غياب أم .

128 3 0
                                    


" عندما نتحدث عن الوحدة , والفقد والأشتياق معًا سنكون بالطبع نتحدث عن غيابِ الأم ".

اعتاد غيث منذ نعومة أظافره أن يسترخي في حضن أمهِ , كان حضنها منفى أحزانهِ فعندما يشعر بأن الأرض ضاقت عليه كان يهرع إليها لأنه على يقين بأنه سيجد لديها مُتسع , كان كلما أُوصد بابًا في قلبهِ وجد المفتاح في قبضتِ أمه . .لقد أحبها ,أحبها جداً تلك المرأة العظيمة لا يُمكن أن تُقتلع من داخلهِ أبداً .

 لا يزال يتذكر ذلك اليوم الذي سارت فيه بخُطى مُثقلة نحو الباب المؤدي إلى الشارع , الشارع المؤدي إلى المطار , للطائرة التي ستُحلق بها بعيداً جداً , بدا العالم مأساويًا جداً في تلك اللحظة , أحس بأن عجلات حقيبة السفر تمر على قلبه , أحس بأن قلبهُ يتصدع واغرورقت عيناهُ بالدمع . 

لقد كان قادراً على مواجه كُل الأشياء عدا الوداع , ذلك الشبح الذي يأكل من الروح بدأبِ النملة لم يكن قادراً على الصمود أمامه , أمام ذاكرتهِ التي استعصت فجأة , وراحت تُفرّخ له الذكرى واحدةً تلو الأخرى , كان يشعر بأنهُ شاخ فجأة , لم يحتمل فكرة أن لا يجد حضنها مُتاحًا له كلما أحس بالوجع يتربع في عُقر روحه ,فأجهش بالبُكاء وبدا بُكاءهُ هذهِ المرة مُختلفًا وصادقًا ووحيد . 

أمضى يومهُ هاربًا من ذاكرته ,من المنزل, من كُل شيء قد يذكره بأن أمه ما عادت هُنا , كان يقوم بالأشياء ببطء شديد راجيًا الله أن يُطيل من عمر الثواني فيطول الوقت أكثر ولا يضطر للعودة وحيداً إلى المنزل, ليتعايش مع الواقع المُر, يتذكر أنه فعل كُل شيء , ما يُحب وما يكره ليظل خارج تلك المساحة المكتظة بأمهِ , برائحتها , ببقايا أشيائها وصدى صوتها الذي كان يحول المكان إلى جنة , ولكن كان لابُد أن يعود .  عندما فتح الباب أحس بالفراغٍ يتسع في فؤاده , وتساءل كيف تتحول البيوت إلى مقابر عندما تُغادرها الامهات ؟ وأخذ يتذكر كيف كانت تتأصل في أحشاءه بواسطة الطعام الذي تملأ معدتهُ بهِ كُل يوم , تذكر الصفعة الأولى التي عقبها احتضان طويل كان بمثابةِ اعتذار , تذكر شاي الحليب الذي كانت تصبهُ مع الكثير من دفء الأمومة في كوبهِ المُفضل , تذكر كُل شيء وكأن الذكريات تحولت إلى خلايا سريعة الانقسام , وتعجب كيف يكونُ الألم محفزاً فعالاً إلى تلك الدرجة ؟ 

دخل حجرته , ووجدها مُرتبة على نحوٍ رهيب,لم يُرد أن يُحرك شيء , سيُبقي كُل شيء على حطة يدها لأطول فترة ممكنة ,فلا أحد يُمكنهُ أن يُرتبها كما تفعل, استنتج أن لكُل أم شفرة جينيةً خاصةً بها وأدرك أن لا أحد في العالم يُمكنهُ أن يشابه أمه في شيء,مستحيل . 

وبعد أن استعاد شريط ذاكرتهُ كاملاً , وأحصى الاشياء التي سيفتقدها منذ الغد , واحس الصدع في قلبهِ يكبُر نام متوسداً ألمه , وقد نبتت في حلقهِ غصة الفقد المريرة  -التي ستجعل صوتهُ مشروخًا إلى أن تعود الأمور إلى سابق عهدها- , وبدأ الشوق ينمو تدريجيًا  من أوصاله , نام هاربًا من هذا الخيال الذي ساورهُ , وعندما سمع صوتَ المُنبه صباحًا دفن وجههُ في الوسادة قائلاً :  لن يُوقظني صوتُ أمي بعد الآن, سأقضي فترةَ طويلة استيقظ على صوتِ منبهٍ اخرق,لا يوقظني وحدي بل يوقظ آلامي معي . 

مرام الغامدي . 

غيثُ الفرح, غيمُ السلام .حيث تعيش القصص. اكتشف الآن