الجبل الأبيض 7

12 2 0
                                    

7

كانوا يسيرون بين الوديان رفقة الشيخ؛ وأحيانا يتقدمهم؛ يهبط المنحدر ويتكئ بثقله على عصاه؛ يسمعون حفيف الأشجار حين تداعبها الرياح وأصوات الطيور التي تتجمع أسرابا وهي ذاهبة إلى أعشاشها أو قادمة منها؛ قد يظن الناظر لأول وهلة أنها غابة الأمازون قد غيرت عنوانها؛ من حين لآخر تسمع صوت راعية الغنم تترنم بترانيم الرعاة وهي تسوق قطيع الأغنام قاطعة تلك المساحات المنبسطة المطرزة بمختلف أنواع الأشجار.

تذكر شاكر قصصا غريبة قرأها عن الإنسان البدائي؛ الذي يكون على شكل قرد؛ بشري الوجه؛ يتجسس على الدخلاء من بين الأغصان الكثيفة؛ وعن طيور فاخرة الريش؛ وعن أشجار لاحمة تفوح منها رائحة الجثث. لكن الواقع غير ذلك؛ إن المكان يوحي للزائر بلوحة تعبق بالفوضى و العبثية؛ ربما هي لوحة من لوحات سلفادور الفريدة؛ تتجسد معالمها في هذا الركن من الأرض الذي يُسمى الجبل الأبيض؛ مكان هادئ؛ تتعانق فيه السحب بالصخور؛ حيث تتراكم السحب الركامية على ارتفاع منخفض لتشكل لوحة جمالية يمتلك الجبل الأبيض حقوق ملكيتها ولا يمكن نسخها في مكان آخر. وتطفو هذه المفردات الجمالية في تلك الصخور المتناثرة على تلك المساحات الواسعة؛ والشجيرات العشبية المطرزة بأزهار ذات ألوان مختلفة؛ كشجرة الظفراء ذات الأزهار الوردية؛ اتخذت الأشجار الكبيرة موقعا لها في هذه الغابة كالسدر والسمر والسلم والسرح والغاف وغيرها؛ وهناك نبتة الزعتر التي تنتشر بكثرة وشجرة السفسف التي تسد بعض حاجياتهم الاستشفائية.

كان الوقت ظهرا عندما ذهب الأساتذة مع الراعي إلى مركز القرية، أصبحت الأرض ترزح تحت وطأة الهجير، وهم يسيرون بين الطرق الضيقة كانت النسوة و الرجال يبحلقون فيهم، علموا بأنهم غرباء حلوا عليهم فجأة، يسيرون بين البيوت المبنية وسط الكهوف والجروف والفجوات الواسعة المغطاة بأبواب من جلد الماعز أو من سعف النخيل. كانوا يعيشون على شكل مجموعات عائلية منعزلة، تفصل بينهم مسافات طويلة من المشي على الأقدام، ربما كان ذلك شيئا لا يساعدهم على تطوير العادات و المعتقدات، وفي عزلتهم يعودون إلى ذواتهم الداخلية منغلقين على انفسهم. وفي الجوار هناك بدو رحل تحت خيمة واسعة من الوبر مفتوحة الجوانب، و أكواخ مبنية من مادة قماشية تسمى محليا( الطربال) تحميهم من الأمطار الخفيفة وثقيهم من أشعة الشمس، وتكون على شكل خيام مثل التي تستخدم عند البدو، وبعض البيوت مسقفة بالأشجار؛ كشجر السدر وسعف النخيل، و تأخذ شكل مدافن، وهي دائرية من الأسفل؛ مبنية من الحجارة المستطيلة لها باب صغير وليس بها نوافذ،كما أنها ضيقة ومن داخلها تخلو من الأثاث والأدوات المنزلية والأغراض الأخرى...وتتكون هذه المنازل من غرفة واحدة فقط للنوم والطعام معا، كبيوتهم وأكواخهم الموزعة توزيعا عشوائيا..

قال نبيل ضاحكا: ليتنـي أعيش مع هؤلاء البدو الرحل البسطاء، كل رأس مالي جملٌ ومتاع وبعض الماعز ما أروع مثل حياة الترحُّل.

استدار نحوه شاكر بوجه باعث على الاستفهام: الحضارة شيء نقيض للبداوة كما تعرف، هل يتنازل الإنسان عن كل ما حققه من تكنولوجيا وحرية ليحيا في الماضي البعيد من جديد؛ إنه الموت البطيء؛ إنه الانتحار الذي هربت منه شخصيا...

استرسل قائلا: صحيح... لا شك أن الإنسان مرتبط بجذوره، ونَحنُ كعرب نَحنُّ لجذورنا حيث الجمل والناقة والشعر والخيمة، وقيد الأوابد و الخدر....

وهم يسيرون بجانب الراعي أثارت انتباههم مقابر قديمة على شكل أبراج عالية، تدخل سيد وقال لهم أتعلمون لمن هذه المقابر؟

رد عليه نبيل: إنها لموتى ودعوا الدنيا من زمان .

قال سيد: إن هذه المقابر في اعتقاد سكان الجبل الأبيض؛ بناها الشيطان الذي يسمى "كبير كب" يدفن فيها ضحاياه من البشر الذين يشقون عصا الطاعة؛ ويبصقون في وجهه؛ رافضين وسادته وغطاءه المغري.

كان الزعيم يعاقبهم بالحكم بالإعدام؛ والمحكوم بالإعدام يحفر قبرَه بيده؛ حيث يرمي أشواكا وحجارةً مسننة؛ ويُعين الأشخاص الذين يرغب في مرافقته الى العالم الآخر بعدما يتلقى ضربة هراوة على رأسه.

قال شاكر متعجبا:أممممممم، ألهذا السبب كان ناس الجبل الأبيض كسالى، لأنهم يحترمون ويطيعون تعاليم الشيطان، وكان معتقدهم هذا هو سبب تأخرهم وبقائهم في شكلهم البدائي.

استطرد سيد قائلا: لقد بُنيت هذه المقابر من الصخور الجبلية الضخمة، وكان سكان الجبل الأبيض هم من يحمل هذه الصخور ويضعونها في مكانها مرصوصة ومصفوفة، تحت أوامر الشيطان، وتحت أعين معاونيه.

كانت الطريق طويلة اشتد عليهم العطش من شدة الحر وعناء السير، نفد ما تبقى لديهم من ماء، وكان مرورهم على عدة مناظر ساحرة، والتي يتفرد بها المكان، إنها فعلا مناظر خلابة، وتعرفهم على طينة بشرية جديدة أنستهم الصعوبات التي واجهتهم أثناء الصعود من أجل الوصول إلى قرى الجبل الأبيض.

وهم في طريقهم كان الأساتذة يمعنون النظر في عيون السكان التي تشف عن براءة وحسن نية، بعيدا عن خبث الحضارة وزيفها ومن حين لآخر يصدرون صيحات بدائية يعبرون من خلالها عن سعادتهم وترحيبهم بهؤلاء الرجال الغرباء.

إنهم بالرغم من أنهم يعيشون حياة قاسية فإنهم أناس بسطاء،يحبون بعضهم البعض ويمتثلون لقوانينَ عُرفية سنوها بأنفسهم، ويسهرعلى تنفيدها زعيمهم الذي يسمى هلال، كان زعيما للقبيلة، وهوإلههم، وحينما تستعصي عليهم أية مشكلة من المشاكل، يحتكمون إليه؛ ويقولون: إلهنا، افعل بنا معروفا في هذه النازلة أو القضية كذا وكذا..


الجبل الأبيضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن