22. المقطع الاخير

578 31 2
                                    


  كانت عيناي وفكري مسافران مع هذا المنظر الخلاب حتى سمعت صوتاً

يضرب قلبي قبل أذناي صوت الشخص الوحيد الذي يمكنه الصعود هنا نهاراً

صوت مخملي لا تعرف يخرج من رئتيه أم من حنجرته مباشرة قائلا

" مرحبا "

كانت دموعي تريد السقوط وبشدة وقلبي يريد البكاء وبنحيب ولكن يكفي حتى هنا

لم التفت ولم أتكلم ردوا عليه التحية وقبل رأس جدته وسلم على آن ثم شعرت

بخطواته تقترب مني أمسك ذراعاي بيديه وقبل خدي بهدوء فأغمضت عيناي

ببطء وألم أحاول منعهما من استراق نظرة له , هل كان عليه فعل هذا ! لما يقتلني

ثم يكمل الأمر بتمثيلياته الدائمة أمامهم ؟ ما أسهل الهجران عليك يا زين وما أقساه

علي أنا وما أهون لقائي عندك وما أصعب لقائك هذا عندي فسحقاً للحب ولي ولهذه

الغبية المتدحرجة من سماء عيني , مددت أصابعي ومسحت دمعتي قبل أن تسقط وبقيت مسافرة بنظري للبعيد , ابتعد وجلس معهم فقالت جدته من فورها

" جيد تذكرت أن لك أحد هنا "

قال بهدوء " كيف أنتي وكيف هي صحتك ؟ "

عدلت من فستانها الخريفي المشجر الطويل لتضمه تحت ساقيها وقالت ببرود

" كان يفترض بنا تزويجك منذ سنين لتأتي "

قال بهدوئه ذاته والغريب عنه " هكذا كانت الظروف وها هم أحفادك

كلهم يزورونك مرة في العام "

تنهدت وقالت " المهم أنكم بخير ولا أحد مجبر على زيارة أحد "

ساد الصمت مطولاً وكأن كل واحد يريد اختبار سكون المكان ثم وصلني

صوت زين قائلا بهدوء " قمر ابتعدي عن السياج "

ها قد جاء من سيعكر مزاج الرحلة بأكملها , الإسطبلات في الجانب الآخر

والمكان هنا مرتفع لا أفهم سبب هذا , تنهدت بضيق وابتعدت كنت أود استئذانهم

والمغادرة ولكن ستكون فرصته ليلحق بي للغرفة ويفرغ بي غضبه لقدومي هنا

دون علمه , جلست بجوار آنجل مقابلة لجدته ونظري للخارج لم أرفعه جهته أبداً

ولم أطاوع قلبي لرؤيته , هل جربتم يوماً أن قتلتم الشوق في أوجه ؟ هذه أنا أفعلها

الآن ولا أنصحكم بتجربتها فهي أقسى من الشوق ذاته , كسرتْ الجدة السكون الذي

غزى المكان مجدداً قائلة " ما بك تبدين متعبة يا قمر ؟ كنتي بخير أول الصباح "

عدت بنظري من المكان الذي لا أرى منه شيئاً ونظرت للأرض وقلت

" لا شيء جدتي "

حركت شيئاً على الطاولة وقالت " أعلم أن رؤية الأزواج تسد النفس وتعكر

الصحة قبل المزاج ولكن هذا قدر النساء وعليهم الرضا به "

قال زين بضيق مكتفا يديه لصدره " جدتي أن تعتبي علي لعدم زيارتك شيء

وأن تهينيني شيء آخر "

عادت لجلستها وقالت ببرود متجاهلة ما قال " كيف هم عائلة والدك ؟ "

يبدوا أن زين أخذ أسوء الطباع من جميع أفراد العائلة , بل يبدو لي هذه العائلة

تتوارث هذه الصفة أباً عن جد , حمداً لله أنه لم يأخذ خصلة خاله السيئة تلك

ساد الصمت مجدداً .. لا أعلم أي تأثير أضافه زين على المكان جعل الجميع

يميل للسكوت والهدوء , رفعت نظري إليه فكان ينظر لي بسكينة وهدوء ثم

رفع يده ببطء ومدها لي وقال هامساً " تعالي "

شعرت بمساحة الأرض تتقلص عند أصابعه الممدودة وبالسماء تطوى صفحاتها

في عينيه , نظرت ليده بتيه وكل خلية في جسمي تقول ( لا أفهم ما يجري !! )

نظرتُ لآنجل والجدة فكانتا تنظران لنا , كم تمنيت أن دخلت وتركته ويده الممدودة

كم تمنيت لو علّمته معنى الخذلان أمام الجميع ولكني بذلك سأكون أنا السيئة في

نظرهم جميعاً , وقفت وتوجهت نحوه بهدوء , عليه إكمال تمثيليته وبعدها سيزول

كل هذا , جلست بجواره دون أن أمسك يده الممدودة لي فرفعها ولفها خلف رأسي

ووضعها على كتفي الآخر لتغمرني رائحة عطره المميزة الممزوجة برائحة دخان

السجائر لينتج عنهما عطراً جديداً يميزه عن غيرة , عطراً يزيده سيطرة على

المكان , ومن الغريب أنه لم يهمس لي بإحدى كلماته المسمومة تلك عن أني يجب

أن أستحمله قليلاً أمامهم , قالت آنجل مبتسمة

" انريكي و ميا ينتظران مولوداً , لابد وأني أول من نقل لكم الخبر "

قالت الجدة ببرود " ثلاث أعوام لتحمل زوجته !! يا لكم من جيل "

ابتسمت آنجل بعفوية وقالت " جدتي ما كان في عهدكم انتهى , على الزوجان أن

يستقرا قبل أن يفكرا في الأطفال "

قالت بحدة " وهل هم سفن لتستقر ؟ "

لم استطع إمساك نفسي فضحكت ضحكة صغيرة أكتمها بظهر أصابعي فأمسك

زين يدي من على فمي ووضعها وهي في يده على فخذه فسحبتها من يده بسرعة

فقالت الجدة ناظرة لنا " وأنتما هل ستستقران أولاً ؟؟ "

لذت بالصمت أنظر للأرض أضغط بيدي على طرف قميصي بقوة فرأيت أصابعه

تمتد ويده تمسك يدي مجدداً ثم رفعها إليه وقبلها ثم وضعها على ذقنه تحت شفتيه

وقال " ليس بعد ولا نريدهم الآن فقمر أمامها عملية لقلبها ستجريها أولاً

أعرفك ستجرحينها بكلماتك "

كانت عيناي معلقتان به تملأهما الحيرة ويدي لازالت في يده يتحسس بها ذقنه

بحركة بطيئة , رفعها لشفتيه مرة أخرى قبلها وأعادها مكانها فقالت الجدة من

فورها " ينقطع لساني قبل أن يجرح واحدة مثلها , هلّا أخبرتني

من أجبرك على الزواج بها ؟ "

ضحك ووضع ساق على الأخرى وقال " ولما أجبروني عليها ! "

ضربت بطرف عكازها على فخذه ضربة خفيفة وقالت

" لأني اعرف اختياراتك السيئة جيداً "

ابتسم وقبل رأسي وقال " وها أنا قد أتبث لك العكس "

علمت الآن معنى أن يقتل أحدهم القتيل ويعزي أهله فيه , أن يجرحك أحدهم

بعنف ثم يمارس فن الطب على جراحك , أن يدوس مشاعرك بقدميه ثم يعود

ليمسح غبار حذائه عنها ... ما أقساه من شعور وما أصعبه , بقدر ما هو شعور

جارح بقدر ما هو ظالم وجائر , سحقاً لذاك الشيء المسمى حب وسحقاً لتمثيلياتك

أمامهم يا زين فكم هي متطورة جداً وطويلة هذه المرة

أخفضت رأسي للأسفل أعض طرف شفتي محاولة منع دموعي من النزول فقالت

جدته " لو كنت عرفتها قبلك لزوجتها لليوناردو "

أبعد ساقه التي كان يضعها على الأخرى وأعادها مكانها ضارباً بها على الأرض

وقال بضيق " وما بكم مع زوجتي الكل يريد تزويجها "

ضحكت ووكزته بعكازها عند كتفه وقالت " لأنه لا واحدة غيرها قد تقنعه بالزواج "

رمى العكاز بعيداً عنه وقال بضيق " وتزوجيه بها ولستِ تهتمي بي أنا ومن أتزوج "

ضحكت وقالت بسخرية " بالتي تنتظرك حتى الآن "

أحسست حينها بوخزه قوية في قلبي وكأن أحدهم رماه بسهم من بعيد

لا أعرف حتى متى ستتحكم في هذا القلب المريض يا زين حتى متى سيموت

كلما اقتربت غيري منك ولو على لسان الغير , وقفت من فوري وقلت

" بعد إذنكم "

تركتهم هناك ودخلت للداخل ثم للغرفة , ارتميت على السرير أخفي وجهي

تحت ذراعاي أمسح من عن قلبي بقايا عطره وحروفه وأسكب من عيناي بقايا

دمعاتي المتحجرة فيهما , بعد قليل طرق أحدهم باب الغرفة ودخل فكانت

انجل , جلست بجانبي ومسحت على ظهري وقالت " قمر لا تغضبي من كلام

جدتي فهي هكذا مع الجميع ورأيتِ بنفسك كيف توبخني دائماً وكأني طفلة

أنتي أول من أحبتها وعاملتها بلين "

جلست وقلت ودموعي بدأت بالنزول " لست غاضبة منها لا تقلقي "

قالت وهي تمسح لي دموعي " ولما البكاء إذا وكل هذا الحزن "

دخل حينها زين ووقف مستنداً بالجدار ويديه في جيوبه ونظره علينا دون كلام

فزادت دموعي بدل أن تتوقف وتبعتها شهقات متفرقة , أنكست رأسي للأسفل

وأنا أمسك فمي بيدي كي لا تزيد عبراتي أكثر , لقد تعبت من كتم هذا والخروج

أمامهم دون اكتراث , حضنت آن رأسي وقالت

" قمر يكفي نحيب أقسم أنك فطرتي لي قلبي "

قال زين بهدوء " آنجل اتركينا وحدنا قليلاً "

ابتعدت عني ومسحت بيدها على شعري وقالت بلامبالاة

" لن أخرج ولن أتركك توبخها فأنا من أحضرها إلى هنا "

قال بضيق " أنا زوجها أم أنتي ؟ "

ضربت كف يدها على ظهر يدها الأخرى وهما في حجرها وقالت بضيق

" أنت طبعاً ولكني اشعر بها أكثر منك "

ابتعد عن الجدار وقال بحدة " آنجل ستخرجين أم ماذا ؟؟ "

قالت بحدة أكبر " لن تستفرد بها فهمت , لن أتركك تعاقبها على ما فعلته أنا "

تأفف واقترب منا جلس بجواري على السرير ضم كتفي بيده ورفع وجهي بيده

الأخرى ومسح دموعي بأصابعه ثم قبل شفتاي قبلتين صغيرتان ثم ثالثة أطول منهما

فابتعدت وأنزلت رأسي وأشاحت آن بوجهها وقالت بضيق " ما بك ألا تستحي قليلاً "

شدني إليه مجدداً ودس وجهي في حضنه وقال ببرود " أخبرتك أن تتركينا وحدنا

ولم تفعلي وأنك لست ِ زوجها بل أنا ولم تكترثي "

وقفت ونفضت قميصها بضيق وقالت " ليكن في علمك قمر لا تعلم أني لم أخبرك "

ثم خرجت وأغلقت الباب خلفها فوقفت أنا مبتعدة عنه ونظري للجانب الآخر

مرر يده على صدره العريض ونظر لي وقال بهدوء

" هل تري قدومك هنا دون علمي يجوز ؟ "

مسحت دمعة ما تزال عالقة في رموشي وقلت بابتسامة حزينة " إن كان تركك لي

ورميي ككيس قمامة وعدم إخباري يجوز فهذا يجوز أيضاً "

ضرب بقدمه على الأرض عدة مرات وهو جالس مكانه على السرير وقال بعد

صمت " أنا الرجل يا قمر "

نظرت له بجمود ورميت جديلتي خلف ظهري لتضرب فخذاي من الخلف وقلت

بألم " ولما أعاملك كرجل ولا تعاملني كامرأة "

أخفض رأسه وحك حاجبه ثم تنهد ونظر لي وقال بذات هدوءه

" وكيف أنا أعاملك في نظرك ؟؟ "

ضممت ذراعاي بيداي ونظرت للأرض وقلت بابتسامة حزينة

" كنكرة كجدار كقطعة أثاث كجارية كمملوكة كـــ ... "

قاطعني قائلا " قمر كوني عادلة فكم عاملتك كزوجة كشريكة كمسؤولية "

نزلت دمعة من عيني مسحته وقلت بهمس " لا أذكر "

وقف وقال " سنغادر في الغد "

وتوجه جهة الباب ليخرج فنظرت له وقلت بجدية " لن أغادر معك "

وقف مكانه ثم التفت إلي في صمت فأشرت بأصبعي للنافذة جهة مشرق الشمس

حيث مدينة آنجل وقلت بحزم " جئت مع آنجل من هناك من منزلها وأغادر معها

ولمنزلها فهي أصبحت المسؤولة عن هذه الجارية الآن "

توقعت أن يخرج من هدوئه الغريب ويزمجر غاضباً كعادته ولكنه لم تتغير حتى ملامحه

وبقت على هدوؤها وقال بنبرة هادئة " أنتي لستِ جارية ولا تكرريها أمامي يا قمر "

ثم خرج وأغلق الباب دون أن يضيف حرفاً آخر ليتركني لحزني وبكائي لوحدتي

وألمي لجراحي الكثيرة منه , لما عدت يا زين ؟ لما لم تتركني لآخر العمر لعلي

هذه المرة أنساك للأبد , نزلت جالسة على الأرض ودموعي تتناثر وتتكسر

فوق سطحها الأملس ولا شيء يضاهي شعوري بالفقد والحرمان سوى شعور

هذه الدموع اليتيمة ولا شيء أقسى من جور قلبه علي سوى هذه الأرضية

الصماء , نمت فوقها أحضن برودتها فلاشيء في حياتي تغير سأبقى دائماً قمر

الطفلة اليتيمة الوحيدة التي تلتمس الدفء والحنان من برودة الأرض والأبواب

الحديدية , بعد العصر سمعت طرقات خفيفة جداً ومتقطعة على باب الغرفة ثم

انفتح الباب ودخلت ابنة آنجل وأنا جالسة على السرير احضن ساقاي نظرت لي

وقالت بابتسامة " جدتي تقول تعالي بسرعة "

ابتسمت وقلت " تعالي ادخلي يا ايميلي "

اقتربت مني فقلت " من مع جدتك ؟! "

قالت من فورها " خالي زين "

تنهدت وقلت " حسناً أخبريها أني قادمة "  

Lunar mansionحيث تعيش القصص. اكتشف الآن