الفصل السابع عشر

1.1K 46 11
                                    

ألقى بالصحيفة امامه بغضب وهو يتنفس بكبت وينظر امامه بحقد ، ليشعر بعدها بكف تمسك بكتفه بإغراء وصاحبتها تقول بدلال
"ما بك يا حبيبي ، ما لذي يضايقك هكذا وجعلك تحدق بالصحيفة لمدة ساعة كاملة ، اخبرني بما يزعجك"
نظر (سعيد) بعيدا عنها وهو يتمتم بشراسة
"كل شيء فعلناه وخططنا له انقلب ضدنا بدل ان يساعدنا"
عقدت (مي) حاجبيها بعدم استيعاب لتلتقط بعدها الصحيفة من على الطاولة امامها قبل ان ترفعها امام وجهها بحيرة ، وما هي ألا لحظات حتى ارتفع حاجبيها بصدمة وهي تهمس بذهول
"أليست هذه الطفلة الحمقاء نفسها من انتشرت فضيحتها قبل ثلاثة أيام ، وأنت اخبرتني بأنك السبب بهذه الفضيحة لنتخلص من وجودها بالشركة نهائياً"
ردّ عليها (سعيد) وهو يقول بملل
"اجل هي وهذا الخبر يتكلم عن عقد قرانها بابن مدير الشركة مؤيد بارون"
فغرت (مي) شفتيها وهي تقول بتلعثم
"تقصد بأنها اصبحت.."
توقفت عن الكلام وهي ما تزال فاغرة شفتيها بانشداه ، ليكمل (سعيد) كلامها وهو يقول ما كانت تنوي قوله
"اجل تلك العاملة البسيطة اصبحت زوجة ابن عائلة بارون ، وهذا يعني بأن كل ما فعلناه لنشوه سمعتها ذهب أدراج الرياح مع هذا الخبر القنبلة"
عضت (مي) على شفتيها بغيض وهي لا تصدق لأي مرتبة ارتفعت تلك الطفلة التافهة فبدل ان تنزل للحضيض والذي يناسب مستواها بعد هذه الفضيحة ارتفعت أضعاف ما كنا نتخيل ، قالت بعدها بتذمر وهي تلقي بالصحيفة بعيدا مكتفة ذراعيها فوق صدرها
"إذاً فقد استطاعت تلك الطفلة ان تسقط ابن مدير الشركة بحبائلها ، وهذا المتوقع من الفتيات الرخيصات أمثالها وهو البحث عن الفريسة الأفضل ليستطعن اصطيادها"
كان (سعيد) شارد الذهن وهو يفكر بأمور اخرى ، ليتمتم بعدها بشرود
"لا اعتقد بأنها من ذلك النوع"
نظرت له (مي) بتركيز وهي تقول بقوة
"ولكن اللوم يعود عليك انت بكل هذا يا سعيد ، فأنا طلبت منك ان تطردها من الشركة لا ان تفضحها مع ابن مدير الشركة فيبدو بأنها قد افادتها كثيرا هذه الفضيحة وقلبتها لصالحها"
التفت (سعيد) نحوها بحدة وهو يقول باقتضاب
"هل تلوميني انا بكل ما حدث بعد أن نفذت طلبكِ ، أليس انتِ من اردتِ طردها من الشركة يا ناكرة الجميل"
تبرمت شفتي (مي) بغضب لتقول بعدها بحنق بالغ
"توقف عن خلق الأعذار يا سعيد وألقاء اللوم عليّ بما فعلته يداك ، فأنت لست متضايقا لأن خطتك لم تنجح بل لأنك لن تستطيع الوصول للفتاة بعد الآن وقد اصبحت ملك لشخص آخر"
وقف (سعيد) عن الأريكة باندفاع وهو يتمتم بتصلب
"ماذا تقصدين بهذا الكلام يا مي ، هل تقصدين بأني اسعى خلف الفتاة بعد ان فضحتها بين العالم وضحيتُ بوظيفتي بالشركة وغير هذا مطارد من ابن بارون والذي ينوي على قتلي"
ابعدت (مي) نظراتها بعيدا عنه وهي تتمتم ببرود
"قد تكون فعلت كل هذا لإرضائي ولكن هذا لا يمنع بأنك نادم على خسارتك لتلك الطفلة والتي كانت تبدو لعبة ممتعة بالنسبة لك ، وتتمنى لو انك لم تفعل اي شيء من هذا"
امتقعت ملامح (سعيد) وهو يواجه الحقيقة والتي كان يفكر بها طول الوقت فلو انه لم يحدث اي شيء من هذا لكان الآن ما يزال يستمتع بالتسلي مع تلك الفتاة الصغيرة ، ولكن حقده اتجاهها وكرامته والتي اهدرتها بفعلتها لم يسمحا له بالغفران لها بدون أي عقاب لتجرب القليل من الذي أذاقته إياه ، قال بعدها بلحظات وهو يبتسم بجمود بارد
"كان عليّ ان اعرف بأن هذا هو مقدار ثقتك بي والتي جعلتكِ تشكين بي هكذا ، ولكن الخطأ ليس خطأكِ بل خطأي انا لأني قررت المجيئ إليكِ فقد ظننتُ بلحظة ضعف مني بأنكِ الوحيدة والتي تفهمينني هنا لأكتشف مدى سذاجتي بثقتي الكبيرة بكِ"
التفتت (مي) باتجاهه بسرعة وهي تقول بارتباك محرج
"ليس هذا ما قصدته بكلامي يا سعيد فأنا كنتُ.."
قاطعها (سعيد) بهدوء وهو يتجه لباب المنزل الصغير
"هذا يكفي يا مي فقد مللت من قلة ثقتك بي ، لذا من الآن اعتبري بأن كل شيء كان بيننا قد انتهى ولم يكن له وجود من الأساس ، وداعا يا خطيبتي السابقة"
كان (سعيد) قد خرج من المنزل وهو يقفل الباب من خلفه بقوة ولم ترى ابتسامته الخبيثة والتي كانت تعلو وجهه بغموض ، بينما ترك من خلفه (مي) وهي متسمرة بمكانها من الصدمة قبل ان ترتمي على الأريكة من خلفها جالسة وعينيها جامدتين بمكان اختفائه بدون اي تعبير وهي ترى حبيبها والذي بقيت مخطوبة به لمدة سنتين كاملتين قد اختفى نهائياً ولم يعد له وجود بحياتها والتي كرستها فقط من أجله .
____________________________
كانت تسير بخطوات جامدة باتجاه بوابة الخروج من الجامعة وهي لا تشعر بالطلاب السائرين من حولها بكل مكان حتى انها لم تستطع التركيز بأغلبية محاضراتها وهذا ما جعل أغلبية الأساتذة يستاؤون منها ولكن ماذا تفعل لهم وكل تركيزها وانتباهها اصبح متجه نحو الصور وصوت انفاس (يزن) المضطربة والتي ما تزال تضرب اذنيها بطنين موجع ، لولا غيابها الطويل عن الجامعة بالأيام السابقة بسبب إصابتها لما كانت اضطرت للخروج من المنزل وهي تشعر بروحها تنزف مع كل خطوة تخطوها هناك بل لكانت بقيت بغرفتها تكمل عذابها بالتقلب بسريرها مع كابوسها المعتاد .
وقفت خطواتها البطيئة امام الجسد والذي سد عليها الطريق فجأة وهي تحدق بحذائه الأسود اللامع والطويل من المقدمة ، لتتابع بعدها طريقها وهي تحيد بخطواتها بعيدا عنه ، عاد مرة أخرى للوقوف امامها لترفع عندها رأسها بحدة قائلة بتجهم مستاء
"ابتعد عني يا انت.."
توقفت عن الكلام فجأة وهي فاغرة شفتيها الحمراوين بذهول ومن كانت تفكر به طول ليلة أمس تجسد امامها بكل قوته وبكل جبروته لترفع نظراتها لعينيه الخضراء الشاحبة وهي تنظر لجمودها وقسوتها ولمحة حزن خفية موجودة بين خضاره لا يلاحظه سوى من عايشه طول سنوات حياته ، لطالما كانت هذه العينان هوسها وعشقها الأبدي وهما تذكرانها بأحب شخص على قلبها عمتها (حنان) المرأة والتي اخذت من صفات اسمها الكثير والتي تعلمت منها الأمومة والمشاعر المعطاءة والتي لا حدود لها .
اغلقت (زهرة) شفتيها بحزن وهي تعبسهما بوجوم قبل ان تدير عينيها العسلية بعيدا عنه ، لتهمس بعدها بهدوء جامد
"توقف عن سد الطريق من امامي وارحل من هنا فأنا الآن بحالة لا استطيع فيها ان اضمن ردة فعلي"
ابتسم (يزن) ببرود وهو ينظر لهروب عينيها بعيدا عنه وآثار التعب والإنهاك واضحة عليها كوضوح الشمس وهذا دليل بأنه قد ضربها بمقتل بسبب خبر زواجه والذي وصل لها من جدها ، نزل بنظره بعدها لساقيها وهو يقول بابتسامة شاردة
"يبدو بأن ساقك الخرقاء قد عادت للعمل ، وقد فاتني رؤية أولى خطواتها ، ولكن لا بأس فعودتها للسير امامي يبهجني كثيرا"
اخفضت (زهرة) نظراتها للأسفل فقد نسيت موضوع ساقها المصابة تماما والتي لم تعد تشعر بها بعد ان فاقها ألم آخر اشد وجعا على قلبها ، لتتمتم بعدها ببرود جليدي
"توقف عن السخرية وابتعد عن طريقي ، ارجوك"
تجهمت ملامح (يزن) بامتقاع قبل ان يرفع كفه ليمسك بكفها المرتجف وهو يتمتم بقوة
"تعالي معي لنتكلم ، فهناك امور تحتاج للتوضيح والتبرير ولن ينفع هنا امام الناس"
ردت عليه بابتسامة باهتة تحمل السخرية والحزن معا
"ليس هناك تبرير بالعالم يستطيع ألغاء حقيقة زواجك للمرة الثانية يا يزن"
اتسعت عينيه الخضراء بصدمة وهو لا يصدق لأي حال من السخرية والحزن وصلت لها بسببه ، وماذا كان يتوقع منها مثلا بأن تتقبل كل شيء ببساطة ؟ شدد (يزن) على كفها وهو يقول بحزم بالغ
"تعالي معي وستعرفين ما هو التبرير والذي املكه لكِ ، لقد استمعتِ لكلام الناس ولكلام عائلتك طويلا والآن جاء دوري لتستمعي لكلامي"
حاولت تحرير كفها من قبضته وهي تقول بدون اي تعبير فقط عينيها العسلية تهتزان بدموع جامدة
"اتركني يا يزن فأنا لا اريد الاستماع للمزيد من الكلام ، صدقني هذا سيقتلني اكثر وقد يقتل الصورة الجميلة والتي احتفظ بها لك بطفولتنا ، ارجوك لا تدمر تلك الصورة بمخيلتي وتدمر قلبي المعلق بها"
تصلب فك (يزن) بشراسة ليقرب كفها اكثر باتجاهه وهو يهمس بفحيح
"اخرسي وتوقفي عن هذا الكلام ، فيبدو بأن ساقك ليست المصابة بل عقلك هو الذي إنصاب بالجنون ، ستأتين معي لتستمعي لكلامي شئتِ أم ابيتِ"
تجمدت ملامحها فجأة قبل ان تدفعه بقبضتيها بكل قوة ليفلت كفها وهي تصرخ بانفعال منتحب
"قلت لك لا اريد سماع شيء ، واتركني وشأني يا يزن بارون"
تسمر (يزن) بمكانه على بعد خطوات منها وهو ينظر للطلاب من حولهم والذي بدأوا يتجمعون على صوت صراخها المفاجئ ، ليتغضن بعدها جبينه بغضب منها ومن نفسه وهو يقول بحدة خافتة
"زهرة توقفي عن هذه التصرفات الطفولية وتعالي معي بهدوء وبدون عناد وألا.."
قاطعته وهي تقول بنشيج حانق
"وألا ماذا ، هل ستحملني رغما عني لسيارتك"
تشنجت ملامحه وهو ينظر للعيون المراقبة لهما ليقول بعدها بكل هدوء استطاع استجلابه
"لو اضطررت فسأفعل فأنتِ لا شيء ينفع معكِ سوى هذا الأسلوب"
زمت شفتيها بارتجاف وهي تتراجع بخطواتها بعيدا عنه بخوف بدأ يزحف لجسدها ، وما ان اصبحت على بعد مسافة جيدة منه حتى قالت بابتسامة واثقة
"وانت لا شيء ينفع معك سوى العنف والقسوة و.."
ما ان بدأ (يزن) بالتقدم باتجاهها بخطوات سريعة كالفهد حتى قالت برعب وهي ترفع كفها بتحذير
"إياك يا يزن وان تقترب مني فأنا لا اتحمل قربك الموجع ابدا وامرأة اخرى قد حصلت عليك"
توقف (يزن) على بعد خطوتين منها وهو ينظر لها بغموض ، بينما زفرت (زهرة) أنفاسها بتقطع مؤلم وهي تفكر إذا كانت قد آلمته بكلامها ولكن ماذا عن ألمها هي وكأن نيران تندلع بجوفها منذ معرفتها بالخبر ، همست بعدها بلحظات بابتسامة حزينة
"كان عليك الانتظار على الأقل حتى تنحل مشاكل العائلتين ، ولكنك فضلت الزواج فورا متناسيا مشاعري واملي الكبير بأن نجتمع معا يوما ما ، ولكنك حطمت ذلك الأمل بتصرفك القاسي قبل ان يتحقق وقبل أن يأتي ذلك اليوم والذي انتظرته بفارغ الصبر"
كانت ملامح (يزن) جامدة وباردة كالرخام وهو ينظر لها بتركيز وبداخله نيران تتصارع لتحرقها وتحرق كل من حولها من اخضر ويابس ، تدخل بعدها صوت من خلفها وهو يقول بحزم
"ابتعد عن ابنة عمي وإياك وان تقترب منها يا هذا"
استدارت (زهرة) بصدمة لتنظر ل(فراس) وهو يتنقل بنظره بينهما بوجوم ، بينما كان (يزن) ينظر له ببرود وهو يفكر بالفرد الجديد من عائلتها والذي يريد ان يبعدهما عن بعضهما كالباقين وكأن كل العالم يتضامن ضده .
سارت (زهرة) نحوه لتهمس له بخفوت
"ماذا تفعل هنا يا فراس"
قال (فراس) بقوة وهو ينظر ل(يزن) والواقف امامهما بجمود
"اتيت لأصطحبكِ معي للمنزل واطمئن على ساقك ، هيا بنا لنغادر من هنا"
التفتت (زهرة) باتجاه (يزن) وهي تنظر له بدون اي حياة قبل ان تقول بجفاء حاد
"انا ذاهبة ، وداعا يا يزن"
ولكن (يزن) كان قد تحرك اخيرا ليصل لها بخطوتين ليمسك بذراعها ما ان استدارت وهو يهمس بخشونة خافتة
"لا تفعلي هذا بنا يا زهرة"
التفتت (زهرة) نحوه وهي تنظر له بألم ظهر بعينيها العسليتين والممزوجتين بلون الدماء على الأطراف ، وما ان كانت على وشك النطق حتى شهقت بذعر ما ان اندفع (يزن) بعيدا عنها مفلتا ذراعها بفعل لكمة من قبضة (فراس) ، ليستقيم (يزن) بوقوفه وهو يمسح الدماء عن شفتيه بهدوء جامد ونظراته مركزة عليه ، وما هي ألا لحظات حتى كان (فراس) سيعاود الهجوم عليه لولا تدخل (زهرة) وهي تقف امام (يزن) قائلة بتحذير شرس يظهر عليها لأول مرة
"إياك وان تعود للاقتراب من يزن وألا سأنسى القرابة والتي تجمعنا"
تسمر (فراس) بمكانه وهو ينظر لها بصدمة لتتحول ملامحه للوجوم وهو ينظر لشراسة (زهرة) الجديدة عليه ، لتلتفت بعدها (زهرة) باتجاهه وهي تهمس بتوجس
"هل انت بخير"
كان (يزن) يحرك رأسه بهدوء بدون اي تعبير ظاهر على وجهه وهو يتوعد له ان يردها له أضعاف وبالوقت المناسب ، بينما قال (فراس) بهدوء وهو يشير لها بكفه بحزم
"هيا بنا لنذهب من هنا فقد اصبحنا مرأى امام العالم"
التفتت (زهرة) باتجاهه بهدوء لتحرك رأسها بجمود ، لتشعر بعدها بكف (يزن) وهي تضغط على ذراعها بقوة قائلا بأنفاس مضطربة وخشنة
"لا تذهبي يا زهرة وتعالي معي ، فهناك الكثير عليكِ سماعه مني فليس من العدل ان تصدقي كلامهم ولا تصدقي كلامي ، امنحيني فرصة واحدة للكلام"
عبست ملامح (زهرة) بارتجاف وهي تهمس بلا حياة ودمعة يتيمة تسيل على خدها ببطء شديد
"كنتُ سأسمعك يا يزن وسأصدقك ولكني رأيتُ كثيرا واكثر مما استطيع التحمل ، وأي كلام ستقوله لي الآن لن استطيع تصديقه امام كل هذا الكم من الحقائق والتي دمرت ما تبقى لي من مقاومة فأنا بشر بالنهاية ولدي حدود بالتحمل"
سقطت كفه عن ذراعها وهو ينظر لها بحزن وعجز يظهر لأول مرة بعينيه والتي اصبحت بلحظة مظلمتين ، ليهمس بعدها بابتسامة حادة لا تعبر عن شيء
"حسنا يا زهرة ولكن يوما ما ستستمعين لكلامي وهذا اليوم لن يكون بعيدا جدا ، أعدك بهذا"
حركت (زهرة) رأسها بتشوش وهي تستدير بعيدا عنه وتمسح الدمعة عن وجنتها بهدوء لتسير بعدها باتجاه (فراس) بضعف شديد اتعب مفاصلها ، بينما تقدمها (فراس) قبل ان يلقي نظرة شرسة باتجاهه ليسير بعدها بسرعة نحو سيارته ، التفتت (زهرة) بوجهها فقط لتلقي نظرة أخيرة باتجاه (يزن) لتبتسم له بعتاب مهتز وكأنها تودعه بهذه الابتسامة وكم ذكرته بالماضي عندما كان يغضب منها بطفولتها لتبتسم له بعتاب حزين متبرم وهو بالمقابل كان يسامحها من فوره ولكن هذه المرة مختلفة فقد تبدلت الأدوار بينهما وهو الذي اغضبها ويريد سماحها وكم يتمنى لو يستطيع إعادة تلك الطفلة والتي لم تكن تحمل بقلبها اي كره لأحد بقاموسها فقط كانت تجيد اللعب والبساطة بكل شيء بحياتها الملونة والمشرقة .
______________________________
كان ينظر بالكتاب بين يديه بملل قبل ان يقاطعه دخول قوي لغرفة المكتب ، لم يرفع نظره عن الكتاب ليعرف هوية الداخل فقد عرفه من دخوله المندفع بدون اي طرق او استئذان ، ليأتي بعدها الصوت الجهوري الغاضب والذي يعرفه جيدا وهو يلقي بالصحيفة فوق سطح المكتب بقوة
"ما هذا الخبر المكتوب بالصحيفة ، وهل هو صحيح"
قال (مؤيد) بلا مبالاة بدون ان يرفع نظره عن الكتاب
"الأمر يعتمد بمدى تصديقك للخبر وإذا كنت ستصدقني ام لا"
ردّ عليه (سليمان) بحدة وهو يضرب سطح المكتب بكفه
"اخفض هذا الكتاب من امامك وتكلم معي مثل الخلق يا ولد ، وهيا اجيب هل هذا الخبر صحيح"
اغلق (مؤيد) الكتاب وهو يخفضه من امامه ليضعه على سطح المكتب قبل ان يتمتم بهدوء
"اجل صحيح"
عقد (سليمان) حاجبيه بشراسة ليقول بعدها بعدم تصديق وحنق
"ولما فعلت هذا أيها المغفل ، هل تحاول إغاظتي بهذا التصرف لأنك هذه المرة تجاوزت كل الحدود"
قال (مؤيد) وهو يرفع كفيه امامه ببراءة
"لا والله ليس هذا هدفي فلدي طرق أخرى لإغاظتك ، ولكني كنتُ احاول حل المشكلة والتي سبق واخبرتني ان اجد لها حل وها أنا حللتها وابعدتُ الفضيحة عنا وعنها"
ردّ عليه (سليمان) وهو يرفع كفه لجبينه بغضب
"يا لك من احمق كبير لا اعلم ما لذي تحمله برأسك هذا ، انا اخبرتك بأن تحل المشكلة وتبعدها عنك لا ان ترتبط بالمشكلة يا ساذج"
حرك (مؤيد) عينيه بعيدا عنه بملل وهو يتمتم بابتسامة واثقة
"لقد رأيتُ بأن هذا هو الحل الأفضل للجميع ، وايضا انا السبب الرئيسي بهذه الفضيحة لذا ليس من العدل ان تعاقب الفتاة على خطأي وتدفع ثمنه العمر كله بدون زواج"
قال (سليمان) بعدها بلحظات وهو يخفض كفه بتصلب
"انت لا تعلم اي خطأ ارتكبته بزواجك بهذا النوع من الفتيات الرخيصات واللواتي لا يناسبنا مستوانا ، هؤلاء الفتيات فقط يبحثن عن منفذ ليصلن لنا ويحولونا لخواتم بأصابعهن والذي يحركهم فقط هو الطمع وحب الشهرة ، ويستخدمن ايضا الخداع والمكر وكل ما يملكنه من سحر ليصلوا لفرد منا وكل ما يسعين إليه هي ثروتنا وكل ما بحوزتنا يا احمق ، ولكن ماذا سيفيد هذا الكلام الآن بعد ان ارتبط بواحدة منهن"
كان (مؤيد) يحرك رأسه وهو يمثل الانتباه الشديد ، ليقول بعدها ببساطة
"اجل انت على حق يا ابي وانا اعرف شخص من هذا النوع وهو قريب جدا من عائلتنا ولسوء الحظ بأنك متزوج منها الآن"
ردّ عليه (سليمان) بعصبية مفاجئة
"اخرس يا وقح واحترم نفسك ، ولا تنسى بأنها تكون زوجة والدك يا غر ، وهي اكيد ليست من هذا المستوى والذي اتكلم عنه فهي ارفع منه بكثير حتى لو لم تكن من مستوانا"
قال (مؤيد) وهو يبتسم باتساع وببلاهة
"حقا ولكن هذا ليس واضحا امامي من معاملتك الفظة معها والشجارات والتي اصبحت تحصل بينكما كثيرا هذه الأيام ، حتى اني لم اعد ارى زوجة والدي بالآونة الأخيرة بعد ان اصيبت بنوبة الهلع والتي تصيبها كثيرا هذه الأيام"
تشنجت ملامح (سليمان) بحدة ليهمس بعدها بتهديد غاضب
"هذا ليس من شأنك يا ولد ، وإياك وإهانة زوجة والدك امامي مرة اخرى او قول كلام لا يصح عنها ، وألا سأفعل بك مثل ما فعلت بشقيقك السابق"
ردّ عليه (مؤيد) بنفس القوة
"وانت ايضا إياك وان تهين زوجتي ، لن اهين زوجتك وبالمقابل لا تهين زوجتي ، وهكذا سنكون متعادلين"
زفر (سليمان) انفاسه بقوة ليقول بعدها بلحظات بهدوء
"متى عقدت قرانك بتلك الفتاة"
ردّ عليه (مؤيد) بتفكير مبتسم
"قبل يومين تقريبا"
قال (سليمان) وهو يرفع حاجبيه بتجهم
"قبل يومين ولم تخبرني بشيء ، لما لم تنتظر ايضا حتى تبعث لي دعوة لأحضر مسرحية زواجك وكأني غير موجود بحياتك من الأساس"
رفع (مؤيد) كفه وهو يحك شعره الطويل بإحراج كعادته ليقول بعدها بابتسامة متسعة
"هذا تماما ما كنتُ افكر بفعله"
كان (سليمان) ينظر له باستهجان جامد ، ليسبقه بعدها (مؤيد) بالكلام وهو يقول ببساطة بالغة
"لا تقلق يا ابي فأنت اكيد مدعو لحفلة زفافي وستكون اول الحاضرين لتفتتح حفلة زفاف ابنك الثاني"
قال (سليمان) بعدها بلحظات بجمود متجهم
"حفلة زفاف"
ردّ عليه (مؤيد) وهو يبتسم بمرح
"اجل تلك الحفلات والتي يعلن فيها العريس والعروس عن زواجهما امام الناس رسميا ، وكل الأقارب والأهل يحضرونها ليشاركوا العرسان فرحتهم ، مع اني ارى بأنها فقط مجرد مظاهر بالية وطريقة لجذب انظار الناس لهم والتي لا تتوقف عن نهش الناس بالكلام الباطل ومشاعر تحوم من الحسد والغيرة مسلطة باتجاه العرسان.."
قاطعه (سليمان) بصراخ وهو يقول بنفاذ صبر
"اخرس كفى ، افعل ما تريد لا علاقة لي بك ، وتحمل اخطاء قرارك المتسرع لوحدك لأني مللت من الكلام والذي لا يجدي معك ابدا"
اتسعت ابتسامة (مؤيد) وهو يرفع حاجبيه بذهول قائلا بسعادة
"هذا افضل كلام تقوله بحياتك يا ابي"
حرك (سليمان) رأسه بيأس منه وهو يستدير بعيدا عنه قائلا بصرامة
"ركز على عملك ولا تنشغل بأمور اخرى خارج العمل لأني لن ارحمك عندها"
ردّ عليه (مؤيد) بهدوء
"حاضر يا سيدي المدير ، أوامرك مجابة"
خرج (سليمان) من غرفة المكتب وهو يصفق الباب من خلفه بقوة كما دخل ، بينما شرد (مؤيد) بأفكاره وهو يصفر بخفوت وبمشاعر مرهفة قبل ان يعود للكتاب من امامه وهو يعود للقراءة بدون اي اهتمام حقيقي .
_____________________________
كانت ترتب الملفات امام مكتبه بهدوء تام وهو يراقب حركاتها الساكنة والغريبة عليه ، وما ان انتهت من عملها وهي تستدير بعيدا عنه حتى قال بسرعة وبحذر شديد
"جنان انا اعتذر حقا على ما حدث امام والديكِ ، لم اقصد ان يحدث كل هذا بزيارتي الأولى لهما ، ولكني كنتُ احاول ان اوضح لهما سوء الفهم والذي حدث.."
قاطعته (جنان) وهي تستدير باتجاهه بغموض
"هل انت حقا متزوج يا إياد"
ألجمته الصدمة وهو يستمع لنبرتها الحادة لأول مرة ، ليقول بعدها بهدوء وثبات
"اسمعي ما سأقوله يا جنان ، فأنا.."
عادت (جنان) للكلام وهي تقول بصوت أخفت
"ارجوك اجبني يا دكتور إياد ، هل انت متزوج بالفعل"
زفر (إياد) أنفاسه بهدوء ليتمتم بعدها بحدة خافتة
"لا ليس بعد"
تنهدت (جنان) براحة بدون ان تظهر هذا امامه ولكنها ما تزال تشعر بالخطر ، ليتابع بعدها (إياد) كلامه وهو يقول بجدية
"ولكن والدي قد اتفق على هذا الأمر من قبل ، يعني زواجي من ابنة عمي امرا مسلما منه وسيحدث عاجلاً أو آجلاً"
تجمدت ابتسامة (جنان) وهي تنظر له بتفكير لتقول بعدها بابتسامة ساخرة
"لقد ظننتُ بأن هذا القانون عندنا وحدنا ولكن تبين بأنه موجود عندكم ايضا ، يا له من امر مؤسف"
حرك (إياد) رأسه بالإيجاب وهو يتمتم بشرود
"اجل ولكن لا اعتقد بأن هذا القانون سيروقها"
تقدمت (جنان) برشاقة امامه لتسند كفيها على سطح المكتب وهي تقدم وجهها امامه مباشرة هامسة بابتسامة جذابة
"يبدو بأن هناك مشاكل بينك وبين ابنة عمك والتي ارغموك على الزواج منها ، ولكن لا تقلق فأنا موجودة بجانبك وسأساعدك من هذه الورطة كما ستساعدني أنت للتخلص من الزواج من ابن عمي ، فنحن الاثنين نعاني من نفس المشكلة ومن نفس العقبة"
نظر (إياد) لوجهها القريب منه بحيرة ليقول بعدها بعدم استيعاب
"ماذا افهم من هذا الكلام الغريب يا جنان ، هلا وضحتِ لي قصدك"
ارجعت (جنان) وجهها للخلف ببطء لتدور حول المكتب بتمايل وكعبي حذائها يطرقان على الأرض بنغمة موسيقية مغرية ، لتقف بعدها بجانبه تماما وهي تربت على كتفه بنعومة قبل ان تقرب وجهها بجانبه لتهمس بأذنه بدلال وبابتسامة جانبية
"قصدي واضح تماما بما اننا نعاني من نفس المشكلة وليس لنا سوى بعضنا لنتساعد معا ونكون يدا واحدة ، فالحل هو ان نرتبط ببعضنا وهكذا لن يستطيع اي احد من عائلتينا الاعتراض او ارغامنا على ما لا نريد"
انتفض (إياد) فجأة وهو يبعد كفها عنه بقسوة ليقول بعدها بتجهم
"لقد فهمتِ قصدي خطأً ، فأنا لستُ مثلكِ ابدا ولستُ معترض على هذا الزواج"
استقامت (جنان) بوقوفها بسرعة وهي تقول بصوت متشنج حانق
"هل تعني بأنك موافق على الزواج من ابنة عمك ولست مرغما على فعلها"
ابتسم (إياد) بتأكيد وهو يقول بحزم
"اجل اكيد موافق فأنا الأحق بالحصول على ابنة عمي من أي شخص آخر لا يناسبها ، وايضا من المستحيل ان اتركها لغيري فقد اصبحت ملكي منذ دخولها للمنزل لأول مرة"
كانت (جنان) تنظر له ببرود وهي تحرك ساقها بعصبية ومع كل كلمة يقولها تزداد ملامحها برودا تخفي من خلفها الكثير ، لتقول بعدها بتصلب خافت وعينيها العسلية تزداد قتامة سوداء
"هل هذا يعني بأنك بدأت تحبها بالرغم من انه لم يمر سوى أسابيع على دخولها لحياتك"
ردّ عليها (إياد) بتفكير شارد وهو ينظر بعيدا عنها
"لا اعلم إذا كانت مشاعري نحوها تعتبر حبا ، ولكن منذ دخولها لحياتي وقد قلبتها رأساً على عقب ، ومن لا يستطيع ان لا يحبها وهي تمتلك سحرا استثنائياً جعل كل من حولها يتعلق بها وينجذب لها ، ولكنها مع ذلك تبدو مكسورة ولا احد يستطيع رؤية هذا غيري ، لذا سأبذل كل جهدي لأغير هذا الانكسار لشيء آخر اجمل"
تنفست (جنان) بأنفاس ملتهبة وعينيها تطلقان نيران وشرارات تستطيع إحراق كل من يقف امامها ، لتزفر بعدها انفاسها باتزان وهي تسير حول المكتب قبل ان تقف امامه مباشرة لتقول بعدها بضحكة مرتفعة لا تحمل اي مرح
"هذا كلام جميل دكتور إياد ولأول مرة اسمعه منك ، واعتذر لأني اندفعتُ كثيرا بالأمر وظننتُ بأنك تعاني من نفس مشكلتي ولكنك تبدو بحال جيد بخلافي ، وعلى كل حال مبروك زواجك القريب من ابنة عمك واتمنى ان يسير على خير ما يرام"
عضت (جنان) على شفتيها المصبوغين بلون الأحمر القاني وهي تدعو أن لا تكتمل هذه الزيجة بينهما لأنها إذا اكتملت فستضطر عندها لاستخدام حيل أخرى لتجعله يركع ساجدا امام سحرها ولو رغما عنه ، قال (إياد) بعدها بلحظات بابتسامة هادئة
"شكرا لكِ على تفهمكِ وعلى كل شيء فعلته للآن يا جنان ، واتمنى ان تحصلي على الزوج والذي يناسبكِ ويستحقكِ فعلا"
ابتسمت (جنان) باهتزاز مشدود وهي تفكر بأن من يستحقها لن يكون احد غيرك فقط انتظر وسترى ، لتستدير بعدها بدون اي كلمة اخرى وهي تسير باتجاه باب المكتب قبل ان يوقفها صوت (إياد) وهو يقول برفق
"اتمنى بأن تكوني لا تحملين لي اي ضغينة بعد الذي فعلته امام عائلتك فأنا حقا لم اقصد إحراجكِ امام عائلتكِ بهذه الطريقة"
قالت (جنان) بخفوت مشتد بدون ان تستدير له
"لا عليك يا دكتور إياد فأنت من بين الجميع والذي يستحيل ان احمل باتجاهه أي ضغينة ، حتى لو اردتُ هذا"
اكملت سيرها لخارج غرفة المكتب وهي تطرق الأرض بحذائها بقسوة وتتمنى لو تستطيع اختراق الأرض من أسفل الرخام بقوة علها تنسى القليل من كلامه عن تلك العاهرة الشقراء والتي سرقته بأيام بينما هي تحاول الحصول عليه من اشهر طويلة حتى طالت لسنة كاملة ، بينما كان (إياد) يعقد حاجبيه بحيرة وهو يحاول تفسير كلامها الأخير بدون فائدة ليحرك بعدها كتفيه بلا مبالاة وهو يعود لعمله .
______________________________
دخلت لغرفتها بسرعة لتلقي بحقيبتها عن كتفها ارضا بقوة وهي تتنفس بنشيج وألم قاتل وصدرها يعلو ويهبط بسرعة فائقة وكأن روحها تنزف دما من شرخ غائر زاد اتساعا ، ارتمت (زهرة) جالسة على ركبتيها بجانب حقيبتها وعينيها شاخصتين بالفراغ امامها وشفتيها منفرجتان بلهاث خافت يكاد يزهق أنفاسها المذبوحة وملامحها مذهولة غير مستوعبة لكل ما حدث امامها ، لتخرج بالنهاية شهقة مرتجفة ليتبعها بعدها عدة شهقات وعينيها العسلية تغطيهما غلالة من الدموع الحارة تأبى الخروج من محجريها فقط تلسع عينيها بألم حارق لا يضاهي ألم روحها الغائرة .
رفعت كفيها بارتجاف لشفتيها الفاغرتين لتغطيهما وهي تخنق شهقاتها غصبا والتي جعلت جسدها بأكمله يرتجف باهتزاز مخيف ، لتخفض بعدها كفيها وهي تزفر انفاسها بغصة عالقة بحلقها تكاد تخنقها من حبسها الطويل لها لتحتضن عندها جسدها المرتجف بكفيها برفق شديد ، وما هي ألا لحظات حتى انتفضت فجأة واقفة وهي تندفع لطاولة الزينة قبل ان تسند كفيها على سحطها وهي تنظر لهيئتها المشوهة والمريعة بكل معنى الكلمة ، لتحرك كفيها لا إراديا وهي تطوح بهما كل ما تلمسه يديها من فوق طاولة الزينة لتبدأ عندها اصوات التحطم وتناثر الشظايا بالارتفاع تدريجيا من حولها بدون ان تعطيها اي اهتماما وصوت طنين اذنيها المؤلم يعلو فوق كل هذه الأصوات .
توقفت ما ان شعرت بالألم بكفها لتكتشف الجرح السطحي والذي اصاب ظاهر كفها من زجاجة عطر مكسورة منذ البداية ، سقطت كفها بجانبها وهي تخفض وجهها بإنهاك استنفذ كل طاقتها قبل ان تزحف بالهبوط للأسفل ببطء وهي تتمسك بإطار طاولة الزينة ، لتسقط بعدها جالسة ارضا وهي ترجع رأسها للخلف بتعب تحاول تنظيم انفاسها المضطربة والتي تزيد من ألم صدرها والذي يتوسل طلبا للأكسجين .
عادت بنظرها للأسفل لتنظر لكفها المجروحة والخاتم والذي ما يزال موجودا بأصبعها بعد كل ما حدث بكفها من تهشيم ، رفعت كفها الآخر بسرعة لتحاول نزع الخاتم عن اصبعها بكل قوة معنوية وجسمانية ، لتلمح بعدها من بين الحطام الكثير من حولها شيء صغير لامع مسلط عليه ضوء الشمس والنافذ من زجاج النافذة ، لم تشعر بعدها بنفسها ألا وهي تترك كفها بالخاتم لتزحف باتجاهه على ركبتيها ولمعانه يكاد يعميها ولم تشعر بركبتيها وهي تدوس بهما على شظايا الزجاج بقوة ، ما ان وصلت امامه حتى اكتشفت بأنه ما هو ألا مجرد عدسة صغيرة مستديرة الشكل وشفافة اللون يستطيع الضوء اختراقها وهذا سبب لمعانها مع ضوء شمس الظهيرة .
رفعت كفها بهدوء لتلتقط العدسة من على الأرض وهي تقربها امامها برهبة ، لتبتسم بعدها بحزن مرتجف وهي تعود بذاكرتها لطفولتها المشرقة ولذكرى تخص هذه العدسة وتحديدا عندما كان (يزن) يقف بحديقة المنزل بليلة مقمرة وهو يرفع نظره لأعلى ممسكا بالعدسة الصغيرة وهو يقربها من عينه ناظرا للسماء المليئة بالنجوم والقمر بمنتصفها ، كانت بوقتها تقف بجانبه وهي تنظر لأعلى بملل لتقول بعدها بتذمر طفولي وهي تدفع كتفه بكفها
"يزن لقد مللت ، اخبرني ما لذي تراه بهذه العدسة لأني لا أرى شيئاً"
نفض (يزن) كفها عن كتفه وهو يقول بحنق حاد
"اصمتِ يا زهرة ألا ترينني أحاول التركيز ، إذا كنتِ قد مللتِ يمكنك الذهاب من هنا"
تبرمت شفتي (زهرة) بطفولية لترفع نظرها للأعلى وهي تقول بتفكير
"اخبرني ما لذي تراه بهذه العدسة"
قال (يزن) بعدها بلحظات بهدوء
"استطيع رؤية القمر والنجوم بصورة مكبرة يعني مثل المشاهدة بالتلسكوب"
عقدت (زهرة) حاجبيها الصغيرين بعدم فهم قائلة بتقطع
"ماذا يعني التسسكوب"
ردّ عليها (يزن) بفظاظة
"اسمه تلسكوب يا غبية ، وتعني تستطيعين رؤية القمر بصورة اقرب وأوضح"
قفزت (زهرة) بمكانها وهي تقول بحماس طفولي
"وانا ايضا اريد رؤية القمر بشكل اقرب واوضح ، هيا اعطيني لأجرب"
اخفض (يزن) العدسة عن عينه وهو يحيد بنظراته نحوها قبل ان يناولها العدسة وهو يقول بتحذير
"حسنا ولكن إياكِ وان تكسريها او تفسديها"
اخذت منه العدسة بسرعة لتضعها أمام عينها وهي تقول بعبوس
"انا لا ارى القمر ، اين هو"
تنهد (يزن) بيأس قبل ان يرفع كفه ليمسك بذراعها وهو يحركها باتجاه القمر تماما ، لتنتفض بعدها بسعادة وهي تقول بفرح بالغ
"رائع انا ارى القمر كبير ومستدير ومضيء جدا"
ترك (يزن) ذراعها وهو يبتسم بهدوء ، لتستدير (زهرة) بمكانها وهي ما تزال تضع العدسة أمام عينها لتقول بعدها بابتسامة متسعة
"يزن لديه وجه كبير"
التفت (يزن) باتجاهها بحدة ليتمتم بعدها بصرامة وهو يرفع كفه نحوها
"توقفي عن اللعب بالعدسة واعطيني إياها فورا"
اخفضت (زهرة) العدسة من امامها بسرعة لتتراجع بخطواتها للخلف قائلة برجاء
"ارجوك يا يزن ابقها معي واعدك ان احافظ عليها ، ارجوك"
اخفض (يزن) كفه وهو ينظر لها بتجهم ليستدير بعدها بعيدا عنها قائلا ببرود
"حسنا يمكنكِ الاحتفاظ بها ولكن إذا أضعتها لا تعودي لي باكية"
افاقت (زهرة) من ذكرياتها وهي تعود للواقع ولغرفتها وللحطام المنتشر بها بكل مكان وكأن مجزرة قد حدثت بهذا المكان لتبقي على هذه القطعة والوحيدة والتي بقيت سليمة من كل هذا الدمار ، رفعت كفها بارتجاف لتضع العدسة امام عينها الزجاجية من الدموع وقطرة صغيرة تسيل منها ترثي على ذكريات الطفولة والماضي الأجمل والذي ما تزال تحتفظ ببقاياه للآن ، لتنظر بعدها للشمس والتي اخذت مكان القمر بحياتها وهي تنظر لها بحزن عميق شعرت بضوئها وقد اخترق ضباب قلبها وحزنها والذي حفر بداخله للأبد .
______________________________
طرقت على باب غرفة المكتب بملل قبل ان تدخل للغرفة بجمود لتصطدم نظراتها الدخانية بصدمة ب(إياد) الجالس امام مكتب والده بينما يجلس والده خلف مكتبه بتصلب وجو من المشاعر المضطربة تحوم من حولهم ، تقدمت (مايا) باتجاههما بحذر وهي تنقل نظراتها بينهما بغموض قبل تقف امام المكتب وهي تقول بقوة
"ما سبب استدعائك لي"
قال (سليمان) بابتسامة هادئة وهو يقرب وجهه امام سطح المكتب
"اجلسي امامي يا ابنة شقيقي هناك ما اريد ان اعلن عنه ويخصك انتِ وإياد"
حادت بنظراتها باتجاه (إياد) والذي كان ينظر للأسفل بعيدا عنهما وهو يشبك يديه امامه بارتباك واضح ، لتعود للنظر للأمام وهي تتراجع بخطواتها قبل ان تجلس بالمقعد المقابل ل(إياد) تماما ، قال (سليمان) بعدها بلحظات بصوت صارم
"لقد اتخذتُ هذا القرار من قبل ولكن حدثت امور جعلتني اضطر لتأخير موعد القرار ، وبما ان كل شيء قد انحل الآن فقد حان الوقت لأخبركِ بالقرار وايضا.."
قاطعته (مايا) وهي تقول بنفاذ صبر
"اجل وما هو هذا القرار المهم والذي يحتاج لوجودي هنا"
تجاهل (سليمان) وقاحتها وهو يقول بابتسامة جانبية صارمة
"لقد قررتُ ان اعقد قرانك مع ابن عمك إياد فلن تجدي من هو افضل منه عريس لكِ ، وسيكون عقد القران اليوم والآن لأننا تأخرنا كثيرا بهذا واكثر مما ينبغي"
انتفضت (مايا) فجأة واقفة عن مقعدها وهي تقول بخفوت باهت يخفي من خلفه عواصف هوجاء توشك على اقتلاع الأخضر واليابس
"هل تريد تزويجي من ابنك رغما عني بدون الأخذ برأيي"
رفع (إياد) رأسه بسرعة باتجاهها وهو ينظر لها بتوجس وقد حدث ما كان يتوقعه تماما فأكثر صفة تتميز بها هي عدم الرضوخ لأحد ، بينما قست ملامح (سليمان) وهو يتمتم بجدية
"رأيكِ غير مهم وهذا القرار مفروغ منه وعليه ان يحدث ، وهذا كله يتجه لصالحكِ لذا عليكِ القبول بمصيرك مع ابن عمك والذي يناسبكِ اكثر من اي شخص آخر"
ابتسمت (مايا) بسخرية وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة ببرود
"وهل السبب هو بأن إياد يناسبني حقا ام انك تريد ضمان بقائي بهذه البلد وبهذا المنزل من اجلي ألا اهرب منك واشوه سمعة عائلة بارون والتي لم تسأل عن مصيري بالسابق"
وقف (سليمان) بسرعة ليتبعه (إياد) بوقوفه بارتباك وهو ينظر لوالده المتشنج والذي قال بحزم شرس
"هل تقصدين بكلامكِ بأنك ترفضين الزواج من ابني إياد"
تقدمت (مايا) امامه وهي تنظر له بقتامة لونت عينيها للون دخاني قاتم لتهمس بعدها بجفاء خافت
"ليس إياد وحده بل انا ارفض الزواج بأي فرد من عائلتك ولا يشرفني هذا الارتباط اصلا ، لقد ولدتُ حرة طول سنوات حياتي لذا لن تستطيع ان تغيرني عائلة تعرفت عليها منذ أيام"
ضرب (سليمان) على سطح المكتب وهو يصرخ بغضب
"كيف تتجرأين على قول مثل هذا الكلام امامي يا ابنة كمال ، يبدو بأن حياتكِ بالخارج قد أثرت على تصرفاتكِ كثيرا ، ولكن لا بأس فزواجك من إياد سيعلمكِ كيف تكون تربية العرب على اصولها"
ضحكت (مايا) بدون اي مرح وهي تستند بكفيها على سطح المكتب قائلة بابتسامة باردة
"كيف سيفعل هذا وتربية الأجانب قد تغلغلت بجذوري ولن يستطيع اي احد تغييرها بأيام فهي موجودة بداخلي منذ مولدي ، واللوم يقع عليكم انتم بهذا عندما تركتموني لوالدين إيطاليين ليكبروني بينهما حتى وصلتوا لهنا ، ألم تسمع عن مثل يقول إذا كنت تريد زرع شيء بطفل فعليك ان تبدأ به من المهد وانا قد تجاوزته بكثير"
زفر (سليمان) انفاسه بتشنج وهو يواجه الحقيقة الأكبر والخطأ الأفظع بحياتهم والذي ارتكبه والده بترك فرد منهم يعيش بعيدا عنهم وببيئة مختلفة تماما عنهم ، كان (إياد) يراقب بصدمة تشنجات ملامح والده لأول مرة فيبدو بأن (مايا) قد اصابته بكلامها بمقتل والآن فقط اكتشف مدى خطورة هذه الفتاة على المجتمع ، قال (سليمان) بعدها بجدية وهو ينظر لها بتركيز
"ولكننا حاولنا بكل جهدنا معرفة مكانكِ ولم نصل لكِ وحتى جدكِ قد حاول البحث بكل قطر بالبلد ليعرف اي شيء يخص كمال بعد وفاته ، ولكننا لم نستطع الوصول لشيء سوى لأسم البلد والذي توفي بها كمال"
صرخت (مايا) فجأة بمرارة وهي تضرب على سطح المكتب بقبضتيها
"توقف عن قول مثل هذه التبريرات الفارغة والتي لن تفيدني بشيء ولن تستطيع تغيير حقيقة بأنكم تخليتم عني ولم يسأل عني احد بينما انا اعيش بين قاتلي والدي منذ سنوات واعامل كالمنبوذة بينهما ولا احد تجرأ على السؤال عني ابدا"
كانت تتنفس بقوة امامه وهي تنظر له بكل حقد العالم وقسوته تلك القسوة والتي بثها زوج والدتها ووالدتها بداخلها فلم تنسى ولن تنسى يوما كيف كانت تعامل بينهما كالمهملة ومع كل عنف كانت تتلقاه منهما كانت تزداد صلابة وقوة وكرها لهما وللحياة كلها والتي لم تكن عادلة معها بشيء لتحرمها من العيش بين عائلة طبيعية تؤخذ منها الحب والمشاعر الصادقة والتي لم تعرف معناها يوما .
قال (سليمان) بعد ان افاق من صدمته وهو ينظر لها بحدة
"هذا ليس مهماً الآن فكل الذي فات قد مات ، والمهم بأنكِ عدتِ لعائلتك ولجذوركِ الحقيقية بدون ان يصيبك اي مكروه ، وسيكتمل مصيرك المحتوم عندما تتزوجين من إياد فلن تجدي افضل منه ليرتبط بكِ ويهتم بشؤونكِ يا ابنة الإيطالية"
ابعدت وجهها بعيدا عنه بحدة لتقول بعدها بابتسامة خبيثة تحمل القسوة والكره معا
"حقا وما لذي يؤكد لك بأن إياد يستحقني ، ألم تفكر ما لذي سيتعرض له ابنك إياد من الزواج من إيطالية عاشت كل حياتها بالخارج وبدون اي مسؤوليات او رقيب بحياتها ولا يعرف إذا كانت قد سارت هناك بطريق الحياة الشريفة او المنحرفة.."
قاطعتها صرخة (سليمان) الشرسة وهو يدور حول المكتب بسرعة
"ماذا تقولين يا ابنة العاهرة.."
تدخل (إياد) وهو يقف امامه ليمسك بوالده قبل ان يصل لها وهو يقول بروية
"اهدئ يا ابي فهي تحاول فقط إغضابك بكلامها ، واسمح لي انا بالكلام معها على انفراد ، وسأقنعها بطريقتي"
تراجع (سليمان) بخطواته بتصلب وقد احمر وجهه بشدة من الغضب والإحراج من كلامها ليقول بعدها بتحذير وهو يستدير بعيدا عنهما
"حاول إقناعها بطريقتك وافعل ما تشاء بها لأن زواجك منها سيحدث وعقد قرانكما سيحدث ولو رغما عنها"
قالت (مايا) بشراسة من خلف (إياد) وهو يمسك بخصرها بقوة ليحاول ارجاعها للخلف
"انا لستُ موافقة وافعل ما شئت وحتى يمكنك ضرب رأسك بالحائط لأني لن اوفق ابدا"
استدار (إياد) نحوها بعنف ليمسك بكفها قبل ان يسحبها خلفه بقوة رغم ممانعتها الشرسة حتى خرج بها من المكتب بأكمله ، استمر بالسير حتى وصل بها للحديقة الخلفية من المنزل بينما هي تضرب بكتفه بقوة وتقول بقسوة
"اتركني يا إياد قبل ان افقد اعصابي واحقد عليك انت ايضاً"
وقف (إياد) اخيرا ليسحبها امامه وهو يديرها بقوة حتى التف شعرها الذهبي ليسقط على كتفها الأيمن بقوة يضاهي قوة صاحبته ، ما ان كانت (مايا) ستبدأ بالصراخ حتى سبقها (إياد) وهو يقول بصرامة خافتة
"كفى لا اريد سماع اي كلمة يكفي ما قلته امام والدي من وقاحة حتى كدتِ أن تصيبينه بجلطة على الأكيد"
ردت عليه (مايا) ببرود وهي ترجع خصلات شعرها بعيدا عن كتفها
"هو الذي تحداني اولاً ، إذاً يستحق ما حدث له"
زفر (إياد) انفاسه بتشنج لينتبه بعدها لكفها الصغير والذي ما يزال يمسك به بكفه ، وما ان حاولت إبعاده حتى شدد اكثر من امساكه وهو يقول بجدية وتمهل
"اسمعي ما سأقوله لكِ ، ابي لن يتراجع ابدا عما يفكر به فهو عندما يضع شيء برأسه ينفذه فورا بدون تفكير بالعواقب او بأخذ رأي احد ، لذا علينا فعل شيء آخر غير تحديه"
ردت عليه (مايا) وهي تبتسم باستهانة
"وماذا تقترح ان نفعل يا دكتور إياد"
ابتسم (إياد) براحة وقد بدأت اخيرا تتجاوب معه وما أجمل استجابتها ، ليقول بعدها بحزم جاد
"نحن سنعقد قراننا و.."
قاطعته (مايا) وهي تقول باستهجان
"ماذا"
قال (إياد) وهو يزفر أنفاسه بحنق
"اسمعي ما سأقوله اولاً ، هو فقط مجرد عقد قران ويمكنكِ بهذا الوقت ان تعيشي حياتكِ بشكل طبيعي كما كنتِ تفعلين وبعد فترة سنخبر والدي بأننا لم نتفق وننفصل بعدها بتحضر ، يعني هي فقط مجرد فترة وعليكِ تحملها وانا لن اطالبكِ بفعل اي شيء آخر بهذه الفترة"
كانت (مايا) تنظر له بجمود بدون اي تعبير واضح على وجهها المنحوت كالرخام ، لتقول بعدها وهي ترفع حاجبيها بشك
"وما لذي سيضمن لي بأنك لن تغير رأيك فيما بعد"
رفع (إياد) كفه الحرة ليضرب بها على صدره قبل ان يرفع كفها والممسك بها ليضمها بين كفيه قائلا بكل صدق
"ثقي بي فأنا من المستحيل ان اخون ابدا"
ابتلعت (مايا) ريقها برهبة من حركته والتي حركت بداخلها مشاعر غير مرغوبة ابدا ، لتهمس بعدها بابتسامة باهتة
"ولكن ما لذي ستحصل عليه انت بالمقابل من هذا الارتباط"
نظر بعيدا عنها وهو يقول بابتسامة شاردة
"سأحصل على مريضة تحتاج لمساعدتي ولنصائحي لتعود فتاة محبة للحياة ، فأنا طبيب بالنهاية وهذه وظيفتي"
انفرجت شفتيها قليلا لتعود لأغلاقهما قبل ان تتمتم بتصلب
"حسنا ولكن بشرط واحد وهو ان تكتب بعقد قراننا بأنك لن تتدخل بأي شيء افعله بحياتي ولن تقف بطريق مخططاتي وغير هذا لن اوافق"
تصلبت ملامحه باستنكار ليقول بعدها باستسلام
"موافق"
حركت (مايا) رأسها بالإيجاب وبابتسامة هادئة وهي تحاول سحب كفها من بين كفيه القويين ، بينما كان (إياد) يشدد على كفها بملكية حصرية اصبح يملكها من الآن فبعد ان اصبحت بين يديه اخيرا من المستحيل ان يفرط بها بعيدا عنه مهما حصل .
_______________________________
دخلت لغرفة الجلوس بحذر وهي تخفض نظرها لطريق سيرها بدون ان ترفع نظراتها للجالس على الأريكة امامها ، بينما كان (مؤيد) يراقبها بتركيز وبابتسامة متسعة لتعبس بعدها ملامحه وهو ينظر لوجهها المحني وشعرها الطويل والذي يخفي ملامح وجهها عنه ، وقفت (فاتن) امامه وهي ما تزال تخفض نظرها لموضع قدميها ، ليقول (مؤيد) بعدها بحزم مفاجئ
"كم مرة اخبرتكِ بأن لا تخفضي رأسكِ امامي"
أومأت برأسها بهدوء قبل ان ترفعه نحوه ببطء شديد وهي تبتلع ريقها بتوجس ، لتصطدم بعدها بنظراته القوية والتي شعرت بها وقد اخترقتها للصميم ، ليقول بعدها بابتسامة صغيرة وهو يركز بنظره على استدارة عينيها البنية والتي اشتاق لرؤيتهما كثيرا
"هيا تعالي واجلسي بجانبي يا فاتنة فقد اشتقتُ كثيرا للكلام معكِ"
احمر وجه (فاتن) بحياء وهي تشعر وكأنها طفلة تقابل رجل غريب عنها لأول مرة ، لتسير بعدها للأريكة بتصلب وهي تجلس بعيدا عنه نسبيا بتوتر ، تغضن جبين (مؤيد) بإحباط وهو يشعر وكأنها لم تعد تطيق الجلوس معه ابدا بعد كل ما حدث بينهما وبعد ان عقد قرانهما فهل كانت تفكر بالزواج من شخص آخر وهو حطم احلامها الوردية ؟ عند هذه النقطة تحرك (مؤيد) بجلوسه ليقطع المسافة بينهما من على الأريكة ، وما ان كانت ستعاود الابتعاد عنه حتى امسك بذراعها ليلصق جسدها بجانبه وهو يقول ببعض الحدة
"توقفي عن الابتعاد عني كلما اقتربت منكِ ، هل انتِ حقا موافقة على إكمال هذا الزواج"
ارتجفت (فاتن) بارتعاش وهي تنظر له بحزن لمع بعينيها البنيتين والكبيرتين ، لتدير بعدها رأسها بعيدا عنه وهي تقول بخفوت باهت
"اسفة"
تنهد (مؤيد) بهدوء وهو يترك ذراعها لينظر امامه بصمت وهو يتمتم بجمود
"اعتذر على حدتي المفاجئة ، ولكني متعب من العمل بالشركة وهذا كل شيء"
حادت (فاتن) بنظراتها نحوه وهي تفكر بحزن إذا كان متعب من العمل ام من علاقتهما المضطربة والتي لا أساس لها ، لتسمع بعدها صوت (مؤيد) وهو يقول بجدية
"إذاً اخبريني كيف حالكِ بعد ان توقفتِ عن العمل ، هل كل اموركِ على ما يرام ، هل تحتاجين لأي شيء او لبعض المال"
شبكت (فاتن) كفيها بحجرها وهي تنظر لهما بابتسامة ساخرة فكل ما يهمه هو ان يرضيها بالمال لكي لا يشعر بالتقصير ناحيتها ونسي امرا مهما وهو إرضاء قلبها والذي يتوسل طلبا لعاطفته وحبه ، ولكنها تبحث بالسراب فهي مجرد وسيلة ليكفر عن ذنبه وكل ما يحمله اتجاهها هو الشفقة على الفتاة والتي تورط معها بفضيحة هزت أرجاء البلد .
قالت بعدها (فاتن) وهي تحرك رأسها بالنفي
"لا شكرا لا احتاج لشيء ، انا بخير"
حرك (مؤيد) رأسه باتزان ليلتفت بعدها باتجاهها فجأة وهو يقول بندم
"انا اعتذر على كل ما سببته لكِ من مشاكل فأنا الملام بكل هذا لو أني لم اعرض عليكِ تلك الوظيفة منذ البداية لما وصلنا لهنا وارغمتي على الزواج مني"
شددت (فاتن) على كفيها وهي تشعر مع كلماته بالألم بداخلها يتضاعف اكثر وهو يثبت لها صحة توقعها وان زواجه منها لم يحدث ألا بالإرغام والشفقة عليها ، قالت بعدها بلا تعبير وهي تبتسم بحزن
"لا داعي للاعتذار فأنت لم تخطئ ابدا ، اخبرني يا مؤيد هل انت نادم على قرار الزواج مني"
اتسعت عينيّ (مؤيد) بصدمة وهو ينظر لها بتركيز ليحاول التأكد إذا كان السؤال قد خرج منها حقا ، بينما رفعت (فاتن) نظراتها بالمقابل نحوه لتنظر له بهدوء وسكون يراه عليها لأول مرة ، حاول (مؤيد) الكلام اكثر من مرة ليعود ويغلق فمه بتفكير وهو يعقد حاجبيه بوجوم ، عبست ملامح (فاتن) بمرارة وهي تنظر لمعاناته بالتفكير بألم وكأنه يغرس خنجر حامي بقلبها مع كل تعقد بملامحه البشوشة ، لتنزل دموعها بدون ان تشعر من عينيها الزجاجيتين والمنحنيتين بحزن وهي تهمس ببحة بكاء وبغصة حزينة
"لما وافقت على هذا الارتباط إذا كنت نادم من الزواج مني لهذه الدرجة"
نظر (مؤيد) نحوها بصدمة وليس كلامها ما صدمه بل بكائها الناعم وهو ينظر لوجهها القريب منه والمغرق بالدموع ، ليرفع كفيه بسرعة وهو لا يعلم كيف يتصرف معها ليمسك بوجهها برفق وهو يمسح الدموع عنه بإبهامه ليقول بعدها بارتباك وبتوجس
"ماذا بكِ يا فاتن ، وما هذا الكلام الذي تتفوهين به"
ردت عليه (فاتن) من بين بكائها بتقطع
"اجبني هل انت نادم"
حرك (مؤيد) رأسه بعدم استيعاب ليتمتم بعدها بحزم
"مؤكد لستُ نادم ومن الذي يندم على الارتباط من فتاة صغيرة وظريفة مثلكِ"
توقفت عن البكاء وهي ترفع نظرها له بتشوش لتبتسم من بين غلالة دموعها بسعادة وكأنه اعطاها بارقة الأمل بكلامه البسيط ، اتسعت ابتسامة (مؤيد) مع ابتسامتها الجميلة والتي حفرت بوجنتيها المدورين لتبدو بأبهى صورها وهي تجمع الطفولة والنعومة معا بوجه مشرق كالبدر بيوم معتم ، شعر (مؤيد) فجأة بالانجذاب نحو هذه الطفلة ليقترب بوجهه منها ورائحة الورود الخاصة بها تزكم أنفاسه ليقبل خدها الممتلئ والمغرق بالدموع والذي كان دائما يرغب بتقبيله وهو يقبله عدة مرات ليشبع رغبته الحارقة به ويستمتع بنعومته البالغة ككل شيء فيها .
ابتعد (مؤيد) بسرعة عنها ما ان شعر بنفسه سينحدر اكثر ويتمادى معها وهو الذي كان معروف دائما بمهارته بضبط رغباته وإيقافها عند حدها ، بينما اختفت ابتسامة (فاتن) بعد ان شعرت بنفسها وهي تطير فوق السحاب لتعود للواقع وهي تشعر بروحها وقد نحرها بتصرفه لتموت رويدا رويدا وكأنه اكتشف فداحة فعلته باللحظة الأخيرة ، ليقف بعدها (مؤيد) عن الأريكة وهو يتمتم بغموض
"اتيتُ اليوم لأخبركِ بأن حفلة زفافنا ستكون بنهاية الأسبوع وبمنزل عائلتي لأن خبر عقد القران لم يكفي لإسكات كلام الناس ، لذا استعدي جيدا واخبري عائلتكِ"
اهتزت ابتسامة (فاتن) بارتجاف وهي لا تعرف إذا كان عليها ان تسعد باقتراب موعد زواجها من (مؤيد) رسميا وامام الناس او تحزن لأنه يفعل كل هذا لإسكات كلام الناس وليس رغبة بالزواج منها ، كان (مؤيد) قد خرج بسرعة من الغرفة بدون ان يسمع ردها ، ليترك من خلفه عينان حزينتان تتمنيان رؤية الرغبة ناحيتها بعينيه والغرق بعاطفتهما وهذا كان دائما اقصى امنياتها .
_______________________________
كانت جالسة بمنتصف السرير وهي ترفع ركبتيها لصدرها لتزيل قطع الزجاج عنهما بعنف ومع كل قطعة تزداد عينيها العسلية ألما ينخر روحها بمرارة وهي تنظر بعيدا بتصلب ، لتلتفت بعدها بسرعة باتجاه الباب ما ان فتح بقوة وصوت الصغير (جاد) يقول بمرح
"زهوره اشتقتُ إليكِ.."
قاطعته (زهرة) وهي تصرخ بذعر
"لا تدخل يا جاد هناك زجاج على الأرض"
توقف (جاد) بفزع وهو ينظر لقطع الزجاج المنتشرة بكل مكان بالغرفة ، ليعود ليمسك بإطار الباب وهو يقول بذهول
"من المجرم والذي فعل هذا بغرفتكِ يا زهوره"
تجاهلت (زهرة) كلامه وهي تعود للنظر بعيدا عنه ، ليقول بعدها (جاد) بسرعة وهو ينسحب بعيدا عن غرفتها
"سأذهب لأحضر الخادمة لتنظف المكان ، لن أتأخر"
كانت (زهرة) بعالم آخر بعيدا عنه ولم تسمع ما نطق به فكل تفكيرها قد اتجه بعيدا حيث لا أحد يستطيع إزعاجها بهذا العالم والذي نسجته لنفسها فقط ، لتسمع بعدها صوت آخر اكثر خشونة اخترق غلاف صمتها وهو يقول
"زهرة انا.. ، ما كل هذا من الذي فعل كل هذا بغرفتكِ"
بقيت (زهرة) على صمتها بدون اي ردّ وعينيها ساهمتين بالبعيد ، ليتقدم بعدها (فراس) للداخل وهو يحاول تجاوز قطع الزجاج من امامه قبل ان يقف بجانب سريرها تماما ، وما ان كان سيتكلم حتى سبقته (زهرة) وهي تقول ببرود جليدي
"ارجوك يا فراس اريد البقاء لوحدي ، فهلا خرجت من غرفتي رجاءً"
عبست ملامح (فراس) وهو ينظر لسكونها البالغ ولهيئتها الذابلة والجديدة عليه ، دائما ما كان يراها حزينة وذابلة ولكن ليس لهذه الدرجة من الانحطاط المعنوي والجسدي ، قال بعدها (فراس) بتمهل وهو ينظر لها بتركيز
"اسمعي يا زهرة ، انا اعتذر إذا كان تدخلي امام الجامعة قد ازعجكِ او سبب لكِ الإحراج فقد كنتُ فقط أحاول الدفاع عنكِ ليس اكثر"
اغمضت (زهرة) عينيها بقوة بعيدا عنه ولم يكن يعرف بأن بكلماته قد عادت لتذكيرها بما حدث هناك وبأن كل شيء قد حدث معها للآن كان حقيقة وليس محض كابوس ما زالت تعيشه ، قالت بعدها ببحة خافتة
"لقد اخبرتك من قبل ان تتوقف عن الاعتذار مني ، ولا تقلق فأنا لستُ منزعجة منك او متضايقة فقط اريد البقاء لوحدي ، فهل اطلب الكثير"
حرك (فراس) رأسه بصدمة وهو يقابل جفائها ناحيته لأول مرة وبالرغم من ذلك فقد شعر بالراحة لأنها ليست منزعجة منه بعد كل ما حدث هناك ، حانت منه التفاتة نحو الحطام من على الأرض وهو يلاحظ قطرات دم صغيرة مع قطع الزجاج المتناثرة ، ليعود بعدها بنظره لها وهو يعقد حاجبيه باستغراب ليلمح عندها ركبتيها والدماء المتجمدة بهما وهذا دليل بأنها قد زحفت فوق قطع الزجاج والتي اخترقت قماش بنطالها الجينز لتسيل الدماء منه وتتجمد من فورها .
انتفض (فراس) بمكانه وهو يقترب منها بسرعة قائلا بتوجس
"انظري لركبتيكِ أنهما تنزفان وتحتاجان للعلاج وألا.."
اوقفته (زهرة) وهي ترفع كفها قائلة بصرامة
"توقف بمكانك وإياك وان تقترب مني فأنا لا احتاج لمساعدة أحد ، واخرج من غرفتي ارجوك"
تراجع (فراس) بعيدا عنها وهو ينظر بجزع لكفها وآثار الدماء الواضحة بين اصابعها ، لتخفض بعدها كفها بسرعة وهي تطوق ساقيها بكفيها بارتجاف ، تجهمت ملامح (فراس) بلحظة وهو يتمتم بوجوم
"كل هذا حدث بسبب ذلك النكرة والذي يدعى زوجك والذي لا يستحقك اصلا ، لو انك تركتني عليه لعلمته درسا قاسيا من اجلي ألا يجرب ان يجرحكِ مرة أخرى ويخدعكِ بهذه الطريقة الخسيسة وهو يتزوج عليكِ ، ولكن الجيد بالموضوع بأنكِ ستطلقين منه وتتخلصين من شره..."
قاطعته (زهرة) وهي تقول بنشيج معذب وقد فقدت السيطرة على أعصابها المنهارة وهي تتلقى منه كل هذا الكلام المسمم والذي صفعها بالواقع
"توقف ولا تقل اي كلمة بحق يزن امامي ، واخرج من غرفتي وألا طردتك منها بنفسي"
تصلبت ملامح (فراس) باستياء وهو يشعر بنفسه وقد اصبح بعيدا عنها بأميال فيبدو بأنه قد بالغ كثيرا بكلامه متناسيا مشاعرها ناحية المدعو (يزن) ، ليستدير بعدها بعيدا عنها قبل ان يخرج من الغرفة بهدوء متجاوزا قطع الزجاج من حوله .
مرت لحظات وهي على حالة السكون الغريب قبل ان يجتاح افكارها صوت (جاد) وهو يقول بحدة طفولية
"هيا ادخلي ونظفي الغرفة بسرعة لكي استطيع الوصول لزهوره"
دخلت الخادمة وهي تتأفف بنفاذ صبر من هذا الصغير العنيد والذي لم يتركها وشأنها حتى احضرها لهذا المكان رغما عنها ، بدأت بعدها بالتنظيف بالمكنسة بيدها وهي تلاحظ آثار الدماء الواضحة على الزجاج والتي لم تعرها اي اهتمام وهي تجمع الزجاج بالكيس البلاستيكي قبل ان تغادر من الغرفة بصمت كما دخلت ، بينما كانت (زهرة) بهذه الأثناء شاردة بعيدا عن الجميع بسكون وهي تحتضن ساقيها بقوة متجاهلة الألم الحارق والذي ينخز بركبتيها المصابين ، لتشعر بعدها بالكفين الصغيرين وهما تحتضنان ذراعها وصاحبها يقول بابتسامة متسعة
"زهوره لقد اشتقتُ إليكِ كثيرا ، لذا قررتُ المجيئ إليكِ لأخبركِ عن كل مغامرات يومي والتي ستجعلكِ تدمعين من الضحك"
ابتسمت (زهرة) بارتباك وهي تفكر بأنها قد دمعت بالفعل واكثر من مرة ولكن ليس من الضحك بل من الألم الشديد والذي ما يزال ينهشها ، لتلتفت بعدها بوجهها نحو (جاد) والذي كان يبتسم لها ببريق مشع بالشقاوة كانت تمتلكه بصغرها ليتبدل بعدها ببريق الحزن والمرارة ، لم تشعر بعدها بنفسها وهي تعانق جسد (جاد) الصغير بقوة لتبدأ بالبكاء بصياح وعويل يخرج منها لأول مرة بعد ساعات طويلة من التماسك وادعاء القوة امام الجميع لينتهي كل هذا بالانهيار المدمر والذي دمر اعصابها المتبقية وهي تدفن وجهها بشعره الاسود الكثيف ، بينما كان (جاد) يربت على شعرها الكثيف بكفه الصغيرة برفق وهو يبتسم بهدوء بدون ان يفهم ما يحدث معها حقا فقط يربت على رأسها بصمت وهذا كل ما تحتاجه بهذه اللحظات بالذات لتخرج كل ما بداخلها من كبت يكاد يقتلها .

قلوب معلقة بالماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن