انكشاف عوالم التوحيد الاربعة إثر المراقبة التامّة والتوجّه إلی النفس
نعم؛ وتنكشف للسالك ـ نتيجة للمراقبة التامّة والاهتمام الشديد بها وعلی إثر التوجّه إلی النفس وبالتدريج ـ عوالم أربعة هي كالتالي :
العالَم الاوّل : توحيد الافعال، أي إدراك السالك في المرحلة الاُولي أنَّ كلّ ما تراه العين ويلفظه اللسان وتسمعه الاُذن وتقوم به اليد والرجل وسائر الاعضاء والجوارح، كلّ ذلك يستند إلی نفسه، وأنَّ النفس هي الفاعلة المحضة، ثمّ يدرك أنَّ الافعال التي تتحقّق في الخارج تستند إلی نفسه، وأنَّ نفسه هي مصدر جميع الافعال في الخارج، ثمّ يدرك أنَّ نفسه قائمة بذات الحقّ، وأنـّها قبس من فيوضات الله ورحمته، وبالتالي تعود جميع الافعال في العالم الخارجيّ إلی ذاته المقدّسة.
العالَم الثاني : توحيد الصفات، ويكون بعد العالم الاوّل. وفي هذا العالم لا يري السالك من نفسه سمعاً أوبصراً، ويدرك أنَّ حقيقة سمعه وبصره من الله تعالي، وكذا كلّ ما يُري في الموجودات الخارجيّة ـ من الصفات كالعلم والقدرة والحياة ـ يستند إلیه تعالي.
العالَم الثالث : التوحيد في الاسماء، ويأتي بعد العالم الثاني. وهوأن يدرك السالك قيام جميع الصفات بالذات الإلهيّة، كأن يري أنَّ العالم والقادر والحيّ هوالله المتعال، فيدرك أنّ علمه وقدرته وسمعه وبصره هوعلم الله وقدرته وسمعه وبصره، وأنَّ الحيّ والقادر والعالم والسميع والبصير ـ في كلّ العوالم ـ هو واحد فقط، وهوالله جلَّ جلاله، وكلّ موجود من الموجودات يحكي ـ بقدر سعة وجوده ـ عن ذلك العالِم والقادر والسميع والبصير والحيّ، ويدلّ علیه.
العالَم الرابع : التوحيد في الذات، وهوأعلی من العالَم الثالث، وينكشف للسالك بواسطة التجلّيات الذاتيّة، فيدرك فيه أنَّ تلك الذات التي تستند إلیها جميع الافعال والصفات والاسماء هي ذات واحدة، وأنـّها حقيقة واحدة، تقوم بها جميع الحقائق، فلا يعود للسالك توجّه إلی الاسم والصفة، بل يكون مشهوده هوالذات فحسب، وهذا حين يتخطّي السالك وجوده الخاصّ المستعار كلّيّاً فاقداً ذاته في ظلّ الفناء في الذات الإلهيّة المقدّسة، حينها يحصل التجلّي الذاتيّ، وا لمسمّي لضيق التعبير أحياناً بمقام الذات أوحقيقة الذات أوالاحديّة، لانَّ كلّ ما يُكتَب أويقال عبارة عن أسماء، والذات الإلهيّة المقدّسة أرفع مقاماً من ذلك، فلا يمكن لايّ اسم أن يطالها أويدرك مقامها، بل هيأعلی من هذا العجز، لانَّ العجز هوفي عين السلب والنفي إثبات حدّ، والحقّ تعالي أعلی من الحدّ. فإذا دخل السالك إلی هذا المنزل فاقداً اسمه وذاته عندها لن يعرف نفسه أوأحداً آخر غير الله، بل يري الله في ذاته فحسب.
فالسالك يفقد في كلّ واحد من هذه العوالم الاربعة مقداراً من آثار وجوده الخاصّ، حتّي يفقد تمام وجوده وإنّيّته.
ففي العالم الاوّل الذي يصل فيه إلی مقام الفناء في الفعل يفهم أنَّ الفعل لا يصدر منه، بل من الله، وهنا يفقد تمام آثاره الفعلیّة.
وفي العالم الثاني عندما يصل إلی التجلّي الصفاتيّ يفهم أنَّ العلم والقدرة وسائر الصفات تختصّ وتنحصر بذات الحقّ سبحانه وتعالي، وهنا يفقد صفاته ويضيّعها فلا يجدها بعد ذلك في ذاته.
وفي العالم الثالث عندما يحصل التجلّي الاسمائيّ يدرك أنَّ العالِم والقادر هو الله جلَّ جلاله، وهنا يضيّع أسماءه، فلا يجدها بعد ذلك فيه.
وفي العالم الرابع الذي هوالتجلّي الذاتيّ يضيّع وجوده ويفقد ذاته فلا يجدها بعد ذلك أبداً، فلا ذات سوي ذات الله المقدّسة.
هذه المرحلة من الشهود أي التجلّي الذاتيّ يعبّر عنها العارفون بـ «العنقاء»، لانَّ العنقاء موجود لا يمكن اصطياده. وهذه الصفات البحتة والوجود الصرف يعبّر عنه بـ «عالم العمي» و«الكنز المخفيّ» و«ذات ما لا اسمَ لَهُ ولا رَسْمَ لَهُ».