مالت الشمس عن قلب السماء، وخفت وهجها وأصبح ضوؤها أكثر رقةً وخفوتاً.. ووسط السلسلة الجبلية الشاهقة، على الطريق الذي يقطعها من الجنوب للشمال متلوياً بين الوديان وسفوح الجبال، سارت تلك القافلة المرافقة للعربة الملكية بسرعةٍ أكبر من المعتاد آملةً أن تجتاز ما تقدر على اجتيازه من هذه الجبال قبل حلول الليل..
وفي قلب العربة الوحيدة في تلك القافلة، لاحظت ميسيتا أن هالاي لم يخفت اضطرابها مع مرور الوقت، وهي تلقي بنظراتٍ خاطفة عليها.. فسألتها "ما بالك؟.."
فركت هالاي كفيها بقلق وهمست "ميسيتا.. أنا خائفة.."
قالت ميسيتا بنبرةٍ متعجبة "وعلام الخوف؟"
قالت هالاي باحتجاج "ألا تعرفين لمَ؟!.. أنا مرعوبة، ولا أكاد أتمالك قلقي لما قد يجري عند وصولنا..
نظرت لها ميسيتا بحزم معلقة "لا تستسلمي لهذا الخوف.. إنما أنتِ عائدةٌ لمدينتك وموطن رأسك بعد غيابٍ طال..
قالت هالاي بضعف "ولكن...."
فعلقت ميسيتا "لا تقلقي.. بموت الملك، ليس عليكِ أن تخشي أمراً.. ولم يبدُ لي أن من يحكم المدينة كارهون لعودتك.."
توسلت هالاي "فلنعُد أدراجنا يا ميسيتا.. فلننسَ كل ما أتينا لأجله، ولنعُد لنواصل حياتنا كما كانت سابقاً..
نظرت لها ميسيتا بتحذير قائلة "إياكِ التراجع الآن بعد أن وصلنا لما نحن فيه.. فات الوقت على التراجع، فواصلي القيام بما عليكِ القيام به وثقي بي.. سنخرج من روسن ظافرين دون أدنى شك.."
لم يزايل القلق عيني هالاي، فربتت ميسيتا على كتفها مضيفة "لا داعي للقلق.. لقد وعدتُ أن أحميك حتى عودتنا للديار، ولن أخلف عهدي لكِ قط.. أم أنك تشككين بقدراتي؟.."
نظرت هالاي أرضاً وقالت "لستُ أشك بذلك.. لكني أخشى عليكِ بقدر ما أخشى على نفسي.. ما الذي قد يقوله توهار لو علم بما ننوي فعله؟"
نظرت ميسيتا خارج العربة قائلةً بعدم اهتمام "لكنه لن يعلم ولن يعبأ بذلك بعد موته.."
قالت هالاي بتأنيب "كيف لكِ الحديث عنه بتلك النبرة؟.. لقد كان كأبٍ لكِ يا ميسيتا.. كان كذلك لكلتينا، ولم يتوانَ عن بذل كل ما بيده لأجلنا..
قالت هازةً كتفيها "لستُ أبغضه بالطبع، لكني لا أنوي الالتزام بما فرضه علينا في حياته.. لنا الحق بالعودة لروسن، فما الذي يمنعنا من ذلك؟.."
قالت هالاي مشفقة "أنتِ تعلمين أنه ما فرض علينا ذلك إلا خوفاً مما قد يجري لو عدنا لروسن.. خوفه على تلك الطفلة قد جعله ينبذ حياته في موطنه طوال عشرين سنةً من عمره.. ألا تقدرين له تضحيته؟.."
اعتدلت ميسيتا جالسة وعلقت "هذا لا يعني أنني لن أستغل الفرصة التي رأيتها أمامي خوفاً على مشاعر رجلٍ ميت.."
غمغمت هالاي عابسة "يا للسانك المسموم!.. أحياناً لا أفهمك، وأشعر أنكِ تبغضين توهار بشكلٍ يخالف ما تظهرينه أمامي.."
علقت ميسيتا "لا يمكنني أن أبغضه.. أنا، بالفعل، أعتبره أباً لي.. لكني أرفض أن يقرر لي أي شخصٍ مصيري ويسيّر حياتي.. لقد احترمت قراراته أثناء حياته، ولم أسعَ لمخالفته حتى موته.."
ونظرت لهالاي مضيفةً بابتسامة "لا تقولي لي إنك تنتوين الالتزام بالتعليمات التي قررها عليكِ حتى بعد موته؟.. هذه طاعةٌ مبالغٌ بها من جانبك نحوه.."
همست هالاي وهي تنظر عبر زخارف العربة "أنت تعلمين أنني ما كنت لأعيش لولا توهار.. لولا إنقاذه لي، لكنتُ نسيْاً منسيّاً منذ زمنٍ بعيد.."
صمتت ميسيتا بدورها دون أن تعلق على ما قالته هالاي.. بالفعل، إنهما تدينان لتوهار بحياتيهما.. تلك حقيقةٌ لا يمكن محوها على الإطلاق.. لكن هذا لن يلجم ميسيتا ويحدّها عن السعي خلف ما تريده على الإطلاق..