الجبل الأبيض 2

59 4 0
                                    


2

جاءت لحظة الوداع؛ فراقُ الأهلِ و الأحباب؛ تغييرُ المكان بمكان آخرَ؛ ربما يكون أفضل؛ أو يخبئ له شلالاتٍ من الفقرِ التي ترسو في مرافئه القادمة؛ أسئلةٌ كثيرة تراودُ شاكر وهو يودع زوجتَه.

تقابلا وجها لوجه وكأنهما في أول لقاء؛ مضى وقتٌ طويل وشفتاهما عاجزتان عن خوض غمار الكلام؛ الصمتُ يلف المكان؛ حدق في عينيها جيدا؛ قرأ فيهما فرحا؛ تلفهُ عباءة من حزن؛ كانت الدموعُ تحاصِرُ مُقلَتيها؛ تنتظرُ لحظةَ الانطلاقِ لتتهاوى كشلال يهوي من شاهقٍ؛ وفجأة سمع صوتَ ابنتِه الصغيرة تُناديه بابا بابا بابا..... صوتٌ كسر الصمتَ السائِد في البيت الصغير؛ صَيحة مدوية أحس بها وكأنها خيط من نار يشق قلبَه ويَشطِرَهُ إلى شَطرين؛ بدأت يداه ترتجفان؛ تحمل أسرار الصوت القادم من غرفة النوم؛ ابتلع العبرات التي كادت أن تخذله؛ نفض عن وجهه لمسَةَ الحُزنِ؛ عانق زوجتَهُ في صمتٍ؛ وأغلقَ باب شُقته الصغيرة ثم انهمرت دموعٌ خرساءُ بطيئة على وجنتيه؛ بَللت ثوبَه الجديد.

بين السماء والأرض مُعلق كقشةٍ في مهب الريح؛ تتقاذفُها أمواجٌ من المَطباتِ الهوائية؛ يجلسُ شاكر على كرسي وثير؛ من حين لأخرَ يرمي بنظرات إلى الخارج عبر نافذة الطائرة؛ وصدرُه يعلو ويهبِط من وقع هول هذا السفر البعيد؛ يتأملُ مدينتَه البيضاءَ؛ التي يجري دمُها في عروقهِ؛ ينظر إليها؛ وتنظر إليه بنظرة تدرف توسلات؛ تستقر في القلب حتى كاد أن ينفطر؛نظرات تقطر أسى وحزنا. وفي رمشة عين اختفت المدينة وتوجهت الطائرة شرقا؛ وكأنها حصانٌ حرون يعرف المكانَ؛ يعدو بحوافره ويقطعُ عُبابَ السماء بثبات وهدوءٍ؛ حينها شعرَ شاكر بنوع من السكينة التي تَدِب في أعماقِه.

في أول يوم من أيام سبتمبر وجد شاكر نفسه بسلطنة عمان؛ نزل من الطائرة؛ لفحته حرارة شديدة ظنها صادرة من مراوحِ الطائرة؛ أو مِنَ المُحركات التي تنفث حرارتها في وجهه؛ خرج إلى قاعة الاستقبال؛ كان المكانُ تحتويه الغُربةُ والغَرابَة؛ كانت الوجوهُ غيرُ الوجوهِ والملابسُ غيرُ الملابسِ؛ وفي خِضَم هذه الدهشة؛ أثارت انتباهَه لافتاتٌ مرفوعاتٌ في الهواء في كلتا الجهتين من اليمين و اليسار؛ تحملُ أسماءَ الأساتذة المعارين؛ وما لبث أن توجه إلى لافتة المنطقة الشرقية؛ حيث سلم على الرجل المكلف بالإعارات؛ ودُون مزيدٍ من الكلام استلم منه جواز سفره؛ وتوجها معا إلى الحافلة الرابضة بباب المطارِ؛ طلب منه الصعودَ والبقاءَ هناك دون حراك؛ وكأنه وقَع في كمينٍ معد له سلفا منذ قديم الزمان؛ أو أنه ثم اقتناصُه كصيدٍ ثمين؛ كأن الصياد يَكمُنُ له منذ زمن طويل؛ ثم عاد الرجلُ إلى قاعة الانتظارِ ليَستكملَ باقي الاجراءات.

اتخذ شاكر لنفسه مكانًا في مقدمة الحافلة؛ كانت تختلف كثيرا عن حافلات بلادِه التي أنهكَها طولُ المسافات والإهمال؛ حتى أُصِيبَت بمغصٍ كَلَوِيٍ؛ فلا تستطيعُ الحراكَ إلا بمشقة أنفس. وبعد انتظار طويل ومرهق غالب شاكر النعاس؛ وغرق فيما يُشبه الحُلم الذي كسرته انطلاقة الحافلة؛ اتخذت طريقا في اتجاه وسط المدينة؛ توقفت بدوار عُلقت عليه إشارات كثيرة؛كُل إشارة باسم منطقة من مناطق السلطة؛ وقد أثار شاكر اسم الوَطِية؛ وهي المدخل المؤدي إلى "مدينة مسقط" عاصمة سلطنة عمان، ويقال بأن السكان كانوا ممنوعين من الدخول إلى العاصمة وهم لابسين نعالهم؛ حيث إنهم كانوا يَخلَعُون وَطِيَاتِهِم في هذا المكان؛ ويتركونها جانبا ويدخلون حفاةً إلى مركز المدينة لقضاء حاجياتهم؛ وغالبا ما كانوا يقصدون المدينة لرفع شكايةِ تَظَلمٍ ضِد أحدِ أفراد عائلاتهم؛ يكون قد استحوذ على قطعة من أراضيهم أو طمسَ علامة من حدودهم.

الجبل الأبيضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن