الفصل الأول

2.5K 69 2
                                    

جلست في مكاني المعتاد بفستان قصير يلتصق بجسدي كجلد ثاني له، وجه طُمست معالمه خلف أطنان مساحيق التجميل، انفث دخان سيجارتي بملل وأنا أطالع الوجوه من حولي بسخرية لم أستطع مواراتها عن الأعين التي تلتهمني بأريحية مغيظة، وضعت ساق فوق الأخرى وأنا أشيح ببصري عن ذلك اللذج الذي بدأ في إختراق الجموع متقدماً نحوي وملامحه توشي تماماً بما يريد، ادعيت الإلتهاء بمشاهدة العرض الرخيص الذي تقوم به إحدى زميلاتي علي المسرح؛ تتلوي كالحية على النغمات الشعبية الصاخبة، بينما مطرب الدرجة الثالثة الخاص بالمكان يقترب منها متلمساً جسدها بعفوية ظاهرية، بمكر ذئب يعلم تمامًا ما يجتذب فريسته، وعلى عكس المتوقع لم تكن الحية هنا هي الفريسة المحتملة ولكن تلك الحشود المستمتعة بعرضهم المخزي ... بنبرة ماكرة وأنفاس معبقة برائحة الكحول طلب أحد الزبائن مرافقتي لطاولته، تأملته باستهانة لم أحاول إخفائها ثم أشحت ببصري منتوية تجاهله، فعلى أية حال هو ليس بالصيد الثمين الذي قد يُسعد رئيسي في العمل، التفت بعد لحظات مجفلة عندما سمعت ذلك الصوت المقيت الذي أعرفه جيدًا يخترق طبلتا أذني .. طالعته برعب مازال يدب في أوصالي كلما اقترب من محيطي وأنا أرتجف داخليًا بصمت، انصرف الآخر مرتعبًا بينما هو حثني علي إعتلاء المسرح ومشاركة تلك الأفعي المتمايلة الرقص، تأففت بصوت مسموح فما كان منه الا ان لكزني في خاصرتي خفية عن الأعين ثم أعاد كلماته على مسامعي ولكن تلك المرة بنبرته المتوعدة المعتادة والتي تقتل أي مقاومة واهية بقيت بداخلي.. لم أشأ إغضابه فأنا الأعلم بنوبات غضبه الجنونية، لذا اذعنت للأمر كارهة وأنا أعتلي المسرح بجوارها، أغمضت عيناي وتركت للنغمات أمر تولي قيادة جسدي، الدموع تلسعني بسوط الهوان، جسدي يؤلمني بلا سبب واضح، هل من الممكن أن تؤلمك صواعق النظرات؛ استشعرها كألف نصل بارد ينخر عظامي لا مباليًا بألمي، دقائق مرت لاتوقف وقد انتهى المطرب أخيرًا من أداء وصلته الغنائية .. ترجلت عن المسرح ليقترب من جديد ساحبًا لذراعي بقوة آلمتني ولكن من أكون لأعارضه؛ يقودني بلا حول مني ولا قوة نحو طاولة بعينها، ابتسم بحبور وهو يدفعني نحو المقعد المجاور لأحد كبار رواد المكان ثم رمقني بنظرة محذرة أخيرة وتحرك مبتعدًا؛ تاركاً لي بصحبة من سأرافقه الساعات القادمة هنا ...... أو ربما في مكان آخر !!!
أتجرع كؤوس الهوان الواحد تلو الآخر بجشع اعتدته مؤخرًا؛ وقد أدركت ان ذلك السائل المقرف كفيل بتخدير كل حواسي، قادر على صرف عقلي عن واقعي الحتمي الذي أمقت؛ لأعود في الساعات الأولى من الصباح متعثرة الخطوات قبل أن يسقط جسدي خائر القوى علي فراشي الرث دون تبديل ملابسي؛ اهمهم بكلمات غير مفهومة وأنا أشعر بأنامل خشنة تنتهكني مجدداً دون هوادة، ورائحة أنفاسه الكريهة تجثم علي أنفاسي حتي تكاد تزهق روحي، لا أقوى علي الصراخ واستدعاء تلك الغافلة عما يفعله زوجها المصون بي كل ليلة بلا إكتفاء، ليبتعد بعد أن خمدت ثورة جسده فاتحًا لحقيبة يدي ليستولي على ما بها من أموال، وعندها تترفق بي إغماءتي وقد فارقني الوعي أخيرًا رأفة بي !!!
***
عالم أحلامي يخلو من كوابيس واقعي ، عالمي الخاص بي وحدي ، التقي فيه ذلك الفارس النبيل الذي غاب عن أرض الواقع ، يطالعني بنظرات حانية تناقض تلك التي اعتادت انتهاك جسدي .. يمد يده نحوي من البعيد ودون وعي مني أمد له خاصتي .. لتزداد المسافة بيننا شيئاً فشئ بينما يدانا معلقتان في الهواء .. عاجزتان عن الوصول .. ترجوان الاحتواء .. ترفرفان في الفراغ بيننا دونما اهتداء .. لا أعرف اسمه ، كذلك ملامحه المبهمة ولكني رغم ذلك اناديه باسماً اتناساه فور يقظتي وقد غاب عن حلمي وتركني وحيدة أكابد المجهول على أرض الواقع !!!!
***
المعتاد لمن هم مثلي أن تقضي يومها متوسدة فراشها ، تصارع اجهاد جسدها المنهك ، الا انني لازلت متشبثة بأواصر الماضي ، أجاهد للحفاظ علي ما تبقي لي من بيت دافئ رغم قلة ساكنيه ، لحضن أم عطوف رغم مرضها الا انها كانت تصارعه فقط من أجل وحيدتها التي ليس لها في الدنيا بعدها .. تحارب مرضها بضراوة علها تتماثل للشفاء وتبقي لمدة أطول جوار آخر ما تبقي لها من زوجها الراحل .. الا أن مرضها لا سلامة له و الموت لا مهرب منه الا اليه .. وما أقساه الفراق وقد كتب علي الأحياء وحدهم مكابدته .. ما أقساها الوحدة بعد أن غاب الأنيس ، ما أقساها الوحشة وقد أدركت إنك قد أصبحت بين ليلة وضحاها مجرد ورقة في مهب الريح .. ورقة بنفثة واحدة تحلق فوق براكين الواقع تترقب سقوطاً لاهباً في أعماق الجحيم !!
لم أعمل يوماً ولم أنل قسطاً وافراً من التعليم كذلك ، فموارد والدتي المحدودة من عملها كعاملة في إحدي المدارس كانت الدخل الوحيد لكلانا .. فقد كانت امي تخشي علي من ذئاب البشر وآه يا أمي لو تعلمين كم كنتي علي حق !!
صدمتي في صاحب الشقة كانت أولي صدماتي في رحلتي الحديثة لمواجهة الواقع وحيدة .. ذلك الرجل الهرم الذي تخطي الستون من عمره بأعوام ،،،،
فاجأني بعد اسبوع واحد من وفاة والدتي بطلبه لإيجار الشقة .. لم أدري وقتها كيف اوفره له ولكني طلبت منه مهلة فقط حتي أجد عملاً لأوفره له .. وقتها تبدلت نظراته الحنون لأخري راغبة ، بالطبع لم أعي وقتها فحوي نظراته ولكن عندما اقترب ممسكاً يدي فجأة بينما يلهث وهو يطالبني بسداد من نوع آخر ، زنا مقنع بورقة عرفية ، فاجأني طلبه وأثار في نفسي النفور والخوف في آن واحد .. ابتعدت عنه مسرعة نحو باب الشقة وأنا أعده بتوفير المال في خلال اسبوع واحد .. رغم ضيقه الواضح الا انه خرج بعدها موافقاً علي مضض بعد أن شيعني بصواعق نظراته التي تعريني من ملابسي .. أياماً تلتها وأنا أبحث عن عمل بلا فائدة .. أعود لمنزلي أجر أذيال خيبتي لأرتمي علي فراش أمي وأنا أجهش بالبكاء ،، انعي أماً تركتني رغماً عنها أصارع أهوال الحياة .. أماً لم تعدني لاستقبال قسوة الواقع بصدر رحب ، اماً ترك حنانها فراغاً مهولاً في وحشة الحياة التي صدمتني بقسوتها ولازالت .. زيارته التالية كانت كالصفعة المدوية .. لم يكتفي بعرض الزواج فقط وقد تأكد من عجزي عن السداد ولكن تبعها بمحاولات غير مجدية لمراودتي عن نفسي ختمها بإلقائي لخارج منزلي بملابسي البيتية التي كنت أرتديها ذلك الحين .. متعللاً بأن ما بالمنزل هو مقابل المدة التي مكثتها دون سداد ،، تركني اتراقص فوق حافة الهاوية ، أترنح صوب المجهول ،،،،،،
أياماً وأنا أجوب الطرقات بلا هدي ، ابحث عن ملاذاً أرنو اليه بلا جدوي ، ابيت ليلي في مداخل البنايات وأقضي صباحي بحثاً عن عمل دون فائدة ترجي .. استيقظت ذات يوم فزعة لأجد إمرأة سمينة تشرف علي وعيناها تقدحان شرراً .. لم أستطيع احتمال وصلة السباب التي أمطرتني بها ففررت من أمامها بأعين دامعة وقلب خفقاته بلغت عنان السماء .. معدتي الخاوية تؤلمني و الغثيان يقلب كياني .. توقفت أمام أحد المخابز أزدرد ريقي وتلك الرائحة الطيبة تداعب أنفي .. أطالع المخبوزات بأعين يملؤها الحرمان ليأتيني صوت صاحب المخبز يعرض علي احدي مخبوزاته مجاناً !! لا تتأملي كثيراً مذكرتي ، فالمجان كان ظاهر باطنه الطمع .. طمعاً في الشئ الوحيد الذي لازلت أمتلكه .. القيت ما بيدي ، ما كنت ألهث وأنا أطالعه منذ لحظات وأنا أفر هاربة ، لاعنة حظي وفقر الحال .. الجوع والبرد كانا يلازماني وقد اتخذت مقعداً في احدي الحدائق العامة كفراش أتوسده بعد محاولات كثيرة لإقناع حارس المكان بالسماح لي بالمبيت .. والأيام ألد أعداء من لا مأوي له ولا سكن ، رغم ضيقه الواضح الا انه وافق علي مضض ليعود لجلسته علي مقعده بجوار البوابة يتابع احتساء كوب الشاي الذي بيده .. لم استطيع الاقتراب مجدداً وطلب كوب من الماء أروي به ظمئي ، توسدت ذراعي علي احد المقاعد الخشبية واستسلمت لسلطان النوم في لحظات ،،، في الصباح ايقظني الحارس كي أعتدل جالسة حتي لا يفطن أحد لسماحه لي بالمبيت .. أخذت اطالع المكان حولي وقد بدأ يمتلئ بالوافدين .. تلك الصغيرة تداعب دميتها بينما والدتها تصرخ بها بغضب أن تترك ما بيدها وتتناول طعامها ، ذلك الصبي يقذف بالكرة لوالده الذي يعيدها له باسماً بفخر أبوي نسيته منذ زمن .. اقتربت مني تلك الصغيرة وهي تتلفت حولها .. يبدو أن والدتها وجدت أخيراً ما يلهيها عن تلك المشاكسة .. نظرت بفضول ليدها التي عقصتها خلف ظهرها قبل أن تفاجئني وهي تخرج طعامها الذي لم تشأ تناوله وتدعوني لتناوله بدلاً منها .. رغم الجوع الذي يقرص معدتي الا انني ابتسمت بشحوب وأنا أطلب منها الإستماع لنصيحة والدتها وتناوله .. رجائها الصامت ، عيناها البريئتان وألم معدتي .. كل ذلك تكالب علي لأجد يدي تمتد وتسحب ما بيدها قبل أن أضعه في فمي وألوكه بينما أتأوه باستمتاع وقد أسكت أخيراً أصوات استغاثات معدتي .. الساعات تمر والمكان يخلو رويداً رويداً من حولي .. الا من تلك السيدة الوقور التي اقتربت تطالعني بتدقيق حتي جلست علي المقعد مجاورة لي .. لم أبالي رغم خلو جميع المقاعد حولنا وإختيارها الجلوس الي جواري أنا .. فركت رأسها بإجهاد قبل أن تعود لتتأمل ثيابي الرثة بتعاطف كاذب .. وبدأت بالحديث ،، رغم عدم شعوري بالإرتياح نحوها الا انني كنت بحاجة للحديث لأحدهم ، لأفضي بمكنونات صدري التي تثقل كاهلي لأحدهم .. وما الضير في ذلك ،، تجاهلت كل نداءات العقل التي تخبرني بأن أبتعد فماذا سأخسر بعد !!!
للحق كانت تستمع بصمت مطبق وكم كنت شاكرة لأذناها اللاتي أظنهما تطنان الآن من حديثي المستمر .. حتي وجدتها فجأة تقف قابضة بيدها علي معصمي وهي تطلب مني البقاء برفقتها .. متعللة بكونها امرأة وحيدة وكلانا تحتاج لأنيس كما أحتاج أنا لمأوي .. فرصة !! جدران تأويني ، عملاً وعدتني بتوفيره ، ودعوة لم أستطيع رفضها .. وليتني استطعت !!!
***

سيدة الأوحال حيث تعيش القصص. اكتشف الآن