الجبل الأبيض 8

16 1 0
                                    

8

وبعد طول المسير عَلمَ الأساتذةُ أن الراعي يتوجه بهم إلى زعيم القبيلة هذا المسمى هلال؛ بدا لهم من بعيد؛جالسا على كرسي خشبي بدائي الصنع؛ يتوسط ساحة القرية كراهب؛ يكسو رأسه شعر كالصوف الفاحم؛ وتبرق عيناه السوداوان وهو يراقب أربع نسوة جميلات؛ عاريات الرأس؛ يلبسن رداء مطرزا عليه نقوش هي عبارة عن أيقونات لها دلالات لا أحد يستطيع فهمها إلا المرأة الجبلية؛ هي في الأصل رموز تربطها بماضيها وتراثها القديم القابع في الذاكرة؛ كانت امرأة طويلة بيضاء البشرة تقشر الموز وتسقيه شرابا أحمر؛علموا فيما بعد أنه عصير "الكركديه" ممزوج بالماء؛ وهو شرابهم المفضل الذي يقدمونه لضيوفهم. وبجانبها امرأة أخرى تحرك بيدها مروحة من ريش الطاووس تنعش الزعيم؛ وفي جوار المصطبة بستان صغير مغروس بجميع أنواع الخضر والفواكه في تناسق وتناغم بفضل عناية النسوة دون كلل أو عياء.

وصلوا إلى ساحة كبيرة مغطاة بجذوع النخيل تسمى "السبلة" قدموا التحية لزعيم القبيلة؛ تفرس في وجوههم جيدا؛ ورد عليهم بإيماءة من رأسه ثم رشقهم بابتسامة فاترة؛ عبر لهم فيها عن ارتياحه إليهم. تقدموا إليه فسلموا عليه يدا بيد؛ وكان يحييهم بعادة أهل البلد؛ بحيث وضع يده على كثف كل واحد منهم ؛ وبعدها أشار عليهم بالجلوس إلى جانبه؛ تعبيرا منه كارتياح لحضورهم ؛ كان سيد هو من بادر إلى الكلام بلغة تجمعت فيها الاشارة بالعبارة؛ جسدت الهوة بينهما للتفاهم،هكذا استطاع سيد التعرف على مقاصد الكلمات التي ينطقها أهل الجبل الأبيض بوضوح تام.

وفي الركن المحادي ل"السبلة" كانت النسوة تحضرن الطعام، وكانت هناك قدور من عسل وأخرى من عصيدة، وصحون لحم مجفف، ومشاكيك ومضبي، ودجاج بلدي بالصالونة وكثير من الزبدة، وأطباق فواكه طازجة وأخرى يابسة، وقدمت لهم الجارية كؤوسا من الفخار عليها رسوم حيوانات، وفي الكؤوس عصير أحمر اللون، عافته أنفسهم وامتنعوا عن الشراب، لكن بعد إلحاح شديد وأمام أعين الجارية الجميلة اضطر الأستاذ نبيل تناول كأس عصير من يدها، وضع الكأس على شفته وتلمظ منه قليلا، قطب حاجبيه باشمئزاز وقال وهو يداعب الجارية: إنه شديد المرارة وكريه الرائحة، لكن رغم ذلك وعلى شان وجهك الجميل سأرميه رميا في جوفي.... في مثل هذه الجلسات، يكون لكؤوس الخمر دور أساسي في جمع شمل الناس، وحيث الكؤوس تسمح لنفسها بالانتقال بين الموائد لتسقي بسخاء كل من يبحث عن القليل من الفرح، ومن لا يشرب لا يبصر وجه الزعيم هلال!

قال هلال بلكنته: مرحبا بكم تفضلوا لنتقاسم الطعام، جلس الأساتذة جنبا إلى جنب، وكان الحاضرون يأكلون وهم صامتون وكأنهم يؤدون الشعائر الدينية، وكلما رفع الأساتذة رؤوسهم رأوا امرأة عجوزا تنظر إليهم بود؛ أشعرتهم بألفة كأنها تعرفهم منذ زمان، أو تربطهم بها صلة دم أو قرابة، كان على جبينها وساعديها رسومات مختلفة الأشكال هي عادة اكتسبها سكان الجبل الأبيض من قديم، عبارة عن رموز ذات دلالات يفهمها الأهالي، ويفضلونها على جسد المرأة لأنها تضفي عليها لمسة من الأناقة و الجمال. مما جعل شاكر يتساءل: لماذا معايير الجمال تتبدل وتخلع الملابس في كل فصل وبكل حرية.

الجبل الأبيضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن