الجبل الأبيض 15

11 1 0
                                    

15

حين غابت الشمس؛ أشعل سكان الجبل الأبيض نيران حطب يابس خاص بإبعاد الباعوض الذي ينهال عليهم كل ليلة؛ كان الدخان يعميهم ولا يسمح لهم بالتنفس؛ وكلما حاولوا الابتعاد عن النار؛ كلما تعرضوا للسعات الباعوض الذي ينقض عليهم من كل الجهات. وبالرغم من ذلك فقد تعودواعلى الحياة في الجبل الأبيض؛ وكيفوا أنفسهم على هذا الواقع الجديد الذي اختاروه لأنفسهم وقرروا الاستمرار في هذه المغامرة التي يشعرون بنشوتها؛ ولم يعودوا يدركون الزمن الحاضر لأنهم منهمكون في عمل يتطلب وقتا طويلا وجهدا مضاعفا؛ إنهم دخلوا في تحد مع أنفسهم ومع الطبيعة القاسية هنا في هذا الجبل...

إن استمتاعهم بما يقومون به جعل الزمن ينصرم بسرعة، حتى أصبح النهار قصيرا، لايشعرون بالساعات وهي تنقضي، بل يجعلون الساعات ترتدي أجنحة وتطير كما تطير الفراشات محلقة بين الحقول؛ وهذا هو سبب ذهاب الناس إلى المنتجعات الطبيعية من أجل الاستجمام، وتمضية الوقت.

ذات صباح جميل خرج الأساتذة من كوخهم وتوجهوا إلى بركة مائية قريبة من سكناهم لكي يغتسلوا، فوجدوا عقيلا في حالة مختلفة عما ألفوه، لقد قص شعره وقلم أظافره، وتزيَ برداءة أنيقة؛ وبدت على محياه ابتسامة معبرة عن سعادته وبهجته، وبهذا التغيير المفاجئ في حياته، أظهر إنجازا عظيما في وقت وجيز، لقد تحدى جسده الذي تعود على العراء، لقد روضه وعوده على ارتداء دشداشة ثقيه حر الشمس و برد الشتاء. تشعر به من حين لآخر وكأن شيئا يضايقه يمنعه من حرية التحرك، كانت الدشداشة لصيقة بجسده، لا تظهر منه إلا اليدين و القدمين، بدا منظر عقيل غريبا بين سكان القبيلة؛ فأثار فضول واستغراب النسوة اللائي يستحممن عاريات في البركة المائية.

الدشداشة مصنوعة من صوف خروف ميت؛لكنها الآن تحمي إنسانا حيا عاقلا، بدأ يتأقلم مع واقع ثقافي جديد صعد به الأساتذة الثلاث إلى الجبل الأبيض؛ كانت الدشداشة بالنسبة إليه كالقوقعة التي تحمي الحلزون الذي يعيش بداخلها، تقيه من كل المؤثرات الخارجية وتصون جسده من نظرات الناس المحيطين به.

وكان لارتداء عقيل للدشداشة أثر كبيرفي نفوس قاطني الجبل الأبيض، فبدأوا يتساءلون عن السر في التحول المفاجئ و الغريب في حياته، حيث إنه أصبح نظيفا وأنيقا بعدما كان متسخا تفوح منه رائحة العرق...توقفت النسوة لحظة وألقين عليه نظرة إعجاب، بحيث كان يمشي أمامهن بخطى حكيمة وثابتة، يستحي من متابعة عورات النساء، توجه إلى الأساتذة فقدم لهم التحية، وسارعوا إلى معانقته بشدة وبحنان الأب الروحي الذي أشعرهم ببداية حياة جديدة مختلفة عن هذه القبيلة النائية عن العالم الفسيح. تحركوا جميعا من مكانهم وتوجهوا إلى "السبلة" وهي عبارة عن قاعة كبيرة يجلس فيها زعيم القبيلة وضيوفه، قدمت لهم الجارية الإفطار المكون من القهوة العربية و الثمر و الحليب وصحنا من الحلوى المحلية المكونة من الفستق و اللوز و الجوز الهندي، حلوى لذيذة استساغها الأساتذة، وشكروهم على حسن الضيافة و الكرم. لقد انسجم الأساتذة مع نظام المعيشة لدى سكان الجبل الأبيض التي تتميز بالتقشف وقلة متطلبات الحياة، فالحياة الاقتصادية عندهم تعتمد على الرعي، فكل أسرة تمتلك تقريبا قطيعا من الأغنام، يتناوب عليها جميع أفراد الأسرة رعيها بالجبال.

وتعتبر الحمير الوسيلة الوحيدة للنقل والمواصلات بحيث يعتمد عليها في جلب الماء و الحطب من أماكن بعيدة، فقد كان البعض منهم يذهب في الصباح ولا يعود إلا مساء بكميات قليلة و محدودة من الماء تكفي لعملية الطبخ لمدة يومين، فالمنطقة الجبلية لا تتجمع فيها مياه الأمطار إلا لفترات قصيرة على شكل مستنقعات غير صالحة للشرب، لكنهم لا يدركون مدى خطورة هذه المياه،وعواقبها الوخيمة على صحتهم.

وفي ليلة من الليالي التي قضاها الأساتذة في الجبل سمعوا صوت رجل يئن ويشتكي من مغص ألم به في بطنه، فكان يتمرغ على الأرض من شدة الألم وكأن أمعاءه تتقطع، علم الأساتذة بخبرتهم البسيطة أن الرجل كان مصابا بمرض مزمن في كليته اليمنى، ومن أجل تهدئته وتخفيف الألم عليه قدم له أهله علاجا تقليديا، هو عبارة عن شراب شعبي، خليط من البقدونس ممزوج بنبات بري لم يعرف له اسما.كما أنهم في إحدى الليالي استيقظوا على أنين امرأة تتألم بفعل المخاض، كانت على وشك الوضع، فاستعصى على أهلها تيسير الولادة بسبب وضع الجنين المقلوب عن وضعه السليم؛ فاضطروا إلى بقر بطنها وإنقاذ الجنين بإخراجه من رحمها، وبقيت هكذا على حالتها إلى أن استنزفت وماتت وهي تتأمل ووليدها يصرخ بجانبها.


الجبل الأبيضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن