-١٣-

9.1K 220 3
                                    

-13-
قفز كمن لدغته حية, بعدما قرأ رسالتها ضئيلة الكلمات, لم يسعفه الوقت لتفكير بل سارع بالاتصال بها و قد امتلأ صدره بشحنات الغضب المختلط مع الخوف المغمور بالقلق, ردت علي اتصاله بصوت متلهف :
-ايوة يا عامر..ازيــ
لم تكتمل فقاطعها صياحة :
-ازيك اية و زفت اية؟ انتِ فين؟؟ يعني اية مسافرة؟ و هترجعي امتي ان شاء الله
اختنقت بصوته العال القلوق, فقالت بحزم :
-باين مش راجعة !
-انتي هتستهبلي هو اية الي مسافرة و مش راجعة, انت في انهي داهية دلوقت..
-في المطار بعد كام ساعة الطيارة هتتطلع..
-انا جيلك
اعترضت ناهية :
-لا مــ
-انا جيلك
-عامر بطل جنان و متجيش مش هتحلق مشوار المطار بعيد
-انا جي..
قالها و اغلق الاتصال, توجم وجهها بصدمة من تسرعه و عدم مبالته, رغم ذلك أحست بسعادة الانثي وقتما تشعر انها محتاجة و بشدة للرجل, و انه الوحيد بين الجميع من يتمسك بحبالها بحزم و لا يود أفلاته ابدا, بل تكاد تجزم ان عامر الوحيد الذي يحتاجها في حياة لعنها الكل بلا استثناء احد!!
                         ***
وجدها تجلس علي مقعد امام بوابات المطار, تضع علي ذراعيها وشاح أسود, و بين يديها المرتجفتان مشروب ساخن, كانت تستند برأسها الي الخلف مغلقة الجفنين, جلس جوارها و هو يتساءل منفعلا :
-مسافرة لية؟
اعتدلت بالجلوس و فتحت عينيها الصغيرتان علي اتساعهما من فرط الخوف, فلم يبدأ بالسلام او فعل أي حركة صاخبة بل بدأ بالزعيق !, تلفتت اليه و عدلت شعرها المتناثر من تأثير قوة الهواء قائلة بصوت خفيض :
-مسافرة عشان اخواتي طردوني من البيت, هروح لماما انا ماليش حد غيرها دلوقتي
عقد قرون حاجبيه و قال مستفسرا :
-اخواتك طردوكي؟
رفعت منكبيها متظاهرة عدم الاكتراث رغم خفقان قلبها القوي و شعورها بالخجل من تجرد عائلتها منها, و تبري اخواتها, فتساءل بأسي :
-هما طردوكي عشاني ؟
-لا, هما نفسهم في كدة من زمان و اخيرا بعد سنين طويلة لاقوا الدليل اني انا هوسخ سمعتهم..
ظل صامتا مستغربا من كلامها, فبادرته الصمت, ليقول بعد سكوت :
-دول اخواتك شقيق و لا اخواتك من اب واحد..
أعادت خصلة من شعرها خلف اذنها و ابتلعت لعابها قائلة بصوت خائف :
-مستعد تسمع حكايتي..
هز رأسه موافقا, فأخذت نفسا طويلا قبل ان تزفره بحنق :
-بابا فاروق سافر بعثة لأسبانيا, و حب ماما "كلوديا" و كأي قصة حب انتهت بالزواج, خلف منها ايهاب, نزل مصر و أصر تنزل معاه بس هي رفضت, كان من صفات ماما الانانية و الطباع القاسي عمرها ما كانت حنينة, الا علي بابا فاروق لأنها كانت بتحبه أوي و بتكسر كبريائها قدامه..بابا لما نزل مصر أتجوز واحدة مصرية و جاب حسام, أم حسام ماتت و هي بتولد حسام..فبابا سافر لكلوديا بحسام, لما ماما عرفت الحكاية فضلت تصرخ و تعيط ازاي بابا يتجوز عليها واحدة تانية و كمان جاب طفل رضيع عشان تربيه, بابا ساعتها عيط من قلة الحيلة و أسفه علي الي عمله, كل الي اعرفه ان ماما حنت لحسام و ربته كويس اوي بس كانت قاسية عليه عكس ايهاب, ايهاب طلع شخصية قوية و مستبد و اناني زيها, في حين حسام بقي شخصيته ضعيفة و هزيلة و طيب بهبل..بعد حكاية حسام ماما تحولت تجاه بابا و بقيت تذله و تعامله وحش و خصوصا بابا كان علي وشك الافلاس و هي كانت من طبقة استراقطية غنية, ماما حملت فيا و كنت انا قدوم الخير ليهم, لأني اول ما تولدت بابا استعاد منصبه, علاقة بابا بماما بقيت أفضل, البيت بقي احسن و مليان بضحكي, كان بابا فاروق بيحبني أوي خصوصا انه كان نفسه يخلف بنت, بس بعد ما تميت ست سنين,فجأة بابا و ماما اطلقوا, و بابا أخد ايهاب و حسام مصر و سابني مع ماما..
اغرورقت عينيها بالدموع و سكتت تأخذ بعض الهواء و تضع لصدرها مجال لتنفس كي تبعد تلك الذكري الاليمة التي اخنقتها, لكن عامر لم يترك لها مفر فتساءل :
-و اشمعني سابك انتِ و هو كان بيحبك؟
اجابت مسرعة :
-معرفش
فتابع :
-طب هما اطلقوا لية؟
كررت جملتها باقتضاب :
-معرفش..
لم يقتنع بعدم ادراكها لسبب, فقال لعله يأخذ تفاصيل من حكايتها المثيرة :
-كملي..
-بعد الطلاق, ماما علطول اتجوزت واحد اسمه "فيودور" من أصل روسي بس كان غني أوي و اكثر من بابا, بس مكنش بيحبني خالص و كان بيكره الاطفال خصوصا ان من بعد سفر بابا و اخواتي كنت بعيط و بزن و احاول اتصل ببابا, و افتكر يوم سفر بابا بأخواتي نطيت من الشباك عشان ألحقهم و اتكسرت, بابا جري و وداني المستشفي..رجع مصر بعد ما اطمن عليا و سبني مع ماما..
مسحت عينيها و قالت بوجوم :
-ماما اخر ما زهقت مني, اتصلت ببابا فاروق و قالتله انها هتسبني في ملجأ و انها مش هتقدر علي تربيتي..فزعق فيها و بعدين قالها انا ماليش دعوة بيها, و قفل في وشها التليفون, ماما نفذت الي في بالها و قعدت 3 شهور في الملجأ ببكي و خايفة  من الكل و مبكلمش مع حد..
ثم ابتهجت اساريرها في قولها المسرور :
-بس بابا فاروق جيه و اخدني من الملجأ..و رجعنا مصر مع اخواتي الي اصابهم الفتور مني و الكل كان بيكرهني في الاول خصوصا ايهاب..بس حسام سريعا و رجع طيب معايا و بيحبني و بيلعب معايا, وبس بقي..بابا فاروق مات و حاليا هسافر لماما الي بقالي 5 سنين مشوفتهاش و معرفش عنها حاجة..
-طب و تسافري لية انا موجود..
و سارع بالقول :
-انا مستعد اكتب كتابي عليكي دلوقتي و تعيشي معانا في البيت..لحد ما يتعدل حالي و نأجر شقة تانية واــ
قاطعته قائلة :
-متتغطش عليا يا عامر ارجوك
و قالت بصوت ناعم يوشك علي البكاء :
-هتوحشني يا عامر
جذب رأسها الي صدره, فبكيت بقوة, فربت علي ظهرها و قال بصوت حزين :
-انا لسة مش مستوعب انك هتسافري و مش هشوفك تاني..انا مش هسمحلك تسافري..
و طبع قبلة فوق جبينها وشدد احتضانه بها, فتركته يعانقها ربما يكون العناق الأخير بينهما, سمعت ارتجاج صدره و سرعة نبضات قلبه, فشعرت بخوفه الجادي من تركها, جذب لجام خصرها اليها و بسط قبلة ثانية فوق شعرها مستنشقا عبقها العطر, لم تحس بشهوته في العناق بل كان عناق حنونا مبكيا في صمت, نظرت الي معصم يدها لتجد الساعة السادسة صباحا فانسحبت من بين ذراعيه و مسحت دمعيها بظهر كفها, لتهم واقفة قائلة بتأثر :
-سلام عامر
ضغط علي معصم يدها, لكنها أصرت علي سحبه و تركه وحيدا, جرت حقائبها خلفها و لم تحاول الاستدارة اليه حتي لا تضعف ثانيا و تبكي..
لاحقها بنظراته و ذهب الي سيارته, يجر خلفه يأسه و حزنه, لو كان بيده شيئا لأنتشلها من هذا الجحيم, لكن هو ضعيف و ها هو يعترف بضعفه, مسح وجهه بكفيه و عاد لمنزله حاملا حزنه علي ظهره, رن الجرس فسارعت بسمة باستقباله باسمة الوجة, لم يبادلها البسمة بل تركهها و دلف الي غرفته صامتا بأسي, ركضت خلفه و هي تلح بقولها :
-هات ال10 جنية..انت هتخمني!
ارتمي علي فراشه و قال بلا اكتراث :
-خودي  الي عوزاة من الدرج..
كم تعشق تلك الجملة, فالمؤكد ان بعدها تهجم علي الدرج لتخرجه ضحية مسكينة لا يتبقي به سوي قروش لا تحسب, دست الاموال في جيبها ثم توجهت اليه ممسكة بفرشاة الشعر و توكة صغيرة, جلست امامه مولية ظهرها و قالت بلهجة أمرية :
-يلا اعملي ضفيرة..
-مش وقته يا بسمة انا مضايق دلوقتي..
لتقول باللحاح :
-ونبي يا عامر ماما مش راضية برضه..اعملي انت..
اتكأ علي مرفقيه و اعتدل جالسا متأففا بضيق, قسم شعرها الي ثلاث خصل و اخذ يضفر, و هو يقول في شيء من الخبث :
-اية اخبار نور صحبتك؟؟
فرد مستغربة :
-هعرف عنها اية..مانا معدتش بكلمها من ساعة ما قولتلي..
-شاطرة
قالها بصوت ساكن, ثم تساءل ماكرا :
-و اخبار مهاب..
شد شعرها بقوة و هو يتفوة أسمه فتأوهت بتألم و ظنت انه دون عمد, فقالت بحنق :
-هو كويس..بس انا مش كويسة خف ايدك علي شعري..
اجابها بحدة :
-لما تحترمي نفسك الاول..بطلي تتلزقي فيه ملكيش دعوة بيه..
-دة ابن خالو يا عامر!
-و لو..اسمعي الي بقولك عليه..ملكيش دعوة بيه خالص و مترديش عليه و لو عرفت يا بسمة انك بتكلميه من ورايا لهعرفك علي الوش التاني..
تأججت من الغضب لكن كبتته بقولها في غيظ :
-حاضر يا عامر..حاضر
                           ***
وصلت الي منزلها القديم, ترددت ان يكون هو أم تغير منذ الخمس السنوات الماضية, ابتلعت لعابها و جمعت قواها و هي تضغط علي جرس الباب, كان الوقت مبكرا فترددت ان تكون والدتها مستيقظة أم غارقة في نومها العميق, لا تعرف كيف تنام بعد كل ما فعلته بطفلتها الوحيدة, جعلتها عالة علي الجميع و تركتها بكل بساطة غير دارية بما سيحل بها, اعادت رنين الجرس, و قد اشتد بها التعب, تكره اسبانيا و كل ما بها و تكره الروسيين, تكره فيودور الذي أجبر والدتها علي تركها في الملجأ, رغم كل  سوء معتقدات و عادات مصر الا انها تروق لها عن اسبانيا, تشعر بالغربة في اسبانيا, التي هي بلدها في الاصل, اسبانيا تحمل كل ذكرياتها اللعينة..
فتحت البوابة سيدة في الخمسين من عمرها, شعرها اصفر اللون, وجهه شاحب طويل, عينيها ذات رموش طويلة كثيفة تبرز عينيها الواسعة ذات لون عسلي هادئ, كانت لها نفس عينين نيرة الصغيرة, جسدها رشيق ممشوق مثير كعادته, كانت ترتدي المئزر المنزلي و تربطه من الخصر فيظهر خصرها النحيل, نظرت السيدة بأستغراب الي نيرة و ضيقت حدقتيها قائلة باللغة الاسبانية :
-من أنتِ؟
سكتت نيرة باسي الي تلك الدرجة نسيتها والدتها و تناست ان لها فتاة علي مقتبل العشرين, ظلت السيدة تردد نظارتها بها في تفحص ثم قالت بضيق :
-أأنتِ صماء! من أنتِ يا فتاة!
لم تعد تتحمل فصاحت بها بأنفعال :
-نيرة..انا نيرة فيودور يا كلوديا تتذكريني أم نسيت يا أمي ؟
شهق كلوديا و وضعت يدها علي شفاهها المرتجفة و هي تنطق أسم صغيرتها, و بينما كلوديا في أدغال دهشتها, كانت نيرة قد ارتمت علي الارض بضعف..
*
*
*
يتبع

مدمن قلبكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن