الفصل الثالث والعشرون

1.2K 45 15
                                    

كان يضع الأوراق امامه وهو يمسك بالقلم بيد وبالهاتف باليد الأخرى وهو يرفع الهاتف عاليا امام نظره ليدون كل شيء مكتوب بشاشة الهاتف المفتوحة بالأوراق الفارغة امامه ، ليسمع بعدها طرق خافت على الباب حفظ نغمته الرقيقة جيدا والتي لا تفارقها ابدا ودفعته بذلك اليوم لأسوء تصرف بدر منه بحياته ليضطر عندها للابتعاد عنها بالأيام السابقة ومع ذلك ما تزال تلاحقه بكل مكان يذهب إليه وكأنها مصرة على تذكيره بنعومتها ورقتها بتلك الليلة والتي لن تعاد مرة أخرى .
سمح لها بالدخول وهو يعود لعمله بتدوين المكتوب بهاتفه متجاهلا وجودها تماما والذي اتلف اعصابه بالأيام السابقة وهي تحوم من حوله كنسمة ناعمة رقيقة ، بينما دخلت (فاتن) لغرفته بهدوء وهي تنظر لتجاهله لها والذي ضربها بمقتل طول الأيام السابقة ولا تعلم بماذا اجرمت بالضبط ، ابتلعت ريقها بنشيج خافت قبل ان تتقدم للداخل لتقف خلفه مباشرة وهو مستمر بتدوين ما بين يديه امام مكتبه .
قطع الصمت صوت (مؤيد) وقد نفذ صبره من صمتها وانفاسها الناعمة تصله بوضوح
"حسنا ، بماذا استطيع مساعدتك يا فاتنة"
انتفضت (فاتن) بهدوء مرتجف لتتقدم اكثر نحوه وهي تقف بجانبه قبل ان تمد الهاتف امام نظره قائلة بخفوت
"الهاتف لم يعد يعمل ولا اعرف مشكلته"
زفر (مؤيد) انفاسه بضيق من قربها القاتل والذي اصبح غير محتمل بعد ما حدث بينهما ليترك الهاتف من كفه قبل يمسك بهاتفها بسرعة بدون ان يلمس كفها ، قبضت (فاتن) على كفها بتصلب لتعيدها لمكانها ببطء وهي تشعر بنفوره والذي زاد ناحيتها اكثر وكأن كل شيء بحياتها يذهب للأسوء بدون ان تعرف السبب لذلك ، لتُنزل بعدها نظرها للأسفل بحزن عميق وحدقتيها تلسعانها بحرقة ناظرة لهاتفه من اسفلها والذي ما يزال مفتوح على الكلمات والتي كان يدونها للتو .
رفعت رأسها بسرعة ما ان مد الهاتف امامها وهو يقول بحزم خافت بدون ان ينظر إليها
"لقد اصلحته لكِ الآن ، فقط كان هناك فيروس افسد عمله لذا نزلتُ لكِ تطبيق مسح الفيروسات وتخلصتُ لكِ منه"
حركت رأسها بدون حياة لتلتقط الهاتف من كفه والتي تراجعت بسرعة للخلف لتهمس بعدها بشحوب
"شكرا"
حرك (مؤيد) رأسه باتزان ليحاول إمساك هاتفه من على سطح المكتب قبل ان ينزلق من كفه ويسقط على الأرض بقوة لدرجة فُتح غلافه لتخرج البطارية من داخله ، انتفض (مؤيد) وهو ينحني بسرعة للهاتف هامسا بجزع
"لا لا"
ما ان استقام بجلوسه امام نظرات (فاتن) المصدومة بعدم استيعاب ، ليحاول بعدها تركيب البطارية بداخل الهاتف قبل ان يغلق الغلاف من فوقه ، عقدت (فاتن) حاجبيها بتوجس وهي تقول بتفكير
"هل هناك مشكلة يا مؤيد"
كان (مؤيد) يحاول فتح الجهاز بعصبية وهو يتمتم بلا مبالاة
"هناك معلومات كانت مدونة بالهاتف وبعد ان سقط على الأرض اختفت كل المعلومات ، وانا احتاج إليها الآن وألا سأعود لنقطة البداية مرة أخرى"
ارتفع حاجبيها بدهشة لتهمس بعدها بشك
"هل تقصد النصوص والتي كانت مكتوبة بالهاتف والتي كانت تتكلم عن الاتفاقية بين دمج الاجهزة الكهربائية مع الالكترونية وطريقة لوصل الكهرباء بينهما.."
قاطعها (مؤيد) وهو يقول بدهشة ناظرا لها بتركيز
"هل قرأتها"
حركت رأسها بارتباك متوجس وهي تعض على طرف شفتيها بتوتر ، ليقول بعدها (مؤيد) بجدية وهو يضع الهاتف على سطح المكتب
"وهل تذكرين كل شيء مكتوب بها"
حركت رأسها بنفس الارتباك وهي تتمتم بخفوت بكل المعلومات والتي رأتها على شاشة الهاتف قبل ان يقع وتختفي المعلومات كلها ، افاق (مؤيد) من صدمته ليقول بعدها بعدم تصديق
"كيف استطعتِ حفظ كل هذه المعلومات من نظرة واحدة لشاشة الهاتف"
ابتسمت (فاتن) باتساع لتقول بعدها بشرود
"انا لا احتاج سوى لنظرة واحدة للمعلومة وبعدها ستتركز بعقلي للأبد ، حتى ان الفتيات بالمدرسة كانوا يسمونني بالذاكرة الذهبية بسبب عدم نسياني لأي معلومة تمر على ذهني ، وجميع المعلمات بالفصل كانوا يعتمدون عليّ بحفظ ملاحظاتهن بعقلي واين وصلنا بالدروس.."
توقفت (فاتن) عن الكلام وهي تعض على شفتيها بإحراج شديد فيبدو بأنها قد استرسلت بالكلام اكثر من اللازم لدرجة جعلته ينظر لها بملل لما سببه كلامها عن حياتها المدرسية ، قال (مؤيد) بعدها بلحظات وهو يبتسم بذهول
"هذه صفة رائعة لم اكن اعرفها عنكِ ، ولكن هل حاولتِ تنميتها بمجال دراسة بالجامعة"
حركت رأسها بالنفي وهي تقول ببساطة
"لا فأنا لم ادخل الجامعة فقد توقفتُ عن الدراسة بعد الثانوية العامة مباشرة وبعدها بدأتُ ابحث عن عمل"
عبست ملامح (مؤيد) بعدم رضا وهو يقول بهدوء
"ولما لم تدخلي للجامعة وأنتِ تملكين صفة لا يملكها الكثيرون وتحتاج لتنميها اكثر لتفيد العالم بعدها"
ردت عليه (فاتن) بوجوم
"لا استطيع يا مؤيد فأنا اعيش بمجتمع الفتاة لا تكمل دراستها العليا بعد المدرسة وكذلك شقيقاتي فجميعهن تركن المدرسة بعمر اصغر مني واتجهن للزواج ، وهذا غير مصاريف الجامعة والتي لا نستطيع تحملها فهي فوق طاقتنا بكثير ، لذا لا احد من العائلة فكر بإكمال دراسته الجامعية ولا انا ايضا"
امتقعت ملامح (مؤيد) بتجهم ليقول بعدها بعدم اقتناع
"ولكنك الآن لم تعودي من ذلك المجتمع لتسيري على قوانينه فأنتِ الآن زوجتي والتي لن اسمح بأن ينقص لها اي حق من حقوقها ، وعندما تكون لديك المقومات للدراسة والمال الوفير والجامعة والتي ستقبل بكِ من فورها بهذه الميزة والتي تملكينها ، فما لذي يمنعك إذاً من دخول الجامعة"
اتسعت عينيها بذهول من كلامه الجاد والظاهر من ملامحه وبعض اللمعة عادت لعينيها البنية بحزن من كلمة زوجتي والتي نعتها بها ببداية كلامه ، همست بعدها بابتسامة مذهولة
"هل انت حقا جاد بكلامك يا مؤيد"
ردّ عليها (مؤيد) بتأكيد واثق
"اجل هذا اكيد فأنتِ تستحقين الدخول للجامعة كأي فتاة تحب الدراسة مثلك وليس من العدل ان تدفني هذه الموهبة بداخلك فهي هبة من الله وعليكِ استغلالها بالمكان المناسب ، ومن الغد سأبدأ بتسجيل اوراقك بأفضل جامعة بالبلد"
فغرت شفتيها بانشداه وابتسامة واهية بدأت تحفر على وجهها الممتلئ بجمال وهي لا تصدق بأنها ستدخل للجامعة ذلك المكان والذي كانت دائما تراه اعلى منها بكثير وليس لأمثالها حق الدخول له ليحققه لها (مؤيد) ببساطة وكأنه اعطاها التذكرة لدخول حديقة الملاهي والممنوعة عنها ، قالت بعدها بابتسامة مهتزة عابسة قليلا
"ولكني تأخرتُ كثيرا واضعت على نفسي نصف سنة كاملة ولا اعتقد بأنهم سيقبلون بدخولي بمنتصف الفصل"
ضحك (مؤيد) بصخب مرتفع من تفكيرها المضحك والمتشائم وامام نظراتها الحانقة وهي لا تعرف بماذا اخطئت بالكلام حتى يضحك عليها هكذا ، قال (مؤيد) بعدها بهدوء وهو يحاول إيقاف ضحكاته المسترسلة
"يا لكِ من غبية حقا ، سأخبرك الآن بأن هناك طلاب اضاعوا على انفسهم سنوات وليس نصف سنة يا ذكية وكل هذا بسبب عدم توفر المال ليستطيعوا دخول الجامعة وعندما اصبح المال بحوزتهم عندها استطاعوا دخول الجامعة بعمر متأخر ، يعني من يريد إكمال دراسته ومصر على هذا فسيكملها بالنهاية وهذا يعتمد على قوة إرادتهم ، وايضا إذا كنتِ لا تعلمين فنحن عائلة بارون ولدينا نفوذ ستجعل كل الجامعات تفتح بوجهك ، ثقي بهذا"
عادت للابتسام باتساع وهي تقول بلهفة طفولية
" أهذا يعني بأنني استطيع دخول الجامعة الآن ولا شيء يمنعني من تحقيق هذا الأمر"
حرك (مؤيد) رأسه بالإيجاب بابتسامة شاردة وهو ينظر لفرحتها الطفولية براحة ، بينما دارت (فاتن) حول نفسها عدة دورات وهي تقول بسعادة بالغة
"رائع ، سأدخل للجامعة ، سأدخل للجامعة"
ضحك (مؤيد) بخفوت وعينيه السوداء مركزتان على شعرها الطويل والمتراقص من حولها وكأنه يشاركها فرحتها وفستانها القطني يتطاير من حول ساقيها بانتفاخ مبهج كطفلة تكاد تعانق السحاب من فوقها وهو يراقب هذه الهالة بديعة الجمال امامه بدون ان يستطيع لمسها او الاقتراب منها ، ليقول بعدها بتحذير لطيف وهو يلاحظ اهتزازها من الدوران 
"فاتنة يا غبية توقفي عن فعل هذا وألا ستشعرين بالدوار"
توقفت (فاتن) عن الدوران وهي تشعر بدوار طفيف يلف برأسها ولهاثها الناعم يخرج من شفتيها بانتظام متناغما مع صدرها والذي يتحرك بسرعة وبأغراء ، ليدير بعدها (مؤيد) رأسه بعيدا عنها وقد شعر ببوادر فقدان السيطرة على نفسه وهو يقول بهدوء
"حسنا انا عليّ الآن العودة للعمل وألا سأحصل على توبيخ قاسي من والدي والذي اصبح يتصوب لي الأخطاء دائما"
حركت (فاتن) رأسها بهدوء وهي ما تزال تتنفس بسرعة وبلهاث خفيف ، وما ان استدارت بعيدا عنه حتى اوقفها صوت (مؤيد) وهو يقول من خلفها بمرح خافت
"انتظري قليلا وتعالي إلى هنا لتخبريني بالمعلومات والتي حفظتها بذاكرتك الذهبية والتي ستنقذني مما انا فيه الآن"
ابتسمت بخفوت وهي تستدير له لتتقدم نحوه بصمت قبل ان تقف بجانبه لتبدأ بسرد كل المعلومات الكثيرة شفويا والتي حفظتها من على شاشة هاتفه بينما كان (مؤيد) مستمر بتدوين كل المعلومات بهدوء وهي تتمنى ان لا تنتهي هذه المعلومات من رأسها واللحظات بينهما قبل ان تعود لغرفتها وتجاهله لها والذي سيقتلها ذات يوم .
_______________________________
سارت لخارج الجامعة بسرعة لتلمح سيارته من بعيد قبل ان تجري إليها من فورها حتى وصلت لها تماما ، فتحت باب السيارة لتدخل إليها وعلى وجهها ابتسامة عريضة قبل ان تقبل خده بهدوء قائلة بسعادة
"مرحبا ، انا محظوظة جدا لأنك اليوم قررت اصطحابي من الجامعة وقطعت عملك من اجل هذا الأمر"
ردّ عليها (يزن) وهو يحرك السيارة بعيدا عن طرف الطريق
"لا تحلمي ان تعاد مرة اخرى يا مدللة فأنا ليس لدي الوقت بطوله لأوصلك وارجعك من الجامعة بكل مرة"
عادت بجلوسها بإحباط وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بغضب قائلة بعبوس 
"إذاً لما اتعبت نفسك اليوم بالذات واتيت لتوصلني ام ان عملك اليوم غير مهم ولا يحتاج لوجودك العاجل"
رفع (يزن) كفه بلمح البصر ليسحب خصلة شعر من شعرها الهائج من حولها ، لتتأوه بعدها بألم وهي تحاول ضرب كفه بعيدا عن شعرها ، وما ان افلت (يزن) خصلة شعرها حتى قال بتصلب وهو ينظر للطريق امامه بقوة
"توقفي عن هذا التذمر العابس كالأطفال ، فقد اتيتُ اليوم لأصطحبك معي من اجلي ان اؤخذك لمطعم كبير ونتناول طعام الغداء فيه وقد حصلت على إذن الخروج من العمل لأجل هذا الأمر ، لذا ابتهجي قليلا قبل ان اغير رأيي ونعود للمنزل"
اتسعت ابتسامة (زهرة) بإشراق وعينيها العسلية تلمع بالنجوم البراقة وهذه اول مرة تخرج مع (يزن) لمكان لوحدهما بعد زواجهما ، لم تشعر بعدها بنفسها وهي تندفع باتجاهه لتعانق كتفيه ببهجة وتقبل خده عدة مرات قائلة من بين قبلاتها بلهفة
"انا سعيدة جدا واكاد اطير من السعادة ، شكرا لك يا يزن جدا جدا"
قال (يزن) بتذمر وهو يحرك كتفيه بانزعاج
"انتِ ايتها الطفلة ألن تُكفي عن هذه العادة بالهجوم عليّ بدون سابق إنذار ، فنحن لم نعد اطفال لأتحمل اندفاعك القوي والذي سيكسر عظامك يوما"
ردت عليه (زهرة) ببساطة وهي تريح جانب رأسها على كتفه
"لن اتوقف عنها حتى لو بلغت الستين من عمرك وكانت عظامك لا تتحمل عندها سأهجم عليك بكل قوتي لتتحطم عظامنا معا"
ضحكت (زهرة) بخفوت وهي تشدد من عناق كتفيه بقوة وجانب رأسها مستريح على كتفه وكأنها تعتبرها وسادتها الخاصة والتي لا تستطيع الاستغناء عنها ابدا ، بينما كان (يزن) يحيد بنظراته نحوها وابتسامة متصلبة بدأت تحفر على شفتيه القاسيتين قبل ان ينحني لرأسها الناعم وهو يقبله عند فارق الشعر بهدوء ليعود بعدها للطريق امامه بقوة .
وقفت السيارة امام بناء المطعم الكبير ومبهج الهيئة كما وعدها ، لينزل بعدها (يزن) من السيارة تتبعه (زهرة) وهي تنظر للبناء الضخم امامها برهبة فهي لم تزر بحياتها اي مطاعم بل المطعم هو الذي كان يأتي لبيتهم بلمح البصر ، شعرت بكف (يزن) القوية وهي تمسك بكفها قبل ان تسحبها باتجاه الدرجات القليلة امام بوابة المطعم ، لتوقفه بعدها عن السير عند درجات المدخل ليلتفت (يزن) باتجاهها بحيرة قبل ان تفلت كفه لتلف ذراعيها حول ذراعه بتملك وهي تبتسم له ببراءة ، حرك (يزن) رأسه بيأس منها وهو يكمل صعود الدرجات امامه قبل ان يدخل لبهو المطعم الكبير .
اختار (يزن) طاولة بجانب زجاج المطعم والذي كان يطل على الحديقة بخارجه ، ليجلس كل واحد منهما مقابل الآخر بهدوء ، وضعت (زهرة) حقيبتها عند طرف الطاولة لتلمح زوجين متمسكين ببعضهما يدخلان للمطعم ويختارون طاولة بجانب طاولتهما تماما ولكن ما جعل وجنتيها تتلونان بخجل هي رومانسية الشاب وهو يرجع الكرسي الخاص بها للخلف لتجلس عليه الفتاة بإيباء قبل ان يجلس الشاب مقابلا لها تماما .
"زهرة اين شردتِ"
انتفضت (زهرة) بمكانها ما ان سمعت الصوت الصارم يتكلم بحنق ، لتقول بعدها بسرعة وهي تخفض رأسها بإحراج
"لا لا شيء فقط شردتُ بجمال المكان من حولي"
ارتفع حاجبيه بعدم اقتناع ولكنه تجاهل سؤالها وهو ينظر للنادل والذي وصل لطاولتهما ما ان اشار له بكفه ، ليقول بعدها النادل باحترام وهو يضع القوائم امامهما
"ماهي طلباتكما يا سادة"
رفعت (زهرة) نظرها لطاولة الزوجين بجانبهما والنادل الآخر موجود عندهما لتسمعهما وهما يطلبان نفس الصنف لكليهما ، قال (يزن) بعد لحظات من التفكير للنادل
"اريد طبق من المأكولات البحرية"
قالت (زهرة) بسرعة باندفاع
"وانا ايضا اريد نفس طلبه"
نظر لها (يزن) بصدمة وتفكير بينما ابتعد عنهما النادل بعد ان سجل طلباتهما ، ليقول بعدها (يزن) بهدوء
"هل انتِ متأكدة من طلبك فأنا لا اذكر بأنكِ كنتِ تحبين مثل هذا النوع من المأكولات"
ردت عليه (زهرة) بابتسامة واثقة
"بل احبها ومنذ زمن ولكنك انت الذي لم تعد تعرفني جيدا"
ادار (يزن) وجهه بعيدا عنها ببرود وهو يحرك رأسه بلا مبالاة ، لترفع رأسها مرة أخرى باتجاه الزوجين وهي تلمح كف الفتاة وهي تلامس كف الشاب بإغراء والذي كان يبدو مسحورا بها من نظراته نحوها ، رفعت (زهرة) كفها ببطء لتلامس كف (يزن) المستريحة على سطح الطاولة بهدوء ، نظر لها (يزن) بحاجبين مرفوعين باستغراب من حركتها المفاجأة وامام الناس وهي تبتسم له بطفولية ، ليشدد على كفها اكثر وهو يسحقها بين مفاصل اصابعه بقوة محيطا كفها بتملك آلمها .
ترك (يزن) كفها ما ان بدأ هاتفه بالرنين ليخرجه من جيب سترته قبل ان يجيب على الاتصال بسرعة ، بينما كانت (زهرة) تشعر بإحباط وبرودة اجتاحت جسدها فجأة لتتراجع بكفها لمكانها وهي تعود للنظر للزوجين وهذه المرة كان الشاب يرفع كف الفتاة ليقبلها بشغف واضح وهو ما يزال متمسك بكفها .
تنهدت (زهرة) بهدوء وهي تدير عينيها بعيدا عنهم ، لتصل اطباق الطعام والتي وضعها النادل امامهما قبل ان يرحل بصمت ، اخفضت (زهرة) نظراتها بارتباك لما يحتوي طبقها من طعام غريب والذي لا يفتح الشهية ابدا لتناوله ، بينما دس (يزن) هاتفه بجيب سترته وهو ينظر لها بحيرة ليقول بعدها بحزم وهو يمسك بالملعقة بجانبه
"هيا ألن تبدأي بتناول الطعام ام تنتظرين الدعوة لذلك"
حركت (زهرة) رأسها باهتزاز وهي تلعن غباءها والذي جعلها تطلب مثل هذا الصنف من الطعام وهي بحياتها لم تحب ولم تميل يوما لهذه الأنواع من الأطعمة ، لتبدأ بعدها بغرف الأرز بالملعقة وهي تتناوله بعدم شهية وما ان وصلت للسمك وللحمه القاسي حتى رفعته لشفتيها ببطء لتضعه بفمها بسرعة وهي تمضغه بقساوة وأشواك السمك تجرح حنجرتها بقسوة ، استمرت بتناول ما بطبقها وهي تمضغه رغما عنها حتى لم تعد تتحمل معدتها المزيد من هذه الأطعمة والتي سببت لها الغثيان ، لتقف بعدها بسرعة امام (يزن) وهي تقول بعجلة
"عليّ الذهاب للحمام بشدة"
رفع (يزن) رأسه بدهشة وقبل ان يرد عليها كانت (زهرة) تغادر من امامه بسرعة باتجاه الحمام ، وما ان وصلت لداخل الحمام وامام المرحاض حتى اخرجت كل ما بداخلها من طعام وهي تتقيأ بكل قوة وتشنج بعضلات معدتها ، خرجت بعدها من الحمام بارتجاف وتخاذل بعد ان غسلت وجهها عدة مرات بالماء البارد عله يطلع من داخلها مذاق الطعام ممزوجا مع مذاق التقيؤ والذي سيترك برأسها اسوء ذكرى لأول مرة تخرج بها مع (يزن) .
وقفت امام طاولتهما بحزن وهي تنظر للأسفل بإحباط ولا تعلم ماذا تنتظر اكثر مما حدث معها ، لتسمع بعدها صوت (يزن) وهو يقول بحنية
"ألا تريدين رؤية ما احضرتُ لكِ"
رفعت وجهها بحيرة لتنظر لعينيه وهو يشير امامه بابتسامة ، لتنظر لسطح الطاولة وقد اختفت كل اطباق الأطعمة البحرية عنها لتؤخذ مكانها طبقين من كعك الفراولة موضوعة امام كل واحد منهما ، قال (يزن) بابتسامة جانبية
"طلبتُ من النادل تحضيره لكِ فأنا اعرف جيدا عشقك لهذا النوع من الحلوى"
عادت ابتسامة (زهرة) للاتساع تدريجيا قبل ان تجلس بسرعة امامه بمكانها مقابلا له وقد نست تماما انعدام شهيتها ، لتقول بعدها بابتسامة باهتة
"ولكنك لا تحب هذا النوع من الحلوى فكيف ستؤكلها"
ابتسم (يزن) بهدوء وهو يتمتم بثقة
"لا بأس سأتناولها مثلما تناولتِ انتِ طبق المأكولات البحرية وانتِ لا تحبينها"
ارتفع حاجبيها بدهشة لتقول بعدها بإحراج
"كنت تعلم"
حرك (يزن) رأسه باتزان وهو يقول بجدية
"انا افهمك يا زهرة واكثر من نفسك ، انتِ تحاولين مجاراتي بكل شيء افعله لنكون شخص واحد ولكن هذا لن ينفع فكل واحد منا مختلف عن الآخر ولا نستطيع تغيير هذه الحقيقة"
زمت شفتيها بعبوس وهي تقول بحزن عميق
"ولكنني اشعر دائما بأنك بعيد جدا عني واي شيء افعله لا يعجبك ، لذا حاولت تقبل هذا الأمر وان احاول تقليد تصرفاتك وبرودك ولكني لم انجح بالنهاية وغير هذا افسدتُ اول خروج لنا معا ومعدتي ما تزال تؤلمني من الطعام"
ضحك (يزن) بخفوت منشرح لأول مرة تخرج من شفتيه القاسيتين ، ليقول بعدها بصرامة جادة
"إياكِ وان تحاولي تغيير اي شيء بكِ ، صدقيني يا زهرة ما جعلني اتعلق بكِ واراكِ مميزة عن الباقين هي شخصيتك المتناقضة عني والفريدة من نوعها ، لذا حافظي عليها من اجلي وألا قتلتكِ"
ابتسمت (زهرة) بحزن وبلهفة ظاهرة بعينيها العسلية الدامعة لتقول بعدها بمحبة
"احبك يا قاسي القلب و يا عديم الرومانسية و يا كل شيء بحياتي"
اتسعت ابتسامة (يزن) حتى شملت وجهه بأكمله لأول مرة بحياته ، ليتمتم بعدها بتجهم
"انا عديم الرومانسية ، سأريك من هو عديم الرومانسية عندما نعود للمنزل"
ضحكت (زهرة) بفرح وبكل صدق وهي تشعر بأن هذه اجمل لحظة تمر عليها منذ بداية يومها ، ليقول بعدها (يزن) ببرود وهو يمسك بالشوكة بيده
"هيا اسرعي بتناول الكعك لنعود للمنزل بسرعة فقد مللت من هذا المكان الخانق"
حركت (زهرة) رأسها بيأس منه ومن بروده لتغرز الشوكة بالكعك وهو ترفعها لشفتيها لتلتهمها بسعادة وهي تشعر بحلاوتها تنتشر لكل حياتها ، وقد توقفت عن النظر لطاولة الزوجين بجانبهما فكل ما يهمها بأن (يزن) معها وملكها ولا يهم الاختلاف بينهما فعلاقتهما كما هي من اجمل ما تكون ولا تريد اكثر من هذا .
______________________________
كان يتقلب بنومه من على الأريكة وهو يسمع خطوات خافتة رقيقة من حوله لا تريد تركه وشأنه وهي تحوم من حوله بكل مكان لتبتعد عنه تارة وتقترب منه تارة أخرى ، وما ان شعر بخطواتها تقترب بمحاذاته حتى رفع ذراعه بسرعة ليمسك بذراعها بكفه بقوة افزعتها بارتجاف ، نظرت (سحر) بتوجس نحوه وهو ينهض عن الأريكة ليستقيم بجلوسه بدون ان يترك ذراعها ، وما ان رفع نظره نحوها حتى تجمد الكلام بحلقه وهو ينظر لزي المدرسة الخاص بها والذي كانت ترتديه وشعرها معقود من خلفها على هيئة ذيل حصان وكأنها تستعد للخروج .
قالت (سحر) بسرعة بإحراج وهي تخفض رأسها للأسفل
"اعتذر إذا كنتُ قد ازعجتك وايقظتك من نومك"
وقف (فراس) عن الأريكة من فوره ليقول بعدها بوجوم وهو يشدد على ذراعها
"لقد ازعجتني بالفعل وايقظتني من النوم ، ولكن اريد ان اعرف هل ستذهبين للمدرسة"
ردت عليه (سحر) بابتسامة حزينة
"انا مضطرة للذهاب للمدرسة فقد تغيبتُ عنها كثيرا وهذه آخر سنة لي بالمدرسة ولا اريد إضاعتها عليّ وفقدانها فقد فقدتُ كثيرا بحياتي حتى لم يعد لدي شيء املكه ، لذا ارجوك لا تؤخذ مني الشيء الوحيد والمتبقي لي"
تجهمت ملامح (فراس) بقسوة ليقول بعدها باستياء
"توقفي عن هذه السخافة فأنا قصدتُ بكلامي بأنكِ كيف ستذهبين للمدرسة ومن سيوصلك"
عقدت حاجبيها بريبة وهي تهمس بخفوت
"لقد اتفقتُ مع فرح بأن نذهب سويا للمدرسة مع سائقها الخاص بما انني لا اعرف احدا هنا لأطلب منه إيصالي"
ارتفع حاجبيه بوجوم وهو يفكر بأنها لم تطلب منه إيصالها ولم تفكر بالتكلم معه منذ انتهاء حفلة زفافهم المزعومة وهذا افضل بكثير فهكذا لن يضطر للتعامل معها بلطف لم تعد تستحقه ، قطع عليهما شرودهما صوت طفولي بالخارج يطرق على باب الغرفة برتابة
"هيا يا سحر سنتأخر عن المدرسة ، هيا يا عصافير الحب وارحما المسكينة والتي تقف بالخارج"
احمرت وجوههما بامتقاع وحياء ، ليترك (فراس) ذراعها بسرعة وهو يدير وجهه بعيدا عنها ، تقدمت (سحر) بعيدا عنه باتجاه حقيبتها من على السرير لتغلقها عندها بإحكام ، بينما كان (فراس) يراقبها وهي منحنية امام حقيبتها وذيل حصانها متهدل على كتفها ، ليعقد بعدها حاجبيه بانزعاج وهي مستمرة بالطرق على الباب بجنون يكاد يدخل بأذنيه ليقول عندها بصراخ صارم
"فرح توقفي عن طرق الباب وألا خرجتُ لكِ وكسرتُ يديك هاتين"
زمت (سحر) شفتيها بتوجس وهي ترفع نظرها نحوه وهو يبدو يكاد ينقض على اي احد يقترب منه ، بينما خفت صوت الطرق قليلا على الباب ليعود بعدها بقوة اكبر وكأنها تحاول استفزازه ، وما ان تحرك عدة خطوات باتجاه الباب حتى تدخلت (سحر) وهي تقف امامه بسرعة ممسكة بالحقيبة بذراعيها الاثنتين لتقول له برفق
"لا بأس سأخرج لها الآن ، لا داعي لتغضب منها"
بقيت ملامح (فراس) جامدة بدون اي ردّ وهو ينظر لها تمسك بالحقيبة بتشبث وكأنها تمسك بجنينها ، لتغادر بعدها (سحر) من امامه وهي تزفر انفاسها بارتباك قبل ان تفتح الباب والذي اغلقته بعدها من خلفها وامام نظراته بصمت ، ليسمع اصواتهما عند الباب تصل له بوضوح و(فرح) تقول بتذمر
"ما لذي اخركِ هكذا ، هل هو زوجك المحترم"
سمع صوت (سحر) وهي تقول بخفوت
"اخفضي صوتكِ وألا خرج لنا فراس وقتلكِ ، لقد كان يبدو غاضبا جدا منكِ وانتِ استمريتِ باستفزازه"
قالت (فرح) بلا مبالاة
"لا تقلقي فهو من المستحيل ان يمس شعره مني ، حتى لو كان فراس بأوج غضبه فهو سيبقى دائما رقيق القلب لا يستطيع ان يؤذي احد ولن يتجرأ على فعل هذا بل الناس من حوله هم الذين يؤذوه بدون ان يردّ لهم ما فعلوا به ، لذا لا تقلقي من هذه الناحية فأنتِ ستكونين بأمان مع فراس"
ردت عليها (سحر) بلهفة خفية
"حقا"
عبست ملامح (فراس) بحزن وهو يشعر بنبرة لهفة بصوتها الحزين ولا يعلم لما يشعر الآن بالندم على دخوله لحياتها وموافقته على الزواج منها فمهما اخطئت بحياتها فهي تبقى صغيرة وتحتاج لوجود عائلتها من حولها ليعطوها الأمان ، سمع صوت (فرح) وهي تقول بخبث صاخب
"اين شردتِ بأفكاركِ يا ولهانة بحب الفارس ، من المفروض ان يمنعوا المتزوجات من دخول المدرسة من اجلي أن يبقوا بجانب ازواجهم إذا احتاجوا لهم بأي وقت مثلا"
احمر وجه (سحر) بشدة من تفكير (فرح) المبالغ فيه وهي لا تعلم اي شيء عن طبيعة علاقتهما وهي اصلا ستكون آخر شخص قد يحتاج له (فراس) وهذا إذا فكر بها من الأساس ، تجهمت ملامح (فراس) من وقاحة شقيقته ليصرخ بغضب حانق
"فرح"
انتفضت (فرح) بفزع لتمسك بكف (سحر) الشاردة وهي تسحبها معها بعيدا عن الغرفة هامسة بجزع
"هيا بسرعة لنغادر من هنا قبل ان يثور علينا فارسك هذا"
كان (فراس) يتنهد بهدوء وهو يسمع خطواتهما المبتعدة عن الغرفة وضحكات (فرح) تسابقها ، ليعم بعدها السكون بكل إنحاء الغرفة بهدوء يكاد يجثم على صدره كالصخر وكلمات (فرح) ترن بأذنيه بطنين .
بينما كانت (فرح) تسحبها لبهو المنزل الواسع قبل ان تقف امامهما (فاطمة) وهي تقول بحزم
"انتظرن عليكن اولاً تناول طعام الفطور قبل الذهاب للمدرسة"
قالت (فرح) بعجلة وهي تقبل وجنتي والدتها الممتلئتين بسعادة
"لا نستطيع يا امي فقد تأخرنا كثيرا عن المدرسة ، ربما بالمرة القادمة ، وداعا"
اكملت (فرح) سيرها وهي تتجاوز والدتها بسرعة ، وما ان مرت (سحر) بمحاذاتها حتى قالت لها بخفوت محرج
"وداعا عمتي فاطمة"
لتكمل بعدها سيرها بسرعة خلف (فرح) والتي سبقتها لباب المنزل وصوت (فاطمة) الدافئ بأمومة يتبعهما
"انتبها على نفسيكما جيدا يا صغيرتيّ ، وتناولا الطعام بالمدرسة ، لا تبقيا على معدة فارغة"
كانت (فرح) قد وصلت للسيارة بالسائق والتي كانت تنتظرهما بالخارج ، لتركبا كليهما بداخل السيارة قبل ان تنطلق بعيدا عن اسوار المنزل ، قالت (فرح) بابتسامة متسعة وحالمة
"متى سيأتي دوري ويصل فارس احلامي والذي سيكون كل شيء بالنسبة لي لأعيش معه اجمل ايام حياتي بعيدا عن حياة المدرسة المملة وحياة العيش مع العائلة ، اريدها ان تكون حياة ملونة ومليئة بالصخب والفرح لكي لا اشعر بالملل ابدا ، اخبريني يا سحر متى سيصل هذا الفارس فقد تأخر كثيرا وبدأتُ اشعر بالضجر من الانتظار"
كانت (سحر) قد شردت بعيدا عنها منذ ان بدأت السيارة بالتحرك لتعود لعادتها القديمة وهي النظر لطريق حياتها الجديد والذي تغير كثيرا عن قبل ولا تعلم ما سيحمل لها هذا الطريق ولكن ما تعلمه بأنها قد احبت هذه العائلة بكل من فيها ، لذا تدعوّ من كل قلبها ان لا تنتهي هذه الطريق الجديدة وان تبقى دائما موجودة معها ولا تضطر للابتعاد عنهم فقد تعلقت بهم اكثر من نفسها وانتهى الأمر .
_________________________________
كان جالس امام مكتبه وهو يريح جبهته فوق قبضته ويمسك بيده الحرة المكعب الملون والشيء الوحيد والذي بقي له منها فما يزال يذكر عندما كانت تتلاعب به بأصابعها الرقيقة لتحل لغز تجميع الألوان كل لون على حدة بربع ساعة وكل هذا من اجل الخروج للحديقة الخلفية للمشفى وكم يتمنى لو يعاد ذلك الوقت الثمين عندما كان لا يُكن له اي مشاعر حب ، بينما كانت هناك عيون عسلية قاتمة تراقبه عند باب مكتبه بدون ان ينتبه لها وابتسامة خبيثة منتصرة بدأت تحتل شفتيها المصبوغتين باحمرار قاني فقد رحلت الآن (السارقة الشقراء) بدون اي تدخل منها وتركت لها (إياد) كما كان وكأنها لم تدخل لحياتهم من الأساس لتعود لمكانها الأساسي والبعيد عن (إياد) فمكانه معها لوحدها ، صحيح تركته وهو يحمل بعض مشاعر الحب ناحيتها ولكنها ستبذل كل جهدها لتنسيه كل هذا الحب وتطفئه بداخله لتبدله بمشاعرها الفياضة ناحيته والتي لم يستطع اي احد تحملها وهو ليس استثناءً عنهم فهو بالنهاية مصيره سيقوده لها فقط .
تقدمت (جنان) لداخل مكتبه بكل إيباء وهي تطرق الأرض بحذائها ذو الكعب العالي بقوة كنغمة فاجرة خاصة بها لوحدها ولا تخرج من غيرها ، وما ان وصلت امام المكتب المعتم قليلا بسبب تأخر الوقت بمنتصف الليل وهي تتجاوز الساعة الثانية عشر مساءً ليقول بعدها (إياد) ببرود بدون ان يرفع رأسه لها
"لقد انتهت مناوبتي هنا ، إذا كنت تريد مساعدة فاذهب لطبيب غيري"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهو يبدو لم يتعرف عليها وهذا يعني بأن تلك الاجنبية قد سيطرت على عقله تماما وانسته من حوله ، تصلبت ملامحها بغضب لتقول بعدها بخفوت مشتد
"هذه انا يا دكتور إياد وليس احد غيري"
رفع (إياد) رأسه قليلا بعيدا عن قبضته ليقول بعدها بحيرة
"ألم تغادري بعد يا جنان ، لقد انتهت المناوبة منذ ربع ساعة وقد تأخر الوقت كثيرا"
ردت عليه (جنان) بهدوء
"وانت ايضا لقد انتهت مناوبتك ، ماذا تفعل بمكتبك للآن"
عاد (إياد) لإسناد جبهته لقبضته وهو يتمتم بغموض
"انا سأبقى هنا قليلا ام انتِ فاذهبي للمنزل فقد تأخرتِ كثيرا وستقلق عليكِ عائلتك"
كانت (جنان) تنظر له بجمود وبابتسامة مائلة لتهمس بعدها بخفوت
"لا تقلق عليّ يا إياد فقد اخبرتُ والديّ بأنه لدي مناوبة اليوم بالمشفى وسأتأخر بالعودة للمنزل ، وايضا اريد البقاء معك لمساعدتك لتتخطى ما انت فيه فهذا ما يفعله الاحباء"
كان (إياد) يحرك رأسه ببرود بدون ان يعطيها اي انتباه وهو يعود للشرود بالمكعب بكفه ، لتدور بعدها (جنان) حول المكتب حتى وصلت بجانبه تماما لتجثو على ركبتيها بجانب مقعده ناظرة لوجهه الشارد ببرود ، رفعت كفها ببطء لتربت على ساقه بإغراء قائلة بحزن مصطنع
"اخبرني دكتور إياد ما لذي يضايقك ، كل هذا بسبب رحيل حبيبتك الشقراء والتي لم تفكر بك قبل رحيلها ببساطة ، كان عليك توقع هذا من اجنبية فاجرة"
قال (إياد) بعدها بلحظات برفق وهو يتلاعب بالمكعب بكفه
"لا تقولي هذا عنها فهي لم تخطئ ابدا بل جميعنا اخطأنا معها عندما نبذناها من حياتنا منذ سنوات ، لذا ليس من الغريب ألا تتعايش معنا وتُفضل العيش بمكان نشأتها على العيش معنا"
حركت (جنان) عينيها بعيدا عنه بملل لتقول بعدها بصوت حاد قليلا وهي ما تزال تتلمس ساقه بكفها
"ولكن هذا لا يمنع بأنها قد اخطئت بحقك ولم تفكر بمشاعرك بعد ان اوقعتك بفخها وبجمالها الساحر ، وغير هذا جعلتك تتزوجها وبعدها تركتك خلفها ضاربة بكل شيء عرض الحائط بدون ان تعطي اي احترام لزواجكما"
ردّ عليها (إياد) بصرامة وهو يدير وجهه بعيدا عنها
"هذا غير صحيح يا جنان فهي لم تحاول ان توقعني بفخها بل انا من انجذبت إليها بنفسي وبإرادتي الحرة منذ ان رأيتها لأول مرة بمنزلنا ، وزواجها مني كان بالإرغام يعني هي لم تعتبرني يوما زوجها او اي شيء آخر"
زفرت (جنان) انفاسها بغيض من تفكيره المتخلف والطيب اكثر من الازم ناحيتها وكأنها قد سيطرت على دماغه تماما ، لتقول بعدها ببعض الحنق
"ولكن يا إياد هي..."
قاطعها (إياد) وهو يقول بنفاذ صبر نافضا كفها عن ساقه
"هذا يكفي يا جنان لا اريد سماع اي كلمة تتفوهين بها بحق مايا ، فقد مللت من اتهاماتكم المجحفة بحقها فقط لأنها عاشت كل حياتها مع والدتها الإيطالية"
زمت (جنان) شفتيها بقوة وهي تفكر بخبث ، لتستقيم بعدها بوقوفها قبل ان تحاوط كتفيه بذراعيها ببطء شديد وهي تهمس بأذنه بدلال 
"انت على حق بكلامك يا إياد وانا افهمك تماما ، هذا الحب يجرح كثيرا ويؤلم احيانا خاصة عندما يأتي هذا الجرح من الذين نحبهم ونثق بهم اكثر من انفسنا ، ولكنهم لا يستطيعون فهم ما نشعر به ونُكنه لهم سوى من يبادلنا نفس الشعور ، هكذا هو الحب إذا لم يكن متساوي الأطراف فلن ينجح ابدا"
ردّ عليها (إياد) بوجوم شارد
"ماذا تقصدين بهذا الكلام"
قالت (جنان) بابتسامة متسعة وهي تلامس صدغه بشفتيها
"اقصد بكلامي بأن تبحث عن الحب بمكان آخر بشخص يحمل لك مشاعر من الحب تستطيع ان تملئ قلبك بأكمله وتنسيك حبيبتك الشقراء"
عقد (إياد) حاجبيه بعدم استيعاب وهو يحرك رأسه بعيدا عنها هامسا بتجهم 
"ومن هو هذا الشخص"
شددت (جنان) من احتضان كتفيه بذراعيها لتهمس بعدها بقوة بجانب اذنه
"انه شخص دائما يكون بجانبك ولم يتركك على مدار سنة كاملة املا بأن تحن عليها بنظرة"
انتفض (إياد) بعد لحظات واقفا وهو ينزع ذراعيها بعيدا عنه بقسوة ، ليقول بعدها بتشنج غاضب
"ما هذه السخافات والتي تتفوهين بها امامي ، هل فقدتِ عقلك تماما ونسيتِ ما هو مكانك هنا"
استقامت (جنان) بعنف وهي ترجع شعرها للخلف قائلة باستهجان
"وما لذي فعلته يا دكتور إياد حتى غضبت هكذا"
ردّ عليها (إياد) بانقباض
"ذلك الكلام عن الحب وتلميحاتك بأنكِ تحبي.."
توقف عن الكلام بصدمة مما يتفوه به من هراء يخرج منه لأول مرة ، بينما تابعت (جنان) كلامه بعنفوان
"اجل انا احبك يا دكتور إياد ، ومنذ سنة وانا احاول ان اوصل لك مشاعري بدون فائدة وبدون ان اتلقى أي رد عليها وقلبي يحترق غيرة من زواجك من تلك الشقراء وانت لا تشعر سوى بنفسك"
انفرجت شفتيّ (إياد) بصدمة وعينيه البنية متسعة على اقصاهما وكأنه يستمع لمجنون يهذي وليس لممرضة تعمل عنده منذ سنة كاملة ، ليهمس بعدها بشحوب مذهول
"ماذا"
اندفعت (جنان) نحوه لتحاوط عنقه بذراعها بقوة وتمسك بجانب وجهه بكفها الحرة قائلة بهوس وانفعال
"ارحم قلبي يا إياد والملهوف بك منذ زمن ، لقد تعبتُ وانا احاول ان ابعد كل من يرغب بك ويدخل دائرتك بعيدا عنك حتى تلفت مشاعري تماما وهي على حافة الانهيار لتؤخذك مني بالنهاية تلك الشقراء ببساطة ، والآن بعد ان ابتعدت عنك ما تزال تتغنى بحبها امامي ، هذا كثير عليّ لما لا تشعر بالقليل مما اكُنه لك بدلا من اللحاق بحب الفاجرة والتي اخرجتك من حياتها بكل دناءة"
عقد (إياد) حاجبيه بحدة قبل ان ينزع كفها عن وجهه وذراعها عن عنقه وهو يدفعها بعيدا عنه بقسوة لدرجة اوقعتها على الكرسي بقوة خلف المكتب وهي تتأوه بألم ، ليقول بعدها (إياد) بتحذير شرس لأول مرة يخرجه امامها
"اخرسي يا جنان وتوقفي عن هذا الهراء وعن الحب وعن كل شيء ، فإذا نسيتِ فأنا اكون شخص متزوج وملك لفتاة واحدة ، لذا اوقفي هذه المهزلة فورا وإياكِ وان تعيديها امامي مجددا وألا فصلتكِ من العمل نهائياً"
غادر بعدها (إياد) وهو ما يزال ممسك بالمكعب الملون بقبضته ليخرج من المكتب بسرعة بعد ان التقط سترته من على الأريكة ، بينما بقيت الأحداق العسلية النارية تتبعه وهي تدمع بقوة بدموع الحقد والكراهية وابتسامة شيطانية بدأت بالبروز على شفتيها فإذا كان يظن بأنها ستتركه وشأنه فهو سيكون اكبر واهم .
______________________________
دخل لمكتب الضابط الكبير ليرفع كفه لرأسه وهو يؤدي التحية العسكرية والخاصة بهذا المكان ، ليتقدم بعدها للداخل وهو ينزع القبعة عن رأسه ليضعها تحت ذراعه قبل ان يجلس امام المكتب بثبات ، وضع (يزن) القبعة فوق الطاولة امامه على صوت الضابط وهو يقول بهدوء وقوة
"كيف حال افضل تلميذ عندي بالقسم ، هل كل امورك على ما يرام يا يزن بارون"
رفع (يزن) رأسه نحوه بهدوء وهو يقول باحترام 
"كل شيء بخير يا سيدي الضابط ولا جديد حتى الآن ألا إذا كان هناك جديد تريد ان تطلعني عليه"
حرك الضابط رأسه باتزان وهو يتمتم بغموض
"يعجبني تفكيرك السريع ودهائك والذي اوصلك لما انت عليه ، وكلامك صحيح هناك ما اريد ان اطلعك عليه"
تغضن جبين (يزن) بحيرة وهو يشعر بهبوب عاصفة قادمة على الطريق ، ليقول بعدها بتركيز ثابت
"تفضل يا سيدي كلي أذان صاغية"
عاد الضابط بجلوسه للخلف وهو يبتسم بوقار ليقول بعدها بصوت جهوري
"انت تعلم يا يزن بأنك دخلت لهذا المكان متدرب عندي منذ عدة اشهر وقد كنت افضل متدرب يمر عليّ وما تزال ، لم يستطيع اي متدرب من المتدربين عندي ان يصلوا لمستواك المتفوق وبوقت قياسي قصير جدا ، حتى أني بدأتُ اشك بالاختبارات والتي اقدمها لك وانت تتجاوزها بسهولة وبيسر وبكل رحلة تدريب تذهبها معي تثبت لي صدق كلامي حتى بدأتُ اشعر بأن هذا المكان لم يعد يرقى لمستواك"
حرك (يزن) رأسه بالنفي وهو يقول باستنكار
"ليس هذا السبب يا سيدي بل لأني اتبع تعليماتك والتي تعطيني إياها بالحرف الواحد والتي تساعدني على العمل بسهولة وبيسر فكل شيء تطلبه مني انفذه بالطريقة والتي تبسطها لي"
ردّ عليه الضابط بابتسامة واثقة
"لهذا السبب تحديدا اتكلم"
عقد (يزن) حاجبيه بريبة وهو يتمتم بوجوم
"وماذا افهم من كل هذا الكلام يا سيدي"
تقدم الضابط بجلوسه ليلتقط ورقة من على سطح المكتب قبل ان يلوح بها امامه وهو يقول بصرامة
"اتعلم ماذا مكتوب بهذه الورقة يا يزن"
كان (يزن) ينظر للورقة بتركيز بدون ان ينطق بأي كلمة ، ليتابع الضابط كلامه وهو ينظر للورقة بابتسامة جانبية
"هذه الورقة تكون تذكرة سفر لأفضل كلية شرطة بالولايات المتحدة الأمريكية ذلك المكان والذي لا يخرج منه سوى الضباط الكبار والذين ينشرون الأمان ببلدانهم وهي تحمل جنسيات مختلفة من كل إرجاء الأرض ، وهذه المنحة قد اتت لكليتنا لأختار متدرب واحد فقط يستحق الذهاب لتلك الكلية والتي حلم الكثيرون للذهاب إليها وفقط الأفضل هو الذي يستطيع الذهاب إليها ، إذاً ما رأيك يا يزن بارون"
ارتفع حاجبي (يزن) بدهشة وهو يحاول استيعاب القنبلة والتي فجرها فوق رأسه ، ليبتلع بعدها ريقه برهبة وهو يقول بابتسامة باهتة
"ولكن يا سيدي الضابط هل انت متأكد حقا من قرارك وبأني استحق الحصول على مثل هذه المنحة والذهاب لتلك الكلية مع اني ارى بأنه..."
قاطعه الضابط بصوت قاطع مشتد
"ليس لدي شك بذلك فأنت من بين جميع المتواجدين بهذا المكان قد تفوقت عليهم وبجدارة ، لذا تستحق الذهاب لمكان اعلى تنتمي إليه وينمي لك مواهبك المدفونة والتي لن تخرجها تدريبات عادية بل تدريبات واختبارات فوق المستوى ، ولن افاجئ إذا رأيتك تخرج من ذلك المكان اكبر ضابط بالبلد واكبر مني أنا شخصياً"
ابتسم (يزن) باهتزاز وهو ما يزال مصدوم من التغير الكبير بالأحداث وحلمه قد اصبح على وشك التحقق بمكان آخر واعلى مما تصور ، تابع بعدها الضابط كلامه وهو يلاحظ تردده قائلا برفق
"اعلم بأني قد فاجأتك بهذا الخبر ، ولكنه كله لصالحك يا يزن فمواهبك تحتاج للإنماء وذلك المكان هو الذي سيقدر مواهبك ويكبرها بصورة لن تتخيلها ، وانا واثق بأنك الاختيار الافضل لذلك المكان"
ردّ عليه (يزن) بتفكير شارد
"كم المدة المتبقية لي قبل السفر"
قال الضابط بصوت جاد
"لديك شهر كامل قبل ان تقلع طائرتك والتي لن تقلع مرة أخرى ، لذا فكر جيدا واستعد فهذا سيكون تغيير كبير بحياتك ، وتذكر بأن هذه الفرصة لن تتكرر مرة أخرى مع اي احد آخر غيرك"
حرك (يزن) رأسه بشرود وهو يقف عن الكرسي ملتقطا قبعته من على الطاولة ، بينما رفع الضابط كفه وهو يمد الورقة امامه ليمسك بها (يزن) قبل ان يؤدي الحركة العسكرية امامه ، ليغادر بعدها بعيدا عنه وهو يضع القبعة فوق رأسه ، ونظرات الضابط الصارمة تتبعه وهو يفكر بصحة ما فعله الآن ولكن المهم عنده هو مصلحته والتي لن يجدها سوى بذلك المكان ، لذا لن يفكر كثيرا بهذا الموضوع بما ان المنحة بعيدة المنال قد اصبحت بين يديه فلن يفكر بشيء سوى استغلالها بما يفيد تلميذه المفضل ويفيد مستقبله المهني .
____________________________
كانت تشعر بالسواد ينتشر من حولها شيئاً فشيئاً ونفس الهوة تسقط فيها ورائحة الدماء ممزوجة مع رائحة زهور الياسمين تزكم انفاسها ولا يوجد اي منفذ للنور ليصل لها ، لتشعر بعدها بطاقة دفئ مشتعلة تنشر النور من حولها وتحاول إخراجها من الهوة وجسدها وقلبها يشتعلان رويدا رويدا بحرارة لا تريد الخروج منها وكأن لهيب ما يشتعل بداخلها ، بدأت خيوط ذهنها بالرجوع لعالمها وهي تشعر بحرارة وطوفان يجذبها للواقع غصبا وهو يجتاح كابوسها حتى اطاح بعقلها تماما ، فتحت (زهرة) عينيها ببطء بنصف عين وقد بدأت تشعر بقبلات (يزن) والتي نشرت الحرارة بجسدها واطاحت بعقلها وهو يقبل تفاصيل وملامح وجهها بعنفوان ليجتاح شفتيها بقوة حتى ازهق انفاسها .
انتفضت (زهرة) وهي تمسك بكتفيه لتبعده عنها آخذة عدة انفاس قبل ان تهجم عليه وهي تقلبه للطرف الآخر من السرير لترتمي من فوقه مشرفة عليه من علو وهي تقبل شفتيه برقة أذابته واطاحت بعقله قبل ان تنزل لذقنه الخشنة وهي تقبلها بنعومة بالغة لتنتقل لوجنتيه المتصلبتين وشعيرات خشنة منتقلة هنا وهناك وكأنها تعلمه الرقة على الأصول وهي تختبر نعومة شفتيها على بشرته السمراء القاسية ، لينتفض بعدها (يزن) متناغما مع انتفاضتها السابقة وهو يمسك بمؤخرة رأسها ليعيد اجتياحه بجنون قبلته وهو يقبل شفتيها بعنف وقسوة قبل ان يقلبها للطرف الآخر من السرير ليعود ليشرف عليها من علو مرة أخرى وهو مستمر باجتياحه وهيمنته لينزل بشفتيه لعنقها وهو ينشر قبلاته العنيفة على تجويفه وعظامه النافرة محيطا جسدها بذراعه يكاد يحطم عظامه الهشة من قسوته .
وقف (يزن) امام شفتيها وهو يتمتم بأنفاس مضطربة خشنة
"بماذا كنتِ تحلمين"
نظرت له (زهرة) للحظات وهي تحاول استيعاب سؤاله والذي اخرجها من عاصفة مشاعره الهوجاء وغمامتها الوردية ، لتهمس بعدها بخفوت مرتجف
"انه ليس شيئاً مهما فقط مجرد كابوس"
عاد (يزن) ليقبل شفتيها بحدة اخف وارق وهو يقول بحزم
"وهل تحلمين دائما بنفس الكابوس"
ارتجفت شفتيّ (زهرة) ما ان تذكرت الكابوس والذي اجتاحه بمشاعره ، لتهمس بعدها ببحة خافتة
"ليس دائما ولكن اغلب الأحيان عندما اكون قلقة من شيء او خائفة تجتاحني الكوابيس"
رفع (يزن) وجهه ليقبل جبينه برقة قبل ان يهمس بتصلب امام جبينها
"ومن ماذا كنتِ قلقة حتى اجتاحتك الكوابيس"
ردت عليه (زهرة) وهي تبتلع ريقها بتشنج واضح
"كنتُ قلقة لأنك تأخرت بالعودة للمنزل"
عضت (زهرة) على طرف شفتيها بقوة ولم تخبره بأنها كانت قلقة من ان يأتي يوم وتعود للافتراق عنه مجددا او يتخلى عنها كما قال جدها ، شعرت بقبلات (يزن) الهادئة وهي تقبل موضع تشنج عنقها المرتجف ، ليعود بعدها ليهمس امام شفتيها
"وماذا رأيتِ بهذا الكابوس"
زفرت (زهرة) انفاسها بحرارة ضربت وجهه القريب منها وهي تتمتم بتلعثم متوجس
"دائما ارى نفس الكابوس وهو عندما اجد نفسي بمكان مظلم ورائحة الدماء ممزوجة برائحة زهور الياسمين تجتاح انفاسي والدماء تلطخني بكل مكان من حولي وكلما حاولت الزحف بعيدا تلطخني الدماء اكثر وو..."
لم تستطع (زهرة) المتابعة بالكلام بسبب غصة قديمة عالقة بصدرها قررت التحرر والخروج على شكل شهقات خافتة وهي تنشج بدون دموع ، عاد (يزن) لتقبيل شفتيها بهدوء وهو يحاول ابتلاع شهقاتها المعذبة بقبلاته والتي تحولت لأكثر رقة وهدوء .
رفع (يزن) وجهه بعيدا عنها وهو يقول بصرامة
"اريد التكلم معكِ بموضوع مهم"
عقدت (زهرة) حاجبيها بريبة وببعض الخوف والذي بدأ يزحف لأنحاء جسدها ، بينما استقام (يزن) بعيدا عنها وهو يجلس على طرف السرير ، لتتبعه (زهرة) وهي تنهض من استلقائها قبل ان تجلس بجانبه على طرف السرير ، بدأ (يزن) بالكلام وهو ينظر بعيدا بقوة
"اسمعي ما سأقوله جيدا ولا تتسرعي بالحكم ، سيحدث بعد شهر تغيير كبير بحياتنا إذ وصلتني منحة للسفر لأفضل كلية شرطة بالولايات المتحدة ، وقد اختاروني انا لهذه المنحة"
اتسعت عينيّ (زهرة) العسلية بهلع وهي تشعر بقلبها وقد انقسم لنصفين وهو يخبرها بسفره بعيدا عنها ببساطة ، لتهمس بعدها بانفعال ونشيج
"ماذا تقول يا يزن ، هل هذا يعني بأنك تريد التخلي عني والسفر بعيدا من اجلي عملك ، وماذا عني انا.."
قاطعها (يزن) وهو يلتفت نحوها بحدة
"اصمتِ يا زهرة فأنا لم اكمل كلامي بعد ، اكيد انا لن اترككِ وحدك هنا فأنتِ ستذهبين معي للولايات المتحدة وسأحجز لكِ تذكرة معي ، لذا توقفي عن اتهامي بكل شيء افعله"
تنفست (زهرة) براحة وهي ما تزال تشعر بالقلق ينهش احشاءها بدون رحمة وكأنه خوف من شيء غير معلوم لا يريد تركها وشأنها واراحتها ، لتقول بعدها بتفكير وهي تشدد من ضم كفيها عند حجرها
"وماذا عن دراستي بالجامعة ، هل سأوقفها"
ردّ عليها (يزن) ببرود
"اجل ستوقفينها ، ليس لدينا حل آخر غيره بما انكِ ستأتين معي ، وعندما نعود يمكنكِ إكمالها إذا اردتِ"
نظرت (زهرة) للأسفل وليديها المرتجفتين وحدقتيها تنظران لهما باهتزاز وكأنها لا تستطيع تحديد ماذا تريد بالضبط ؟ فدراستها ليست بتلك الأهمية لتقلق عليها ولكن شيء آخر يضايقها لا تعرف ما هو ، شعرت بيد (يزن) القوية تحاوط كفيها بحجرها معا وهو يقترب منها اكثر قائلا برفق
"اعلم بأنكِ متوترة من هذا الموضوع ولستِ مستعدة لتغيري حياتكِ بأكملها وبيئتك ، ولكن صدقيني هذا لمصلحتنا جميعا فمن جهة سأحقق حلمي بمكان آخر وافضل بكثير من هذا المكان وهذا الأمر سيحدد شخصيتي بالمستقبل ويصبح لدي لقب بدلا من مناداة اسمي مقترنا بنجاحات عائلة والدي وهكذا سأستطيع عمل شهرة خاصة بي وحدي بعيدا عنهم ، ومن جهة اخرى سنبتعد عن هذا المكان وعن العائلتين والذين لم يجلبوا لنا سوى الألم ووجع الافتراق ، لذا اريدكِ ان تدعميني بكل شيء افعله يا زهرة لتصبح علاقتنا اقوى وامتن من قبل ولا شيء يستطيع كسرها"
رفعت (زهرة) نظراتها العسلية الحزينة وهي تدمع بهدوء قبل ان تفك ضم كفيها لتمسك بكفه وهي تتخلل اصابعه بقوة هامسة بابتسامة رقيقة
"اينما تذهب فزهرة دائما معك ، فهي لا شيء بدونك"
اتسعت ابتسامة (يزن) بقوة وعينيه تشحبان بخضار صافي بعيدا عن القسوة قبل ان يسحبها بهدوء من كفها ليعانقها لصدره الصلب وهو يحاوط جسدها بذراعيه بهدوء ورفق ، بينما دفنت (زهرة) وجهها عند كتفه العريض وهي تتمسك بقميصه بكفيها بتشبث ودمعة صغيرة تخرج من مقلتها رغما عنها لتنزل من وجنتها لكتفه وهي تفكر بحزن إلى متى ستبقى تعاني من الخوف بدون سبب وهي تفسد عليها فرحتها بكل مرة ؟ إلى متى ؟
_______________________________
خرجت من الحافلة والتي توقفت امام مقهى صغير للقهوة وهي تتمسك بحزام حقيبتها بيد وتمسك بالهاتف بالكف الأخرى لتعود للنظر للرسالة والتي وصلتها قبل نصف ساعة بالظهيرة عندما كانت تحضر محاضراتها بالقاعة ليقطع عليها تركيزها صوت الرسالة والتي وصلتها من رقم غريب ، كانت تنظر للرسالة بتركيز وما تحتويه من كلمات نمت الخوف القديم بداخلها وهي تشعر بأن نهاية علاقتهما قادمة لا محالة
(زهرة عادل داوود تعالي لمقهى الياسمين بنهاية طريق مخابز الشرق ، هناك ما علينا التكلم عنه وحسم الأمر فيه وهو متعلق بمصير يزن وإذا لم تأتي سأعرف عندها بأنكِ رفضتي قبل ان تعرفي ، وإياكِ وان تخبري احدا عن الرسالة فلن تتوقعي عندها ردة فعلي ، المرسل سليمان بارون)
اخفضت الهاتف بارتجاف لتدسه بجيب بنطالها قبل ان تتقدم لداخل المقهى والذي كان فارغا نسبيا ألا من بعض الزبائن بسبب انشغال الناس بوظائفهم بهذا الوقت من الظهيرة واما بالمساء فيمتلئ هذا المكان بالعائلات والكثير من الزبائن والقادمين طلبا للراحة بعد يوم طويل شاق .
تنقلت بنظراتها بين الطاولات حتى وصلت للطاولة المطلوبة ومن كان جالس عند الطاولة كان ينظر لها بشراسة حادة تصل لها من بعيد ، لتبتلع بعدها ريقها بوجل وهي تخطو باتجاه الطاولة بحذر ، وما ان وصلت لها حتى وقفت امام الطاولة وهي تقول بارتباك شديد
"ها أنا قد اتيت ماذا تريد مني"
ابتسم (سليمان) وهو يتمتم بهدوء مشتد
"جيد بأنكِ قد اتيتِ ومع ذلك فقد تأخرتِ نصف ساعة عن الموعد وهذا ما توقعته من امثالكم عدم الدقة بالمواعيد"
ردت عليه (زهرة) بانفعال متشنج
"كان عليّ محاضرات بالجامعة واضطررتُ للتأخر"
قال (سليمان) بلا مبالاة وهو يتقدم بجلوسه ليسند ذراعيه فوق سطح الطاولة
"غير مهم فالمهم بأنكِ اتيتِ بالنهاية ولم تهربي كالجبناء يا ابنة داوود"
شعرت بإهانة خفية خلف اسم عائلتها ولكنها لم تهتم وهي تشعر بأعصابها على وشك الانفلات من التوتر والذي تعرضت له بالدقائق السابقة ، ليتابع بعدها (سليمان) كلامه وهو يقول بجدية
"هيا اجلسي لأتكلم معكِ ام تريدين منا التكلم هكذا امام الناس ، وإذا كنتِ تريدين هذا فلا مانع لدي"
تلفتت من حولها بتوجس قبل ان ترجع الكرسي لتجلس فوقه برفق مرتجف ، ضمت كفيها امامها فوق سطح الطاولة وهي تتمتم بخفوت
"اجل هيا تفضل ماذا تريد"
قال (سليمان) بعدها بلحظات بابتسامة متصلبة
"يبدو بأنكِ سعيدة جدا بحياتك الزوجية مع يزن بارون ، وفعلتما كل ما كان برأسكما ضاربين بكل قوانين الحقد عرض الحائط"
زمت (زهرة) شفتيها بارتباك وقد كانت تتوقع ان يحدث مثل هذا الأمر وعدم تقبله لعلاقتهما للآن فكل شيء بالعالم يختفي مع الزمن ألا مشاعر الحقد تبقى موجودة للأبد حتى تقضي على جميع البشر بالأرض ، حركت رأسها باهتزاز بدون ان تنبس ببنت شفة ، ليقول بعدها (سليمان) بصرامة مفاجئة
"إذاً فلننتقل للمهم ، اخبريني ما أحوال موضوع سفر يزن للولايات المتحدة ، هل بدأ بالاستعداد للسفر فهو عليه ان ينتبه فقد يحدث امر ينهي كل هذه الرحلة ويفسدها"
رفعت نظراتها المذهولة بسرعة نحوه وهي تشعر بكلماته تضرب رأسها كالصاعقة ، لتهمس بعدها بعدم استيعاب
"كيف عرفت عن الرحلة"
اتسعت ابتسامة (سليمان) بشر وهو يقول ببساطة حادة
"هذا لأنني يا غبية انا المسؤول عن هذه المنحة ام كنتِ تظنين بأن هذه المنحة قد اتت من السماء لتهبط إليه وتختاره ، ولكن لا احد يعلم بهذا الأمر سوى الضابط بقسم عمله والذي اكدتُ عليه بأن لا يخبر احدا عن مصدر المنحة"
عقدت حاجبيها بعدم فهم وهي تشعر بتفكيرها قد تشوش تماما من كم الحقائق والتي تتلقاه الآن ولكن شيء واحد فقط قد فهمته ونسف باقي تفكيرها بأن هذه المنحة مصدرها يكون (سليمان بارون) والذي كل ما يهمه هو تدمير علاقتهما ، قالت بعدها بتفكير متوجس
"لم افهم ماذا تقصد بهذه الحركة"
ردّ عليها (سليمان) بتركيز حاد ناظرا لها بقوة
"اعني بكلامي انا الذي وضعتُ هذه المنحة بين يديه واستطيع بأي لحظة ان اسحبها من بين يديه إذا لم ترضخي لما سأقول"
انفرجت شفتيّ (زهرة) بشهيق خافت وقد بدأت تفهم إلى ماذا يريد ان يصل ، لتهمس بعدها بجزع
"لا لا لن تفعل.."
قاطعها (سليمان) وهو يقول بهدوء
"انتظري لحظة انا سأفهمكِ الآن بطريقة أخرى  لتستوعبي اكثر ما اريد"
امتقعت ملامحها وهي لم تعد تفهم اي شيء مما يحدث من حولها ، بينما سحب (سليمان) منديلين من العلبة بجانبه ليخرج من جيب قميصه قلم جاف قبل ان يدون على واحد منهما كلام ليمده بعدها امامها على سطح الطاولة قائلا بهدوء
"هذه تكون تذكرة الذهاب للولايات المتحدة حيث كلية الشرطة وحلمه ينتظره هناك"
رفع (سليمان) المنديل الآخر فارغا بدون ان يكتب عليه شيء وهو يمده على سطح الطاولة بجانب المنديل الأول قائلا
"وهذه تكون حياته معكِ والتي سيكملها بدون حلم او هدف وبدون ان يصبح اكبر ضابط بشرطة الجنايات"
كانت تتنقل بنظرها بين المنديلين باهتزاز لتهمس بعدها بارتجاف
"ولكنه سيصبح ضابط بالشرطة بكل الأحوال إذا كان هنا او بالولايات المتحدة"
ردّ عليها (سليمان) بابتسامة ساخرة
"انتِ على حق ولكن الشرطة هنا دائما تكون تحت المستوى وغير معترف بها بالعالم إذا قرر السفر لبلدان أخرى ، اما بكلية شرطة الولايات المتحدة فهي معترف بها دولياً ولا يخرج منها سوى الضباط الكبار وليس مجرد شرطي مرور كما يحدث هنا"
ابتلعت ريقها بتشنج متوتر وهي تضم كفيها بارتجاف ناظرة للمنديلين امامها بارتباك ، بينما تابع (سليمان) كلامه بقوة وهو يشير للمنديلين بكفه
"والآن عليكِ ان تختاري بينهما اما ان تتركي يزن نهائياً ليذهب ليحقق حلمه بعيدا عنكِ ، واما ان تعاندي وتبقي ملتصقة بيزن ليخسر حلمه بالذهاب لذلك المكان ويخسر ان يصبح اكبر ضابط بالبلد ، وانتِ من ستقررين هذا"
اخفضت (زهرة) جفنيها بهدوء بعيدا عن المنديلين امامها وبعيدا عن التفكير بأي شيء وهي تقول بحزن عميق
"لما تفعل بنا كل هذا بعد ان اكتملت علاقتنا وابتعدنا عن الجميع ولم يعد هناك اي شيء يقف امامنا ، تعود انت لتنهي كل شيء بنيناه معا مرة أخرى ، لماذا اخبرني لماذا"
ضرب (سليمان) فجأة على سطح الطاولة بقوة وهو يقول بحقد متجذر منذ سنوات
"من اجلي الانتقام من عائلتكِ والتي اخدت منا احترامنا وكبير عائلتنا وكرامتنا وكل شيء نملكه ، ومن يزن الخائن الحقير والذي اخذ مني ابنتي ليسلمها لعائلة الخونة وهي تقف بصفهم بكل دناءة ، وبعد ان اخذتم منا كل شيء تظنون بأني سأجعلكم تعيشون بهناء بعد ان دمرتم كل شيء من حولكم ، لقد حان الوقت لدفع الحساب يا ابنة داوود وعلاقتكما عليها ان تنتهي هنا وهذه فرصتك الوحيدة لتنهيها بإرادتك وألا حلم يزن سيطير بعيدا كالعصافير"
تغضن جبينها بألم من كمية الحقد والتي تشعر بها بنبرة صوته الحادة ، ليقول بعدها بهدوء وبابتسامة قاسية
"لم اكن اريد ان افعل مثل هذا التصرف واصل للحلم  الخاص بيزن ، ولكنكم انتم من لم تتركوا لي اي خيار ولا شيء مما فعلته قد نفع معكم ، لقد حاولتُ ان انبهكِ مئة مرة وهددتك بخسارة يزن لاسم عائلته وكل شيء يملكه ولا حياة لمن تنادي ، لذا اتخذتُ هذه الخطوة وفعلتها"
حركت (زهرة) رأسها بالنفي وهي تهمس بحدة
"لا مستحيل ان افعل هذا.."
قاطعها (سليمان) بشراسة وهو يلتقط منديل من بينهما ملوحا به بتجهم
"حسنا إذاً تختارين خسارة يزن للمنحة ومعه خسارة حلمه بالسفر"
صرخت (زهرة) بهلع وهو تسحب المنديل من كفه بعنف
"لا لن ادعك تفعل هذا"
ابتسم (سليمان) ببرود قبل ان يقف عن الكرسي وهو يقول بصوت حازم
"انا الآن سأترك الخيارين بين يديكِ وانتِ عليكِ ان تختاري واحد منهما وعليه ستحددين مصير يزن ومستقبله المهني والذي سيكون اما معكِ واما مع حلمه ، ولا تنسي مثل ما اخذتم جميعا ابنتي فأنا بالمقابل سأؤخذ منكِ زوجك يزن"
غادر بعدها (سليمان) من امام الطاولة بعيدا عنها ، بينما كانت (زهرة) تعانق المنديل بين كفيها بقوة قبل ان ترفعه لشفتيها وهي تقبله بحزن ودموعها بدأت بالهطول على المنديل لتسقيه وتبلل الكلمات بالحبر الأزرق والتي كانت مكتوبة بوضوح
(حلم يزن)

قلوب معلقة بالماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن