في رأسي أفكار متسلسلة وغير متسلسلة، تدور تشكل عواصف ربيعية، أحيانا تكون في الظاهر فكرة واحدة كبيرة حمقاء لا متناهية
عندما أقرر أن أكتب، أضع الدفتر على حجري، أمرر أناملي على الأوراق وأتساءل ما الذي كتبته فيها؟ أنا الكاتبة ولا أدري ما المكتوب. أنا حاملة القلم والقلم حيران في ما يكتب. ما أكثر الكلمات وما أقل الكلام. إن أصعب ما قد يمر به المرء هو فقد الشهية، وفقد النفس. أما أنا، فشهيتي بين مد وجزر قصيين، ونفسي هائمة في مكان بعيد، أجدها معك.
هل ترى مدى تفرق ذاكرتي؟ وعالمي؟ وكلامي؟ أخبرني ما علاقة كل شيء بآخر؟ ربما أعشق العلاقات، لم أكن أعرف هذا، وأعشق الكلمات، والنبات الأخضر، وكأن هيام الحياة قد خلق لأجلي! هل الحياة خلقت لأجلي؟ أم أنني خلقت للحياة؟ وفي كلتا الحالتين، هل أكون آخذ حقي منها، أم أنها تأخذ حقها مني؟ تخيل عائلتي بدوني، أو قسم الدراسة بدوني؟ أو صديقتي بدوني؟ أو أنت بدوني؟ كيف أكون معكم وأنا كهف به خرابيش، ولا يسكنه أحد؟ هل تأنسون في الكهوف أنتم؟ هل جربت أن تدخل كهفا؟ أم أن الفراغ بداخلي يليق بكم، فتجلسون فيه وتتوسعون وتصابون بجنون الكهوف؟ لماذا يحب الناس الكهوف الفارغة؟ وهل أنا كهف حقا؟
إن أكثر ما يؤثر سلبا على الكتابة هو التفكير فيها. الأفكار شحن مشاكسة، تتطاير في سماءك وتحط عليك حطوط الصقر على فريسته، وإن شئت أن تمسكها طارت وكأنها لم تكن يوما!
أترى تعارض أفكاري؟ لست أدري حتى الآن فيما كنت أفكر حين كتبت، ولا ماذا كتبت، ولا المغزى من ذلك ولا السبب وراءه. إنما هي كلمات متنساقة ومصفوفة جنبا إلى جنب، تزرع في نفس قارئها غموضا لأنه لم يفهم. يحملها معه ليحاول فك شيفرتها. نفس الشيفرة التي حيرت كاتبتها. ليتني كنت كاتبا وليس كاتبة. أشعر أن الكاتب أحق بالكتابة، وكأن له وقع خاص. إن كان الرجل، نفس الرجل الذي يسعى خلال يومه لكسب قوته، وإعالة عائلة، وإدارة عمل، والجري وراء احتياجات نفسه واحتياجات أحبابه، إن كان هذا نفسه يمسك بالقلم، ويدون أفكاره، فلا بد أنها أفكار ذات أهمية تفوق أي شيء آخر، ألا تتفق معي؟ ألا تظن أن الكُتَّاب لهم حس أكثر رهفة؟ إحساس وحنان يفوق غيرهم من البشر؟ أحيانا أتساءل عن المعنى وراء نهاية سورة الشعراء. إن الله تعالى قد جعل لنا سورة كاملة باسمنا، ثم تحدث عنا في نهايتها، والنهايات أهم شيء، هي أكثر ما يذكره القارئ. فقال سبحانه وتعالى "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألا ترى أنهم في كل واد يهيمون؟ وأنهم يقولون ما لا يفعلون"
يا ترى من هم الغاوون؟ ولم يقول الشعراء ما لا يفعلون؟ ولمَ أطرح هذه التساؤلات وأنا منهم؟ وهل أتخلى عن سحر هذه اللغة الآن؟ من لي آوي إليه من دون الكتب والشعر؟ حتى في حديثي معك شعر، وفي نظرتي للحياة شعر، وفي صورتي شعر آخر. لماذا يتبعنا الغاوون؟ ومن هم الغاوون؟ وهل الشعراء من الغاوين أيضا؟ وأسوتاه إذن!
إن في هذه الحياة مجالات لا يعرفها الناس. إن الأبعاد التي نتمكن من تصورها محدودة أشد الحدود. إن الأفق الذي لم نبلغه، لو رأينا طرفا منه لما استوعبه عقلنا. كيف إذن بالنار والنعيم؟ إن دخولنا لمجال بعيد هو أمر كبير بحد ذاته. إن خشوعنا في صلاتنا هو سفر بعيد وكواكب وزلازل وسماوات ومعارج! وإن الموت والحياة مخلوقين غير مسَلمين! أروني، أروني هذا الذي يحاول تخيل خلق الموت والحياة؟ أظن أننا خلقنا قبل الموت والحياة، يقول تعالى في سورة الملك "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا"
أولا هذا شرح واضح لغايتنا في هذه الحياة، ولكن هل هذا يعني أننا خلقنا قبل الموت والحياة؟ هل هما طاقة أم مخلوقان أم شيء يفوق مجال إدراكنا؟ ألا ترى الحياة غريبة أشد الغرابة حين يموت شخص، وتستمر هي وكأن الموت لم يزرها. تشرق الشمس ككل يوم وتغرد الطيور ويمشي الناس وكأن أحدا لم يمت البارحة! مقعد فارغ في حافلة، وملابس لم يعد لها صاحب، وكتاب لم يكتب، ورسالة لم تصل، وأغنية لم تغنَّ، وطعام قد برد، والحياة تستمر وكأن الذي يناجيها تحت التراب غير موجود. يا الله، ما الحياة وما الموت؟ وهل تخلق أشياء دون أن تكون من مادة؟ وهذا الوقت الذي يمضي... من أين جاء؟ إني لأنظر إلى سنواتي التي أمضيتها فأحسب أنني لم أعشها. إلى أين رحلت سنواتي؟ إلى الكتاب الأعلى؟ وإن كنت لن أحاسب على سنواتي العشر الأولى، وهي التي تحكمني الآن بشدة، كما تحكم طفولة أي شخص حاضره ومستقبله وطاقته وأفكاره التي تخرجه من روحه ليبقى الكهف المهجور، فما معنى هذا كله؟
وقس على ذلك لون السماء ولون النجوم وكل لون لا نراه وكل لون لا يرانا وكل ما فاتني وكل ما لم يفتني. إن الدوامة في رأسي لا تلبث تتوسع... الهي رحمتك بأمتك الضعيفة
أنت تقرأ
جُـــنُـون Madness
PoesiaLittle poems and essays ادخلوا. عالما آخر من الكلمات. غادروا. بمشاعر قد اجتاحها الصمت والعتاب. Français - English - عربي