هل شعرتم يومًا بِعدم الانتماء لأي من مَوجودات العالم؟قال رجل تتسم ملامحه بالحزم، مرتديًا معطف المختبرات الابيض، بينما يقف بثقة عالية قبالة مجموعة من الشباب يجثون على ركابهم و ثُلة من رجال مُتشحين بالسواد يصوبون بنادقهم على رؤوسهم، و بعد لحظاتٍ قليلة راحوا يطلقون النار على الشباب واحدًا تلو الآخر. على اثر ذلك فتح الشاب الفونس عينيه، مُصفر الوجه، و العرق يتصبب من جبينه. و راح يلتقط انفاسه كما لو إن الاوكسجين يوشك على النفاذ، و فرك عينيه، ثم القى نظرة حائرة على نفسه فأتضح لهُ انه يجلس على الارض في ركن غرفة.
اجال البصر حوله، فرأى صديقه أندريه يجلس عند طاولة كتابة، و يغَمسُ ريشة في مَحبرة، و كتبَ آخر شيء في ورقة لم يكن مستوى رؤيته يتيح له قراءة ما فيها، و التي كانت ستثيرُ تساؤلات كثيرة في عقله؛ لأنها كانت باللُغة العربية. و كتبَ اندريه في طرفها اسم "جبران" ثمَ انزلقت يده تحتَ الاسم كادت أن تُشوه الورقة بالحِبر الا أن الأمر مرَ بِسلام، و كتبَ في ذيل الورقة: ١٣ / تموز / ١٧٨٩ - ١ / ذي القعدة / ١٢٠٤هـ .
بعدها رفع اندريه رأسه موجهًا انظاره نحوه، و قد لاحت ابتسامة على وجهه، بادله الفونس الابتسامة ثم اشاح بصره، فرأى على يساره، شابان في مثل سنه، يجلسان عند طاولة مستديرة، كانا ينبشان بحقائب و يتبادلان اوراقًا تحوي خرائط لباريس. تجاهل ذلك فأغمض عينيه برهة، ثم نهض من مكانه. القى نظرة اخرى على الجميع، و هز رأسه، بدا واعيًا اخيرًا لما يجري، و قد تساءل:
- هل تناولتم العشاء يا شباب؟
قبل أن يحصل على اجابة سمع هو و البقية في تلك اللحظة اربع طرقات على الباب و صاح رجل بصوتٍ عالٍ من الخارج:
- افتحوا بإسم القانون.
حينها غامت على وجوه الشباب سحابة قاتمة، لكن سرعان ما نهض اندريه و فتح الباب، فدخل منهُ خمسة رجال من الشرطة يتقدمهم رجل بوجهٍ عابس. كان يبدو مُتعبًا و منهك القوى، عاقدًا حاجباه الكثيفان. و صاح مجددًا فور تجاوزه عتبة الباب:
- انني اقبضُ عليكم بإسم القانون بتهمة الشغب و تحريض الشعب ضد جلالة الملك.
ساد الغرفة على آثر سكون رهيب، ثم سرعان ماشوُهِدَ أربعة شُبان يركبون عربات الشرطة و هم مقيدين بالأصفاد، و درجت بهم الى المخفر. و ما هي الا ربع ساعة حتى وصلوا لوجهتهم و أُدخل اندريه فقط على المفتش، بينما اخذوا البقية بعيدًا، و قد تابع المفتش و هو جالس عند مكتبهِ اندريه منذُ اللحظة الأولى التي ولج فيها من الباب.
و قد كان المفتش رجل ببشرة يميل لونها الى البرونزي، متفردًا بعيونه الضيقة و الحادة كالصقر، وقد برزت أسنانهُ الـغير مُتَسقة و الشبيهة بـمقبرة قديمة حين ابتسم بشكلٍ ساخرٍ على طريقة مشي أندريه؛ فقد كانت له طريقة مُختلفة بالمشي، بحيث يمشي خطواته وهو منحني الظهر بالرغم من انه ليس احدبًا و انما هي عادة لم تفارقه منذ سنوات. كما أن المفتش قد لاحظ إن وزن اندريه قد قل عن اخر مرة خصوصًا انهُ نحيف اصلًا و لا يحتاج لأن يزداد نحافة، علاوة على ذلك كان شاحب البشرة، و طويل القامة، شعرهُ قصير مجعد و لونه بني كالشوكولا. توقف وقتها و كان من الواضح انه يضمر نوع من التحفظ، فبدا بهيئة مسالِمة جدًا. اشاحَ المفتش بصرهُ اخيراً و اخذ يُقلب بأوراق كانت امامه وهو على قناعة انه لا يوجد احد يعرف اندريه كما يعرفهُ هو؛ فقد كانا و مازالا على نوع من الألفة. نقر المفتش بطرف اصبعه على مكتبه قبل أن يبتدر الحديث:
- بحق السماء هل قصصك لا تنتهي ابدًا يا اندريه؟، الشوارع تكتظ بالناس، انهم يتظاهرون في كل ركن من باريس ضد الملك، و يقيمون متاريس بأمتعة البيوت و الاحجار حتى أننا اضطررنا لأطلاق النار على بعضهم.
رد اندريه عليه برزانة من دون ان يرتعش قلبه للحظة:
- الناس خرجوا ليطالبوا بحقوقهم المسلوبة.
- اذن انت تعترف بإنتهاك القانون.
- نحن لا ننتهك القانون بل انه حق دستوري.
اسند المفتش ذراعيه على مكتبه و نهض من مكانه، قائلًا:
- انت من آل بوربون يا ايها البارون اندريه، ما الذي جعلكَ تختلط بمجموعة من العامة تاركًا الراحة و الثراء؟
اكتفى اندريه بالصمت، فتابع المفتش قائلًا:
- نظرًا للألفة التي تجمعني بوالدك و بك سأسمحُ لك بالذهاب مع اصدقائك بشرط أن تذهب و توقف هذه المهزلة لأن الناس يستمعون الى كلمتك و اذا لم تفعل ذلك حتى مساء الغد سأتدخل بنفسي و اجعل من اطفال اتباعك يتامى، ثم اكبلك و اسلمك الى والدك... الا أنني لا اريد أن تصل الامور لتلك الدرجة بيننا و لا اريد للقضية أن تكبر و تصل للنائب العام لجلالة الملك مسيو لوران؛ لأنه لو تدخل سيدق عنقك بالمقصلة من دون أن يطرف له جفن، لذا دع الناس يتوقفون عن ذلك سريعًا.
اومأ اندريه برأسه بكل هدوء، مُجيبًا:
- سأفعل الصواب.
فتح المفتش الباب و همس بأذن احد رجال الشرطة في الخارج ثم اشار لاندريه لكي يخرج، فأومأ الأخير مجددًا و تبع الحارس، و بالفعل خرج الجميع وجعلوا اصدقاء اندريه يركبون معًا برفقة بعض الحراس في عربة، اما هو فقد عزلوه في عربة سيضطر فيها لتوسط شرطيان، وما أن ركب تبعه شرطيان آخران، وجلسا في مواجهته، ثم بدأت المراكب سيرها فوق الطريق المرصوف بالأحجار، و وقفت آخر الامر بعد دقائق معدودة، فهبط الشباب و راحوا يتمشون على رصيف مُطِل على بحر، و قد قال اندريه حينها:
- يجب ان نرتاح قليلًا فغدًا سيكونُ يومًا شاقًا...لنذهب الى حانتنا المعتادة.
فورًا ضج اصدقاءه بهتافات سعيدة.
أنت تقرأ
•لامــاســو | Lamassu
Historical Fiction• مـثل عرُوض الـدُمى، حولَ أيادي الـجَميع خيوطٌ تُحرِكَهُم، أما من أعتبرَ نفسهُ حُـرًا، لم يختلف كثيرًا ! سوى إنهُ كان جاهلًا بحقيقة إن خيوطهُ كانت مـَرخيةً أكثر من غَيرهِ. •الرواية فائزة بمسابقة أسوة 2018، كـواحدة من ثلاث أفضل روايات عن الفئة التار...