الثبات والمثابرة
الخامس : الثبات والمثابرة
وتوضيح هذا المعني يحتاج إلی ذكر مقدّمة : فالمستفاد من الاخبار والآيات أنَّ الذي ندركه بحواسّنا من الذوات الخارجيّة، والذي نؤدّيه في الخارج من الافعال ويكون له تحقّق في عالم المادّة، له حقيقة في ماوراء هذه التجسّمات الخارجيّة المادّيّة الجسمانيّة، وماوراء هذه الظواهر والمحسوسات، حقائق عالية المرتبة مجرّدة من لباس المادّة والزمان والمكان وسائر عوارضها، وعندما تتنزّل هذه الحقائق من مقامها الواقعيّ تتجسّم وتتمثّل بهذه الصور المادّيّة المدركة في عالم الخارج، وتصرّح بذلك الآية القرآنيّة المباركة :
وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ و وَمَا نُنَزِّلُهُ و´ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.[4]
وتفسيرها ـ مجملاً ـ هوأنَّ الذي يتحقّق في عالم المادّة عموماً قد كان له قبل تحقّقه الخارجيّ حقيقة أُخري عارية عن لباس التقدير والحدّ، لكنّه في حال النزول والتنزيل يتحدّد ـ وفقاً لعلم الباري تعالي ـ بدرجات معيّنة، ويقدّر بالتقديرات الإلهيّة.
مَآ أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الاْرْض وَلاَ فِي´ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَـ'بٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَآ إِنَّ ذَ 'لِكَ عَلَي اللَهِ يَسِيرٌ. [5]
ثمّ إنَّ الصور الخارجيّة لمّا كانت محدّدة ومملوءة بالعوارض المادّيّة من الكون والفساد فهي لعبة بيد الفناء والزوال والنفاد : مَا عِندَكُمْ يَنْفَدُ، لكنَّ تلك الحقائق العالية المعبّر عنها بالخزائن لها وجهة التجرّد والملكوتيّة ولا يترتّب علیها سوي الثبات والدوام والكلّيّة : وَمَا عِندَ اللَهِ بَاقٍ، وإلی هذا المعني وإلی هذه الحقيقة أُشير في الحديث المتّفق علیه بين الفريقين :
نَحْنُ مَعَاشِرَ الاَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَي قَدْرِ عُقُولِهِمْ.
وهذا الحديث راجع إلی جهة بيان كيفيّات الحقائق لاكمّيّاتها، ومدلوله : أنـّنا معاشر الانبياء ـ دائماً ـ ننزّل الحقائق العالية ونبيّنها بحسب فهم وإدراك السامع، لانَّ العقول البشريّة ـ بسبب انشغالها بزخارف الحياة وأمانيها الفارغة وآمالها البعيدة ـ قد تكدّرت فلاتستطيع أن تدرك تلك الحقائق بنفس الدرجة من الصفاء والواقعيّة التي هي علیها. لهذا فالانبياء العظام هم كمن يريد أن يبيّن للاطفال حقيقة ما، يضطرّون إلی التعبير عنها بما يتناسب مع القوي الإدراكيّة والحسّيّة للطفل. وكم عبّر الانبياء العظام بواسطة مقام الشرع والشريعة (وهم حماتها) عن هذه الحقائق الحيّة بتعابير قد توحي إلی أنَّ هذه الحقائق تفقد الحسّ والشعور، والحال أنَّ كلّ واحدة من هذه الظواهر الشرعيّة من صلاة وصوم وحجّ وجهاد وصلة رحم وصدقة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر و... لها حقائق حيّة ذات شعور وإدراك.