الجبل الأبيض

الجبل الأبيض 18

18

أناعقيل بن هلال الحنضلي؛ ما أعرفه عن نفسي هو أنني من مواليد الجبل الأبيض؛ من أب بدوي هو زعيم القبيلة وحكيمها؛ اسمه هلال بن شخبوط الحنضلي؛ له وجهان: وجه يمثل لجنة المساعي الحميدة التي تفصل في النزاعات و الخلافات بين الأهل والأحباب؛ والوجه الثاني متصف بالبشاعة والفضيلة الماكرة؛ و من أم اسمها موزة بنت عامر الناعبي؛ لا تجيد سوى الطبيخ و الغسيل و تربية المواشي و الدواجن؛ لا سلطة لها في البيت إلا على مملكتها الصغيرة من الحيوانات الأليفة.

عقيل؛ يُزعم أنه ذوالعقل؛ الفهيم؛ والمتثبت في الأمور؛ الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها؛ وهو اسم قديم ومنه عقيل بن أبي طالب أخو علي بن أبي طالب.

يمكنك أن تعتبرينني حي بن يقضان العماني؛ غير أن حي بن يقضان الذي تحدث عنه ابن طفيل؛ هو طفل غير شرعي لأبوين في جزيرة قريبة؛ تزوجا دون علم الملك؛ فوضعاه حيا عند ولادته في قارب صغير؛ استقر على ضفاف الجزيرة؛ فتلقفته غزالة كانت قد فقدت وليدها فأغدقت عليه عطفها وحنانها وتعهدته بعنايتها حتى استقام له الأمر وشب عن الطوق.

أما أنا فإنني لم أعش في الجزيزة وإنما عشت في الجبل الأبيض؛ سماني أبي عقيل وكأنه يعلم أنني لا أملك عقلا ناضجا كاملا لحضتها؛ وأمله أن أكون العقل المدبر لشؤون الجبل و العاقل بين قومي؛ ولهذا السبب لم يمانع عندما أردت النزول إلى سفح الجبل مع الأساتذة؛ يبدو أنه كان يدرك أهمية هذه الخطوة التي قمت بها والتي من شأنها أن تغير الواقع المريرالذي يعيشه سكان الجبل الأبيض.

كنت شابا متوقد الذكاء؛ عظيم المهارة؛ أصنع ملابسي بنفسي من صوف الأنعام؛ وأحذيتي من جلد الحيوان؛ كنت شديد الاعجاب بقدراتي العقلية؛ وبالرغبة في الوصول إلى مجموعة من الحقائق التي لم يستطع سكان الجبل فهمها؛ وكانوا يرجعونها إلى الخرافة و الشعوذة.

لم أكن أصدق بما كانوا يقولونه عن أصل الإنسان؛ حيث كان لذيهم اعتقاد بأن أجدادنا كانوا جماعة من القرود كبر زعيمها الطيب وانقلب عليه قرد لئيم؛ وغضبت السماء وأنزلت عليهم صاعقة نارية أحرقت شُعورهم وسلخت جلودهم وأحلت بهم الظمأ القاتل وظلوا يشربون حتى صيَر الماء لهم أصواتا وأفكارا جهنمية...بقيت على هذا الحال أتأمل في هذا الكون الملئ بالنجوم وبالأجرام السماوية؛ ومن حين لآخر أتساءل من خلق هذا الكون؟ وهذه الكائنات الحية؟ وبقدراتي العقلية تمكنت من الوصول إلى أن من خلق هذا العقل الإنساني العظيم هو إله عظيم.

وعندما نزلت من الجبل واطلعت على كتب علمية كثيرة تأكدت من حقيقة ما استنتجت.

ابتسمت حكيمة؛ ابتلعت موجة التردد داخلها وقالت: وما دوري أنا في حياتك؛ أقصد حياتك العلمية طبعا.

رد عليها: أَنتِ كل شئ في حياتي

أنتِ ذاك الرجل الصوفي في حياة حي بن يقضان الذي يسمى "آسال" والذي علمه لغة الكلام؛ وسرَه أن حياً قد وصل دون معونة من أحد إلى معرفة الله؛ وأقر له بما في عقائد الناس الدينية في الأرض التي جاء منها من غلظة وخشونة؛ وأظهر له أسفه على أن الناس لم يصلوا إلى قليل من الأخلاق الطيبة إلا بما وعدوا به من نعيم الجنة؛ وما أنذروا به من عقاب النار.