الجبل الأبيض 14

14 1 0
                                    

14

كان لزعيم القبيلة ولد شاب شديد الذكاء اسمه عقيل؛ بالرغم من مظهره الفظ الشرس؛ يشبه حبة اللوز؛ قشرة صلبة كالحجر تخفي بداخلها ثمرة اللوز الحلوة؛ كان دقيق الملاحظة؛ منذ صغره يحب اللعب بالتماثيل التي يتبرك بها الزعيم؛ يعبث بها كدمى صغيرة من هدايا يوم العيد؛ لأنه يشعر أن في داخله شيئا عظيما مختبئا هو العقل؛ هذه الطاقة الجبارة التي تنير له الطريق مستقبلا...لكن لا أحد أخبره كيف يستعمله لأن أحدا لم يكن يعرف بوجوده إلى أن جاء الأساتذة إلى الجبل؛ كان معجبا بالأساتذة الغرباء؛ يقلدهم في أفعالهم وتصرفاتهم؛ يتعقب عن كثب كل شاردة وواردة؛يردد أية كلمة ينطقون بها.

كان شابا قليل الكلام يحسن فن الاصغاء إلى درجة تكاد لا تسمع له صوتا، تشعر بقدراته العقلية بيضاء كبياض قمة الجبل الأبيض، أرضية خصبة للاستثمار المعرفي، تبدو عليه علامات النباهة و الذكاء، بمجرد ما يسمع الجملة يكررها في ذهنه وكأنه ينقشها على صفحات هذا الجبل لكي لا تمحى ولا يزيلها الزمان. لم يكن راضيا على جميع التصرفات التي تجري في الجبل الأبيض، كثيرا ماكان يعارض بعض السلوكيات الخاطئة التي تصدر من سكان الجبل، وكأنه يريد تغيير واقع مترد طال عليه الأمد في التخلف والانحدار، يريد أن يصنع واقعا مغايرا ومخالفا تماما؛ يحلم بغد أفضل يعمه السلام و الازدهار؛ والنظام و الانسجام بين جميع أفراد أهل الجبل وينبذ من يحرض على العداوة و البغضاء. وكان هذا الأمر قد أثار انتباه الأساتذة؛ فقرروا أن يحتضنونه و يعلمونه مبادئ اللغة العربية نطقا وكتابة؛ لكي يبقى خليفتهم في الجبل الأبيض؛ هذا المجتمع البدائي الذي ابتعدت عنه الحضارة والذي أصبح منذ اللحظة محطة لعلماء الأنثروبولوجيا وعينة لمعرفة كيف كانت حياة الإنسان البدائي هنا.لقد وجد الأساتذة في هذا الشاب النموذج المناسب والمعين على تغيير نظام الحياة في هذه القبيلة القابعة في أعلى الجبل الأبيض، يأخذونه معهم أينما حلوا و ارتحلوا، يتتبع حركاتهم وسكناتهم. تبدو عليه علامة الرغبة في الكلام وفي الحوار، عندما يتكلم يتحدث بدون لهجة معينة بدت شفتاه وكأنهما تشعران بنشوة خاصة في تشكيل الكلام وتركيب الجمل، كان الجميع يصغي إليه بتعجب وهو يتكلم؛ وكان بالنسبة للأسالتذة إنجازا عظيما حققه عقيل بن هلال الزعيم المرتقب؛ الذي سيخرج قرى الجبل الأبيض من ظلمة الجهل إلى نور الحياة.

وكما كان متوقعا ففي وقت وجيز استطاع عقيل حفظ القرآن والكثير من الأشعار و الأقوال المأثورة والكثير من الجمل و التعابير العربية الفصيحة وكأن لسانه قد تفصح، وتناقلت إليه عبر الجينات الوراثية، التي تراكمت عليها سنوات كثيرة بسبب الاهمال في هذه المنطقة العالية والبعيدة عن التجمعات السكانية المتحضرة . وفي وقت وجيز استطاع عقيل أن يدرك أسرار اللغة العربية وتراكيبها وتعابيرها، فعندما يتكلم تخرج الكلمات منسابة و الجمل مرتبة ترتيبا منطقيا تستسيغه الأذن ويتقبله العقل، وهذا ما يؤكد كلام ابن جني في الخصائص بأن اللغة عبارة عن أصوات يؤدي بها الإنسان أغراضه، وبما أن أغراض الإنسان العماني في الجبل الأبيض كانت بسيطة و محدودة فإن اللغة بقيت مركونة جانبا، لم يستعملها في أزمنته الغابرة؛ إلا لماما مما دفع بها إلى الإهمال و النسيان.

الجبل الأبيضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن