وكأن أموري لا تقبل التأجيل، بعد أقل من ٢٤ ساعة، سأكون في عالم آخر، عالم لا يختلف كثيرًا عن الذي أوجد فيه، لكنه يبعد كل البعد عما أشعر به هنا. في آخر ليلة أقضيها على هذه الضفة من الحياة، ضرب المدينة برد قارص. أتساءل إن كان هذا البرد من الخارج حقا أم من الداخل. كل الرسوم التي رسمتها هنا، والكلام الذي نطقت به، والسطور التي كتبتها، والمشاعر التي تلقيتها، والتي شعرت بها، ودقات الموسيقى والألحان التي أطربت مسامعي، والهواء الذي لفح وجهي، وضياء القمر الذي آنس وحدتي، والشمس التي أحرقت وجنتاي، والأيدي التي أمسكت بيداي، والدفء الذي شعرت به، والسماء التي غطتني، والسحاب الذي حماني، والأشجار التي ألقت تحياتها، والعيون التي تفحصتها، وبحثت فيها عن معانٍ مختلفة، والتربة التي لعبت عليها، والحبال التي تسلقتها، والنسيم الذي داعبني كلما أطللت خارجًا. لا لست أحمل شيئا معي في هذه الذاكرة، ولا أذكر اللحن الذي يجلب الأصوات كلها، الضحكات والكلام المزدحم. كنت عند انتهاء كل يوم أقول إن هذا أفضل يوم. كنت عند لقاء كل شخص أتفاجأ من الطهر الذي يحويه قلبه. إن العيش الزاهد قد جعل من الرجال رجالا ومن النساء نساء ومن الأطفال أطفالا وأبقى على القيم ثابتة لا تتزحزح، وأنا التي أعيش في رغد بما فادني الرغد؟ الشقاء في هذه الدنيا مكتوب. وفي زيارتي سمعت أنشودة مسحت على قلبي مسحا. تقول الأنشودة:
"عمْر يمضي، يمضي فيه ما هو حلو ما هو مر"
ذكرتني أنني برغم كل شيء، وبرغم نظرتي للحياة التي تتقلب تقلب السحاب، في عمري لحظات حلوة ولحظات مرة لا بد أن أعيشها. كأنني كنت أحلم بحلو الحياة دون مرها. أيقنت أنني على خطأ ومن أن أهوال هذه الدنيا ليست ثابتة مستقرة.
كم من أمر التبس علي، وكم من وداع وفراق عشته، وكم من ذكرى لا زالت تولد في ثنايا ذاكرتي، تذكرني بكمِّ الحزن الذي سيرافقني حتى أكتب من الشعر الكثير، ومن الخواطر الكثير، ومن القصص الكثير، ومن النشيد الكثير. يذكرني الحزن بكم الإبداع الذي يمكنني إخراجه من نفسي، بحلاوة العزلة وبحلاوة اللجوء إلى الله. يذكرني بأشياء لا تُكتب ولا تقال. أتوجه للقبلة حتى أصلي آخر صلاة، وأدعو ألف دعاء، وأتهيأ لركوب مركبة فضائية ستسافر بي بعيدا، فينتهي الحلم الذي بدأ منذ حين، وأعود لأكرر دعاء طالما رافقني. فقط أخبرني ما الهدف واهدني. أريد أن أحتفظ باللحظة حتى آخر فرصة، وأن أضع هذا العالم بجرة زجاجية، أخبئها في قلبي، وأن أجمع ضياء النجوم في عيناي، وسواد السماء في بؤبؤها. أريد أن يتوقف الزمن وهلة هنا. لم لا تمتد الساعة لأكثر من ساعة؟
أنت تقرأ
جُـــنُـون Madness
PoetryLittle poems and essays ادخلوا. عالما آخر من الكلمات. غادروا. بمشاعر قد اجتاحها الصمت والعتاب. Français - English - عربي