الفصل التاسع والعشرون والأخير

2.8K 78 74
                                    

كانت واقفة امام الطاولة عند ممر الرواق وهي تزيل الازهار الذابلة من المزهرية المزخرفة بنتوءات بلون الذهب القاتم لتستبدلها بأزهار جديدة وهي تضعها بداخل المزهرية بحرص شديد ، لتقرب بعدها وجهها امام الازهار وهي تشتم رحيقها بهدوء ، انتفضت بذعر ما ان شعرت بأحدهم يقف من خلفها تماما على بعد خطوتين منها فقط وصوت انفاسه تصلها بوضوح ، لتستدير بعدها بسرعة نحوه قبل ان تشهق بفزع وهي تتراجع ملتصقة بالطاولة خلفها ما ان طل عليها وجهه المبتسم ببرود مائل ، تشبثت بكفيها بطرف الطاولة وهي تخفض رأسها بعيدا عنه قائلة بارتجاف
"هلا ابتعدت عني لو سمحت يا ياسر"
كان (ياسر) ينظر لها بتركيز بطيء مستفز وكأنه يستمتع بأثارة توترها وحساسيتها المفرطة من قربه ، ليقول بعدها بهدوء بالغ
"ماذا كنتِ تفعلين للتو"
تنفست بهدوء وهي تشيح بوجهها بعيدا عنه بقوة لتهمس بعدها بارتباك شديد
"كنتُ استبدل الأزهار الذابلة بأزهار جديدة فقط"
رفع نظره للمزهرية من خلفها قبل ان يعود بنظره لها وهو يقول بابتسامة جانبية متسلية
"لا تحتاجين لتبديلها ما دام لدينا هنا بالمنزل اجمل زهرة من بين كل الزهور الذابلة والتي لا تستبدل ابدا"
رفعت نظرها نحوه بحنق وهي تقول بانفعال مهتز
"إياك وان تتجاوز حدودك بالكلام معي ، وحتى لو كنت شقيق زوجي فأنا لا اسمح لك بفعل هذا..."
قاطعها (ياسر) وهو يقرب وجهه امامها مستندا بكفيه بالطاولة خلفها بجانب كفيها وهو يقول بابتسامة مائلة باتساع
"وألا ماذا ستفعلين ايتها القطة الصغيرة ، الحقيقة لقد اثرتِ فضولي لأعرف ماذا ستفعلين بي إذا تجاوزتُ حدودي معكِ ، هل ستخدشين وجهي بأظافركِ الصغيرة"
زمت شفتيها بقوة وغضب وهي تدير احداقها البنية بعيدا عنه ببرود ، بينما كان (ياسر) ينظر بتسلي وبخبث واضح لارتجاف جسدها وامتقاع ملامحها بعبوس ليصل بالنهاية لشعرها الطويل والملقى خلف ظهرها بإهمال وهو يصل لنهاية خصرها واكثر .
ما ان رفع كفه نحوها ببطء حتى توقف ما ان شعر بقبضة قوية تمسك بمعصمه وقبل ان يلتفت نحو صاحبها كان يلكمه بقبضته الأخرى بعيدا حتى تراجع للخلف عدة خطوات باهتزاز وهو يحاول التوازن بوقوفه امامه ، اتسعت عينيّ (فاتن) بصدمة وهي تنظر ل(مؤيد) والذي لم تنتبه لمجيئه بهذه اللحظة وبالوقت المناسب تماما ، لتلتفت بعدها نحو (ياسر) وهي تبتلع ريقها بهلع من منظره المريع والذي كان يبتسم ببرود واستفزاز غريب .
ابتعدت (فاتن) بسرعة عن الطاولة لتقف بعيدا خلف (مؤيد) والذي عاد للهجوم على (ياسر) ليمسك بياقة قميصه بعنف وهو يقربه امام وجهه قائلا بشراسة تظهر عليه لأول مرة
"كيف واتتك الجرأة لتقترب بكل هذه المسافة نحو زوجتي بدون اي حدود متناسيا بأنها تكون زوجة شقيقك يا حقير ، ام ان الغربة بعيدا عن العائلة علمتك الحقارة والدناءة مع اهل المنزل يا قليل المروءة والشرف"
ردّ عليه (ياسر) ببرود وهو يحاول نزع قبضتيه عن ياقة قميصه
"هي لم تمانع هذا"
انفرجت شفتي (فاتن) بصدمة وهي تحرك رأسها بالنفي بعدم تصديق ، بينما فقد (مؤيد) السيطرة على نفسه تماما وهو يدفعه بعيدا عنه بعنف وحشي حتى اصطدم بالطاولة من خلفه ليوقع المزهرية والتي كانت تضع الأزهار بداخلها ارضا بدون ان تنكسر بسبب صلابة واصالة صناعتها فقط الأزهار سقطت منها ، عاد (مؤيد) للاقتراب منه ليلكمه بقبضته على وجهه بقوة قبل ان يمسك بقماش قميصه والذي بدأ يتمزق بين قبضتيه وهو يقول بانفعال شرس
"ايها الحقير وتقولها بكل وقاحة امامي عن زوجة شقيقك ، يبدو بأن عقابك والذي تلقيته من والدك لم يكفيك وتحتاج لعقاب اقسى منه ، وانا سأكون الشخص المناسب لأعطيك هذا الدرس والذي لن تنساه ابدا ليعلمك ألا تتجاوز حدودك مع زوجات اشقائك ومع سكان هذا المنزل"
التفتت (فاتن) نحو المرأة والتي اندفعت نحوهم وهي تصرخ بغضب
"ماذا تفعلون بابني ياسر"
ما ان وصلت (سمية) عند ابنها حتى بدأت تدفع (مؤيد) بعيدا عنه وهي تقول بغضب حانق
"ابتعد عن ابني يا مجنون فورا ، ألم تجد احدا غيره لتبث به جنونك ، لما جميعكم تأتون بابني"
لم يبتعد (مؤيد) ولو قليلا عنه وهو ما يزال يمسك بياقة قميصه والتي تمزقت بدون ان يهتم لذلك ، بينما كان (ياسر) ما يزال ينظر له بابتسامة باردة بدون ان يتأثر بشراسته وقسوته معه ، لتصرخ (سمية) بعدها وهي توجه كلامها ل(فاتن) بعصبية بالغة وتضرب بقبضتها على كتفه ليبتعد عن ابنها
"ماذا تفعلين بوقوفك هكذا كالتمثال ، هيا ابعدي زوجك المجنون عن ابني قبل ان اقلب حياتكم جميعا لجحيم"
عبست ملامح (فاتن) بتجهم وهي تشيح بوجهها بعيدا عنها فهو يستحق كل ما يحدث له فقد تجاوز هذه المرة كل الحدود معها ، التفتت بعدها كل الرؤوس نحو الصوت الجهوري وهو يقول بصرامة قاطعة
"كفى توقفا فورا"
توقف (مؤيد) بالفعل وهو ينفض قبضتيه بعيدا عنه بقسوة ، لتندفع بعدها (سمية) نحو ابنها وهي تتلمس على وجهه المكدوم بكفيها بامتقاع ، لتقول بعدها بشراسة متصلبة وهي تنظر لهم بحقد
"لن انسى لك ما فعلته بابني يا مجنون ومكروه العائلة لا انت ولا زوجتك الحمقاء ، فليس ابني من يهان بهذه الطريقة الشائنة مرتين بمنزل عائلته وكأنه ليس فرد من هذه العائلة المجنونة..."
عاد صوت (سليمان) ليقصف بقوة وهو يقول بقوة ونفاذ صبر
"كل واحد منكم فليعد لجناحه الخاص ، ولا اريد رؤية اي احد منكم امامي الآن"
تراجع (مؤيد) بعيدا بدون اي كلام وهو يمسك بكف (فاتن) بقوة قبل ان يسحبها من خلفه بجمود بعيدا عنهم ، بينما كان (ياسر) ما يزال يراقبهم بنفس ابتسامته الباردة وهو يستمتع بهذه الأجواء القاتمة والتي تسود بالعائلة فقد وعد نفسه من قبل بأنه لن يدع اي احد من هذه العائلة يرتاح ويهنئ له العيش قبل ان يدمرهم واحدا واحدا كما دمروا حياته من قبل لينشفي عندها القليل من النار والتي تستعر بداخله منذ ثلاث سنوات .
قال (سليمان) فجأة بحدة صارمة وهو يستدير بعيدا عنهم
"اسمع يا ولد إياك وان تقترب مرة أخرى من زوجة شقيقك ، واحفظ المسافة بينك وبين مؤيد فلن اهتم بك مجددا حتى لو قتلك امامي"
حاد (ياسر) بنظراته نحو والده ببرود وهو يتمتم بخفوت مشتد
"طلباتك اوامر"
_____________________________
دخل (مؤيد) للغرفة باندفاع قبل ان يتوقف بمنتصف الغرفة وهو يتنفس بهدوء حاد ، كانت (فاتن) تنظر له بحزن عميق قبل ان تهمس بخفوت وهي تخفض نظرها للأسفل
"انا آسفة"
تجمد (مؤيد) بمكانه للحظات ليستدير بعدها نحوها بسرعة وهو يقول بتصلب خافت
"ولما الاعتذار الآن وانتِ لم تفعلي شيء"
ردت عليه (فاتن) بعبوس مستاء
"لأنه بسببي حدث كل هذا ، لو اني لم اخرج من جناحنا منذ البداية لما وصلنا لهنا وتصادمت مع شقيقك"
تجهمت ملامح (مؤيد) وهو يفلت كفها ليمسك بكتفيها بتشديد وهو يتمتم بجدية حادة 
"لا اريد منكِ ان تحبسي نفسكِ بجناحنا للأبد ، فهذا يكون منزلكِ ايضا ولكِ حرية التنقل به كما تريدين ، ولكن ما لم اتوقعه هو تصرف ياسر نحوكِ وكلامه فيبدو بأنه قد وصل به الانحطاط لمستوى متدني جدا"
زمت (فاتن) شفتيها بارتجاف وهي ترفع حدقتيها نحوه بهدوء وببطء شديد ، ليقول بعدها (مؤيد) بتفكير وهو يعود ليشدد على كتفيها بتوجس
"هل حاول ملامستكِ او فعل شيء سيء معكِ قبل مجيئي ، وهل تجرأ وفعل هذا معكِ من قبل"
عقدت حاجبيها بوجوم لتقول بعدها بسرعة بتأكيد وهي تحرك رأسها بالنفي
"لا لا لم يفعل اي شيء معي قبل مجيئك"
عبست ملامح (مؤيد) بحدة وهو يبعد كفيه ليرفعهما لشعره الطويل وهو يتخلله بتفكير حتى بعثره على جبهته بغضب وهو يهمس بانقباض مشتعل
"ذلك الحقير لن اسامحه ابدا على هذا التجاوز والتلاعب بشرفي ، ويظن نفسه سينفذ من فعلته كالسابق متناسيا وجود زوجكِ والذي ما يزال على قيد الحياة ليربيه جيدا ، فهذا النوع من الأشخاص لا يتعلمون ابدا من اخطائهم السابقة"
ابتلعت (فاتن) ريقها بتشنج وهي تهمس بشرود حزين
"هل صدقت كلامه عني"
اخفض كفيه عن شعره وهو ينظر لها بصدمة ولعينيها المنحنيتين بحزن واضح ، ليقترب بعدها منها بهدوء قبل ان يمسك بخدها بكفه وهو يقرصه بقوة آلمتها ، ضربت (فاتن) على كفه بعيدا عن خدها ليبعد عندها كفه بهدوء وهو ينظر لخدها والذي احمر بشدة بسبب تشديده القاسي على خدها ، رفعت (فاتن) يدها وهي تمسد على خدها بحنق وبعض الدموع بدأت بالتجمع عند انحناءة عينيها ، ليرفع بعدها يده وهو يبعد يدها عن خدها قبل ان يميل بوجهه امامها ليقبل خدها المحمر ببطء شديد جعل الدم يتدفق بأوردتها بسخونة .
همس بعدها (مؤيد) بأذنها بانفعال حانق
"هذا ما يحدث عندما تسألين اسئلة حمقاء ، والأدهى بأنكِ تعرفين جوابها والذي لا يحتاج لتفكير"
ابتسمت (فاتن) بسعادة وهي تتنهد بارتجاف وحياء قبل ان تحتضنه براحة وهي تدفن وجهها بصدره الرحب بصمت ، بينما رفع (مؤيد) كفيه ليربت على ظهرها بخفة وهو يقول بحدة خافتة
"بلهاء كيف تفكرين بي بهذه الطريقة ، انتِ من بين الجميع والتي من المستحيل ان اشك بها بأي شيء تفعله ، فأنا اكذب الجميع واصدقك انتِ وحدك"
شددت (فاتن) من عناقه وهي تشعر بقبلاته تمسد على جانب وجهها بحنان قبل ان يبعد وجهه عنها وهو يقول بوجوم مفاجئ
"ألم اخبركِ ألا تتركي شعركِ منثورا يا فاتنة وان تعقديه دائما"
رفعت كفها وهي تتلمس على خصلات شعرها الطويلة قائلة بهدوء
"لقد نسيت"
زفر (مؤيد) انفاسه بكبت وهو يبتعد عنها ليشرد بعيدا بتفكير ، قال (مؤيد) بعدها بلحظات بصوت حاسم
"اسمعي سأبدأ من الغد بالبحث عن منزل جديد او شقة نعيش بها بمفردنا ، فالعيش هنا قد اصبح لا يطاق ويسبب لنا الضيق دائما"
ارتفع حاجبيها بعدم تصديق وابتسامتها تتسع لا إراديا حتى شملت وجهها بأكمله قبل ان تعبس فجأة وهي تقول بتفكير متوجس
"ولكن ماذا عن والدك ، هل سترحل عن المنزل وتتركه"
ردّ عليها (مؤيد) بلا مبالاة
"لا تقلقي فلا احد بالمنزل يهتم بوجودنا اصلا ، وخاصة والدي والذي يريد التخلص من كل افراد العائلة ومن مشاكلها بأية طريقة"
اومأت (فاتن) برأسها بهدوء شارد قبل ان يعود  (مؤيد) لمعانقتها بين ذراعيه وهو يقول باطمئنان
"كل شيء سيكون بخير يا عزيزتي ما دمتُ موجودا بجانبكِ فلن نحتاج لوجود اي احد معنا ، ومن هنا حتى اجد منزل لنا لن تخرجي من هذا الجناح ألا عندما تذهبين للجامعة ، سمعتي واي مضايقة تتعرضين لها تخبرينني عنها فورا"
كانت تحرك رأسها بالإيجاب وهي تدفن وجهها بصدره بهدوء ، بينما كان (مؤيد) يفكر بوجوم بأنه قد اخطئ كثيرا عندما غفل عن شقيقه المجنون وما يمكنه ان يفعل بزوجته وهو يحميها من كل الأغراب من حولها لتأتي بالنهاية من شقيقه ابن والده ، وهذا الأمر سيزيد من حرصه اكثر على حمايتها من كل انواع البشر من حولها وهذا إذا كانت عائلته تنتمي اصلا تحت صنف البشر .
_______________________________
كانت تنظر للسماء الشاحبة من النافذة بشرود قبل ان تسمع صوت طرق على باب الغرفة ، لتسمح له بعدها بالدخول بدون ان تلتفت نحوه قبل ان تسمع الصوت الرزين والذي لم تسمعه منذ ثلاث سنوات وهو يقول
"هل يمكنني الدخول"
ابتلعت (مايا) ريقها بقوة وهي تقول بتصلب بدون ان تلتفت له
"ماذا تريد يا إياد ، وما لذي اعادك الآن بعد مرور ثلاث سنوات كاملة"
تقدم (إياد) بعيدا عن باب الغرفة ليلقي نظرة باتجاه (ايميلي) والتي كانت تنظر بعيدا عنه بشرودها المعتاد ، ليقول بعدها باحترام شديد
"مرحبا يا خالة وكيف هي صحتكِ الآن"
لم تجب عليه (ايميلي) فقط عينيها الزرقاء حادت نحوه لثواني معدودة قبل ان تعيدهما بعيدا عنه ، ليسمع بعدها صوت (مايا) وهي تقول ببرود جليدي
"إذا كنت قد انتهيت من زيارتك فيمكنك الرحيل الآن ، فأنت تضيع وقتك هنا ليس ألا"
تجهمت ملامح (إياد) وهو يقترب منها بهدوء قبل ان يقف خلفها وهو يقول بحزم
"اريد التكلم معكِ يا مايا ، ولا تستطيعين منعي من هذا فأنتِ ما تزالين زوجتي للآن إذا كنتِ قد نسيتِ"
ردت عليه (مايا) بسخرية وقد تصلبت ملامحها تماما
"ولما الآن قررت الكلام معي ، لما لم تأجلها لسنتين بعد او بعد عشر سنوات ، قد اكون عندها استطعت إبطال مفعول زواجنا والذي تتفاخر فيه امامي بكل ثقة"
تجمدت ملامح (إياد) بحنق ليقول بعدها بجدية وهو ينظر لها بتركيز
"هذا ليس الوقت المناسب للسخرية ، واعلم بأني قد تأخرتُ كثيرا لأخطو مثل هذه الخطوة الكبيرة نحوكِ والفائتة لأوانها ، ولكن المهم بأني قد وصلتُ إليكِ ، وانا الآن اطلب منكِ العفو عني ومسامحتي عن كل اخطاء السنين وخاصة الخطأ والذي ارتكبته معكِ قبل ثلاث سنوات"
عبست ملامح (مايا) باهتزاز وهو يذكرها بتلك الحادثة والتي بقيت مدموغة بروحها طويلا لتشعل مشاعرها والمدفونة منذ زمن ، نفضت كل هذا عن رأسها لتقول بجفاء وهي تقبض على كفيها بقوة 
"وماذا ستفيدك مسامحتي وقد فات الآوان عليها وكل واحد منّا قد اكمل حياته بشكل طبيعي بدون ان يهتم احد منهما بجروح الآخرين وهو يزيد من اغارتها بتصرفاته القاسية والغير مسؤولة ، وهو يترك كل شيء من خلفه للسنين لتداويه بدون ان تستطيع اخفاء الندوب عنه"
ارتفع حاجبي (إياد) بصدمة وعدم استيعاب من كلامها الصريح والذي قالته دفعة واحدة وهي تعبر عن شعورها امامه بالثلاث السنوات الفائتة لأول مرة بحياتها ، بينما عضت (مايا) على طرف شفتيها بغضب من لسانها الأحمق والذي فقد زمام الأمور على نفسه وهي تخرج كل ما كانت تكبته بداخلها ، وما ان استدارت بسرعة عن النافذة لتحاول الابتعاد عنه حتى امسك بذراعها برفق قبل ان يوقفها امامه وهو يقول بابتسامة جانبية بثبات
"ماذا تعنين بهذا الكلام ، وهل ما يجول بذهني الآن صحيح"
نفضت (مايا) ذراعها بعيدا عنه قبل ان تكتف ذراعيها فوق صدرها وهي تقول بعصبية مرتبكة
"فكر كما تشاء ، ولكني لن اسامحك على شيء ، وهيا اذهب وعد لحياتك والتي اخترتها بنفسك مع زوجتك الثانية وعائلتك"
عقد حاجبيه بوجوم قبل ان يقول بابتسامة هادئة
"هل تغارين من زوجتي ، وعلى كل حال هي لم تعد زوجتي بعد الآن فقد تطلقنا بالأمس ، وهي لم تكن بحياتها زوجتي فهذا المكان متواجد لكِ وحدكِ ومنذ سنوات ولكنكِ تصرين دائما على رفضه ليأخذه منكِ الآخرون"
زمت (مايا) شفتيها بغيض وهي تقول بلا مبالاة مصطنعة
"ولما تخبرني بكل هذا الكلام الفارغ ، حياتك الزوجية كلها لا تعنيني ، حتى لو تزوجت عشر مرات وتطلقت بعدها مئة مرة فهذا كله لا يهمني بتاتا"
ابتسم (إياد) باتساع وهو يقترب منها اكثر قائلا بتفكير متمهل
"إذا كان كلامكِ صحيحاً لما ما تزالين تحتفظين بمكعبي عندك للآن"
حادت بنظراتها بامتعاض نحو المكعب والموضوع على المنضدة لتعود بعدها بنظراتها الضبابية نحوه ما ان قال بثقة كبيرة وهو يقدم وجهه امامها تماما
"ولو انكِ حقا لا تريدينني لكنتِ طردتني من الغرفة منذ اللحظة الأولى والتي دخلت بها إلى هنا ، لذا حاولي خداع احد آخر غيري لا يحفظ حركاتكِ المكشوفة"
رفعت (مايا) نظراتها الشاحبة بغضب وهي تبتلع ريقها بتصلب واضح ، ليرفع بعدها كفه لعنقها المتشنجة بانفعال وهو يتلمس على الشريان النابض فيها بقوة والذي دائما ما يبدأ بالنبض كلما انفعلت بسرعة بغضب ، ابعدت (مايا) كفه عن عنقها بعنف وهي تقول بخفوت محتد
"انت على حق كان عليّ طردك منذ البداية ، لذا سأصلح خطأي بهذه اللحظة واطردك الآن ، ارحل من هنا"
ادارت وجهها بعيدا عنه بعبوس وهي تتنفس بقوة ، بينما كان (إياد) يراقب انفعالها بابتسامة متسعة ليقول بعدها ببساطة وهو يتجه لباب الغرفة بهدوء
"إذا كنتِ مصرة على قرارك فلا بأس ، فأنا لن ارغمكِ على ما لا تريدين ، وعندما تكونين مستعدة لهذه الخطوة من حياتكِ سأكون عندها بالجوار بانتظارك"
خرج (إياد) من الغرفة بهدوء لتنظر بسرعة لمكان اختفاءه بإحباط غير مبرر وكأنها كانت تتوقع منه تصرف غير هذا ،  لتتجمد بعدها بمكانها ما ان سمعت صوت والدتها وهي تقول بشحوب
"اتبعيه"
التفتت بصدمة نحو والدتها والتي كانت تنظر لها هذه المرة بقوة غريبة عليها ، لتسبقها بعدها بالكلام وهي تقول بجمود خافت
"اعلم بأنكِ لا تصدقين كلامي ، ولكني متأكدة بأن هذا الشخص هو فرصتكِ الوحيدة لحياة افضل من كل ما عايشته ، لذا حاولي الاغتنام من هذه السعادة بقدر استطاعتك قبل ان تضيع منكِ بغباء من اجل من لا يسوى ، وعندها لن ينفع بوقتها كل ندم العالم بتصليح اي شيء مما فعلته يداكِ"
تغضن جبين (مايا) بألم وهي تنظر بعيدا بشحوب وتعلم جيدا بأن والدتها تتكلم عن نفسها الآن ولأول مرة تتكلم عن امر يخص ماضيها ، قالت بعدها (مايا) ببرود وهي تتجه لباب الغرفة
"اعتني بنفسكِ جيدا لحين عودتي"
غادرت (مايا) لخارج الغرفة امام نظرات (ايميلي) الجامدة ولم يرى احد الدمعة والتي نزلت من مقلتها على وجنتها ببطء شديد وهي ترثي شبابها واحلامها والتي ضاعت جميعها منها بلحظة حب متهور قلب حياتها رأساً على عقب .
كانت (مايا) قد وصلت لخارج المشفى وهي تتلفت من حولها بلهاث ونشيج قبل ان تتوقف بمكانها ما ان سمعت صوته من خلفها وهو يقول بهدوء
"أتبحثين عني"
استدارت (مايا) بسرعة نحوه وهي تهمس بخفوت مرجعة خصلات شعرها الذهبية خلف اذنيها
"انت ما تزال هنا لم ترحل"
ردّ عليها (إياد) ببساطة
"لا وكيف ارحل واترك زوجتي من خلفي مرة أخرى ، لقد وعدتُ نفسي من هذه اللحظة بأني لن انفصل عنكِ مجددا ، فقد كانت الثلاث سنوات كافية بالنسبة لنا"
زفرت (مايا) انفاسها باضطراب لتقول بعدها بقوة متصلبة
"حسنا اسمع انا كنتُ..."
قاطعها (إياد) بسرعة وهو يجثو على ركبتيه قبل ان ينصب ركبه منهما وهو ينظر لها بابتسامة متزنة بحنية قائلا
"قبل كل شيء اريد منكِ ان تخبريني هل تسامحينني على كل الجروح والتي سببتها لكِ بالماضي ، وهل تقبلين بأن تكوني زوجتي روحيا وعقلياً"
ابتلعت (مايا) ريقها برهبة وهي تتلفت من حولها للناس والتي بدأت تتجمع من حولهما بثواني فقط لرؤية المشهد العاطفي والمعروض امام المشفى ، همست بعدها بحنق بالغ
"توقف يا إياد الجميع ينظر إلينا"
ردّ عليها (إياد) بحزم صارم
"اجيبِ على سؤالي اولاً"
قالت (مايا) بانفعال ونشيج وقد احمر وجهها بشدة
"حسنا موافقة واسامحك على كل شيء ، هل ارتحت الآن"
تنهد (إياد) براحة وهو يستقيم بوقوفه امام نظرات الجماهير والتي ازداد عددها قبل ان يسحب كف (مايا) فجأة بحين غفلة منها وهو يدفعها نحوه قبل ان يعانقها بقوة امام الجميع والذين بدأوا بالتصفيق الحار والتصفير بصوت مرتفع وقد اعتادوا على مشاهدة مثل هذه العروض العاطفية بكل يوم ، بينما كانت (مايا) تهمس بامتقاع وهي لا تصدق ما فعله امام الناس
"توقف لقد اصبحنا مرأى امام الناس"
قال (إياد) بعدم اهتمام وهو يربت على خصلات شعرها برفق
"لا تقلقي من منظركِ امام الناس فهم معتادون على رؤية مثل هذه المشاهد والتي تعد روتين حياة يعيشون عليه كل يوم ، لذا استمتعي ولا تفكري بشيء الآن"
تنهدت (مايا) بارتجاف حزين وهي ترفع ذراعيها بتردد قبل ان تعانق ظهره بكفيها بهدوء وهي تستمتع بالارتشاف من هذه المشاعر الدافئة والتي تجربها لأول مرة بحياتها ، بينما كان (إياد) يربت على خصلات شعرها الذهبية وهو يتخللها بنعومة وشفتيه مستريحتان على مقدمة رأسها بصمت يتناقض مع اصوات الضوضاء من حولهما .
_______________________________
كان ينظر للأوراق امامه بهدوء قبل ان يخفضهم فجأة وهو ينظر بصدمة للذي دخل لمكتبه بدون استئذان ، تقدم (يزن) بعيدا عن الباب ليقف امام المكتب وهو يبتسم له بهدوء ، ارتفع حاجبي (سليمان) بدهشة وهو يضع الأوراق على سطح المكتب قائلا بابتسامة باردة
"إذاً فقد عاد ضابطنا المحترم ، هل استفدت من الدراسة بكلية الشرطة والتي لم يصل لها احد غيرك بالعائلة يا ابن شقيقي"
كان (يزن) ينظر له بجمود قبل ان يتمتم بابتسامة قاسية
"اجل لقد استفدتُ وكثيرا ايضا وكل هذا الفضل يعود لك يا عمي الكبير ، ولكن لما اخفيت عني مبادرتك الرائعة بحصولي على المنحة"
تجهمت ملامح (سليمان) بغموض وهو يقول بقتامة
"إذاً فقد اخبرك والدك الوفي والصادق ، وماذا اخبرك ايضا عن هذا الموضوع"
ردّ عليه (يزن) بابتسامة متسعة بجمود
"عن كل شيء يا عمي ، وبالتفصيل الممل عن كل ما حدث من وراء ظهري قبل سفري وبعده"
تشنجت ملامح (سليمان) وهو يقول بصلابة
"جيد وما هو رأيك بهذا الموضوع ، هل صدقت كل هذا الأمر ببساطة"
تجمدت ملامح (يزن) بامتقاع وهو يقول بشراسة خافتة
"لقد خدعتها بكلامك وكنت تعلم بأنها ستصدق كل كلمة تقولها بدون ان تشك بالموضوع ولو قليلا بسبب تعلقها بي وثقتها الشديدة بكل من حولها ، لتستطيع الوصول لغايتك وهي تفريقنا عن بعضنا بكل دناءة لينشفي عندها القليل من حقدك المرضي نحو عائلتها"
تغضنت زوايا ابتسامته بتجعد وهو يقول بابتسامة شامتة
"وهل كان لديك شك بقدراتي ، انت الذي تحديتني وتحديت كل قوانين العائلة وها قد حصدت النتائج يا ابن بارون ، واستطعتُ بالنهاية النجاح بما اسعى إليه"
كان (يزن) ينظر له بتركيز حاد قبل ان يبتسم بهدوء وهو يقول بجفاء
"ولكن مع ذلك لم تنجح تماما بتفريقنا فقد نسيت امرا مهما وهو بأن علاقتي بزهرة ليست علاقة ثلاث سنوات او اربع بل هي علاقة قديمة الأمد بقدم علاقة حقدكم المتأصل منذ سنوات ، لذا فأنت لم تنجح ابدا بشيء سوى بإبعادها عني لفترة قصيرة مؤقتة انتهت مهلتها يا سليمان بارون"
انتفض (سليمان) بمكانه وهو يقف عن الكرسي قائلا بانفعال حاد
"ماذا تقصد بكلامك يا ولد ، هيا تكلم"
حاد (يزن) بنظراته بعيدا نحو باب المكتب وهو يقول بخشونة
"ادخلي يا زهرة"
دخلت (زهرة) لغرفة المكتب بخطوات بطيئة متمهلة وهي تنظر للأسفل بخنوع وامام نظرات (سليمان) الحادة بتصلب ، وما ان وقفت بجانب (يزن) حتى قالت بخفوت حزين
"هل كنت تخدعني بكلامك طول الوقت يا عم سليمان"
اشاح (سليمان) بوجهه بعيدا عنهم بتصلب بدون اي كلام ، ليقول بعدها (يزن) بجدية وهو ينظر امامه بقوة
"لن يجيبك بل انا من سأخبركِ ، المنحة بأكملها لم تكن منه بل كانت موجهة نحو الكلية منذ البداية وقبل ان يتدخل هو ، ولكنه ابتدع كذبة بأنه مالك المنحة ليستطيع تنفيذ مخطته الدنيء ، وللأسف قد نجح بخطته الحقيرة والتي كان هدفها بأن تصدقي كلامه وتتركيني لأسافر لوحدي"
فغرت شفتيها بارتعاش وعينيها العسلية بدأت تتغرق بدموع الخزي والخيانة بعد ان اضاعت ثلاث سنوات من حياتهما لتذهب هباءً لتخفض بعدها جفنيها بهدوء وهي تضغط على كفيها بمرارة حتى آلمتها مفاصلها ، شعرت بعدها بذراع (يزن) وهي تشدها من كتفيها لتقربها من صدره قبل ان تخفي جانب وجهها بين ثنايا صدره الصلب بهدوء ، قطع عليهما الصمت صوت (سليمان) وهو يقول بابتسامة غامضة ساخرة
"لا اصدق ما اراه امامي الآن من مسخرة ، نفس الذي حدث مع والدك بالماضي يعاد امامي الآن مع ابنه ، اتعلم لولا اصرار والدي وتهديده لعدنان ليطلق والدتك لكان ما يزال للآن متشبث بها بجنون لأن والدك بالحقيقة قد وقع بشباكها وانتهى الأمر مثل ما يحدث معك تماما"
قبض (يزن) على قبضتيه بتجهم وهو يحرك فكه بقسوة حادة ، ليشعر بعدها بكف (زهرة) وهي تمسد على كفه بنعومة قبل ان تبتعد عن صدره لتقول بقوة وهي ترفع رأسها نحوه بارتجاف
"يزن لا يشبه والده فهو اقوى بكثير مما تتخيل وعندما يحب يبقى متشبث بمن يحبهم لآخر رمق بدون ان يهتم بتبادل الطرف الآخر للمشاعر فهو بالحب قاسي وعنيف ويعجبك كثيرا ، لذا إياك وان تشكك بشخصية يزن فلا احد يعرفه مثلي"
حادت (زهرة) بنظراتها نحو (يزن) بشغف وما تزال الدموع تغرق حدقتيها العسلية بجمال ، بينما بادلها (يزن) النظر بحنان وهو يتدفق بحدقتيه الخضراء لأول مرة ، تصلبت ملامح (سليمان) وهو يقول بنفاذ صبر
"إذا كنتما قد انتهيتما من هذه المهزلة فيمكنكما ان ترحلا عن وجهي الآن ، هيا غادروا من منزلي"
رفع (يزن) نظراته باتجاهه قبل ان يقول بصرامة هادئة
"سنرحل من هنا نهائياً ولن نريك وجهنا مرة أخرى ، ولكن عليك ان تعلم بأن اقترابك من زهرة وعملك معها من وراء ظهري سأتغافل عنه واتناساه الآن ، ولكن إذا تكررت مرة أخرى فأنا عندها سأحاسب عائلتك بأكملها بطريقتي الخاصة وباستخدام رتبتي الجديدة والتي ستفتح عليكم ابواب الجحيم عندما افتش بماضي العائلة وبأعمالها الغير قانونية ، وهذا ليس جيد على سمعتكم يا عائلة بارون"
ردّ عليه (سليمان) بتصلب قاطع
"هل هذا تهديد"
حرك (يزن) كتفيه ببساطة وهو يستدير بعيدا عنه قائلا بلا مبالاة
"اعتبرها ما تريد ، انا فقط فعلت ما عليّ ونبهتك وانت فكر بها على مهل"
تحرك (يزن) لخارج الغرفة و(زهرة) تتبعه بهدوء ، بينما كان (سليمان) ما يزال يراقب مكان اختفاءهم بتجمد قبل ان يطوح بذراعه من على سطح المكتب مرة واحدة ليلقي بكل اشياء المكتب على الأرض بكل الاتجاهات قبل ان يتوقف وهو يتنفس بقوة وتعب شديد بدأ يسري بكل انحاء جسده حتى هده تماما ، ليستند بعدها بكفيه على سطح المكتب وهو ينظر امامه بحدة وبصلابة جمدت ملامحه كالرخام البارد .
_______________________________
فتح عينيه بهدوء وهو يضيق حدقتيه بتركيز قبل ان يشيح بوجهه جانبا لتصطدم نظراته بها ، اتسعت ابتسامة (إياد) بهدوء متزن وهو ينظر لملاكه الرقيق والذي اصبح ملكه اخيرا بعد طول عناء وكأنه ملك العالم بين يديه وهو الذي لم يكن يتوقع ان يتحول على هذه الصورة العاشقة ما ان وقعت اخيرا بين يديه كحلم ذهبي استطاع التثبت بداخله بالنهاية ليسقط عنه قناع الثبات والرزانة والذي حافظ عليه لسنوات بحكم عمله قبل ان تقلب شخصيته وحياته لتجعله يكتشف معها حلاوة الحياة والتي لم يكن يعرفها من قبلها ولم يجربها مع غيرها .
كان ينظر لها وهي تعطيه ظهرها واقفة امام النافذة بشرود بغرفة نومها وشعرها الذهبي مسترسل على طول ظهرها وهو يلمع مع أشعة الشمس الداخلة من النافذة ، نزل بنظره لثوبها القطني القصير والذي لا يذكر متى ارتدته تحديدا وهي تبدو به كحمامة على وشك التحليق لخارج النافذة ، لا يزال يذكر عندما احضرها لشقتها بعد العرض والذي قدموه امام المشفى ومسامحتها له لتكون هذه اللحظة الفاصلة بحياتهما وهما يكملان الزواج الغير مكتمل ، وقد ظن بوقتها بأنها ستمانع او تعترض على إكمال زواجهما بسبب سرعة الأحداث والتي جرت بينهما ولكنها وللمفاجأة وافقت على قراره لتذوب بين يديه بسلاسة عذبة لساعات .
استقام (إياد) من استلقائه ليجلس على السرير وهو يقول بهدوء
"مايا تعالي إلى هنا"
تجمدت (مايا) بمكانها للحظات قبل ان تقفل النافذة امامها لتسير بعدها نحوه ببطء وبخطوات متمهلة تناسبها وهي تخطوها منذ كانت طفلة بعمر السادسة ، جلست بعدها على طرف السرير وهي ترجع شعرها لخلف اذنيها بهدوء ، بينما زحف (إياد) نحوها قبل ان يعانق صدرها من الخلف بذراعه بقوة وهو يهمس فوق رأسها بثبات
"ماذا هناك يا مايا ، لما تبدين حزينة هكذا"
نظرت بعيدا بشرود وهي تقول بوجوم خافت
"هل كنتُ كما اردت"
تصلبت ملامحه قبل ان يبعد ذراعه عنها لينزل عن السرير وهو يجلس بجانبها ، امسك بعدها بكفها المستريحة على ساقها وهو يقول بتفكير
"ماذا تقصدين"
التفتت (مايا) بوجهها نحوه بهدوء وهي تنظر له بعينيها الرمادية الشاحبة ، لتقول بعدها بارتجاف خافت
"انا اقصد هل كنتُ مثل ما حلمت وتمنيت عن زوجتك الايطالية"
شدد (إياد) على كفها قبل ان يرفعها لشفتيه ليقبل باطنها بعمق امام نظراتها المرتجفة بمشاعر هادرة عادت لاجتياحها بخجل ، ليقول بعدها بقوة وهو يشدد على كفها بين يديه
"بل كنتِ اجمل حلم يمر عليّ بحياتي ومن اجمل ما يكون"
ردت عليه (مايا) وهي تعقد حاجبيها بريبة
"حقا"
ترك (إياد) كفها ليمسك بوجهها برفق وهو يقول ببعض الحدة
"لما تقولين مثل هذا الكلام الغريب ، هل هناك ما يضايقك"
قالت (مايا) وهي تزفر انفاسها بنشيج خافت
"اعتذر على سؤالي الأحمق والغريب ، ولكن عندما كنتُ بالمدرسة وبالجامعة كانت الفتيات يخبرونني بأنه لن يحبني احد لأنني لا احمل المقومات والتي يحلم بها كل الرجال بسبب قسوتي بالتعامل مع كل من يقترب مني ، فأنا لا اعرف حركات الدلال والإغواء والتي يستخدمونها الفتيات للإيقاع بالشبان كمصيدة سهلة ، ومع ذلك كان هناك الكثير من الشبان والذين حاولوا التقرب مني ولكن مع الوقت ينسحبون بعدها بصمت ما ان يشعروا باليأس مني"
شدد (إياد) على وجهها قبل ان يُقربها منه بصمت ليقبل زاوية شفتيها الحمراوين وهو يهمس امامهما
"لهذا انتِ مميزة بنظري واستثنائية فقد استطعتِ الحفاظ على نفسكِ بين عالم لا تعرف شيئاً عن قيمة الشرف والنسب ، بين كل المؤثرات والتي كانت تحيط بكِ استطعتِ النفاذ منها والخروج بأقل الخسائر الممكنة بدون اي مساعدة من احد ، لذا انا ارفع لكِ القبعة يا زوجتي الايطالية"
ابتسمت بهدوء وهي ترفع كفها لتمسك بجانب وجهه برفق قائلة بابتسامة جامدة
"توقف عن نعتي بالإيطالية"
عقد حاجبيه بتفكير قبل ان يقترب من اذنها وهو يهمس بها بعبث
"بماذا ادعوكِ إذاً ، بالحلم الذهبي ام بالحمامة الناعمة ام بشقرائي الوحيدة"
احمرت وجنتيها بحياء وهي تضرب على صدره بقوة لتدفعه بعيدا عنها قائلة بحنق
"توقف عن اللعب يا إياد ، لقد قصدتُ بأني لا احب هذا اللقب ابدا"
ابتعد عنها (إياد) وهو ينظر لها بغموض ليقول بعدها بغضب حانق
"إذاً ألن تقولي لي ما لسبب والذي يجعلكِ تكرهينه ام اخمن لوحدي"
ادارت وجهها بعيدا عن مرمى كفيه وهي تقول بتصلب
"لأن هذا اللقب يظهرني وكأني ابنة والدين ايطاليين ، لطالما كان يظن العالم الغير مقربين منا بأني ابنة ايميلي وجون ، ولم يحاول احد تعديل هذه الصورة فقد كانوا يظنون بأن معرفة العالم بأني ابنة عربي سيجعلهم هذا يبتعدون عنا ويضعون الحواجز بيننا ، لذا تكتمت والدتي مع زوجها موضوع نسبي عن العالم لأقضي كل حياتي على هوية بأني ايطالية"
عقد (إياد) حاجبيه بحدة وهو يقول بتفكير شارد
"لهذا لم يستطع اي احد من العائلة الوصول لكِ او معرفة اي شيء عنكِ"
عاد (إياد) بنظره ل(مايا) بهدوء قبل ان يعود للابتسام باتزان وهو يمسك بكتفيها ليدسها بعدها بصدره بقوة وهو يقول بحنية متزنة
"انسي كل ما يتعلق بهما وكل ما يتعلق بحياتكِ بالماضي فهي لا تستحق كل هذا الحزن على امور دفنت طي النسيان ، ركزي فقط على والدتك وعلى حياتكِ الزوجية معي فهي كل ما يهم الآن وانتِ ستبقين دائما عربية الأصل رغما عن الجميع"
شهقت (مايا) بارتجاف وبغصة حزينة وهي تغوص وجهها بين ثنايا صدره هامسة بخفوت منتحب
"كيف سأستطيع النسيان يا إياد ، ما ازال اذكر الخزانة الصغيرة المظلمة والتي كانوا يحبسونني بها عندما كنتُ اخطئ بالتصرف معهم بطفولتي ، وماذا عن الضرب المبرح والذي كنتُ اتلقاه من زوج والدتي عندما كنتُ اتمادى معه بالكلام ، بينما كانت والدتي لا تطيق النظر لي طويلا قبل ان تسبني او تشتمني باشمئزاز ، كيف تريد مني ان انسى حياتي المنبوذة بينهما يا إياد وهما لا يتحملان وجودي معهما بالمنزل سوى من اجلي الثروة والتي سيحصلون عليها من والدي حتى حولوني لفتاة عديمة المشاعر"
تصلبت قبضتي (إياد) على ظهرها قبل ان يربت عليه بجمود ، ليبعدها بعدها عنه وهو يرفع كفيه ليمسح الدموع عن وجنتيها بقوة وهو يقول بجدية
"كل هذا لم يعد له وجود بحياتكِ يا مايا ، ومن الآن وصاعدا سأكون انا زوجك ودكتورك ووالدك واخاكِ واي شيء تريدينه ، المهم هو ألا تكتمي بداخلكِ اي شيء تشعرين به فأنا دائما موجود بجواركِ لسماع ما يؤرقك ويضايقك"
رفعت كفها بارتجاف وهي تمسح عينيها الدخانية بهدوء قبل ان ترفع نظراتها الضبابية الدامعة نحوه وهي تهمس ببحة خافتة
"هل تعدني"
اتسعت ابتسامة (إياد) حتى شملت وجهه بأكمله وهو يمسك بجانب وجهها قائلا بتأكيد واثق
"انا اعدكِ"
زفرت انفاسها بابتسامة هادئة قبل ان ترتمي على صدره براحة وهي تلف ذراعيها حول خصره بصمت ، بينما كان (إياد) يربت على رأسها بحنية وهو يقول بجدية صارمة
"غدا سنعود للبلاد معا لنعيش لوحدنا بمنزل خاص بنا بعيدا عن العائلة ، واما اليوم فسيكون اجازة لكلينا وراحة من إزعاج العالم الخارجي"
اخفض (إياد) نظره لها بحيرة ليفاجئ بسكونها بين ذراعيه وهو يستمع لأنفاسها المنتظمة بارتجاف والتي تدل بأنها ذهبت بسبات عميق بعيدا عن كل من حولها ، ليبتسم بعدها بهدوء وهو يعيد خصلات شعرها لخلف اذنيها بشرود قبل ان ينحني نحوها ليقبل شفتيها برقة لينتقل عندها لعنقها وكتفها بقبلات برقة النسيم حتى شعر بتلويها بين ذراعيه وهو يهمس امام شفتيها بأنفاس ملتهبة خشنة احرقتها
"سامحيني يا شقراء ، ولكني لن ادعكِ تنامين ليس بهذه اللحظة بالذات"
_____________________________
دخلت لغرفة المكتب وهي تحمل صينية القهوة بين يديها قبل ان تتسع عينيها بهلع وهي تنظر ل(سليمان) الذي كان يرجع رأسه للخلف بإنهاك شديد واضح على ملامح وجهه الجامدة ويضع كفه فوق مكان قلبه وهو يشدد من القبض على قماش قميصه بتشنج ، افاقت (فاتن) بسرعة من صدمتها لتتقدم نحوه قبل ان تضع الصينية فوق سطح المكتب لتقف بجانبه تماما ، رفعت (فاتن) كفها بتردد لتربت على كتفه بهدوء وهي تهمس بجزع
"عمي سليمان ، هل انت بخير"
لم يرد عليها (سليمان) وهو ما يزال على حاله وانفاسه تخرج بنشيج متقطع أثار رعبها عليه ، وما ان كانت ستغادر بعيدا عنه حتى امسك (سليمان) بذراعها ليوقفها بمكانها وهو يقول بتصلب مهتز
"ساعديني على الذهاب لغرفتي"
التفتت نحوه (فاتن) وهي تنظر له بدموع بدأت بالتجمع عند انحناءة عينيها ، ليفلت بعدها ذراعها وكفه تهبط على جانبه بضعف تراه عليه لأول مرة ، اتجهت بسرعة لباب المكتب وهي تصرخ بانفعال مرتجف
"اريج تعالي إلى هنا بسرعة"
جرت الخادمة نحوها قبل ان تقف امامها باحترام ، لتقول بعدها (فاتن) بسرعة وهي تشير لداخل المكتب امامها بحزم
"تعالي اريد منكِ ان تساعديني على امر مهم"
دخلت (فاتن) والخادمة تتبعها قبل ان تقف كل واحدة منهما بجهة حول كرسي (سليمان) ، قالت (فاتن) بعدها بقوة مرتجفة وهي تمسك بذراع (سليمان) من جهتها لتضعها فوق كتفيها
"هيا ساعديني بإيصال عمي سليمان لغرفته"
حركت الخادمة رأسها بطاعة وهي تمسك بذراعه من جهتها قبل ان توقفاه عن الكرسي معا وهما تتجهان به لخارج غرفة المكتب ، بينما كان (سليمان) يلهث بتعب وهو يحاول السير معهما بتباطء شديد ليخفف من الحمل عنهما قليلا ، وما ان وصلوا به لغرفته ولسريره حتى ارتمى (سليمان) على السرير بتعب وقدميه مرميتين خارج الفراش بإهمال وهو ما يزال يضغط بكفه فوق مكان قلبه .
رفعت الخادمة قدميه وهي تعدلهما على السرير بحرص ، بينما كانت (فاتن) تُخرج الهاتف من جيب بنطالها لتجري الاتصال بسرعة وهي تبتلع ريقها بقلق وخوف بالغ ، لتضع بعدها الهاتف على اذنها ما ان فتح الخط لتقول من فورها بارتباك متلعثم
"مؤيد والدك ليس بخير ابدا ، انه لا اعلم ما به وماذا اصابه..."
قاطعها (مؤيد) وهو يقول بتروي
"اهدئي يا فتاة فأنا لم افهم اي كلمة مما قلته ، هيا أعيدي كلامكِ ببطء اكثر لأستطيع الفهم ومعرفة مشكلتك"
تنفست (فاتن) بهدوء وهي تحاول تنظيم انفاسها المضطربة لتهمس بعدها بنشيج خافت
"ان عمي سليمان ليس بخير ابدا فهو يبدو متعب جدا وغير هذا نقلته لغرفته بمساعدة الخادمة لأنه لا يستطيع التحرك بتوازن وهو ما يزال يتألم للآن"
مرت لحظات صمت بينهما على الهاتف لا يقطعها سوى صوت انفاسها المتسارعة بنشيج ، ليقول بعدها (مؤيد) بصرامة حازمة
"حسنا انا سآتي بسرعة واحضر معي الطبيب وانتِ ابقي بجانبه حتى أصل ، سمعتني"
ردت عليه (فاتن) بانصياع
"حاضر"
اغلقت الخط وهي تنظر للهاتف بشرود قبل ان تسمع صوت الخادمة وهي تقول من خلفها باحترام
"هل استطيع الذهاب الآن يا سيدتي"
استدارت نحوها ببطء وهي تحدق بها بحيرة ، لتقول بعدها بارتباك ما ان افاقت على نفسها
"اجل يمكنكِ الرحيل"
خرجت الخادمة من الغرفة بهدوء لتخلف من خلفها سكون قاتم وثقيل وهو ينزل على قلبها كالصخر ، تحركت باتجاهه وهي تدس الهاتف بجيب بنطالها قبل ان تجلس بجانبه على طرف السرير وهي تنظر لملامحه المتشنجة بصلابة وكفه ما تزال تضغط على مكان قلبه ، رفعت كفها لا إراديا لتمسد على كفه الضاغطة فوق مكان قلبه وهي تهمس بخفوت مرتجف ودموعها قد عادت لتسقي خديها من جديد
"لا تقلق يا عمي سيأتي الدكتور قريبا ، وستكون على ما يرام ولن تصاب بأي مكروه"
ابعدت كفها وهي تشرد بعيدا عنه لترفع بعدها كفيها امام وجهها وهي تدعوّ بكل قلبها بأن تتحسن حالته بسرعة .
بعد مرور عشر دقائق أخرى كان (مؤيد) يدخل للغرفة امامها لتنقض عليه وهي تعانق صدره باندفاع وبارتجاف شديد ، ربت (مؤيد) على رأسها بكفه وهو يقول برفق
"ماذا حدث مع والدي يا فاتن"
ابتعدت بسرعة عنه وهي تقول بوجل
"اين هو الطبيب يا مؤيد ، ألم تحضره معك"
التفت (مؤيد) نحو باب الغرفة وهو يقول بصرامة
"بل هو موجود هنا ، هيا ادخل يا دكتور عمار"
دخل (عمار) بهدوء وهو ينظر ل(فاتن) ليقول لها باتزان وببشاشة
"مرحبا يا آنسة"
حركت (فاتن) رأسها بالإيجاب باهتزاز بدون اي كلام ، بينما قال (مؤيد) بهدوء وهو يشير له بذراعه لسرير والده
"تفضل يا دكتور وابدأ بعملك فحالة الوالد صعبة جدا ، ونحن قلقين جدا على صحته"
تقدم (عمار) باتجاه السرير قبل ان يقف بجانبه وهو يفتح الحقيبة بحوزته ليبدأ بعمله ، بينما عانق (مؤيد) كتفيها بذراعه وهو يمسد على طرف ذراعها بأصابعه بهدوء ، ليقول بعدها بتفكير وهو ينظر لوالده المسجى على السرير بدون حراك
"كيف وصل لهذه الحالة ، لم اره من قبل بكل هذا الضعف"
ردت عليه (فاتن) وهي تهمس بتوجس
"لا اعرف فقد وجدته جالسا على كرسي المكتب بتعب عندما دخلت إليه بالقهوة ، وبعدها طلب مني المساعدة بالذهاب لغرفته وبعدها وبعدها..."
قاطعها (مؤيد) بلطف وهو يضغط على ذراعها بأصابعه برفق
"اهدئي يا فاتنة فأنتِ تضخمين الأمور ليس ألا وكل شيء سيكون بخير ، فقد احضرنا له الطبيب وهو من سيهتم به جيدا ، لذا ارتاحي الآن واريحي اعصابكِ تماما"
زفرت انفاسها بارتباك قبل ان تقول بتفكير
"صحيح لما لم تحضر إياد معك ليعالجه فهو دكتور ايضا"
ردّ عليها (مؤيد) وهو يقول ببساطة
"لأنه غير موجود بالبلد ، ولا اعلم إلى اين سافر تحديدا وقد يكون ذهب ليقضي شهر عسله عند زوجته الأولى"
ادارت حدقتيها بعيدا عنه بتفكير واجم ، ليقطع الكلام بينهما صوت الطبيب وهو يقول بجدية عملية
"كل شيء قد اصبح تمام الآن ، فقط كان يعاني من هبوط حاد بالضغط والسكري وازمة قلبية طفيفة ، ولكني الآن غرزتُ حقنة مهدئ بذراعه وستجعله يتحسن عليها من فوره ، ولكنه مع ذلك يحتاج للمراقبة والاهتمام بصحته اكثر بعيدا عن كل الضغوطات"
حرك (مؤيد) رأسه باتزان وهو يقول بامتنان
"شكرا لك يا دكتور عمار ، لقد ارحتنا بهذا الكلام وجهودك مباركة"
عقدت (فاتن) حاجبيها بوجوم وهي تشعر بكلامه بدل ان يريحها يزيد من خوفها وقلقها عليه اكثر وكأنه يسلخ قلبها بقسوة وهي لا تشعر بالراحة ابدا من كلامه وهو يقول عن امراضه والتي كان يعاني منها بدون ان يعلم عنه احد ، افاقت من شرودها على صوت الدكتور وهو يقول بتذكر
"اجل وايضا عليه ان يأخذ كل يوم حقنة باليوم لكي لا يعود ألم القلب مرة أخرى ، وإذا لم تعرف كيفية استخدام الحقن وغرزها بالذراع فأنا عندها سآتي..."
قاطعته (فاتن) وهي تقول بتأكيد مندفع
"انا اعرف جيدا كيفية استخدام الحقن وغرزها بالجلد فقد تعلمتُ هذا بكليتي ، ويمكنني انا ان اهتم بالحقن الخاصة بعمي"
حرك (عمار) رأسه بالإيجاب وهو يُخرج مجموعة حقن مترابطة ببعضها كسلسلة وهو يمدها نحوها قائلا بابتسامة بشوشة
"جيد إذاً يمكنكِ انتِ استخدام هذه الحقن ولا تنسي ايضا موعدها واحدة بكل يوم ، وإذا حدثت معكِ اي مشكلة فأخبريني فورا"
ابتعدت (فاتن) بسرعة عن ذراع (مؤيد) وهو ينظر لها بحاجبين مرفوعين بامتقاع متجهم ، لتلتقط بعدها الحقن منه بحرص وهي تنظر لها بين كفيها بتركيز ، قال (مؤيد) بملل وهو يشير للطبيب بذراعه لخارج الغرفة
"هيا يا دكتور عمار لأرافقك معي للخارج ، ونتكلم عن الحساب معا خارج الغرفة"
حرك (عمار) رأسه باحترام بعد ان اغلق حقيبته ليحملها بعدها بكفه وهو يسير بمحاذاة (مؤيد) لخارج الغرفة ، بينما نقلت (فاتن) نظراتها من الحقن ل(سليمان) والذي غط بسبات عميق بعد لحظات طويلة من الألم وهو يرخي من قبضته على مكان قلبه ، لتبتسم بعدها براحة وهي تزفر انفاسها بنشيج خافت فقد اصبح كل ما يشغل تفكيرها الآن هي صحة عمها (سليمان) والذي سيبقى دائما بمقام والدها .
______________________________
بعد مرور عدة أيام.........
كانت تنظر من النافذة بجانبها بشرود لتحيد بنظراتها نحوه وهي تنظر له بابتسامة حالمة لترجع بعدها رأسها لمسند الكرسي وهي ما تزال تراقبه بهدوء ، قالت بعدها بابتسامة صغيرة وعينيها معلقتان على كفيه والقابضين بتصلب على مقود السيارة
"ألن تخبرني إلى اين تريد ان تؤخذني"
اتسعت ابتسامة (يزن) على جانب شفتيه وهو يقول بتصلب
"ألم اخبركِ بأنه عندما نصل ستعرفين ، هذه المرة العاشرة والتي تسألين فيها نفس السؤال"
استقامت بجلوسها بعيدا عن مسند الكرسي وهي تقول باستياء
"وانا اخبرتك مئة مرة بأني لا احب الانتظار ولا احب المفاجآت ، على الأقل اخبرني فقط تلميح عن المكان المتجهين له"
رفع (يزن) كفه ليشد على خصلات شعرها بقوة لتنحني عندها بجانب رأسه بألم وهي تحاول نزع خصلات شعرها من قبضته ، ليقول بعدها بصرامة مزيفة
"كلمة أخرى يا زهرة واطردكِ من السيارة بأكملها وانسي موضوع ان نخرج معا لمكان"
حركت (زهرة) رأسها بألم وهي تهمس بخنوع
"حسنا ، هيا اترك شعري"
ترك (يزن) شعرها بجمود لتعود برأسها للأمام وهي تمسد على خصلات شعرها هامسة بحنق
"قاسي"
حانت منه التفاتة نحوها ببرود قبل ان يلتقط كفها من على ساقها ليرفعها لشفتيه وهو يقبل ظاهرها بقوة وعلى وجهه كانت تعلو ابتسامة قاسية ، بينما كانت (زهرة) تبتسم له بنعومة وهي تتنعم بهذه اللحظات الدافئة والصامتة بينهما مثل جميع الأيام والتي قضوها معا بعد عودتهما لبعضهما .
افلت (يزن) كفها ما ان وصل للمكان المطلوب وهو يوقف السيارة بجانب المنزل الكبير والذي يحاوطه الكثير من النباتات والأشجار وهو يبعد عن المنازل السكنية الأخرى بمسافة طويلة وكأنه منفرد لوحده ، خرج (يزن) من السيارة بهدوء وهو يحدق بالمنزل الكبير امامه بشرود ، لتتبعه بعدها (زهرة) بالخروج وهي تنظر باستغراب للمنزل رائع الجمال وهي تشعر بسكينة وراحة تحيط به واصوات العصافير تغرد من حوله كموسيقى خاصة به وكأنهم يستقبلون بها الزوار ، ولا تعلم لما شعرت بالانقباض والحزن من مرأى هذا المنزل وكأنه يحمل ذكريات لا يعرفها سوى اصحابها .
وقفت (زهرة) بجانبه وهي تقول بحيرة خافتة
"لمن هذا المنزل يا يزن"
قال (يزن) بعدها بلحظات باقتضاب
"انه منزل والدتي واقصد منزل والديها"
التفتت (زهرة) نحوه بسرعة وهي تقول بانشداه
"أتقصد منزل عم والدي وشقيق جدي"
حرك (يزن) رأسه بالإيجاب وهو يقول بجمود
"اجل انه منزل والدتي والذي كانت تعيش فيه قبل وفاة والديها وانتقالها لمنزل عمها ، ليغلق بعدها هذا المنزل للأبد ولسنوات طويلة بدون ان يسأل عنه احد ، فقط جدك هو الوحيد والذي كان يعلم عنه ويملك المفتاح الخاص به"
عقدت (زهرة) حاجبيها بتفكير من كم الحقائق المخفية والتي لم تكن تعلم عنها ولم تفكر بها قط ، قالت بعدها بهدوء وهي تنظر لباب المنزل الحديدي والذي كان يحيط به اغصان الأشجار والورود بتناسق
"ولما لم يعطيك جدي مفتاح المنزل منذ البداية بما انه ملك لعائلة والدتك"
ابتسم (يزن) بتصلب وهو يقول بغموض
"لا أعلم السبب تحديدا ولكن اغلب الظن بأنه لم يكن يريد من ابن عائلة بارون بالاستيلاء على منزل عائلة داوود او قد يكون لأن والدتي فقدت الحق بمنزل عائلتها بعد فعلتها"
عبست ملامحها بحزن وهي تنظر للمنزل والذي عاشت فيه (حنان) طفولتها ليحرموها بعدها من السكن فيه بعد انتقالها لبيت عمها لتُدفن عندها الذكريات بهذا المنزل للأبد منتظرة عودة احد من ساكني هذا المنزل والذي لم يبقى لهم اي اثر بالحياة .
تابع (يزن) كلامه وهو يقول بجدية صارمة
"هذا غير مهمٌ الآن ، فقد أعاد لي جدك مفتاح منزل والدتي ولا اعلم سبب تغيره ، ولكن المهم بأن هذا المنزل قد اصبح ملكنا الآن ، وليس هناك داعي للبقاء بتلك الشقة الصغيرة بعد الآن"
كانت (زهرة) تحرك رأسها بهدوء وهي تنظر له وهو يتقدم باتجاه بوابة المنزل الحديدية بثبات ، ليفتح بعدها الباب بهدوء بعد ان نزع السلسلة الحديدية والتي كانت تعقد طرفي البوابة معا ، سار (يزن) باتجاه مدخل المنزل وهو يدوس على اوراق الشجر اليابسة والمتساقطة بكل مكان وصوت العصافير يغرد من حولهما بنغم ، بينما كانت (زهرة) تسير من خلفه وهي تنظر من حولها برهبة للحديقة الغنية بكل أنواع الأزهار على جانبي المدخل ، لتسقط بعدها نظراتها بانبهار على حوض واسع بمنتصف الحديقة وهو يحوي الكثير من ازهار الياسمين المزروعة ، اتسعت ابتسامتها بسعادة لا إراديا وهي تكتشف الآن سبب تفضيل (حنان) زهور الياسمين من بين كل انواع الأزهار والسبب والذي يجعلها تنظر دائما للحدائق من نافذة غرفتها بحسرة وأسى واضحين وهي التي ترعرعت بمكان تملئه الحدائق الغناء بكل مكان من حولها .
انتفضت (زهرة) وهي تعود للسير بسرعة بمدخل المنزل ما ان قصف صوت (يزن) وهو يقول بحزم
"هيا تحركي يا زهرة ماذا تنتظرين"
صعدت (زهرة) درجات المدخل قبل ان تقف بجانبه بهدوء ، ليفتح بعدها (يزن) باب المنزل بالمفتاح بكفه وهو يدسه بالقفل قبل ان يدفع الباب على اتساعه ، تغضن جبين (زهرة) بضيق ما ان اخترق صوت احتكاك الباب بالأرض سكون المكان بضوضاء لا تناسب المكان .
دخلت (زهرة) للمنزل بخطوات متمهلة وهي تنظر لما حولها برهبة لتتنقل بنظرها بانبهار بتفاصيل المنزل والذي لا يشبه بشيء منزل عائلتها لا بالديكور ولا بالتصميم بل التشابه الوحيد بينهما هو بحجم المنزلين فقط ، كانت تنظر لبهو المنزل الواسع وللثريات الكثيرة والمعلقة حول سقف المنزل على شكل زهور صغيرة من الكريستال ولكن ليس هذا ما لفت نظرها بل الرسوم المتقنة الصنع بألوان الزيت والمطبوعة على ارض البهو بشكل شجرة عملاقة بينما السقف مطبوع برسوم على شكل عصافير واما السلالم فهي مطبوعة على شكل ازهار وكأنها تدخل للتو لعالم آخر لا ينتمي للعالم الخارجي بشيء وكل انواع الراحة مرسومة بهذا المكان .
بدأت (زهرة) بالدوران حول نفسها وعينيها العسلية تدوران بالمكان بفرحة طفولية وهي ما تزال تلاحق الرسومات وقد بدأت تستمع لأصوات الرسوم الحية وهي تنتقل بين صوت حفيف الأشجار لتغريد العصافير لهفهفة بتلات الأزهار ، والخيالات تحيط بها بكل مكان وهي تتخيل صورة (حنان) بطفولتها وهي تدور بالمكان بسعادة طفولية وتنظر لما تراه الآن وما كانت دائما تحلم به لتفقد بعدها كل شيء مرة واحدة ، ما ان شعرت باختلال توازنها حتى ارتمت بأحضان صلبة حمتها من السقوط ولا تعلم متى وصل لها بالضبط ، لتغوص بعدها وجهها بهذا الصدر والذي حماها من كل العالم من حولها منذ طفولتها .
حملها (يزن) عاليا بين ذراعيه وهو يقول بأذنها بعبث مبتسم بقسوة
"هلا توقفتِ عن اللعب ، فأنا الآن مشتاق لكِ كثيرا وانتِ تثيرين رغبتي المجنونة بدورانكِ حول نفسكِ كزهرة مستعدة للقطف"
تشبثت (زهرة) بعنقه بذراعيها بقوة وهي تقبل جانب فكه برقة قائلة بانفعال متلهف
"وانت هو مزارعي والذي سيقطفني بعيدا صحيح"
اتسعت ابتسامة (يزن) بخشونة وهو يسير بها نحو السلالم قائلا بتفكير عابث
"ما رأيكِ ان نتعرف على غرفة النوم بهذا المنزل ، فأنا لدي فضول لأرى كيف تبدو الغرفة"
زمت (زهرة) شفتيها بابتسامة قبل ان تدفن وجهها بعنقه بقوة وهي تضحك بخفوت منفعل وبسعادة كبيرة ، وقد اصبح الآن كل ما تتمناه بحياتها موجود بين يديها وهو زوجها (يزن) القاسي ومنزل عمتها (حنان) والتي ستحيط بها ذكرياتها بكل مكان لتعوضها عن وجودها معها وهذا يكفيها لتعيش فقط على خيالات طفولتها والمعلقة بجدران هذا المنزل منذ سنوات .
______________________________
"ارخي من شد قبضتك قليلا وحاول الراحة لأستطيع غرز الحقنة بذراعك جيدا وألا ستؤلمك"
كان (سليمان) ينظر لها بتجهم وهو يستمع لها وهي تأمره بلطف وتمسك بذراعه بكفها برفق وبالكف الأخرى تمسك بالحقنة بحذر ، حرك (سليمان) عينيه بعيدا عنها بملل وهو يشعر بالضجر من هذا العرض الصباحي والمضطر لتحمله منذ اصابته تلك النكسة لتلازمه هذه الفتاة كل صباح وهي تأتي لغرفته ما ان يستيقظ من نومه لتغرز بذراعه الحقنة بحذر وحرص بدون ان تسمح لأحد بفعل هذا وكأنها تصر على اخذ مكان الطبيب الخاص به ولا يعلم السبب لذلك ؟
عاد بنظره لها ما ان قالت بخفوت وهي تضغط بالقطن على مكان الحقنة بذراعه
"لقد انتهينا يمكنك الراحة الآن يا عمي"
زفر انفاسه بكبت وهو لا يصدق الحال والتي وصل لها كبير عائلة (بارون) وهو يترك طفلة لتهتم به وتغرز الحقنة بذراعه ليتحسن عليها ، قال بعدها (سليمان) بوجوم بدون ان ينظر لها
"لما لم تسمحي للطبيب بالمجيئ ليغرز لي الحقن ، فهذه وظيفته هو وليست وظيفتكِ انتِ"
وضعت (فاتن) الحقنة على المنضدة بجانب السرير وهي ما تزال تضغط على ذراعه بالقطن برفق ، لتقول بعدها بابتسامة صغيرة بلطف
"ولكنني اعرف جيدا كيفية غرزها فهذا هو مجال دراستي ، لذا لا داعي لوجود الطبيب واحضاره كل يوم بما انني موجودة هنا واستطيع فعلها"
ردّ عليها (سليمان) وهو يبتسم بسخرية
"وهل ترينني فأر تجارب مثلا بمجال دراستك يا فتاة"
عبست ملامحها وهي تقول بخفوت حزين
"اعتذر يا عمي إذا كان هذا يضايقك"
تجهمت ملامح (سليمان) اكثر وهو لا يفهم تصرفات هذه الطفلة معه وهي تصر على إدخال نفسها بكل شيء يفعله وهو الذي لم يعتد على مساعدة احد بحياته وكأنه عاجز عن فعل شيء ، قال بعدها وهو ينظر لها بغموض
"لما تصرين على مساعدتي ، بماذا ستفيدك مساعدتي ام تستمتعين بإذلالي وانا عاجز عن فعل شيء"
ردت عليه (فاتن) بسرعة بارتباك وهي تحرك رأسها بالنفي
"لا ليس هكذا هو الأمر ، ولكني احب مساعدتك فأنت بمقام والدي واكثر ، وإذا لم تساعدك ابنتك فمن سيساعدك"
كان (سليمان) ينظر لها بتركيز حاد قبل ان يتمتم بهدوء
"هل والدكِ متوفي"
اخفضت رأسها بارتجاف وهي تهمس بشرود
"شيء من هذا القبيل"
رفعت (فاتن) رأسها نحوه لتنظر لحاجبيه المرفوعين بحيرة ، لتقول بعدها بنشيج وهي تعدل كلامها
"انا اقصد بأنني لا اعرف إذا كان ما يزال على قيد الحياة ام توفي ، فقد سافر والدي وتركنا منذ عشر سنوات ومن وقتها لم نعد نعرف عنه اي شيء"
عقد (سليمان) حاجبيه بامتقاع وتفكير وهو يقول بتردد
"ولما ذهب وترككم ، ولكِ حرية الإجابة"
ابتسمت (فاتن) باتساع وهي تهمس بحزن عميق
"لا أعلم إذا كان بسبب تراكم الديون وضيق الحال ام بسبب ملاحقة اشخاص سيئين له كان يعمل معهم بالماضي وخانهم بعدها"
كان (سليمان) ينظر امامه بشرود قاتم قبل ان يهمس بهدوء
"وكيف استطعتم العيش وتدبير اموركم بعد سفر والدكِ"
ردت عليه (فاتن) ببساطة وهي تنظر امامها بشرود وكأنها ترى طفولتها البعيدة امام عينيها
"لقد كانت حياة صعبة ولكننا استطعنا تجاوز تلك المرحلة بشق الأنفس ، ومع ذلك فقد تعرضنا للكثير من المشاكل والضيق فقد اضطر شقيقي الأكبر لترك دراسته ليستطيع العمل وتأمين مصاريف العائلة واضطرت والدتي لتعمل بأكثر من مجال لتساعد بالمصاريف"
نظر لها (سليمان) وهي تتكلم عن حياتها الصعبة بكل ثقة وكأنها تعتبرها مرحلة إنجاز بحياتها بدون ان تخجل من قولها امامه ، بينما تابعت (فاتن) كلامها بشرود حزين وكأنها تكلم نفسها
"ولكن مع ذلك لم يستطع اي احد اخذ مكان والدي فقد ترك بحياتنا فجوة كبيرة من الصعب ترميمها ، وحتى بأحيان كثيرة كنتُ احتاج لدعم والدي والاستناد عليه بضعفي وخاصة عندما اتعرض للتهميش او التجريح بحياتي ، وكم كنتُ اتعرض لهم كثيرا بطفولتي فبسبب هروب والدي اصبحتُ دائما محط انظار الجميع وسخريتهم ، لهذا اتمنى لو ان والدي يعود يوما ما عندها سأنسى كل الذي فات واتنعم فقط بحمايتها وحنانه ، فلا احد يعلم مكانة الوالد سوى من خسرها"
كان (سليمان) ينظر بعيدا بتجهم وهو يستمع لكلامها الخافت ولا يعلم لما شعر بانقباض طفيف بزوايا روحه المظلمة فهو يفهم جيدا مكانة الوالد عندما خسر والده واصبحت كل مسؤولية مملكة البارون على عاتقه هو لوحده ، تغضن بعدها جبينه بحدة وهو يتسائل إذا كانت (سحر) تفكر بنفس طريقة هذه الفتاة فهو بحياته لم يحاول التقرب منها او التفكير بها كأشقائها الفتيان ، فهل يعقل بأنها تشعر الآن بالنقص بدون والد يحميها ويساندها بحياتها مثل حال هذه الفتاة ؟
قطع عليه افكاره القاتمة صوت (فاتن) وهي تقف امامه قائلة بلطف
"إذا كنت لا تحتاج لشيءٍ الآن ، فأنا ذاهبة"
لم يردّ عليها (سليمان) بأي كلمة فقط كان ينظر بعيدا بشرود جامد وكأنه انفصل عن العالم بأكمله ، بينما حركت (فاتن) كتفيها بلا مبالاة وهي تجمع المخلفات من على المنضدة بهدوء قبل ان تغادر من الغرفة بأكملها ، لتترك جو من الوجوم يحوم بالغرفة بعد كلماتها الأخيرة والتي كانت الضربة القاضية بالنسبة له .
_______________________________
كان يجري بخطوات متعثرة بطريق الحديقة وبساقيه القصيرتين بامتلاء قبل ان يتوقف فجأة ما ان سد عليه الطريق ساقين طويلتين ، ليرفع بعدها الطفل وجهه الصغير للأعلى وهو ينظر للوجه الجامد والناظر له بتركيز حاد ، اتسعت ابتسامة الطفل بسعادة بالغة وملامحه السمراء تهللت بالسرور والبشاشة وكأن من يقف امامه يعرفه منذ زمن .
كان (سليمان) ينظر للطفل بقوة وهو يدور على ملامحه الشبيهة بوالدته بشكل كبير وكأنه نسخة مصغرة عنها ، تشنجت ملامحه وهو ينظر لابتسامة الطفل الغريبة والتي بعثت بداخله مشاعر غير مرغوبة وهو للآن ما يزال محروم من رؤية اي طفل بالعائلة بسبب تأخر اولاده بخلفة الأحفاد للعائلة ، ارتفع حاجبيه بدهشة وهو ينظر للطفل رافعا ذراعيه الصغيرتين للأعلى وكأنه يطلب منه بأن يحمله عاليا ويريه العالم من الأعلى .
تصلبت زاوية شفتيه بابتسامة جامدة وهو لا يفهم بماذا يدور بذهن الطفل ؟ هل يعقل بأنه شعر برابطة الدماء والتي تجمعهما ؟ انحنى بعدها لمستوى الطفل وهو يجثو على ركبتيه امامه ليقول عندها بخفوت جامد
"ماذا تريد"
لوح (عمران) الصغير بذراعيه امامه وهو يصر على طلبه والذي لا يريد التنازل عنه ، تنفس (سليمان) بكبت قبل ان يحمله من تحت ذراعيه ليرفعه عاليا وهو يستقيم بوقوفه ، ليتعلق بعدها الطفل بعنقه بتشبث وهو يضحك بمرح بالغ ، بينما كان (سليمان) يراقب سعادته وبرائته الطفولية بدون ان يحمل اي هموم بقلبه الصغير وهو لا يعلم بأنه يكون ثمرة من عائلتين يجمعهما الحقد فقط ، ولكن رؤية هذا الطفل تدل بأنه لولا الحقد الذي بين العائلتين لما نتج عنهما هذا المخلوق المبهج بشكله وتصرفاته .
تجمد بمكانه ما ان سمع الصوت الانثوي وهو ينادي من بعيد
"عمران اين انت ، يا صغيري..."
توقفت عن السير بشهقة خافتة مصدومة وهي تنظر بعينين متسعتين لوالدها والذي كان يحمل ابنها بين ذراعيه وهي تنظر لملامحه والتي ازدادت التجاعيد من حولها وشعيرات بيضاء كثيرة قد بدأت بالانتشار على كامل وجهه ولكن هذا لم يخفي شحوب عينيه وملامحه بوضوح ، وبالمقابل كان (سليمان) ينظر لها بتركيز وبدهشة غير ملحوظة وهو ينظر لابنته الصغيرة والتي تغيرت عما يعرفها وقد اصبحت امرأة بحق وهو يتنقل بنظره من وجهها المستدير وجسدها الممتلئ قليلا ليصل لشعرها والذي استطال عما كان يعرفه عندما كان يشده بين قبضتيه ليتقطع بين يديه من قصره وخفته .
اخفضت (سحر) وجهها بعيدا عن والدها بهلع وهي تفكر بالسبب والذي جعله يأتي لمنزل عائلة داوود وهي تفكر بخوف بأن يكون قد أتى ليسبب لها المزيد من المشاكل بعد ثلاث سنوات من الثبات والراحة ، قال (سليمان) فجأة بخشونة وهو ما يزال ينظر لها بتركيز
"كيف حالكِ"
رفعت رأسها بعدم تصديق من سؤاله المختصر والجاف وهو يسأل عن حالها بعد ثلاث سنوات من العيش بدون عائلة وهي ما تزال تتذكر كلامه عندما طردها من العائلة وتبرى منها بعد الخطف ، ابتلعت ريقها بوجل وهي تهمس بارتباك
"بخير ، انا بأحسن حال"
ردّ عليها (سليمان) بابتسامة حادة
"وكيف هو العيش بين عائلة داوود"
امتقعت ملامحها وهي تشعر بنبرة ازدراء بصوته بآخر كلماته ، لتتجاهل بعدها افكارها وهي تقول بتأكيد
"كل شيء بخير ، وجميعهم يعاملونني بلطف بالعائلة"
عقد حاجبيه بعدم اقتناع وهو يدور بنظراته حولها بتركيز ، لتقول بعدها (سحر) بنشيج وهي تفقد السيطرة على نفسها
"ولكن ما هو سبب مجيئك لمنزل عائلة داوود"
تجهمت ملامح (سليمان) وهو يتمتم باقتضاب
"ماذا ارى ، ألم تعجبكِ زيارتي لكِ لرؤيتكِ يا جاحدة ، ولكن هذا ليس غريب عليكِ فمن لديه طبع من المستحيل ان يغيره"
عبست ملامحها بارتجاف حزين وهي تحاول السيطرة على موجة البكاء والتي اجتاحتها فجأة ، لتهمس بعدها بمرارة بالغة وهي تنظر للأسفل بخنوع
"انا اعتذر يا ابي ولكني كنتُ اتسائل فقط لما الآن اتيت لرؤيتي بعد ثلاث سنوات تذكرتني..."
قاطعها (سليمان) بتصلب خافت
"اخرسي يا فتاة قبل ان اعلم صفعتي على وجهكِ ، يكفي بأني تنازلتُ واتيت لزيارتكِ مع انكِ لا تستحقينها"
رفعت وجهها نحوه بقوة وقد بدأت خيوط من الدموع من الانحدار من مقلتيها وهي تهمس بخفوت لا يكاد يسمع
"لقد اشتقتُ إليك كثيرا يا ابي"
تجمدت ملامح (سليمان) بصدمة لما تسمعه اذنيه لأول مرة وهو ينظر لدموعها الهادئة بغموض ، ليتصلب بعدها فكه بقسوة وهو يرفع كفه نحوها ليمسك برأسها قبل ان يقربها لصدره بصمت ، اكملت بكاءها بصدره الصلب وهو يحتويها لأول مرة دافنة دموعها بقميصه بقوة ، لتشعر بعدها بالكف الصغيرة وهي تربت على رأسها بهدوء لتزيد من انهيارها اكثر وهي تشعر بحنان والدها وابنها يحاوطانها بكل مكان لتكون مرغوبة بينهما .
ابعدها (سليمان) عن صدره بهدوء وهو يقول لها بجمود خافت
"يكفي بكاء وامسحي دموعك ، فقد اصبحتِ الآن امرأة ومسؤولة عن عائلة ، لذا لا يجوز ان تكوني بكل هذا الضعف"
اومأت برأسها بارتجاف وهي تمسح دموعها عن وجنتيها بكفها بصمت ، بينما صرخ الطفل ببراءة وهو يرفع كفه الصغيرة لوالدته
"ماما لا تبكي ، لا تبكي"
ابتسمت (سحر) بسعادة من بين دموعها من هتاف الطفل وهو يعيد كلامه من وراء والدها ، بينما ابتسم (سليمان) بهدوء وهو يقبل رأس الطفل برفق ، ليقول بعدها بعجلة وهو يرفع الطفل نحوها
"هيا خذي ابنكِ ، وانا عليّ الذهاب الآن فقد تأخرتُ كثيرا عن عملي"
تلقفت (عمران) بين ذراعيها وهي تقول بجزع
"لا ترحل يا ابي ، وابقى اكثر او تعال لتدخل للمنزل فقد وصلت الآن"
ربت على رأسها بجمود وهو يقول بجدية صارمة
"بل عليّ الذهاب بالفعل فأنا لا استطيع الدخول لهذا المنزل ، وايضا يمكنكِ العودة لزيارة منزل عائلتكِ فأنتِ من هذه اللحظة قد عدتِ فرد من عائلة بارون ولكن لا تتوقعي مني ان اقدم لكِ اكثر من هذا"
ابتسمت (سحر) بهدوء وهي تهمس بلهفة
"وهذا يكفيني يا ابي ، يكفيني كثيرا"
تنهد بهدوء وهو يخفض كفه عن رأسها قائلا ببرود
"حسنا إذاً سأرحل الآن ، واهتمي بنفسكِ جيدا وبابنكِ فهو اغلى من كل كنوز العالم"
حركت رأسها بقوة وهي تنظر له وهو يغادر بعيدا عنها باتجاه البوابة الخارجية للمنزل ، لتزفر بعدها انفاسها باضطراب وبابتسامة حزينة وكأنها قد استعادت الآن اسم عائلتها واصبح لها وجود بينهم وهذا ما كانت تفتقده كثيرا بحياتها ، اخفضت نظراتها للطفل بأحضانها والذي كان يبتسم لها ببريق يخصه لها وحدها ، لتقبل بعدها رأسه وهي تهمس بخفوت فوق شعره الخفيف
"هل انت متشوق لرؤية عائلة والدك يا صغيري"
استدارت بعدها حول نفسها وهي تسير باتجاه مدخل المنزل لتكمل كلامها مع الصغير وهي تحتضنه بقوة كأجمل شيء تمتلكه فهو كما قال تماما من اغلى كنوز العالم بالنسبة لها .
______________________________
بعد مرور شهرين.........
كان يدخل من بوابة المنزل الخارجية قبل ان يتوقف فجأة وهو يرهف السمع لصوت غناء خافت من بعيد ، ليقترب بعدها اكثر من طريق مدخل المنزل وهو يستمع للصوت الخافت والذي بدأ يتوضح اكثر لأذنيه
" كان هناك طفلة صغيرة تلعب بالبستان ، تقطف زهرا ووردا من البستان ، وتركض ، تركض ، تركض ، تركض بكل أنحاء البستان ، حتى تصل ، تصل ، تصل لبيت يملئه الألوان..."
تغضن جبينه بدهشة وهو يستمع لأغنية الطفولة الخاصة بالطفلة الصغيرة (زهرة) عندما كانت تغنيها وهي تجثو بركبتيها على الأرض وتخترش بالصخور الناتئة على الأرض الصلبة بمرح غير مهتمة بجرح ركبتيها العاريين وتلطخ يديها بالطين ، عاد للواقع وهو يقف فجأة ناظرا ل(زهرة) الحالية والتي كانت تجلس على درجات باب المنزل بينما يغفو الطفل (عمران) فوق ساقيها براحة وهي تمسح على رأسه وتدندن بخفوت بكلمات اغنيتها وشعرها الطويل والذي كان يتموج باحمرار مع اشعة الشمس متهدل على جانبي وجهها وهو يغطي وجه الطفل من جانبيه ليشكل ستارة يحميه من ضوء اشعة الشمس .
اتسعت ابتسامة (يزن) تلقائيا على منظر زهرته الصغيرة وهي تعانق الطفل بحنان تنثره لكل من حولها بسخاء يتسع لكل الكون وهو ما يزال يراها تلك الطفلة والتي لم تختلف عن السابق سوى بتغير حجمها ونضوج انوثتها ، رفعت (زهرة) نظراتها العسلية وهي تتوقف عن الغناء لتتسع ابتسامتها وهي تلوح له بسعادة بالغة مشيرة له ليقترب منهم ، تنهد (يزن) بهدوء وهو يسير نحوهم بخطى ثابتة ليخلع القبعة عن رأسه بتمهل قبل ان يصعد الدرجات ليجلس بجانبها ملتصقا بها تماما .
وضع (يزن) القبعة بجانبه وهو ينظر لابتسامتها الهادئة والتي تنير وجهها دائما لتجعل عينيها بصفاء العسل الذائب ، ليمسك بعدها بجانب وجهها وهو ينحني امامها ليقبل جانب ابتسامتها بهدوء قبل ان يبتعد عنها ، ابعد كفه عنها ليربت على رأس الطفل النائم على ساقيها وهو يقول بغموض
"أما زلتِ للآن تحفظين كلمات تلك الأغنية السخيفة ، ألا ترين بأنكِ قد كبرتِ عليها"
زمت شفتيها بعبوس لتضرب كفه بعيدا عن رأس الطفل وهي تقول باستياء
"بل تعجبني كثيرا ولا يهمني رأيك ، فأنا لستُ اغنيها من اجلك يا سيد كبير"
ارتفع حاجبيه بتجهم وهو يرفع كفه ليمسك بأعلى انفها قائلا بتحذير
"ماذا قلتِ يا ثرثارة ، أنسيتِ بأني أنا من كتب كلمات هذه الأغنية لكِ يا ناكرة الجميل"
ردت عليه (زهرة) وهي تبعد كفه عن انفها بانزعاج
"إذاً هذا خطأك انت لأنك من كتب كلمات هذه الأغنية لي ، لذا انت مضطر الآن لتحمل سماعها مني طول الأيام القادمة"
قال (يزن) فجأة بتجهم غاضب
"زهرة"
اغمضت عينيها بهلع من ردة فعله نحوها لتشعر بعدها بشفتيه عند اذنها وهو يقول بها بانفعال خشن
"حسابي معكِ ليس الآن بل عندما ننفرد لوحدنا"
عضت على شفتيها بحياء مرتبك وهي تعيد خصلات شعرها لخلف اذنيها بصمت وانفاسه ما تزال تضرب على اذنها بسخونة ، وما ان شعرت به وهو يعض على طرف اذنها بأسنانه برفق حتى انتفصت بسرعة بعيدا عنه وهي تقول بتذمر
"توقف عن هذا يا يزن وألا استيقظ الطفل"
ابعد (يزن) وجهه وهو يستقيم بجلوسه بحنق قائلا ببرود
"صحيح ماذا يفعل عمران معكِ ، اين والدته عنه"
ردت عليه (زهرة) ببساطة وهي تمسح على رأس الطفل بهدوء بكفها
"سحر ذهبت لزيارة الطبيب مع فراس ، واما باقي افراد العائلة فجميعهم مشغولون بحفلة زفاف فرح وسامي ، لذا اقترحتُ عليهم بأن اهتم انا بعمران بغيابهم"
حرك (يزن) رأسه بالإيجاب بجمود ، بينما كانت (زهرة) شاردة بأفكارها وهي تحرك ساقيها بعصبية بالغة ، ليلتفت بعدها (يزن) نحوها وهو يقول بتفكير حاد
"ماذا هناك ، ما لذي يشغل تفكيرك"
فغرت (زهرة) شفتيها بتردد قبل ان تتحول لابتسامة شاردة بحالمية وامام نظرات (يزن) الحائرة ، لتلتفت بعدها نحوه وهي تقترب من اذنه قبل ان تهمس بها بخفوت
"هناك زهرة صغيرة ستنبت عن قريب وتخرج للحياة لتشاركنا الفرح والحزن"
عقد (يزن) حاجبيه بحدة قبل ان تتسع عينيه بصدمة وهو ينظر لها بقوة لينقل بعدها نظراته لبطنها المسطحة ، ابتلع ريقه برهبة وهو يهمس بتأكد
"انتِ حامل"
ابتعدت عنه (زهرة) وهي تبتسم له بنعومة لتمسك بكفه قبل ان تضعها على بطنها وهي تحرك رأسها بهدوء ، اتسعت ابتسامة (يزن) تدريجيا حتى شملت وجهه بأكمله بصمت وهو يشدد من القبض على قماش قميصها بمكان موضع الجنين ، ليقترب بعدها بوجهه منها وهو يقبل جبينها بهدوء وببطء شديد ، ابتعد (يزن) بسرعة عنها وهو يقول بابتسامة جانبية
"ومن اخبركِ بأنها ستكون فتاة"
ردت عليه (زهرة) بثقة وهي تضم قبضتيها معا عند صدرها بحالمية
"بل انا متأكدة بأنها ستكون فتاة وسأسميها ورود او ياسمين او نرجس..."
انفجر (يزن) بالضحك فجأة وهو ما يزال يشدد على بطنها قائلا بابتسامة شاردة
"وهذا المتوقع من فتاة تدعى زهرة"
عبست ملامحها وهي تتذكر نفس هذا الكلام والذي قاله لها قبل ستة عشر عاما عندما كان يسخر منها لأنها تحب كل أنواع الزهور ، ضربت بعدها بقبضتها على كتفه وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة باستياء
"لست مضحكا ابدا"
حرك عينيه الخضراء بعيدا عنها ببرود وهو ما يزال يتلمس على بطنها بأغراء وببعض القسوة بدون ان يبعد كفه عنها ، لتتعلق بعدها بذراعه بكفيها وهي تهمس بلهفة بالغة
"هل ستحب ابنتك زهرة الصغيرة كما احببتني"
حاد (يزن) بنظراته نحوها ببرود ليتمتم بعدها بابتسامة خبيثة
"لدي نوع زهرة واحد على شكل طفلة صغيرة اسمها زهرة ونوع واحد منها يكفي"
تبرمت شفتيها بحنق وهو ما يزال يكرر نفس الكلمات والتي كان يقولها لها بالماضي ، لتضرب بعدها على كتفه قائلة بنفاذ صبر 
"توقف عن السخرية مني يا يزن"
ضحك (يزن) بخفوت شارد وهو يبعد كفه عن بطنها ليعانق كتفيها رغم ممانعتها ليدفن جانب وجهها بحضنه بقسوة ، لتسكن بعدها بأحضانه وهي تتنفس براحة وذكريات الماضي تحاوطهم بكل مكان حتى اصبحت جزء مهم بحياتهم لا يفترقان ، بينما كان (عمران) الصغير ما يزال سابح بأحلامه بعيدا عنهما وعمر طويل ينتظره ليعيشه امامه ويحتفظ بكل ذكرياته بداخل ذاكرته الصغيرة لتبقى محفورة هناك للأبد وبقلوب الجميع .
..............................(تمت)................................

قلوب معلقة بالماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن