-1-

65.2K 769 19
                                    

مدمن قلبك
-1-
توقف بسيارته السوداء ليصدر صوت احتكاك عجلات السيارة فوق الرمال و الصخور الصغيرة, ترجل من سيارته و هو يأخذ نفسا عميقا ملء صدره العريض, تقدم علي حافة جبل المقطم و تطلع بعينيه المخبأة بنظارة سوداء علي الناس و المباني, بدو جميعا من الاعلي كالنمل لا ير, جميعهم حشرات متراكضة حول لا شيء, الكل يبحث عن ذاته في الدنيا المرهقة و الجميع مدرك اصلا ان الموت سيدهسه يوما.."حمقي" قالها مع ابتسامة استهانة و هو يجلس فوق سيارته.
دائما ما يقول, عش حياتك بسعادة, الحياة لا تتعوض مرة اخري, و لكن لا من سامع, اخرج من جيبه علبة التبغ و اختص واحدة بدون النظر اليها, اشعلها و هو يستمتع بالانفاس الخارجة من فاه, الان يشتهي التأمل و الراحة الساحرة, فقد ذاق مرارة الحياة كثيرا واكتفي.
هذا المجلس الوحيد الذي يروق له, يلمس بقلبه الطمأنينة و السعادة و يشجعه علي الثقة بذاته بلا تردد او خوف, يعتبره مكان طاهر لا يحتاج الي تدنيس, لم يحاول ان يأتي بأحدي صديقاته الي هنا, مهما حدث, هذا المكان له رونقه الخاص و لن يسمح بتلويثه من اقدام عاهرات, و كما قال نابليون بونابرت "كلهن عاهرات, و لو لم تكن امي لكانت عاهرة", لكنه في تلك المرة يختلف مع نابليون بونابرت, نيرة لم تكن يوما بعاهرة, بل هي رمز من رموز الجمال الطاهر, طاهر كهذا المكان مثلا, فهي ارق من اوراق الورد و رائحتها اذكي من المسك, و جمال عينيها فاق عمق عيون النسر..
مسح فوق قلبه باشتهاء كلما تخيلها, الحبيب البعيد, ادمن كل تقسيمات وجهها, احب جسدها الصغير المشابهة لعصفور, رغم فقر انوثته الا انه اشتهي ملامسته, احب كل ما بها, و كلما حاول التقرب يخاف,نعم بالفعل, كل ما يحب يخاف تدنيسه بوجوده, لكن لم يعد يحتمل اليوم سينتهي كل شيء, استعمل كل الوسائل لنسيانها لكن النسيان سلاح ذو حدين, حينما يفكر بالنسيان يسني النسيان و يفكر بها, لاح في باله اول مرة رأها, حين ذهب لمنزل خاله علي, ليستلف منه بعض المال, وجدها تجلس بين التلاميذ و التلميذات في ركن بعيد يكاد لا ير, لكن اختلافها سر تميزها, حاول ان يسأل خاله -المعلم- عنه فألجمه بقوله الحاد "نيرة ملكش دعوة بيها ! دية بنت ممتازة في دراستها و مينفعش حاجة تشغلها و خصوصا انت, فاهمني طبعا", نيرة ! هذا كان اول مرة يقع اسمها علي اذنه, هي بالفعل نيرة, فضوء بشرتها و لمعان عينيها و صغر شفهاها كالنور الناعم في حياته القاتمة.
استمع لنصيحة خاله و لم يقترب منها, لكن استخدم بعض الوسائل للغش لمحاولة التعرف, فصادق فتاة تدعي لمياء, فتاة شقراء مبهرة الجمال, بدأت بالتحرش به عن طريق المغازلة و لكز ذراعه و الميل بثقل صدرها علي ظهره بالعمد, لم يتحمل المزيد من ايحاءاتها لاعجابها به, فلقنها درسا علي الفراش و لم تعارض ابدا!
و قتما تواعدا اصبحت صديقته و جاسوسته علي نيرة, اخبرته انها اكثر الفتيات غرورا و تكبرا و انها لا تسمح بأحد لتدخل في حياتها و التحدث معها, من يحادثها تغلق باب الحديث و ترحل من امامه و لا تبدي السلام علي احد و كأن الجميع رعاع ! تساءلت لمياء يوما عن سبب اهتمامه, وقتها لم يجب, و الي الان لا توجد اجابة مقنعة!
رن هاتفه, لينتفض من ذكرياته و يتناول الهاتف من جيبه, و يرد مسرعا علي شقيقته الصغري :
-ايوة يا بسمة
اجابته بصوت مفعم بالسعادة :
-اية يا عامر مش هتيجي توصلني البيت و لا اروح لوحدي
ليركب سيارته و يقول مؤكدا :
-حالا هبقي عندك يا حبيبتي..
اغلق هاتفه و ادار سيارته مستعدا لذهاب الي "بسمة".
***
ارتدت القرط الفضي بأذنها و انتقت فستان اسود قصير لتضعه فوق جسدها لتأكد بأنه سيليق بها اليوم, ابتسمت برضا عن جماله و قبل ارتداءه قرع الباب احدهم, لتعتدل بالوقوف و تبسط الفستان فوق الفراش.
-اتفضل
دلف شاب في العقد الثاني, ذو بشرة قمحية و انف حاد و شعر بني ليس بكثيف تماثلا في ملامح الوجه رغم اختلاف جنسهما, ابتسم و اظهر صف اسنانه البيضاء و هو يري شقيقته السعيدة, اقترب منها و قال :
-مبروك يا نيرة
اتسعت ابتسامتها في فرح و بادلته المباركة :
-الله يبارك فيك يا حسام..
فرد بمرح :
-كدة اخر العنقود خلص الثانوية العامة..حابة تسافري ؟
تنهدت بسرور و هي تراجع ان اليوم كان الاخير لها في الثانوية العامة, و يمكنها التحرر مرة اخري بلا قيود دراسية, وضعت يدها علي ذقنها و هي تفكر ثم استدركت حاسمة :
-لا مش حابة اسافر دلوقتي..كابوس الثانوية لسة مطاردني هرتاح كدة و هسافر علي الشهر الجاي
-اسبانيا!
قالها بمكر و قد ضيقت عيناه الصغيرتان التي تشابهت بهما, تفهمت سريعا سبب اختيار تلك البلد خصوصا فاجابت بجمود حاد :
-لا مش ناوية السنادي..
مسح علي شعرها برقة و قال بفخر :
-كدة افضل
اخذت ترتب ثيابها المتناثرة هنا و هناك, لتجده مازال واقفا بمكانه, شعرت انه يريد قول شيئا فتطلعت اليه بطرف عينيها بتفحص و قالت :
-خير يا حسام..اية سر الزيارة السعيدة دية..
جلس علي طرف الفراش و قبض علي يداه في تفكير محاولا تبسيط الموضوع, فقاطعت حبل افكاره و قالت بتوتر :
-اية مالك ؟
-الحقيقة يا نيرة عمو ناصر و عمو عبد الجواد جايين انهاردة بليل و ايهاب مش حابب انك..
بترت جملته في جدية حزينة :
-عارفة..مش حابب اني استقبلهم حاضر..
و تابعت في مرح :
-بس ينفع انزل اعمل شوبينج انهاردة, انا زهقانة اوي
فرد شقيقها في سعادة لتفهمها الامر و تعقلها :
-طبعا بس متتأخريش
***
وجدها تقف مع صديقتها يتناجيان في ضحكات متصلة, تأمل شقيقته الصغري, الفتاة ذات حجاب زهري اللون, برق وجهها الطفولي الناعم, من جسدها تعتقد انها شابة علي اعتاب العشرين و لكن حينما تدقق بأنظارك في تفاصيل وجهها الصغير تري انك اخطأت الظن و انها ما الا مراهقة في الخامسة عشر من عمرها, نضج جسدها مبكرا و اصبحت كالاميرات في اناقتهن و جمالهن, التفت ببصره ليجد شاب اسمر يراقب شقيقته في تفحص صريح و عينيه لا تتحرك عن جسدها و خصرها, خفق قلبه في عنف ليخرج من سيارته و يقترب من بسمة و صديقتها الحسناء..
مد يده و صافح الحسناء, لتصافحه في خجل ثم تلفت الي بسمة و قال :
-يلا نروح
-يلا
اشار بعينيه علي الشاب الاسمر ذو السلسة الفضية المتدلية من رقبته و تساءل باحتقار :
-بيضايقكوا الواد دة ؟ شكل فرفور كدة و مريب
لتسرع بسمة مجيبة و هي تلكزه بيدها في معدته :
-دة مصطفي..مصطفي اخو نور يا عامر
رمقته نور -صديقة بسمة- في استعلاء, ليتنحنح عامر و يحك شعره الاسود الكثيف في حرج و يقول :
-انا بقول يلا نروح يا بسمة.
تبادلا الضحكات كثيرا و لم يستطع اي منهما السيطرة علي قهقه الاخر, ظلت بسمة تركله في ركبته و تضربه في ذراعه و قد انفجرت اساريرها بالضحك :
-حرام عليك صحبتي هتقطع علاقتها بيا بعد العملة السودا دية..ينفع كدة تقول علي اخوها فرفور !
اخفي عامر عينيه التي دمعت من الضحك و قال :
-يلا هو فعلا شكله مسهوك..
رمقت شقيقها في غضب ممزوج مع خجل مما حدث منذ قليل, لكن فورا ما ابتسمت بعدما قرصها مداعبا في خدها, عامر لم يكن مجرد شقيقا, بل كان ابا و صديقها و حبيبا, فعلاقتهما كانت اقوي بكثير من علاقات الاخوة, عامر يكبرها بعشرة اعوام و مع ذلك لم تشعر يوما بكونها اقل منه سنا, مات والدهما بعد ولادتها بأربع سنوات, فأقتبس عامر دور الاب الشجاع لها, لم يود ان تصبح كالفتيات الذي يعرفهن بل اراد ان تكون نجما لامعا, فصداقها بشدة, و حرص علي صلاح اتصالهما, اصر علي حجابها وقتما نضج جسدها و لم يقبل يوما ان تحادث شابا مهما كان الموضوع, و قد حصد تربيته الصغيرة بها, فكانت مثال للاحترام في شارعها و مدرستها و سيرتها بين الناس..و هذا ما اراد!
وصلا الي بيتهما, فاصطف سيارته امام العمارة, نظرت الي بقالة مغلقة و تساءلت بعفوية :
-عامر لية مش بتشتغل في العطارة الي فتحهالك خالو ؟
ليتردد في القول :
-لا بشتغل..بشتغل طبعا
لتغمز له بطرف عينيها :
-والله! علي بسمة برضه ! خالو من ساعة ما فتحلك العطارة دية و انت مش بتحاول تشتغل فيها
ضرب علي مؤخرة رأسها و قال :
-تعالي علميني شغلي بقي..يلا امشي من هنا
-اية دة انت مش طالع معايا البيت ؟
حرك رأسه نافيا و قال مبتسما بخبث :
-لا ورايا مشوار كنت مستنيه من زمان
ضيقت عينيها متسائلة بخبث :
-مشوار اية الي مستنية من زمان ؟
-انهاردة ثانوية عامة خلصت الامتحانات صح
لتجيب ببراءة :
-اه بتسأل ليه..
اعتدل جالسا و حرك مقود السيارة قائلا بتركيز :
-موضوع طويل هحكيلك عنه بعدين..
و سارع بالهروب بالسيارة بعيدا, لتزفر عجلات السيارة الرمال في وجهها لتكح مرارا و تسعل بشدة, ثم تصعد الي والدتها و كأن شيئا لم يكن..
***
توجه الي منزل حبيبته السرية و انتظر في سيارته, راقب المنزل في صمت منتظرا منها الخروج, حك لحيته الكثيفة في ملل, لقد وعد خاله انه لن يزعجها طالما هي تدرس, لكن من بعد انهاءها لدراسة فهي ملك له!
و الان اين القطة الغامضة ؟
و اخيرا ها هي, تعالت ملامح وجهه السعادة الخبيثة و هو يراها تخرج من المنزل و تعرج الي الشارع الايسر, فخرج من سيارته علي عجلة و تابع لثم قدميها في الرمال الناعم, ليشدد الاقتراب بشوق و قلبه يكاد ينخلع من ضلوعه بكثرة نبضات قلبه, كيف لم تسمع صرخات قلبه بأسمها, او كيف لم تلحظ انفاسه المضطربة من استنشاقه لرائحة عطرها الجرئ.
"نيرة و اخيرا اصبحت ملكا لي.."
قالها وقتما عرجت الي شارع مختصر, يبني به عمارة منذ سنوات و لا من احد يعبره لضيقه و عدم صخبه من الناس فخافه الجميع, و لكن ذات القلب القوي عبرته و هي لا تعرف ما نتيجة عبوره مع عامر وحدهما !
*
*
*
*
يتبع

مدمن قلبكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن