الجبل الأبيض 9

12 1 0
                                    

9

قبل النوم خرج كلٌّ من شاكرو سيد ونبيل أمام باب كوخهم؛ وتحت نور القمر؛ شاهدوا سكان الجبل الأبيض فوق تلة مطلة على بيت الزعيم؛ منتظرين خروجه لكي يؤمهم في الصلاة الجماعية، خرج وهو يختال في قميصه المزركش، بيده عصا طويلة،تقدمهم في خشوع، توجه إلى السماء بابتهال واستنشق هواءً عميقا، ثم بصق في راحتيه ومدهما إلى السماء عاليا، وتبعه سُكان القبيلة مقلدينه فيما كان يفعل من حركات.

بعد ذلك شرع في الدعاء قائلا: أيها الإله إنني أقف أمامك بصحبة هذه المخلوقات البشرية، التي تحني رؤوسها، وتتبع الكلام، وتقف ضامة أقدامها، وصامة آذانها، ومغلقة أفواهها إلا من أجل الأكل فقط، إنها و الحمير و البغال سيان، أُوصيهم بأن يسمعوا الكلام، وألا ينتفضوا على الزعيم الهمام....

لم يستطع شاكر صبرا فسأل سيد: لماذا يقومون بهذه الشعائر؟

قاطعه سيد قائلا: الزم الصمت،لاتتكلم؛ أرجوك اخرس.

رد عليه شاكر: إنني خائف، أشعر وكأنهم قادمون إلينا ليأكلوننا، لا أعتقد أننا سنعيش يوما جديدا، إننا سنموت هذه اللية، سينزعون أكبادنا ويأكلونها أمام أعيننا.

رد عليه سيد راكلا إياه برجله : تبا لك لا تتكلم

ساد صمت رهيب عمَّ المكان، بعد الانتهاء من صلواتهم، تخطى الأساتذة جدار هذا الصمت بزغاريد النسوة. وبعد انتهاء الصلاة رد سيد على استفسارات شاكر القلقة: إنها لا تعدو أن تكون شعائر وطقوسا دينية، يقدمونها للإله هلال الذي يطل عليهم كل ليلة من السماء وهو المالك للقدرة الخارقة على توزيع حياة الناس في الجبل الأبيض.

ثم استطرد سيد قائلا: إن سكان الجبل الأبيض كغيرهم من الكائنات البشرية المنتشرة في الأرض، يبحثون عن جذور يرتاحون إليها لتزيل حيرة أنفسهم، وتفسر لهم الواقع بطريقة مقنعة، إنهم يعتقدون أن هناك قوى خارقة مسيطرة على هذا الكون وعلى باقي المخلوقات، وكأن "الهلال" في اعتقادهم هو الخالق، ومنظم نواميس العالم، ولهذا حاولوا تجسيمه وتجسيده كزعيم للقبيلة وأطلقوا عليه اسم "هلال" وهو رجل إلهي بالغ القوة يقضي على الشر ويحرر شعبه من الهلاك و الموت.

تابع حديثه المشوق: لقد كان الاله "هلال" في بداية تكوين الأرض يعيش بين الناس، ويرعى مصالحهم، وينظم حياتهم إلى أن اكتشف الإنسان النار وبنى بيوته، ووفر لنفسه الماء و الغذاء، وبعد ذلك اختار الإله "هلال" مكانا بعيدا في السماء، يراقب عباده من بعيد ويحاسبهم على ما يفعلون من ذنوب وآثام ويجازيهم على أفعال الخير.

إنهم يعتقدون أن الإله أوحى لزعيم القبيلة"هلال"بكتاب مقدس يضم مجموعة من القوانين و التشريعات، ينبغي الامتثال إليها، فالسارق في عرفهم يسجن في مغارة محروسة،عليها رجال شداد مسلحون بسيوف و رماح، يمنعون السجين من الهروب من زنزانته، وفي نفس الوقت يحمونه من هجوم الحيوانات المفترسة، لقد كانوا منظمين وممتثلين لهذه القوانين التي تحثهم على القيام بواجباتهم وفي نفس الوقت تحترم حقوقهم.

واستمر قائلا: ألم تلاحظوا شيئا آخر يميز سكان الجبل الأبيض؟

رد عليه نبيل: وما الذي يميزهم؟

قال له سيد: إنهم يتميزون بنحافة أجسامهم.

قاطعه نبيل: ذاك من شدة الجوع....

كان الحديث قد تعرض الى تمزّق من بعض أطرافه عندما تدخل نبيل بأسلوبه الفكاهي.

نفى سيد بقوله: أبدا ليس هذا بفعل الجوع، وإنما هم كذلك لأنهم يعتقدون بأن نحافة الجسم ورشاقته، وبقائهم عراة متخلصين من كل ما يربطهم بالأرض هو رغبتهم في التحليق عاليا لمعانقة الاله هلال القابع في السماء.

وعندما وجدوا أنفسهم غير قادرين على الالتحاق بالإله هلال؛ خلقوا لأنفسهم من يقوم مقام الإله في الأرض، وهو هلال زعيم القبيلة الذي يعبده جميع سكان الجبل الأبيض.

قال نبيل: أَمتِعنا يا بيه وفقهنا لقد كنا في دار غفلون، على عقولنا غشاوة، لو بقينا هكذا لأصبحنا نحن كذلك من سكان الجبل الأبيض وفي مستواهم العقلي.

تابع سيد كلامه موضحا: أفيدكم أنه لا يمكن لسكان الجبل الأبيض أن يتفقوا على إلههم الأرضي؛ إلا من خلال ما يسجله من بطولات في صراعه مع الحيوانات بوسائله البدائية البسيطة؛ والنزول بها في معترك هذا الصراع الرهيب.

ثم أضاف متعجبا: ألم تلاحظوا معي نُدرة المياه في الجبل .

قال نبيل: لاحظنا ذلك و الناس متعفنون، وسخون، لا يتشطفون ولا يغسلون أجسامهم، تشم رائحة العرق صارخة مدوية على بعد مسافة بعيدة.

تدخل سيد وقال: إن سكان الجبل الأبيض يعتقدون بأن قطرات الشتاء هي في حقيقة الأمر عندهم عبارة عن عبرات، يذرفها الإله عندما يصدر سكان الجبل الأبيض سلوكا مسيئا يقلق راحته.

إنه يحزن على أفعال الشر المرتكبة من طرف أناسه، فيجهش بالبكاء من أجلهم، وتنهمر دموعه مدرارا...وحتى لا يصل إلى هذه الحال، كانوا يبادلونه حبا جياشا،حتى لا يقلقون راحته، أو إزعاجه، ويبدون أكثر تسامحا وتضامنا لدرجة التنازل عن بعض حقوقهم ومستحقاتهم، ويظهرون هذا بجلاء، بعادة الاستحمام في البرك العفنة على سطح الجبل، إنها فعلا مياه مباركة، يتبركون ويتوضؤون بها تقديسا و احتراما لإلههم "هلال". كما أنهم يعتقدون أن الإله "هلال" يختفي في النهار لأن سكان الجبل الأبيض قادرين على الدفاع عن أنفسهم بزعامة هلال الأرض، وعندما يحل الظلام يفتح هلال ربهم الذي في السماء عينيه وينهض من فراشه من أجل حراسة عبيده وحمايتهم.


الجبل الأبيضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن