كان يتمشى في الشارع. الهواء يتسلل، والأشجار ساكنة، ونور الشمس ما زال باردا، بالكاد يطغى على زرقة ليل ينجلي. كان يقطن وحيدا في مدينة بعيدة. الشمس بدأت تمد أذرعها لتلامس شفاه الأرض. خرج عمدًا في هذا الوقت، وبيده حقيبة صغيرة، تقبع فيها أوراق وقلم جاف، وخبز محشو، أعددته له يوم أمس. يقول إن أشعة الشمس تذكره بابتسامتي، لذلك يحب رؤيتها صباحا، لعلي أشرق على وجهه يوما ما. وبينما هو يتمشى ويبتسم لخواطره الجميلة، إذا به يصل إلى المكان المقصود. كان بابا ضخما قد أعيد طلاءه حديثا. دفع الباب الكبير ودلف إلى الداخل حيث ينتظره وجه عبوس، ولم يكن يعرف للتكشيرة سببا. المدير كان بانتظاره خصيصا. رمى أمامه أوراقا تساقطت على الأرض من حوله، وصرخ في وجه الشاب موبخا إياه لأنه تغيب يوم أمس. ثم أمره بترتيب الأوراق وتسليمه إياها بعد أن يوقعها. كانت الأوراق تحمل قرار نقله إلى بلد آخر. لكنه، لسبب أو لآخر، لم يخبرني. وحمل رحاله بعد يومين بصمت تام.
مرت سنوات، وأنا ألفظ آخر أنفاس حبي. أتجرعه كمخدر ليال طويلة. لا أبكي أبدا، فقد ولى وقت البكاء. وفي يوم، كنت في المشفى، أحمل طفلة صغيرة وأهم بالخروج من ممر يعبق برائحة البنج والمعقمات. فإذا بطيف ذي ملامح مألوفة يظهر أمامي. يناظرني بعينين أعرفهما جيدا. ذلك البريق لا يخفى علي أبدا.
أيعقل؟
لا.
ل.. لكن، أليس هو..؟
ومن يأبه الآن؟
أوقفني حين حاولت تجاوزه وأمسك بذراعي وغطس بعينيه في عيناي، فكاد قلبي أن يتوقف، وكاد صدري أن ينفجر. بدأت الطفلة بين ذراعي بالبكاء، فتراجع قليلا محدقا فيها، كأنه قد رآها للتو. حياني بهزة ونصف ابتسامة، ونظره مثبت على الأرض كأنه منظر خلاب. نظر إلى الطفلة حديثة الولادة. إنها بدون ملامح بعد، لكنه في قرارة نفسه كان يعلم أنها سترث جمالا من أمها. تساقط الحزن من عينيه أمامي. لقد عرفته، لم أنسه يوما. تعابيره كلها، حتى خطوط حاجبيه، ضحكته الساخرة، تكشيرة وجهه، ابتسامته العريضة التي تضيء وجهه حين يضحك. حجبت الدموع عن عيناي الرؤية، فمددت له الصغيرة بسرعة قبل أن يذهب، وقلت له : "خذها إلى أمها، أرادت زوجتك أن أحملها إليك بعد اعتنيت بها عند ولادتها. حمدا لله على السلامة"
أنت تقرأ
جُـــنُـون Madness
PoetryLittle poems and essays ادخلوا. عالما آخر من الكلمات. غادروا. بمشاعر قد اجتاحها الصمت والعتاب. Français - English - عربي