-35-

7.1K 152 6
                                    

-35-
توقفت سيارة الأجرة امام منزل بسمة, فخرجت صباح بردائها الرث, الذي طغي عليه لون ترابي من شدة قبحه, ساعدت بسمة المستلقية في الأريكة الخلفية علي القيام, و أوقفتها و هي تسندها عليها, بدأت بسمة في الصحو من غيبوبة النوم بارتعاش جفنيها, تساءلت صباح في ضجر :
-بسمة..بسمة فوقي انتي ساكنة في الدور الكام..
همهمت بسمة بصوت خافت بالأجابة, لتزفر صباح بضيق و تبدأ بجر بسمة التي عادت لنوم مرة أخري, توقفت عند الطابق الخاص بزميلتها, رنت الجرس بطريقة تلمح عن غضبها, و حينما ازدادت احتقان من عدم رد آل البيت, تركت بسمة تهوي علي الأرض و نزلت الدرج مسرعة, حتي سمعت صرخة سيدة "يالهوي بنتي, ألحقني يا عامر", تنهدت بخفة و كأن ضميرها أرتاح بعلم أهلها بوصول بسمة..
هب عامر من مكانه المجوار لنيرة, و سارع الركض نحو صراخ والدته, فوجئ ببسمة ملقاة علي الارض و علي ملامحها امارات الجهد, جثي علي ركبتيه و حملها علي ذراعيه و اسمها لا يمحو من شفاهه, شهقت نيرة في فزع حينما رأت بسمة بتلك الحالة و وضعت يديها علي ثغرها كاتمة فزعها, يا تري ماذا فعلت تلك المرة يا بسمة ! بأي مصيبة جئت الليلة!, بسطها عامر علي الفراش و ظل يمسح بباطن كفه المبلل علي وجهه حتي زمجرت في ضيق,  و دفعت بيده التي منعت عنها التنفس, وضعت السيدة يدها فوق صدرها باطمئنان و اخذت تتساءل و عينيها حاملة الدموع :
-بسمة..بسمة بنتي انتِ بخير! اجيب لك الدكتور
فقال عامر بلهجة أمرية :
-هاتي ماية يا ماما تشرب و تفوق الأول..
هرولت السيدة بساقيين خفيفتين لتلبي النداء أبنها المدلل, غمغمت بسمة في صوت متحشرج بعدما سعلت بقوة :
-نيرة..
توجهت أنظار عامر صوب نيرة, التي شحب وجهها فجأة من نظرته المتفحصة, تجاهلتها نوعا ما و جلست جوار بسمة علي الفراش التي فور قدومها أرتمت بسمة بتثاقل رأسها علي حجريها و صرخت باكية, أنفزع عامر من صرخاتها التي أمتزحت بألم قوي, أخذت نيرة تمسح بيدها علي ظهر بسمة خائفة, فقال عامر بقلق :
-بسمة..في اية؟
فقالت نيرة مسرعة :
-عامر سيبنا لوحدينا ثانية واحدة..
فأعترض بخوف :
-لما اعرف الأول مالها..
لتقول نيرة بعصبية :
-عامر سبيني أتكلم معاها و هقولك!
خرج عامر ناكسا رأسه بالأرض, و الرعب يملأ ثنايا قلبه و يضخ في خلاياه, أما في غرفة بسمة, فأخذت تتأوة بألم حتي قالت نيرة خائفة :
-مالك يا بسمة حصل اية لكل دة..
لتقول بسمة بانفاس متهدجة :
-انا اجهضت البيبي..
انتصبت نيرة فزعة و سألتها في دهشة :
-يالهوي ! ازاي تعملي كدة و عملتي العملية دية فين؟
-مش قادرة اتكلم حاسة اني هموت جسمي وجعني..ارجوكِ ما تقولي لحد متقوليش لعامر..
-لازم يعرفوا الي انتِ عملتيه دة خطر خصوصا انك في السن دة..لازم نلحقك بسرعة
-لا لا..الست قالتلي ان الآلم هيخف أول ما ارتاح..انا هحاول انام..قوليلهم برة اني نايمة
ترددت نيرة, لتبكي بسمة متضرعة بقولها :
-ارجوك يا نيرة
خرجت نيرة الي عامر و نعمة الذين كانوا شغوفين لمعرفة الحديث الذي دار بينهما, خافت نيرة و خجلت من تلك النظرات المتسائلة التي تخرج من أعينهما و عن سر تمسك بسمة بنيرة, و عدم الرضا بالتحدث الي أحد سواها, فرضيت فضولهما بابتسامة صغيرة و بلهجة مطمئنة بعض الشيء :
-كانت مجرد دوخة هي شكلها تعبانة و اظن تعبانة نفسيا من المدرسة الي راحتها مؤخرا لأنها كانت بتشتكي منها و دة مزعلها و تعبها..
فيما قالت نعمة مرتبكة :
-طمنيتنا يا بنتي اللهي يطمن قلبك..متشكرة يا حلوة
فابتسمت لها نيرة, فقال عامر بجمود :
-تعالي..
و جذبها من ذراعها في شيء من القوة و ابعدها عن مسمع والدته, و حينما شعر انه في مأمن من نظرات والدته, أمسك بها قائلا بلهجة عصبية :
-كانت بتكلمك في اية و اشمعني انتِ!
فاجابته نيرة بايجاز مطصعنة الحياء :
-كانت حابة تكلمني في موضوع بنات بس كدة..
ليقول عامر محتدا :
-والله ! و مقالتش لأمها ليه اشمعني أنتِ و ردي من غير لف و دوران؟
-اية يا عامر الأسلوب دة..
ثم وقفت بصدده و شابكت ذراعيها فوق صدرها و هي تقول بلهجة تلمح بتهديد وعيد :
-و يكون في علمك يا عامر, لو أصريت تنفذ الي في دماغك و تكشف علي بكارة بسمة, اعرف ساعتها
و تابعت في حدة قائلة :
-اعرف ساعتها ان علاقتنا انتهت..
ليقول غاضبا :
-اية العبط دة و انتِ مالك انتِ يا ****..
لتنفعل بصياح جازع :
-انت يا قليل الأدب انت ازاي تشمني بالطريقة دية انت نسيت نفسك يا عامر..
ثم أمسكت حقيبتها في عنف و نظرت في محجرتيه قائلة باحتقار :
-صدقني, الي انت عاوز تعمله دة هيدمر علاقتك بأختك و علاقتك بيا..انت عشان شايف علاقتنا القذرة شايف الناس كلها علاقتها زينا..معدتش قادر تفرق بين الحلو و الوحش عشان انت دايما بتعمل الوحش..لا يا عامر فوق لنفسك شوية..
ليفك عن لجام اعصابه و يصرخ بها :
-برة يا حيوانة..برة
                                      ***
مر اسبوعان, و عامر و نيرة لا يتحدثان بعدما طردها بذلك الشكل المهين, في حين أخذت بسمة أجازة من مدرستها فقد اصابتها الحمي القاسية, فاضطر عامر لأعفاء عنها, شعر بقسوته فيما فعله ازاء نيرة, حاول الاتصال بها مرارا لكن لم تجيب, في تلك الفترة استعادت نيرة شتات نفسها, اصبحت تحاول ترتيب افكارها و ترك مجال لهواء الفطرة الطاهرة بتوغل عقلها لعله يصلح ما تلف منها و يعوض ما خسرته, رغم ان عامر كان عمود يومها الأساسي, الا ان وجوده استطاع ان يفرج نظرها عن الكثير, لأول مرة تشعر انه لا يختلف سوءا عن الحقير ايهاب, فكلاهما يعبدان شهواتهما تحت أي شعار : أخوة, محبة, علاقة تحت سقف واحد, علاقة في الظلام الدامس, عهر ليلي متواصل. أقامت لياليها علي صلاة من باب ترويج روحها لخالق فما تمالكت نفسها حد البكاء, بكيت علي كل شيء و ناجت ربها بحزنها, ربها الذي عرفته و شهدت به منذ قابلت بسمة الصغيرة, تلك الفتاة ذات الطابع الملائكي, كيف لهذا العامر أن يكون بتلك القسوة, لا تكن تعلم بعد بالاعتداء الذي وقع علي بسمة, كانت تظن انها وقعت تحت تأثير حب مهاب كما حدث لها, وقعت في حفرة الجحيم  الذي ظنتها جنة النعيم و الخلد.
                             ***
عادت لمدرسة و السير علي الأقدام عندما شارفت علي الشفاء, لم يتقبل عامر جلوسها المزيد في المنزل, لم تتفهم أي جنس هو ينتمي, انسان بينهومي, يصرخ و يصيح و يسب و يلعن, ثم يرتدي ثوب الأخلاق! نعم انه عامر المنافق درجة أولي..
استغل خروجها ذلك الصباح ليجري اجراءا حادا حول غرفتها, يفتش هنا و هناك, يبحث عن هاتفها و أجهزتها الألكترونية ليبحث عن أي دافع يؤكد له شكوكه الشيطانية, فتح حاسوبها الصغير و بحث في موقعها الخاص "الفيس بوك", حتي وجد رسالة مصطفي التي جعلت كل شيء ينتصب امام عينه, و لولا رحمة الله انه لم يقدر ان يقرأ سوي السطر الأول الذي كتب فيه "وحشتيني و وحشتني المتعة الي حسيتها معاك"...
                           ***
خرجت من المدرسة سيرا علي الأقدام, ظلت تسير مترنحة في الشوارع متضاربة مع شمس الصيف و جو الظهر القائظ, سارت علي أحد رصيف الجانب السريع حاملة حقيبة ظهرها علي احدي كتفيها, تنظر الي الأرض ببؤس و حزن من خيباتها, فمنذ تلك العملية التي أجرتها و جسدها اصبح اشد هزلا و ضعفا, لم تدري بتلك السيارة التي توقفت فجأة بمجرد ان رأتها تسير وحدها, غمغم السائق بدهشة تشوبها اللذة :
-بسمة!
قالها و ركن سيارته علي جانب الشارع, ليطل جسد مصطفي من السيارة, و يشمر عن اكمامه, استعدادا لتناول الوجبة الممتعة, عرجت الي مفرق مفتقر الناس, لم يكن سوي عجوز يمشي متعكزا علي عصا, و قد ولج من الشارع نهائيا بخطوات بطيئة, لم تكن تشعر بأي شيء حولها, حتي اقبضت يد علي رسغها  و ألصقت بها الي العمود, ناظرة في عينيها نظرة شيطانية قائلة بصوت هادئ خبيث :
-بونجور سنيوريتا..
فرغ فاهه و انتفخت عيناها من الصدمة, شل كامل جسدها  عن الحراك, فكان تلك خطوة جيدة ليتسطيع قيادتها بعيدا عن الأضواء, كأن عقلها غائب عن الوعي و جسدها فقط هو المتحرك, وقف في مكان سلل القمامة الضخمة تحيطه من كل جانب و ليس هناك من جنس بشري, دفعها بعنف علي الأرض فأرتميت بخفة و هي تنظر له بخوف و هو يقترب منها كحية, أمسك وجهه بين كفيه و قال :
-مش قولتلك أستني لقاءنا التاني يا روحي..دلوقتي احنا بقينا لوحدنا و محدش معانا..
حاولت الزحف لوراء لكنها قبض علي ذراعيها في عنف و صوب نظره لعينيها الجميلتين قائلا بحرارة :
-المرة الي فاتت شاركني صحابي بس دلوقتي لا..انتِ بتاعتي لوحدي
صرخت في قوة, ليضع احدي كفيه فوق فمها الصارخ, و يقول غاضبا :
-اسكتي..متعليش صوتك
كانت اظافره القذرة تجرح بشرة وجهها, ظلت تنفر بوجهها يمينا و يسارا, فأبعد يده بخفة و عوضها بشفاتيه البشعتين, شرعت في البكاء و هي تحس بارتواءه من عسل شفاهها, عانقها في عنف حتي ألتصقت بجسده, دس وجهه فوق رقبتها ممتلكا جسدها الناعم, بكيت بصمت و هي تحاول دفعه و التملص منه, لم تقدر علي الصراخ باستغاثة, استلقيت فوق الرمال بين الرائحة القمامة, هذا الحيوان الذي بسببه تسببت في كل تلك المصيبات المتلاحقة لا يوجب عليه سوي الموت, حاولت اللتقاط اي حجارة لكن لم تطيل يدها, لم يكن سوي حقيبة ظهرها المدرسية حاولت امساكها, فكانت أثقل من ضعف يدها, فتذكرت فجأة ما تخفيه في جيب حقيبتها, المطوة الخاصة بزميلتها!!, سارعت بدس يدها في جيب حقيبتها و اللتقاطها بين تأوهتها من قبلاته المتلازمة فوق انحاء جسدها, بمجرد امساكها و القبض عليها بقبضتها علي لم تقاوم شهوتها في طعنها بظهره..
*
*
*
*
*
يتبع
هخلص نشر الرواية بكرة ❤️

مدمن قلبكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن