-30-

10.3K 166 10
                                    

-30-
في منزل آل عمران, تعالي صياح عامر بالزعيق في بسمة بينما نعمة تقف امامه تحاول ترويض اندفاعه القوي نحو بسمة التي ادت اداءا باردا اكثر من اللازم, فكانت تقف تشابك ذراعيها ترمقه ساخرة و تستفزه بكلامها الممتلئ بالغنج و الدلال :
-فيها اية اما ارقص..الرقص فن و انت بتحترم الفن
فقال متعصبا :
-انتِ عاوزة تجنيني انت بتنقاشيني في اية..الكل كان بيبصلك و انت بترقصي كنت بتعرضي جسمك ليهم علي جاهز..بت احترمي انا عامر مش طرطور عشان اكتشف ان اختي بترقص قدام رجالة..
فاجابته ناهية :
-لا..احنا كنا في فرح و محدش بصلي..
ليصرخ بجنون :
-انا بصيت..
اخذت تضحك بقوة, حتي أوشكت عينيها ان تدمعان, لتصيح بها والدتها :
-يا بنتي الله يهدك بطلي تجننيه اتأسفي و خلص الموضوع و قولي مش هعمل كدة تاني..
وجدت اللذة في استفزاز عامر و رأي وجهه المحتقن من هدوءها فمضيت تقول في غنج :
-خلاص اتفقنا اسفة بس مش هقدر ادفن موهبتي و مرقصش..
توقفت نعمة منتصفهما و نظرت لعامر قائلة :
-لا شوف شغلك دية بت مستفزة..
قالتها و غادرت لغرفتها, نظر عامر لضحكها المتواصل ليتنهد يأسا و يمسح فوق وجهه ليهدأ اعصابه المضطربة و يقول في لهجة لين :
-كل دة عشان سيت ليكِ مساحة حرية تقومي تعملي كدة!
و تابع في لهجة اكثر شدة :
-اضربك تاني زي العيال..
نظرت له في حدة و قالت بجمود :
-تضربني ! طب جرب تمد ايدك عليّ عشان اقطعهالك..
صدم من لهجتها التي لم يسمع منها من قبل و التهديد القاس الذي في نبرتها, صمت ناظرا لها و هو يتوعد لها في باله بعقاب يهد حيل لسانها الذي اصبح كالسيف الباتر, من أين اوتيت بتلك القوة في التطلع اليه؟ و التوقح في الكلام معه, لم تكن كتلك من قبل, اشاحت بوجهها في نفور من النظر اليه, ليقول في تهديد :
-ماشي يا بسمة انا مش همد ايدي عليكِ مهما حصل بس من بكرة علي المدرسة و هيبقي العقاب اسوأ دة زائد انك ممنوعة من اي وسائل ترفيه فاهمة! و مفيش افراح تروحيها تاني..
دخلت غرفتها و كأن الكلام لا يعنيها, فبالفعل لا تعتني بكلام ليس له فائدة, وسائل ترفيهة ! عن اي تسأل لم تعد لحياة طعم بعد الحادثة الأليمة, وجدت متعتها في الرقص و خروج كبوت مشاعرها في الرقص الماهر و كأنها راقصة متقنة, لم تنتبه لمن تعلقت انظاره بها, فقد كانت عيناها مختفية من الدموع التي تجمعت فوق عينيها, عامر ! لم يصطنع الاحترام امامها و قد رأته يوما يقبل نيرة بطريقة حميمية, لم ينزع قناعه بعد امام أحد, ظنا ان احدا لن يتعرف عليه, بعد الحادث الأليم بادت تنظر لناس بعين مختلفة الكل احمق و سيء, الكل يبحث عن قضاء شهواته حتي لو كانت في طفلة لا تتعدي الخامسة عشر من عمرها, الزمن توقف فجأة مع يوم الحادث, يوم عيد مولدها في الحياة, الحياة لا ترحب بها و الموت يأبي بها ايضا, تنهدت بثقل و خلعت قميصها, فوجدت علامات التشوة مازالت ترك اثرا علي جسدها, ما ان رفعت ذراعها حتي رأت الخط الطولي الطويل من أسفل الابط حتي الخصر, يؤلمها الجرح كلما حاولت لمسه, لم تطيق النظر لجسدها كثيرا و سارعت بارتداء ثيابها المنزلية, عاودتها نوبة بكاء عنيفة, و بلا وعي و تفكير امسكت بالموس الحاد لتمرره بقوة علي معصم يدها, انتفض جسدها بألم و اخذت تنظر الي سيل الدماء بصمت, انفجر دماء علي ثوبها, بدأت عينيها بالنعاس و الشعور بالضغط و الهزيان, و قبل فقدان الوعي رمي علي مسامعها صرخات والدتها "بنتي...بنتي"...
                                ***
لحسن الحظ كان عامر في الخارج, بينما استطاعت نعمة بخفة يد اخفاء اثار الدماء و معالجة فتاتها الصغري كما استعانت بجارتهن الصيدلية لتساعد بسمة علي العودة لحياة, و تعويض خسارة الدماء, منذ فتحت عينيها و هي تتصرخ بكلمات غير مفهومة كـ"ابعدوا عني, سيبوني, عامر", نثر التوتر بين خلايا نعمة و انقبض قلبها, رددت آيات القرآن و يدها موضوعة فوق رأس بسمة, استجابت لها بسمة بعض الشيء و رفعت لها عينيها بهدوء فوجدتها تبكي بشراهة, لتعاود فقدان الوعي علي حجر والدتها..
في الصباح التالي, استيقظ عامر في السابعة صباحا علي صوت المنبه المزعج, منذ أمس و اجواء المنزل ليس علي ما يرام, فقد أمست نعمة ليلها جوار بسمة, و قد سمعها تبكي ليلا, بحث عن نعمة لتصنع له الافطار فلم يجدها, عرف انها ذهبت لحضانة لترعي الأطفال الصغار, تذكر فجأة وعده الوعيد لبسمة بالزامها بالذهاب الي المدرسة, فدخل غرفتها و هزها بعنف "بسمة قومي مدرستك", دست رأسها داخل الوسادة و عاودت النوم ليقول غاضبا :
-يا بنت اصحي هتتأخري..
فغمغمت بكلام مسموع نسبيا :
-تعبانة مش قادرة اروح..
فانتشب يدها بعنف و جذبها قائلا :
-يلا يا بسمة بلاش كسل..
قاطعته بصرخ قوية متألمة من قبضته فوق معصمها, حرر يدها و تركها, لتحسس معصم في ألم باكي, لاحظ فجأة قطرات الدماء علي يده من امساكه لها, ليتساءل فزعا :
-اية الدم دة..
قالت بانفاس متهدجة و صوت متحشرج :
-امبارح اتعورت بالسكينة..
و ازدرد ريقها و هي تتابع بألم :
-و الجرح اتفتح تاني.
سكت و اكتفي بتفحص يدها من بعيد ثم رفعت رأسها اليه بالشعر الأشعث :
-مش عاوزة اروح المدرسة انا تعبانة..
ليقول بجمود :
-لا لازم تروحي.
قالها و خرج, فعبس وجهها بحزن, اغتسلت و ارتدت الزي المدرسي, أوصلها عامر لمدرسة الملعونة و عاد لمنزل, تناول افطاره و هو يتابع التلفاز, تصاعد رنين المنزل ليقوم من مكانه و يفتح الباب, فاندفعت نيرة دافعة عامر و هي تقول :
-ايهاب حصله اية!
ليقول مصطنعا التعجب :
-ماله ايهاب؟ عملك حاجة تاني و لا اية!
-امبارح عليّ اتصل بيّ بعد ما لاقوا ايهاب في مستشفي, واحد لحقوا قبل ما يموت, لكن للأسف نص وشه اتحرق و عنده كسر في الأنف
قالتها في حدة, ليقول :
-عذاب ربنا نزل عليه.
لتقول في خبث :
-والله فاكرني مش عارفة انه انت..
ارتبك لكن حزمت ملامحه و هو يقول :
-لا انا مالي..
فارتميت فوق صدره و عانقته قائلة في حب :
-انا عارفة انه انت..و مستحيل ابلغ عنك يستاهل, يستاهل جدا الي حصل..انا كنت عارفة و متأكدة ان انت الوحيد الي هتقدر تحميني منه..
تناول من شفاهها قبلات عديدة و عانقها في اشتهاء جرئ, التفت ذراعيه حول رقبته و قد اطمأنت ان ايهاب لم تعد به القدرة لتعرض لها مرة اخري و ان جسدها لعامر حبيبها فقط..
                                ***
انتهكت قواها و ضعف حيلها في مواصلة اليوم الدراسي, اسندت رأسها علي الكتاب و قبل ان تنام, زعق بها احد الاساتذة في عنف و نهرها لعدم تركيزها, شعرت بصداع جامح يقتحم رأسها لتسأذن منه بالذهاب لدورة المياة  لتغسل وجهها, و قد كان, غسلت وجهها لكن مازال شعورها بالنعاس لا يخلو بالها, و قبل ان تصعد لطابق فصلها وجدت بعض الطلاب يتسللون للهرب من المدرسة بالقفز من السور بخفة, اقتربت منهم بفضول, و عيناها تضخ حماس لم يفعلون, وجدت شاب يكبرها بعامين, شعره اسود داكن تنزل غرة علي عينيه له بشرة شديدة البياض, رمقها بعمق عينيه البنيتان و سألها مستفسرا :
-في اية! عايزة تفلسعي و لا مالك!
لتقول بشفتاة مرتجفة :
-اه عايزة اخرج برة, ازاي..
-تعرفي تنطي من السور..
هزت رأسها نافية, ليشابك يديه و يقول :
-طب تعالي هساعدك..
اقتربت منه و وقفت فوق يديه المشدودتان بقوة, جلست فوق الثور تأخذ انفاسها ثم وثبت بخفة من السور, فقال بصوت عال نسبيا :
-شاطرة..القطي بقي الشنطة..
لم تستمع أخر جملة جيدا لتتساءل مستفهمة :
-اية؟
لم تلحق المسكينة الاستفسار حتي وجدت حقيبة ترتمي علي وجهها, اختل توازنها و عادت لوراء, و هي تتحسس رأسها بألم, قفز هو ايضا و وقف امامها قائلا بأسف :
-اسف ملاحظتش انها هتخبطك, وجعتك..؟
-لا لا شكرا..
و ثم قالت :
-اروح لمترو منين.
اشار الي جهة اليمين و قال :
-خودي يمين في يمين و امشي طوالي هــ
قاطع نفسه و قال :
-تعالي تعالي أوصلك انا..
سارا الي الطريق صامتان, حتي سألها :
-شكلك محترم لية خرجتي من المدرسة !
-تعبانة مش قادة اواصل ساعة كمان..
-الف سلامة
لم تجيبه و تلحفهما الصمت مرة أخري, حتي وصلا الي محطة "المترو",  اشار لها بالوداع و تبسم لها, بادلته الابتسامة الضئيلة و عادت لمنزل, ظنت في البدء ان عامر سيكون في عمله لكن لم يكن في الحسبان ان تدرك انه مازال في المنزل..
دلفت لمنزل في خفة و توجهت لغرفتها, رغم سماعها ضجة و حديث في غرفة عامر, ظنت ان التلفاز مفتوح فلم تبالي, قبل ان تخلع نعلها سمعت ضحكة عالية صادرة من غرفته, انتصبت مكانها و ارتعب قلبها فلم يمنعها الفضول من التشرأب بعنقها داخل غرفته, لطمت علي وجهه و ابتعدت مسرعة لم يلحظاها أي منهما فقد كان يسبحان في دنياهما الخاصة, وقفت مذهولة مما رأيت و احمرت وجنتيها, عاودتها الذكريات الأليمة حاولت نسيانها و ابعادها عن عقلها لكن عجزت كل العجز, تسمع الضحكات و الهمسات المتبادلة خلفها, فلم تتحمل المزيد, و سارع كعبيها بالركض خارج المنزل هاربة..الي لا مكان!
*
*
*
*
*
يتبع
ناقص عشر حلقات و تخلص!

مدمن قلبكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن