تآلف الأرواح

3.5K 184 6
                                    

تكون في مكان ما، وفجأة تصادف شخصاً لأول مرة وتحس أن قلبك قد مال إليه، وتشعر اتجاهه براحة داخلية كما لو أنك تعرفه منذ أمد بعيد أو تكرهه من أول نظرة وقبل أن ينطق بكلمة وأنت لم تعرفه من قبل أو تسمع عنه شيئاً.. ألم تمر بك تلك اللحظة من قبل؟

هذا ما نسميه بتآلف الأرواح وتخالفها، قال رسول الله ﷺ (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف) قال العلماء في التفسير يحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام وكانت تلتقي فتتشاءم أو تتلاءم، فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم.

فالروح مخلوقة وموجودة منذ خلق آدم، وهي لا تفنى بل يفنى الجسد الذي هو لها مستودع، فعندما يموت الإنسان تخرج روحه إلى بارئها، ثم يوم القيامة هي من تتنعم أو تتعذب إلى الأبد، وحين ذلك يضعها الله في جسد يختلف عن جسدك الذي كان في الدنيا (أهل الجنة طولهم مثل طول آدم. وأهل النار طول أجسادهم من الكتف إلى العنق مسيرة ثلاث أيام) هل عرفتم الآن أن الجسد ليس إلا وعاء للروح، مثال بسيط، الروح مثل محرك السيارة والجسد مثل هيكلها الذي يستطيع أن يشكله صانعه كيفما يشاء.

نحن البشر نمر بمحطات عديدة المحطة الأولى تتمثل في اليوم الذي جمع الله البشر جميعا منذ خلق آدم عليه السلام وإلى آخر إنسان سيولد، وستقوم القيامة بعده..

فأنا وأنتم وجميع الخلق اجتمعنا أرواحاً أمام ربنا وأخذ علينا العهد، قال ابن القيم رحمه الله نقلاً عن السلف [إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد] وأنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى استخرج من ظهر آدم ذريته جميعاً استخراجاً حقيقياً وليس مجرد كناية عن الإخراج، وإنما استخرجهم وميزهم وخاطبهم واستنطقهم، وأقروا بما قال لهم وقطع الحجة والعذر عنهم. يعني أنت قد خاطبك الله وخاطبته وأقررت بالعهد الذي أخذه عليك بالطاعة، ثم عند ولادتك يأتي ملك من السماء ويذكرك بهذا العهد أيضاً، وعند موتك سوف تتذكر هذا العهد الذي قطعته أمام ربك.

وما دام أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد خاطب الأرواح وخاطبته، فهي مخلوقة قبل الأجساد، وإذا أراد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يخلق إنساناً من البشر، فإنه عَزَّ وَجَلَّ يأمر الملك بإدخال روحه في جسده فيكون بشراً حياً.

تأمل معي الآية الكريمة " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ "

فإذن نحن موجودون في مرحلة متقدمة عن مولدنا الظاهري، وأرواحنا كانت موجودة في مكان ما بانتظار الجسد المادي الذي سيكوّنه الله ثم يضع فيه الروح لتدب الحياة به على الأرض.

تأتي المرحلة الثانية وهي محطة الحياة الدنيا التي نعيشها الآن بعد أن وضع الله الروح في الجسد. وهذه مرحلة الاختبار قد نطيع الله وقد نعصيه، وهنا يتحدد مصيرنا في المرحلة القادمة التي هي ما بعد الحياة الدنيا أو ما نسميها بحياة البرزخ أو القبر ، وهي حياة لا نعلم شيئاً عنها سوى ما جاءت في الأحاديث عن بعض ما يحدث فيها ولكن الكيفية والتفاصيل لا يمكن لعقل بشري أن يتخيلها فضلاً أن يستوعبها ولكن المطلوب الإيمان بذلك فقط.

أما المحطة الرابعة فهي كل أحداث يوم القيامة من بعث ونشور وحساب وميزان وصراط إلى أن يتم الانتهاء من الحساب ويتقرر من هم أهل الجنة ومن هم أهل النار

أن الأرواح التي تألف بعضها سريعا في الدنيا يمكن أن تكون التقت ببعضها في المحطة الأولى قبل الحياة الدنيا، عندما كانت أرواحاً بلا أجساد، وحين التقت الأجساد في الدنيا ألفت بعضها على سابق معرفة حدثت بين الأرواح مسبقاً منذ زمن بعيد قبل أن تستقر هذه الأرواح في الأجساد.

احتمال آخر في مسألة التآلف متمثل في الأحلام حيث انتقال وخروج الأرواح وقت منام الأجساد ، فنحن حين ننام إنما نموت ، وهي ما نسميها بالموتة الصغرى ، حيث تخرج الأرواح من الأجساد  (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)

أن الأرواح وقت المنام تخرج من الأجساد وتسبح في فضاء ما وتلتقي ببعضها البعض . أرواح الأحياء ببعضها أو أرواح الأحياء والأموات تلتقي مع بعض. والرؤى الصادقة مثلاً لها علاقة بالمسألة . ألم يحدث أن رأيت رؤيا أو سمعت أحداً يتحدث أنه رأى في منامه فلاناً وقد قال له كذا وكذا أو أشار إليه بفعل أمر ما أو ابتسم أو كان في رغد من العيش أو عكس ذلك؟

أنا رأيت جدي بعد أن توفي ببضعة ليال في المنام وقد قال لي " يا إبراهيم سيأتيك فلان وقد أمنني على أوراق وعهود لأرض يملكها قبل أن يذهب للحج، ستجد الأوراق في مكان كذا، فإن أتاك فأعطه الأمانة" وفعلاً ما أن أعاد الرجل من الحج  حتى جاءني وطلب أمانته، فذهبت ووجدت الأوراق في المكان الذي وصفه لي جدي، والرجل أيضاً قد رأى جدي في المنام يقول له: إني قد رحلت إلى خالقي، وأمانتك ستجدها عن إبراهيم. وما علم الرجل بموت جدي إلا من رؤيته في المنام.

قال تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)  إن مسألة الروح أكبر وأعظم من أن نخوض في ذاتها، لكني بحثت في مجرد هالة تحيط بها وأسندت بحثي ببعض النصوص التي وردت في الأثر، وإن بعض ما جاء في ما كتبت أعلاه بمجهودي الشخصي فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمني.

 متع عقلكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن