إنه العام 1863
إنها مونروفيا .. أكبر مدينة في ليبيريا و هي ثاني مستوطنة أمريكية سوداء في أفريقيا
كان العالم يشتعل .. الأمر أنه حينما تكون هناك ألعاب جديدة مع مجموعة أطفال يتسابقون على تجربتها و اللعب بها و نفس الأمر مع الأسلحة
مع مجموعة من البنادق المختلفة و المدافع و الكثير من البارود و الكرات الحديدية و القذائف و تشاهد عالم يحترق .. حروب في شرق أسيا و حروب أخرى بين العثمانيين و اليونان و نزاعات في العالم الجديد و فرنسا تحارب في المكسيك .. العالم يحترق بينما كنت أمر بأسوأ أوقاتي أناذاك
بلباس مهترئ رث متشبع بالأوساخ ورائحة فظيعة و فم يشع برائحة الكحول .. كنتُ أنا ذلك الشخص المنبوذ الذي يترجى صاحب البار أن يعطيه النبيذ و هو يرفض لأنني ببساطة لا أملك أي أموال ، ليس فقط كذلك بل أنا أيضاً مغرق بالديون لدرجة أن أمن البار قد ملوا من طردي و ضربي .. و سمعتي تسبقني في كل بار خشبي مقزز من تلك الأماكن المقززة
حاولت سرقة بعض النبيذ من أحد الزبائن بينما كان أمن البار يطرودونني للخارج ، كان لابد لي من شرب ما يكفي لأن أتحمل الضرب المبرح
إنه ماساي و رجاله قادمون خلفي لضربي بسبب الأموال الكثيرة التي استدنتها منهم و وعدتهم بردها
و إذا حاولت الهرب من تلك المدينة سأجد الدائنون يطاردونني في غيرها لأنني قد وصلت للحضيض
لم أهرب كثيراً حتى أمسك بي ماساي و رجاله و أبرحوني ضرباً حتى ملّوا و رحلوا
بأعجوبة وصلت لساحل البحر حبواً على رماله البيضاء الجميلة التي تكاد تضيء في الليل كأنها رمال قمرية و استلقيت على ظهري أشاهد النجوم و السماء و إنعكاسها على مياه البحر إنها لحظات قليلة ترى فيها ذلك الإنعكاس عندما تهدأ مياه البحر وهي لا تهدأ إلا لحظات ، لحظات بسيطة تستريح فيها الأمواج ثم تعود لتغضب و تهيج مجدداً و مجدداً .. دائماً البحر هائج هكذا ! .. يقولون أن الوصول للحضيض ليس بالأمر البالغ السوء لأنه مهما تفعل لن تغرق أكثر طالما وصلت القاع .. لا يكون أمامك سوى السبيل لأعلى ..
إنه الصيف و الرياح تغني مع أمواج البحر تلك التهويدة الجملية التى كانت تغنيها زوجتي السابقة أيبيك لإبنتي أماليا ..
كانت تغنيها لأماليا قبل نومها ، و بدأت جفوني تتثاقل و أغمضت للحظة عن رؤية القمر الممتلئ في السماء
ثم هدأ البحر ، هدأت تلك المياه الغاضبة و كأنها صارت مياه بحيرة راكدة ، إعتدلت لأجلس ، لم تكن هناك رياح أيضاً .. هدأ كل شيء ولاحظت أماليا تقف بالقرب مني أراها و أسمعها تغني تلك التهويدة ، لكم إشتقت لأسمع صوتها العذب الجميل النقي ، لوحت لها و عيني تدمع و أنا أبتسم فرحاً و رفعت يدها لتلوح لي هي الأخرى و فجأة ضربتني المياه و أستيقظت من ذلك الحلم
بصداع شديد كنت بالكاد أستطيع سماع الشخص الذي أيقظني ، إنه يتكلم الفرنسية بسرعة و أدركت في الحال أنه كيماني ساقي الحانة ، كنت أعتقد أنه سيطالبني بالمال مجدداً لكنه كان يخبرني بأمر مختلف
" بالإنجليزية يا كيماني أو وضح كلامك أنا لست نابليون .. لماذا تقتحم عليّ مساحتي الشخصية "
كيماني " مساحتك الشخصية ، هل أصبح الشاطيء غرفة نومك الآن "
" نعم أصبح شاطئي الآن "
كيماني " أصبح هولنديا الآن ؟! "
" لا بل أصبح عثمانياً أيها الأمريكي المزيف ، ماذا تريد "
كيماني " هناك شخص يسأل عنك .. " و عندما بدأت أتوتر و أحاول إحصاء عدد من استدنت منهم أكمل
" ليس من الديّانة يا صديقي ، إنه شخص يبدو أنه بحار "
" هل ذكر اسمه ، و هل ذكرني شخصياً القبطان فان هارلم "
كيماني ابتسم " ذكر أنه أدميرال تركي يدعى بيراك أفندي و يبحث عن بحار أو قبطان سابق فأخبرته عنك و أعجبه الاسم جداً لدرجة لا تصدقها ، ربما يقوم بدفع ديونك عنك "
هل تبدو تلك كفرصة لأعود للبحر من جديد ، لقد كنت أنا من إبتعدت عنه في الأساس .. أردت أن أبتعد عن كل ما أعرف بكل ما أستطيع من قوة .. ابتعدت حتى فقدت هويتي أمام نفسي ، لكنني لازلت حزيناً بائساً ، لقد كنت أفكر في طريقة أغادر بها تلك البلاد الجميلة لكنني إن فعلت لن أعود إلى تركيا ..
" كان يمكنك أن توقظني بدون الماء يا كيماني "
كيماني " إنه شيء ليعدل من أمر رائحتك يا رجل ، و بالنسبة للحانة أمس أن تعرف أن صاحبها يكرهك للغاية لأنك لا تدفع الأمر ليس شخصياً يا رجل "
" هؤلاء الأمريكان المزيفون ، إنهم أفارقة و لا يعني سفرهم لأمريكا أنهم حصلوا على الجنسية السامية .. لقد كانو عبيداً هناك "
تأسست مونروفيا عام 1822و هي ثاني مستوطنة أمريكية سوداء في أفريقيا بعد سيراليون
حيث أرادت أمريكا أن تدخل سباق الاستيطان في أفريقيا كما تفعل فرنسا و بريطانيا و هولندا .. في عهد الرئيس الأمريكي جيمس مونرو أحد الداعمين البارزين لاستعمار ليبيريا و لجمعية الاستعمار الأمريكية ، لذلك أحضروا بعض العبيد الذين نالوا حريتهم و حصلوا على الجنسية و مع بعض البيض و بعض الأموال و الأسلحة لإقامة مستوطنة أمريكية هنا .. الأمر يشبه إنشاء مرسى في أفريقيا ، مكان لك لتنقل منه ما تشاء إلى بلادك و أنا أعتقد أنه مرسى لنقل العبيد إلى العالم الجديد
إنه أمر بسيط ، تحتاج إلى أيدي عاملة كثيرة و رخيصة ، تحتاج عبيد .. لن تقوم بشرائهم من البحر ، سوف تأتي إلى محل الجملة و تقوم بنقل البضاعة بنفسك
إنه الأمر الذي تفعله فرنسا و بريطانيا هنا منذ عقود ، إقامة مستوطنات ، التحريض على الحروب الأهلية التي توفر العبيد ، ثم الإتجار بهم و نقلهم و استخدامهم
قبل أن أدخل البار حاولت أن أهندم نفسي و نظرت إلى كيماني و سألته " كيماني ؟ هل أبدو مهندماً ، أشعر أن لحيتي طويلة قليلاً " كنت في حال قذرة جداً ، لحيتي كانت هائجة و مليئة بالأتربة و متصلة بشعر رأسي و كان أيضاً طويلاً و مغبراً
كيماني " تحتاج فقط إلي أن تغسل وجهك "
غسلت وجهي بالمياه التي تبقت مع كيماني ، ساعدني فقط كون شعري ناعم أن يهدأ مع المياه و دخلت الحانة ذات الجدران الخشبية ، إنها كلها من الخشب ، إذا أمطرت السماء تغرق و أنت بها لأن حتى سقفها من الخشب .. عرفني كيماني على الرجل
فتقدمت نحوه و سلمت عليه و عرفته بنفسي الكابتن عظيم الشأن فان هارلم ، هولندي الأصل
بيراك " أنا بيراك أفندي ضابط بحرى "
فان هارلم " ظننت كيماني أخبرني أنك أدميرال بحري"
بيراك " إنها ليست سفينة حربية أيها القبطان لذلك كل هذه الرتب هي شكلية قليلاً ". طلبت منه أن يكمل قصته و سأخبره بقصتي فأكمل
بيراك " نحن بحارة على متن السفينة أيسون ، و التابعة لصاحبها رفائيل بنسيرلي ، إنه أحد اليهود أصحاب رأس المال في تركيا ، نقوم بنقل أحاجر كريمة من البرازيل إلى تركيا .. بالتحديد حجر نادر جداً و غير موجود إلا في البرازيل .. جحر الجامشت الباهظ الثمن بالإضافة إلى مجموعة من الأحجار الكريمة الأخرى و الياقوت .. إنها حمولة قيمة جداً و تساوي الكثير ، و للأسف تعرضت السفينة لمشكلة "
طلب بعض النبيذ له و لي و بدأ يكمل " القبطان و الربان البحري المساعد غير موجودين و نحتاج لقبطان سابق أو بحار يساعدنا في الإبحار "
شربت كأسي الصغير و نظرت له بتعجب و أنا أرفع حاجبي " تحتاج لقبطان أو بحار ليساعدك في العودة إلى تركيا .. الأمر لا يبدو منطقياً ، الإبحار في المتوسط يشبه الإبحار في بحيرة ... هل أنت خائف من إخباري إلى أين تذهب بسفينتك "
بيراك " لقد سمعت عن فان هارلم ، جان جانزون فان هارلم .. تلك الأسطورة عن القرصان الهولندي ، إنها قصص و أساطير عن قرصان عاش في القرن السادس عشر "
فان هارلم " لقد حفظت كل هذه الأساطير و القصص عن القرصان فان هارلم منذ نشأت .. هل تصدق أنني لا أعلم أين ولدت أو أين نشأت فقد وعيتُ لهذا العالم و أنا على متن سفينة هولندية ، و أصبحت في وقت ما قرصاناً على سفينة قراصنة ، و لكنني توقفت عن نشاطات القرصنة منذ ما يقارب العشرة أعوام و أكثر
كنت في وقت أدميرالاً على سفينة حربية تركية ، في الواقع هي نفس سفينة القراصنة و لكن بإتفاق مع العثمانيين لأحارب معهم في اليونان و أقوم بتأمين سفنهم الحربية .. "
نظرت له و أكملت بعد أن صمتُ لبرهة قصيرة جداً " لم أعد قرصاناً ، إلى أين تريد الذهاب ، أتعرف يمكنني التكهن بالأمر ، سفينة تحمل بعض الأحجار الكريمة ستكون لديك مساحة كبيرة .. توقفت في أفريقيا ، أتعرف إن داهومي قريبة جداً من هنا "
بيراك " نريد نقل بعض العبيد من داهومي إلى كاليفورنيا و أحتاج لشخص يعرف الأطلنطي "
فان هارلم " كم عبداً "
بيراك " فقط خمسون ، و فقط سنقوم بتوصيلهم إلى منتصف الطريق ، ليس إلى ميناء كاليفورنيا ، أتعرف ما يطلقون عليه فولتا دو مار أو منطقة المثلث "
فان هارلم " في البحر ، و كيف سيتم الأمر "
بيراك " إن قبطان سفينتا الكابتن و الأدميرال عبد المجيد أفندي سيكون معهم على السفينة ، اتفقنا أن يتم التبادل في البحر و كان يجب أن يكون من يقود سفينتنا إيهاب أونور أفندي نائب القبطان هو من يبحر بنا ، لكننا فقدنا و هذه قصة طويلة .. أنا لا أستطيع الإبحار بالطاقم في عرض الأطلسي لأنني لم أفعل من قبل و أحتاج لشخص خبير يعرف الطريق "
قمت بالتربيت على كتفه و أنا أبتسم " جئت للشخص المناسب يا صديق .. هل تحمل معك أجر أدميرال بحري سابق و دعني أخبرك أنني مثقل بالديون "
في النهاية اتفقنا على أن آخذ عشرة آلاف عملة ذهبية و هو مبلغ كبير جداً لدرجة أن عملتان ذهبيتان فقط كافيتان لأسدد ديني لصاحب الحانة ، بالطبع كان بيراك يحمل معه في جيبه ما يقارب من عشرين قطعة ذهبية و قد ترك لي قطعتين لأسدد بهما دين الحانة و العشرة آلاف قطعة سأتسلمها بعد إنهاء الرحلة
عشرة قطع فقط كانت ستسدد ديوني في منروفيا ، أما عشرة آلاف قعطة هي حياة أخرى بالنسبة لي
غادر بيراك بعد أن أخبرني عن مكان سفينته و وصفها لأنه كما توقعت كان سيخرج من الحانة متجهاً إلى داهومي
بعد أن غادر تاركاً القطعتان الذهبيتان لكيماني كنت أشعر بفضول لأسأله و شعور لأن أستدين مجدداً كالمقامر الذي لا ينفك يتوقف عن الخسارة
بعد إلحاح أحضر لي كأس أخير و سألته
فان هارلم " كيماني ، أخبرني صراحة يا رجل و كن صادقاً معي لأنني أعتبرك كصديق بحق .. هل تثق بشخص كبيراك ، هل لم يسأل عني شخصياً فعلاً "
كيماني " صراحة يا رجل لم أكن لأثق به ، يبدو الشر من ملامحه و أتعرف جاء يسأل عن شخص يدعى فان هارلم ، لكنه أخبرني ألا أعلمك بذلك "
إنتابني الشك من بداية سماعي لقصة بيراك ، أنا في سن الأربعين و قضيت في البحار أغلب ذلك العمر ، يداي متشققتان من ربط حبال و أشعرعة السفن
بينما بيراك كان ذا يدين ناعمتين ، كان يبدو أنه لم يبلغ الثلاثين حتى ، كان متوسط الطول مثلي تماماً لكن نحيف جداً بالمقارنة برجل مهندم مثله و منعم و ذا يدين ناعمتين ، لقد كنت أستطيع أن أقسم أنه لم يقضي في البحر أكثر من شهر .. لكنني لم أكن أمتلك فرصة مثل تلك المغامرة البحرية ، إنها سكون بمثابة مبارة إعتزال
بالحديث عن داهومي ، بدأت كمستعمرة فرنسية ثم نالت استقلالها في عام 1715م وهي الآن مركز لتجارة الرقيق
فان هارلم " كيماني ، هل يمكنني المبيت عندك الليلة "
كيماني " إننا لسنا صديقين إلى هذه الدرجة " رد بالفرنسية خاصته و بتذمر " أنا متزوج يا رجل و أعيش في سلام "
فان هارلم " هل يمكنني حتى المبيت هنا .. ولا تتصرف كأننا لسنا أصدقاء نحن أصدقاء مقربون يارجل "
كيماني " لا لسنا كذلك و أنا في قمة السعادة أنك سترحل عن مونروفيا أخيراً "
في النهاية ربحت نقاشي و بتُ في منزله
كيماني ، رغم سواد بشرته الشديد كأن جذور عائله تغلغلت حتى قلب أفريقيا .. هو ذا قلب طيب و رجل صالح
أنت تقرأ
الأحجار العائمة
Mystery / Thrillerتدور أحداث الرواية في القرن الثامن عشر سفينة تركية تحمل أحجار كريمة من البرازيل إلى تركيا و لكن قبطان السفينة يقرر عقد صفقة أخرى لنقل مجموعة من العبيد من أفريقيا إلى أمريكا و يحتاجون القرصان و الأدميرال السابق فان هارم الهولندي ليبحر بهم عبر الأطلن...