[مقـدمـة]
ليست كأي أرضٍ أخرى..
تمايل زورقٌ بسيط المظهر فوق سطح المياه المتماوجه، يعلوه شراعٌ مثلث الشكل تدفعه الرياح بعيداً عن الشاطئ الرملي.. امتد الشاطئ الرملي كشريطٍ ضيق على طول الأرض، تتلوه جبالٌ شاهقة الارتفاع بلونٍ أسود تعلوها الثلوج البيضاء، ومن خلفها امتدت سهولٌ خضراء لا تبدو للناظر إليها من هذا المكان..
في قلب الزورق، جلس رجلٌ يتأمل الرمال البيضاء التي تكاد تغيب في الأفق بصمت، وقلبه معلقٌ بتلك السهول الخضراء التي لا يراها لكنه يكاد يفعل لشدة ما كانت ماثلةً في ذهنه.. ثم خفض بصره للجسد الصغير المتدثر بمعطفٍ من الصوف الدافئ، تتشبث يداه بجانب الزورق متأملاً الأفق بدوره.. يبرز منه وجهٌ أبيض بخصلاتٍ سوداء، وعينين سوداوين التمعتا بالدموع، وخدين أحمرين رسمت الدموع عليهما خطين متصلين.. فوضع الرجل يده على رأسه برفق، وقال بهدوء "كل الأمور ستكون على ما يرام يا طفلتي.. لستِ بحاجةٍ للقلق بعد الآن.."
نظرت له الطفلة سائلةً برجاء "سنذهب لأمي؟"
أجاب الرجل بنبرةٍ مشفقة "لا.. للأسف لا أعرف لها طريقاً.. لكني سآخذك لأرضٍ بعيدة لن تري فيها تعاسةً أبداً.."
قالت وهي ترمق الأفق من جديد "أريد رؤية ماما.."
عادت الدموع تحتشد في عينيها، فعلق الرجل برفق "يا طفلتي.. ستكونين أسعد حالاً منذ اليوم.. هذا ما أعدك به.. هذا ما تمنّـته لك أمك.. وما وعدتها أن أقوم بتحقيقه.."
لم يبدُ أن الطفلة ستكف عن البكاء بكلماته تلك.. فقال ليصرف ذهنها عن أفكارها المحزنة "ألا تريدين أن أخبرك ما أعرفه عن أمك؟"
التفتت إليه الطفلة بجسدها موليةً اهتمامها له، وعيناها تلتمعان بشغفٍ ولهفة لم يره فيهما إلا كلما دار الحديث عن أمها أمامها.. فابتسم قائلاً "أمك كانت امرأةً جميلةً جمالاً خلاباً.. وفوق ذلك كانت شديدة الرقة.. كانت أمك تحب تأمل هذه السماء الزرقاء حباً جماً.."
ولمس خد الطفلة مضيفاً بابتسامةٍ متسعة "وتحب طفلتها حباً يفوق الحد.."
تساءلت الطفلة بتردد "أين ماما الآن؟.."
تردد الرجل للحظات، ثم قال بنبرةٍ لطيفة "أمك الآن في أرضٍ ليست كأي أرضٍ أخرى.. أرضٌ لم يُرَ بمثل جمالها قط.."
فقالت الفتاة بلهفة "خذني إليها.."
ابتسم مجيباً "قد نتمكن من الذهاب إليها يوماً.. من يدري؟!.."