الجبل الأبيض 11

16 1 0
                                    

11

في الجبل الأبيض رجال ماتوا بلا موت؛ ماتوا بمشنقة النسيان وسكين الصمت، لفظتهم الأرض من بطنها ورمتهم على سنامها فوق هذه القمة المرتفعة من العالم، رمتهم في هذا القفر كجيفة تخلصت منها دون خشوع، كان الأساتذة الثلاث يسيرون دون بوصلة توجههم، يتقدمهم الزعيم وألسنتهم تلهث بالدعاء خوفا على مصيرهم في هذا المكان الموحش، كانوا حائرين يدفعهم حلم اكتشاف عالم جديد، ويشدهم للأرض حنين أحبابهم الغائبين، كان الزعيم يوخز الأرض بعصاه المسننة كالرمح، أخذهم إلى أحد الكهوف، ظنوا أنهم سيموتون كالصراصير أو سيوقعم في مصيدة العنكبوت.

قال سيد مخاطبا الزعيم: إلى أين نحن ذاهبون أيها الزعيم؟؟

رد الزعيم بنبرة حادة: لا تسأل عن أشياء ستكون مفاجأة سارة لكم.

قال نبيل بلهجته الصعيدية: ربما سيطلعنا على قمقم عفريت سيدنا سليمان، أو أنه سيعطينا شيفرة صناديق قارون.

لكن الأمر خلاف ذلك؛ إن الزعيم سيأخذهم إلى مكان آمن، فيه المخطوط الذي يسجل تاريخ "عمان"، إنه سيطلعهم على سر لطالما احتفظ به لنفسه، كان يخفيه على سكان الجبل الأبيض.

واصلوا سيرهم، يشقون طريقهم بين الجبال وكأن أحدا يتعقبهم، كان هلال ينظر مرة إلى يمينه ومرة إلى يساره، و الثلاثة يتبعون خطاه، كان يمشي متثاقلا، متمايلا، يلف خصره بقطعة جلد لنمر ملساء، تلمع من بعيد وكأنها مرشوشة بذهان زيتي، وعلى كتفه الأيمن فرو ثعلب جبلي بني اللون، من حين لآخر كان يداعب رأسه الملفوف بعمامة صفراء كأنها مظلة تحميه كما تحمي القبيلة من حسد الحاسدين.

الرجال الثلاث يتغامزون بلغة العيون، تعلو وجوههم علامات الاستغراب والاندهاش لما هم ذاهبون إليه، وفي أحد المداخل الجبلية بدا لهم كهف على جدرانه رسومات كثيرة، لثعابين وتماسيح، وعلى بابه المبلط بمادة ترابية ممزوجة بالتبن نحثان لرجلين في يد كل واحد منهما رمح، يبدو أنهما الحارسان الأبديان لهذا المكان منذ غابر الأزمان، مد الزعيم يده إلى حجر مسنون وشرع يفتح الباب بنفسه دون مساعدة أحد.

تساءل شاكر: لماذا لم يَطلب منا مساعدته.

رد عليه سيد قائلا: رُبما يعتقد أن الآلهة تعتبر هذا الجهد العضلي الذي يؤديه، هو عمل سيجزى عليه عندما تصعد روحه إلى السماء، أو ربما سينجيه من كل مكروه يتسكع في كل درب غريب ....

بعد وقت وجيز أزاح البوابة الصخرية ، ودخل الكهف وتوجه متقدما نحو داخل المغارة، كان يحفظ خارطة الطريق، يلتوي بين المداخل ويتحسس الجدران، التي كانت مليئة بالنقوش والرسومات، لم يتبين معناها بسبب الظلام الحالك الذي يغطي المكان، يقترب أكثر، يتحسس الجدار وكأنه يبحث عن سر غريب قابع في مكان ما، قصد صندوقا خشبيا مغلقا بقفل عليه صورة ثعبان، مغطى بمادة شمعية تبدو وكأنها شمع عسل النحل الجبلي، وفي داخل الصندوق هناك صندوق صغير مغطى بأشكال مختلفة من الجواهر، وداخل الصندوق الصغير هناك صندوق أصغر فيه السر المكتوم وهو الوثيقة التي تحمل تاريخ عمان.

قال نبيل بأسلوبه المرح: افتح يا سمسم...

التفت إليه الزعيم دون أن ينبس ببنت شفة فاتحا الصندوق

تساءل شاكر: ما معنى صورة الثعبان على القفل؟ ثم لماذا يوجد داخل الصندوق صندوق صغير وداخل الصندوق الصغير صندوق آخر أصغر منه.

رد سيد مفسرا: إن صورة الثعبان هي من أجل تخويف السارق؛ وهي كذلك في معتقدهم بمثابة آلهة تحرصهم وتحرص أمتعتهم، أما حيلة الصندوق الأصغر وسط الصندوق الصغير وسط الصندوق الكبير، فَإن الغرض منها تمويه السارق والاكتفاء بأخذ المجوهرات فقط، دون أن يطمع في ما هو نفيس جدا، وهو الوثيقة التاريخية المعلومة.

تفاجأ الجميع أمام هذا المشهد الغريب، انتظروا ماذا سيفعل بعد ذلك.. حيث استمر الانتظار هنيهة من الزمن ثم أزال الغطاء من على الصندوق. اندهشوا وأصابهم الاستغراب والخرس عن الكلام، بعدما رأوا الوثيقة المركونة داخل الصندوق الأصغر، كانت ملفوفة بعناية في قلب القصب المجوف، عرف سيد من الوهلة الأولى أنها قصب البردي، الذي ينتشر بشكل كبير في مصر و الذي يحافظ على طراوته مدة طويلة من الزمن، ويحافظ على جميع الوثائق، ويحميها من التلف، ضد الحرارة وضد الرطوبة. كان الصندوق يحتوي على الوثيقة الثمينة، كي لا تنسى، إنها بمثابة كنز يختزل ماضي و حاضر و مستقبل، آل عمان . وعندما فتحوه انتهى القيل و القال تماما ولم يعد للخارج أية معنى، فأصبح كل همهم هو ما بداخل الصندوق، بحيث وقف الجمع مشدوها، وقفوا وقفة خشوع واحترام وإجلال، لهذا الكنز العظيم، وطريقة رصده وحفظه عن العيون، كما يحفظ سر ما في قاع البحر....إنها الوثيقة الكنز....

تدخل شاكر متعجبا: إذا قلتم سرا، فإنه فعلا سر محروس بعناية...

ثم أضاف سيد مزكيا كلام شاكر: إنها علامة البشارة التي تمثل غصن زيتون في صحراء قاحلة، أو غزالة ترعى على مرمى أبصارنا.

طلبوا الإذنَ من زعيم القبيلة؛ بأن يحملوا الصندوق؛ بعد لأي أذن لهم بأخذه.....كانت فرحتهم لا تسعها الدنيا؛ وكأنهم عائدون بغنيمتهم الثمينة من الغابة.


الجبل الأبيضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن