تزاحمت الغيوم لتخلُقَ طريقًا في السماء، و جعلتها اكثر اظلامًا على ذلك الجو المتوتر في الأرض متوعدةً بمطر قد ينتهي به هذا اليوم المُتقلب.
وقتئذٍ لامست جسد الفونس صاعقة من الذهول، حين رأى رجل يرتدي حُلة عسكرية انيقة، مُحلاة بأوسمة كثيرة، و هو يمشي على اكياس رمل في الساتر. كان رجل طويل القامة، متين البناء، حليق الذقن، بشعر رمادي لامع مصفف بطريقة منتظمة، في يمناه اربع خواتم فضية، في كل خاتم حرف، و لو تم تشكيل الحروف على هيئة كلمة فستُقرأ «VERT»-اخضر بالفرنسية-. مضى الرجل بِكُل سلاسة وتسمر الشباب في امكنتهم عند عتبة الحانة التي اعتاد اندريه- جبران- و البقية الذهاب اليها سابقًا، وقد كانت هناك مجموعة من قوات الحرس الملكي عددها ضعف عدد الشباب الثوري تتبع ذلك الرجل بكل رزانة.فتقدم الفونس بخطوات مُتثاقلة، يمشي مشية الثمل الغارق في عالمه الخاص، دخل ارض المعركة من جهة المتاريس و قد تنبه لهُ رجال الحرس فور سماع وقع خطواته على الأرض، وجهوا أسلحتهم نحوه إلا أن قائدهم رفع يده مانعًا إياهم سامحًا لـ الفونس بالوقوف بجوار زملائه، و هم بدورهم قد طلت ابتسامة باهتة على وجوههم الشاحبة فور رؤيته. وقتها كان عددهم قد زاد، بحيث اصبح عددهم بحوالي العشرين رجلًا كانوا يقفون بصفٍ واحد، و كان فابيان بينهم، بينما غاب لينارد لأسباب مجهولة.
صاح ذلك الرجل و هو يبتسم بخبث:- تحظروا للموت يا ايها النغول.
سكت لهينهة ثم اضاف:
- انا لوران النائب العام لجلالة الملك.
هز الفونس رأسه و طغت جدية مفرطة على ملامحه فقال بِحنق:
- لا يوجد احد هنا يهتم بمعرفتك.
حملق لوران به بصمت للحظات، ثم رد عليه بضحكة مقيته، و قد حاول الفونس وقتئذٍ أن يجد حلًا للتفاوض علهُ ينقذ حياة رفاقه بطريقة ما، لكن لوران كان وقحًا و مغرورًا و قد سخر من كل افتراضات و كلام عدوه، ثم اشارَ لجنوده فضيقوا الخناق على الحانة متأهبين لنسفِها، حينها اكتفى فابيان من الصمت وراح يسبُ لوران بعبارات قوية، لكن رفاقه امسكوه و اسكتوه بوضع ايديهم على فاه خوفًا عليه، بينما لم يعرهُ لوران أي اهتمام و قال موجهًا كلامه لـ الفونس:
- لا تخجل يا ايها الخائن قُل كلماتك الأخيرة انا اسمعك.
غمغم الفونس و هو يكز على أسنانه، وقتها عَلِمَ أن كل شيء قد انقضى، فأجاب:
- تطلب مني التكلم لكنني اعتذر؛ لان الله لم يمنحني هبة التحدث مع الحيوانات.
رفع لوران يده ليوجه رجاله أسلحتهم نحو الثوريين، و عندما رأى بقية الشباب هذا المشهد عرفوا إن النهاية اصبحت قريبة بلا شك، فالأمور الت للأسوء منذ اللحظة الأولى التي باغتهم فيها العدو فهم على وشك الرحيل من الدنيا بِخُفي حُنين. و تجمعوا بشكل مُفاجأ على شكل دائرة حول الفونس كما لو أنهم يحاولون بشكلٍ يائس الحفاظ عليه بعد أن خسروا اندريه-جبران-. وقتها كانت هناك نجمة اخيرة تذوب ببطء في السماء حين اطلقَ الحرس النار و بادلوهم الشباب بذلك لكن لم يجدي هذا نفعًا، و لم يرى الفونس غير اشخاص اشبه بأنهم يتراقصون من العيارات النارية الكثيرة و الدماء تتساقط على وجهه و على جسمه كالأمطار الغزير، و بلمح البصر تحولوا إلى كتل من اللحم مُضرَّجةَ بالدِماء.
لم يملك الفونس الوقت ليقول شيء، فقد تساقطوا على الارض و انقضت حيواتهم الجريحة بنهاية مأساوية، لم يملك الفونس غير متابعتهم بنظرة المُتهالك المُحتضر، و هو يعرف أن موت اندريه-جبران-قد نغص حياته، اما موت اصدقاءه الأن سيجعل حياته مُرة و سوداء اللون كالغراب.
الحقيقة دائمًا صعبة القبول بالنسبة للكثير من البشر، و قد كانت صعبة بالنسبة له كذلك، كما إن العدول عن كل المجازفات التي قام بها بات أمرًا مُستحيلًا، حتى أنه لا يملك الأن وقتًا للرثاء و لا للشروع في لملمة فُتات حياتهِ المُتهدمة، و سرعان ما خرج من وضع السكون ذاك، رفع رأسه، و فجأة تأججت في داخله نيران الغضب، سحب مسدسًا كان مثبتًا في حزام بنطاله، و حين رفع رأسه وجد لوران قبالته بينما يحمل بندقية بشكل عكسي، و بها باغتهُ بضربة على رأسه، و على الطريق المُلتمع في الظُلمة بنور القمر، سقط الفونس على الارض طريحًا، بينما راح رأسه ينزف بغزارة، و على اثر غادر لوران و رجاله، و اخذت قطرات المطر تتساقط بالتدريج من السماء. دقائق فقط ثم تحول وابل من الامطار المتساقطة، و قد غسلت اجسام الشباب المُعفرة بالدماء.
أنت تقرأ
•لامــاســو | Lamassu
Fiksi Sejarah• مـثل عرُوض الـدُمى، حولَ أيادي الـجَميع خيوطٌ تُحرِكَهُم، أما من أعتبرَ نفسهُ حُـرًا، لم يختلف كثيرًا ! سوى إنهُ كان جاهلًا بحقيقة إن خيوطهُ كانت مـَرخيةً أكثر من غَيرهِ. •الرواية فائزة بمسابقة أسوة 2018، كـواحدة من ثلاث أفضل روايات عن الفئة التار...