبحث عنه.
كانت هناك خريطة قديمة على طاولة في إحدى الزوايا، وعند رؤيتها، توقفت ياسمين، وعينيها تتسارعان في القراءة. كانت الخريطة تمثل مدينة غرناطة، لكن بطريقة مختلفة. كانت تظهر تفاصيل لم تُكتشف بعد، مع مناطق لا تجرؤ حتى على رسمها الخرائط الحديثة. كانت هناك علامات، رموز غامضة تشير إلى أماكن مقدسة، إلى سر كان مخفيًا عن الجميع. كان هذا السر هو السبب في أن ياسمين كانت هنا، وكانت تشعر أنه لم يكن صدفة.
بينما كانت تدرس الخريطة، شعرت بشيء غير مريح. كان هناك حركة في الظلام حولها، وكأن هناك شخصًا آخر يراقبها. استدارت بسرعة، لكن لا أحد كان موجودًا. كانت الغرفة خالية تمامًا، إلا من كتبها ومخطوطاتها القديمة.
لكن، على الرغم من ذلك، كانت تشعر بشيء غريب. كانت تلك المخطوطات تحتوي على شيء لا يُفهم، شعرت وكأن كلماتها تشبع كل جزء من جسدها، وكأنها تتحدث إليها مباشرة. بدأت القراءة، وعينيها تتسارع في محاولة لفهم تلك الرموز. كان هناك حديث عن الكنز، عن الأمانة القديمة التي كانت تُخبأ داخل قاع الأرض، وأن الخريطة التي تحملها هي المفتاح لذلك الكنز، لكن هناك من كان دائمًا يحاول إخفاءه، كي لا يعود أحد لفتح ذلك الباب.
في تلك اللحظة، تراجعت خطوة للخلف، وكأن شيئًا ما قد تغير في الممر. صوت خطوات كانت تقترب منها من بعيد، ولكن تلك الخطوات لم تكن إنسانية. كان هنالك صوت غير مألوف، يشبه دوي الرياح، لكنه كان أعمق وأقوى، وكأن المكان نفسه كان يتنفس بشكل مختلف. ثم، ببطء، بدأت الجدران تتحرك، وكأنها تبدأ في إغلاق الممر من جديد.
كانت ياسمين الآن أمام مفترق طرق: هل تتقدم إلى الأمام، وتكشف المزيد من أسرار هذا المكان؟ أم تعود إلى ما كانت عليه وتغادر هذا المكان الغريب؟ كانت تعرف أن قرارها اليوم قد يغير مصير غرناطة، وأن هذه المغامرة لا تتعلق بها فقط، بل بمستقبل مدينة كاملة.
أنت تقرأ
ظل الاندلس
Short Storyفي عام 1491م، قبل عام من سقوط غرناطة، تجد ياسمين، الفتاة النبيلة من عائلة مرموقة في غرناطة، نفسها في قلب المؤامرات السياسية والخيانات المشتعلة داخل المدينة. عثر والدها على خريطة سرية تقود إلى كنز يحتوي على أسرار علمية وفنية قد تغير مصير الأندلس. ولك...