الفصل الرابع

67 7 1
                                    

كنت أتابع فيونا ، إنها ذات شخصية مثيرة بالنسبة لي ، و أقصد بالإثارة هنا متابعة تصرفاتها البريئة ، هي حانقة على أمر وجود العبيد لكنها لا تملك سوى أن تبدي الأسى عليهم و الإهتمام بهم
مبادئها تقاوم ذلك الشعور بالذنب ، تقاوم و تقاوم ولكنها ستنطفئ في النهاية كما إنطفأت داخلي و داخل البحارة الآخرون الموجودن
كنت أتحدث مع أحد البحارة ، إبراهيم
كانت أسئلة تتكرر  في دماغي وكأنها صدأ يأكلها
" هل تعرف أين ذهب الربان البحري المساعد أو الضابط الأول أو أياً ما تدعونه .. الذي كان من المفترض أن يكون في موقع بيراك "
إبراهيم " كل ما أعرفه يا أنه عندما وصلنا سواحل البرازيل  غادر الثلاثة القبطان عبد المجيد أفندي و المساعد الأدميرال إيهاب و الكابتن بيراك
وكانت معهم فيونا .. و عندما عادوا بالصناديق الثلاثة المحملة بالأحجار الكريمة و بالطبع كان يرافقهم أشخاص يحملون عنهم الصناديق .. كانت تلك آخر مرة يجتمعون معاً ، أرسل إلينا القبطان عبدالمجيد برسالة مع الكابتن إيهاب بأنه سيلقانا في منطقة المثلث تلك التي يعرفها الكابتن إيهاب ، ليتم صفقة نقل العبيد تلك
ولكن الكابتن إيهاب ... " ولم يكمل حتى قاطعتنا فيونا فجأة و الدموع و التوتر قد نالا منها
فيونا " هناك فتاة سوداء مريضة ، إنها تموت في الأسفل "
تركت إبراهيم و تحركت مع فيونا ، كانت تلك الفتاة التي رأيتها تجلس في زاوية القفص الحديدي ، كانت تلك الفتاة المسكينة التى فور أن رأيها تخيلت أنني أرى أماليا ابنتي
أخذت مفتاح القفص و فتحته و دخلت إليها ، كانت حرارتها مرتفعة جداً .. كان الأولاد يجلسون بقربها و يبكون .. الولاد و البنات .. كانت كل العيون في القفص تدمع بصمت و ألم
بعيونهم السوداء كانت دموعهم تلمع و تجري على تلك البشرة الداكنة المفعمة بالحياة ، يالهذه الأرواح الطاهرة المسكينة
صحت بأعلى صوتي " ألا يوجد طبيب أو ممرض على هذه السفينة اللعينة " لم ألقى جواباً إلا من فيونا قالت أنها تعرف التمريض و كيف تتعامل مع هذه الأمور ، وكأنها كالملاك .. جلس وأخذت تعتني بالفتاة ، أخذت تفحصها و تحاول أن تفهم سبب الحمى
نظرت إلي و أخبرتني " أحتاج إلي فك قيدها حتى أتمكن من الإعتناء بها في غرفتي "
ناديت على أيوب ليساعد فيونا و تحركت نحو غرفة بيراك
طرقت الباب عليه ، كان يغلق الباب عليه في الغرفة التي بها الصناديق الثلاثة ، لم تكن صناديق ضخمة بل كانت صناديق خشبية متوسطة الحجم ، طرقت الباب بعنف ، لأنه كقبطان للسفينة يجب عليه في الأساس أن يكون وسط الطاقم يطلق الأوامر وليس بعيداً عن الأنظار
كان هو الوحيد الذي يمتلك مفاتيح قيود العبيد
فان هارلم " هناك فتاة سوداء مريضة و نحتاج إلى فك قيدها لتعالجها فيونا "
بيراك " تطرق الباب بتلك الطريقة و تكلمني دون أن تذكر في كلامك حضرة القبطان أو أي من هذا القبيل و كل هذا لأجل فتاة سوداء تبكي "
فان هارلم " إنها مريضة "
بيراك " حسناً مريضة ما الذي يمنع أن تعالجها فيونا هانم وهي داخل القفص "
فان هارلم " الفتاة تموت في الأسفل "
بيراك " كابتن فان هارلم ، إذا قمتُ بفك قيد تلك الفتاة لأنها مريضة لن يأتي الغد إلا و كل العبيد المقيدين مثلها مرضى ... اسمعني جيداً يا كابتن فان هارلم ، لن أقوم بفك قيد أي من تلك القرود السوداء إلا بعد بيعهم أو تسليمهم "
تركته و عدت إلى الفتاة و فيونا .. كانت فيونا تقوم بعمل كمادات لها ، ثم أرتني كيف أن القيود المعدنية الصدئة تؤذي قدميّ تلك الفتاة ، هناك جرح في كاحلها من أثر تلك القيود و هو ملتهب
فيونا " يجب علينا فك هذه الأشياء اللعينة ، كيف يقضون حاجتهم هكذا ... هل هم حيوانات بالنسبة إليهم ، إنهم بشر ، أطفال ، بحق السماء كيف نفعل هكذا بتلك المخلوقات البريئة ، نحن لسنا بشراً .. نحن الحيوانات الحقيقية " كانت تبكي بإنهيار
كانت رائحة القفص كريهة ، لأنهم كان عليهم قضاء حاجتهم في أماكنهم .. ربما هذا ما سبب العدوى لهم
وقفت و ذهبتُ لبيراك من جديد ، طرقت الباب بكل عنف تلك المرة
بيراك " هل جننت أو فقدت صوابك أيها المعتوه "
فان هارلم " أريد شراء الطفلة السوداء المريضة "
بيراك " إنها تساوي عندي عشرون ألف قطعة ذهبية
هل توافق ؟ "
شعرتُ بالغيظ و الغل .. كنت أكاد أن أطحن أسناني من ضغطي عليها .. صحتُ فيه " أيها اللعين .. " وأنا أقترب منه لألكمه على وجهه .. إذا به يخرج من جيبه في الحال مسدس موجهاً إليّ
بيراك " تلك البنادق الصغيرة المكسيكية يمكنها أن تقتل من مسافة ستين متراً أتعلم ، أتعلم أشعر بالفضول لأرى إصابة في رأس أحدهم برصاصة من بعد متراً واحداً .. أتعلم أستطيع أن أتكهن أنها ستخرج من الرأس و تصيب رأساً آخر .. ربما تمر أيضاً و تصيب الثالث أم تتوقف في الرأس الثاني "
توقفت مكاني و أنا أغلي من الغيظ لكنني أعلم أنه لن يستطيع فعلها لأنه بذلك سيحكم على نفسه بالموت في عرض الأطلنطي .. سيتحنط من المياه المالحة كالسردين المخلل .... لكنني لم أكن أود أن أختبر الأمر ، استدرت و خرجت و بينما أنا أخرج سمعت صوت إطلاق نار من مسدسه .. لقد صوب نحو السقف و أطلق
الرصاصة إخترقت السفين للخارج محدثة ثقباً بحجمها و لحسن الحظ لم يكن هناك أحد على سطح السفينة يقف فوق سطح تلك الغرفة وإلا كان الآن مصابا أو ميتاً
استدرت إليه " هل جننت ، قد تقتل أحداً "
بيراك " عليك أن تنتبه لكلماتك معي و عليك أن تختارها بعناية جيدة "
غادرت لسطح السفينة لأرى هل تأذى أحد من رصاصة ذلك المجنون و لحسن الحظ لم يتأذى أحد كما توقعت
كان الجميع متوتراً بسبب ما حدث و الهدوء ساد السفينة كلها .. لم يعد هناك غير صوت إرتطام الأمواج بالسفينة .. ثم صعد بيراك و هو يحمل مسدسه بيده و يتلاعب به
بيراك " لا أحب أن أكرر الأمر ، جميعكم تعلمون أنني الآن قبطان السفينة و الآمر الناهي هنا ، الكلمة العليا هي كلمتي ولا نقاش معي ... " ثم التفت و نزل و هو يقول آخراً " حتى يعود الرايس عبد المجيد .. على سفينة الأمريكان "
عندما إقترب الليل نزلت إلى قفص العبيد حيث كانت فيونا تعالج تلك الطفلة السوداء المسكينة كانت ممددة على الأرض و تسند رأسها على حجر فيونا المتربعة على الأرض و التي تقوم بوضع الكمادات على رأسها
نظرت إلى كاحل الفتاة المصاب فوجدت أن فيونا قد ربطت عليه قماشة ، سألتها " هل طهرتي الجرح قبل أن تضمديه " فأجابت بالتأكيد
فان هارلم " يمكنكي أن تذهبي للنوم و أنا سأعتني بها حتى الصباح "
نظرت إليّ و كأنها تتعجب فأكملت " هيا أنا جاد ، أريد ذلك بحق "
فيونا " هل تعلم لقد ذهبت إلى بيراك ذلك القذر وطلبت منه أن أشتري حرية تلك الفتاة ، أتعلم ماذا طلب مقابل حريتها " لم يكن عليّ أن أفكر كثيراً في الأمر لأن نظرت فيونا و دمعتها كانتا برهاناً ، بالتأكيد طلب أن يحصل على فيونا معه لليلة
ثم تابعت فيونا " ذلك الحيوان القذر ، سأموت قبل أن يلمس شعرة واحدة مني " مددت يدي إليها لأوقفها
مسحت دموعها ثم نظرت في عينيّ
فيونا " اسمها بايروبي ، اعتني بها جيداً ، بدأت حرارتها تنخفض ، لكنها لا تستطيع النوم " ثم غادرت بينما جلست و تربعت مكانها و بدأت أغمس تلك القماشة التي كانت تستعملها فيونا و أعصرها و أضعها على رأس بايروبي .. كانت فيونا لازالت عند الباب ، نظرت إلى و شكرتني و غادرت
بدأت أغني تلك التهويدة التي كنت أغنيها لأماليا و التي تعلمتها مني أيبيك و كانت تغنيها لأماليا عندما كنت غير موجود ، عندما كنت بعيداً عنهما في البحر
ظللت أغني تلك التهويدة الهولندية حتى نامت بايروبي و نام جميع الأطفال و صار صوتي وحدي يتردد عبر جدران السفينة ..
دائماً و كل ليلة مهما قاومت النوم تأتي تلك اللحظة التي أغفو فيها
فتحت عينيّ و لم يكن هناك أي أحد في القفص ، كنت أسمع صوت أماليا الصوت الوحيد الذي يتردد صداه على الأيسون تلك في حالة من الهدوء و السكينة .. كانت  تغني تلك التهويدة ، هي دائماً تغنيها في أحلامي .. كنت أسمع صوت وقع أقدامها و حركتها فوق سطح السفينة التي لم أتعجب أو أتساءل كيف يمكن أن تكون خالية من الجميع فجأة هكذا
صعدت بسرعة جرياً للسطح و لم أجد أماليا لكنني لازلت أسمع صوت أماليا تغني تلك التهويدة ، حتى أنني لا أسمع صوت الأمواج وكأنها سكتت لتستمع لصوت أماليا .. سمعت الحركة في الأسفل ، لاحظت ذلك الثقب الذي أحدثته رصاصة مسدس بيراك .. نزلت على ركبتي ثم إقتربت أكثر من ذلك الثقب و نظرت خلاله ، رأيت بيراك يصوب المسدس إلى عيني و يطلق النار
استيقظت فزعاً .. لكنني لازلت مرهقاً فاستيقظت في حلم آخر في مكان آخر
كنت أقف بالقرب من أحد المواني ، كان الجو بارداً جداً و كانت هناك امرأة مسكينة تحتضن ابنها و تحاول تدفئته ، بالقرب من سفينة قديمة متضررة موجودة كلها على الشاطئ .. كنت أتحرك بين السفن حتى رأيتهما ، كنت خلفها .. لم أرى وجهها .. كانت تلك تغني له تلك التهويدة الهولندية التي أعرفها
كانت تقول
" لوليون   لوليون يا طفلي الصغير عندما تكبر و تصبح رجلا و ستكون صلباً تذكر أنك ترعرعت في حضن أمك لا تنسى أبداً أمك و احفظها في قلبك
لوليون  لوليون يا طفلي الصغير لا تنسى أبداً ما أقول ، لا تنسى أمك و أحفظها في قلبك "

الأحجار العائمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن