الجبل الأبيض 10

17 1 0
                                    


10

في ليلتهم الأولى بالجبل الأبيض؛ دخلوا كهفا عميقا؛ ليس فيه ما يلفت النظر؛ ظلام حالك يلف المكان باستثناء بصيص من ضوء القمر؛ هذا الهاجس المخيف لم يشجعهم على النوم فيه، فظلوا مستيقظين؛ ومستلقين على ظهورهم، تُراودهم هواجس كثيرة وتهيؤات، كانت مترسبة في ذاكرتهم من خلال قراءاتهم المتعددة على الشعوب المتوحشة البدائية التي لاتخضع لأي قانون؛ وإنما تخضع لقانون الغاب؛ قبائل تعيش على الغريزة الحيوانية العدائية الذي تكون فيه السيطرة للقوي على الضعيف، وأما الإنسان فيأخذ حذره....

فكلما سمعوا صوتا في الخارج أو حركة أقدام اعتقدوا أن القادم سيقتلهم ويأكل لحمهم نَيئًا أو مشويا، لقد تذكر الأستاذ "سيد" رحلة ابن فضلان التي قرأها في الجامعة؛ تلك الرحلة التي تحكي جزءً من حياة السفير ابن فضلان الذي اعترضته الشعوب الروسية وباعته للفيكينج؛ وما اعترضته من مشاهد رعب؛ ومارآه من طبيعة حيوانية اتصف بها هذا الشعب الهمجي الذي كان يأكل اللحم الآدمي.

إنه بقدر ما أغرته قراءة هذه الرحلة وأثارت فضوله؛ بقدر ما حركت في نفسه مجموعة من التصورات الخيالية الحية التي دخلت مخيلته، وحركت فيه مجموعة من الصور المتحركة التي قد تتحقق في أي وقت من هذه الليلة ويكون هو ضحيتها وحينها يكرر مأساة ابن فضلان، ويكون سيد عالم الانتروبولوجيا هو بطلها، لقد تخيل نفسه وسط دائرة مكونة من رجال و نساء وأطفال يرقصون رقصة دائرية حوله محتفلين به كصيد ثمين، تخيل نفسه مكبلا على جذع نخلة و النساء تشعلن النار وترقصن استعدادا لشوي هذا الرجل الغريب.

لقد بدأت الوساوس تراودهم وأحسوا في لحظة من اللحظات بالندم، وشعروا بتأنيب الضمير على هذه المغامرة غير المحسوبة العواقب، تمنوا لو يعودون إلى بلدانهم وينعمون بدفء أسرهم وعطف أقاربهم. وفي لحظة من اللحظات بدأ شاكر يكلم نفسه وكأنه مجنون زهق عقله، تكالبت عليه أحاسيس ومشاعرلم يكن يتوقع حتى مجرد التفكير فيها من قبل، بغتة برق ضوء عود تقاب أضاء قلب الكهف، إنها فعلة نبيل الذي استبدت به رغبة التدخين، حيث أشعل رأس سيجارته الشقراء، توجه نحو شاكر الذي كان يقف قرب المدخل، عسى أن يرى أي شئ يومض من فوق الجبل الشامخ ، حيث الظلام دامس، لابصيص نور سوى بريق النجوم البعيدة.

بدأ شاكر يرفع صوته من بعيد وهو يقول: إن هذا العمل الذي أقدمت عليه هو مغامرة خطيرة، لم أحسب لها أي حساب، كانت ستكون نهايتي في هذه القرية النائية وسط هذه الكائنات البشرية الغريبة.

ياااه، كم وَبختُ نفسي على خوض هذه المغامرة؛ ما الذي دفع بي إلى هذه الجولة في الجبل الأبيض، لقد جئت إلى سلطنة عمان من أجل تأدية وظيفة معينة وهي تعليم النشئ قواعد الكتابة و القراءة، ما الذي أخرجني من غرفتي وأنا إنسان غريب عن المنطقة وعن أهلها؟ ما الذي دفعني بالمجازفة و الخروج للاستكشاف؟ هذا العمل الذي هو في حقيقة الأمر من مهام أناس تتوفر فيهم القدرة المادية والمعنوية، ويكونون في العادة تحت مراقبة صارمة؛ ومحروسين بأحدث الأجهزة الالكترونية، وفي حالة تعرضهم لأي مكروه فإنهم يلقون الاسعافات الأولية والعناية الفائقة وتقدم لهم جميع المساعدات..... أسئلة راودت شاكر لكنه لم يجد لها أجوبة...

الجبل الأبيضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن