الفصل التاسع عشر

1.2K 47 11
                                    

دخلت للحمام الواسع والمرفق مع قاعة الحفلة لتقف امام المغسلة وهي تفتح صنبور المياه قبل ان تقذف الماء على وجهها الشاحب والمحمر والخالي من اي زينة ، لتنظر بعدها لوجهها المبلل بالمرآة امامها لتلاحظ احمراره البالغ عند الوجنتين واسفل عينيها العسلية بينما هناك بعض خصلات الشعر وقد تحررت من المشبك الذهبي لتسقط على جبينها بتموج خفيف ، رفعت كفها بارتجاف لتبعد الخصلات عن جبينها وهي تدسها داخل المشبك والذي لم يعد يتحمل كثافة غرتها مع شعرها ، لتتصلب بعدها بمكانها ما ان سمعت الصوت الضعيف يقول من خلفها بوجوم
"إذاً انتِ تكونين زوجة يزن بارون والذي سرقته من عائلته"
اخفضت (زهرة) كفيها بهدوء لتستدير بعدها للخلف بحيرة ، اتسعت عينيها العسلية ما ان اصطدمت نظراتها بنفس الفتاة والتي رأتها قبل قليل تراقبها بتركيز ، ولكنها هذه المرة ركزت بنظرها اكثر على الفتاة الصغيرة والتي تبدو بين عمر السادسة عشر والسابعة عشر وهي ترتدي ثوب قصير بلون زرقة المحيط يصل لأسفل ركبتيها بقليل وشعرها والذي يصل لأسفل كتفيها بقليل منثور بحرية على كتفيها ، واما ملامحها السمراء فتبدو حزينة ومكسورة ولكن هناك جاذبية مشعة بين لون بشرتها الترابية والغريب بالنسبة لها .
تابعت (سحر) كلامها بضعف وبابتسامة حزينة
"ما بكِ لما انتِ صامتة ، ام انك مصدومة من رؤيتي امامكِ اتحداكِ بكل وقاحة مع ان النتيجة واضحة بدون تحدي"
عقدت (زهرة) حاجبيها بحيرة لتهمس بعدها بهدوء
"ماذا تقصدين بكلامكِ ، انا لا افهمكِ"
ردت عليها (سحر) بارتجاف وهي تقبض على كفيها بقوة
"أليس واضحا ما اقوله ، انا لا استطيع ان اتحدا زوجة يزن الأولى لأن هناك الكثير من الفروق بيننا والتي تُظهر بأنكِ الأنسب ليزن ، ليس بالشكل فقط بل بالتفكير فهو يفكر بكِ انتِ على اساس بأنكِ زوجته واما انا فهو يفكر بي على أساس بأنني عالة عليه ويريد التخلص منها بأي طريقة"
تغضن جبين (زهرة) بحزن لا تعرف مصدره نحو هذه الفتاة والتي من المفروض ان تحقد عليها وتقتلها لأنها جعلت (يزن) يتزوج عليها ، قالت بعدها (زهرة) بقوة وبمرارة وهي تنظر لها بتركيز
"هذا الكلام غير مهم لأنكِ استطعتِ جعل يزن يتزوجك بالرغم من انه متزوج مني ، مع ذلك فعل هذا من اجلكِ انتِ ولم يفكر بمشاعري عندما فعل هذا وهو يدوس على قلبي بقوة ، ولكن لما الاستغراب وانتِ تكونين ابنة عمه يعني اقرب له مني وعشتِ معه تحت سقف واحد لسنوات طويلة"
ارتفع حاجبي (سحر) بدهشة وهي تكتشف للتو بأن (يزن) لم يخبرها عن طريقة زواجهما والاتفاق والذي اخبرها عنه بعقد قرانهما وهذا يعني بأنها تظن بأن (يزن) تزوجها بإرادته الحرة ، قالت (سحر) بعدها بتفكير عميق
"إذا كنتِ تفكرين حقا بيزن بهذه الطريقة ، إذاً لما اتيت برفقته للحفلة"
تصلبت ملامح (زهرة) بألم وهي تواجه السؤال والذي كانت تسأله لنفسها طول الوقت ، لتقول بعدها ببرود وهي تنظر بعيدا عنها
"وتريدينني ان اترك الساحة لكِ لتحصلي عليه لنفسكِ فقط إذاً انتِ واهمة ، قد يكون يزن قد خانني بزواجه منكِ ولكنه ما يزال متعلق بي انا ويحبني انا ولا احد آخر بالكون يستطيع تفريقنا"
امتقعت ملامح (سحر) بحزن وهي تواجه الحقيقة والتي كانت تتوقعها ولكن سماعها منها جرحها بشدة وذكرها بأنها ستبقى دائما الفتاة الوحيدة والغير مرغوبة ابدا ومجرد خيال لا يراه احد ، تقدمت باتجاه (زهرة) قبل ان تقف امامها تماما لتقول بعدها بغموض متصلب يظهر على ملامحها لأول مرة
"ولكن هل ستتحملين عواقب علاقتك بيزن ، انا اقصد هل ستبقى علاقتكما بكل هذا الصدق ، لا تنسي بأنه قد عقد قرانه بي قبل ايام وقد تكون الخطوة التالية وهي عمل حفلة زفاف لنا وهو لن يستطيع رفض أوامر العائلة كما فعلوا بعقد قراننا ، بينما انتِ ستبقين دائما من اعداء العائلة وفقط زوجته بالاسم لا غير حتى يرغموه بالنهاية على طلاقكِ ومثل ما فعلوا بحنان داوود..."
قاطعتها (زهرة) وهي تصرخ بانفعال منهار
"اصمتِ ، اخرسي وإياكِ ونطق كلمة بحق عمتي حنان وألا سأنسى بأنكِ تكونين ابنة عم يزن"
ارتجفت ملامح (سحر) وهي تبتلع ريقها بتشنج متوجس ، لتقول بعدها بهدوء وهي تنظر للأسفل بخنوع
"لقد قلتُ لكِ هذا الكلام لتفهمي مكانكِ بهذه العائلة وترحلي عنها بهدوء قبل ان تهدر كرامتك اكثر بهذا المنزل"
زمت (زهرة) شفتيها بحزن وعينيها تمتلئ بدموع الغدر والتي دائما ما كانت تشعر بها منذ سنوات باتجاه هذه العائلة وما فعلته من دناءة مع (حنان) ، لتزفر بعدها انفاسها بارتجاف وهي تتمتم بحشرجة متصلبة
"ماذا تريدين مني بالضبط ، ولما لحقتني إلى هنا"
رفعت (سحر) وجهها بسرعة نحوها لتقول بعدها بهدوء مرتجف
"لا اريد منكِ شيء سوى ان تتركي يزن لي فأنا احتاجه اكثر منكِ"
انفرجت شفتي (زهرة) بانشداه وهي تتمتم بتجهم
"انتِ تحلمين ، يزن ملكي منذ سنوات وما يزال.."
قاطعتها (سحر) وهي تمسك بكفها بقوة قائلة بتوسل وببحة بكاء
"اسمعيني كل الذي اريده فقط بأن لا تجعليه يطلقني فإذا فعل هذا فأنا سأنتهي لمصير اسوء من الموت ، ألم يكفكِ هدر الكرامة والتي تعرضتِ لها من هذه العائلة ، صدقيني ان هذه العائلة اقسى مما تتصورين وحقودة وما برأسهم سيفعلونه مهما حدث وعلاقتكِ بيزن ستجلب له الكثير من الأذى ، لذا من الأفضل ان تتركيه لي افضل للجميع ، وإذا كنتِ تحبينه حقا فستتركينه لي وانا سأهتم به بدلا عنكِ"
نفضت (زهرة) كفها بعنف بعيدا عنها وهي تهمس بمرارة رافعة كفيها لأذنيها لتغطيهما بانهيار
"اصمتِ توقفي عن هذا الكلام السخيف والتوسل لي بهذه الطريقة ، لا اريد سماع اي كلمة حمقاء منكِ ، اصمتِ ، فقط اصمتِ"
بدأت (زهرة) بالانتحاب بصمت ودموعها تجري بهدوء على خديها الحمراوين بسخونة وهي تنظر للأسفل بارتجاف ، بينما تراجعت (سحر) للخلف بتوجس وقد توقفت دموعها تماما بمقلتيها السوداء فقط شهقات صغيرة تخرج بدون إرادة منها وهي تشعر بأنها ترى صورة منكسرة عنها بهذه الفتاة والتي لا تعرف عنها شيئاً سوى بأنها سرقت (يزن) منها .
كانت تحوم بينهما غمامة من الحزن والأسى جمعتهما بنفس القدر وبنفس الزوج ، لتهمس بعدها (سحر) ببحة خافتة وهي تنظر لها بحزن
"فكري بكلامي جيدا وسترين كم هو عادل للجميع وافضل لنا لكي لا يتعرض اي احد منا للمزيد من الأذى والتجريح"
عندما لم تجد منها اي ردّ سارت بعدها بخطوات متهدله لخارج الحمام بهدوء وهي تتنهد بغصة حارقة ولا تعرف إذا كان ما فعلته للتو صحيح ام خاطئ فكل ما يجول بخاطرها الآن هو عدم خسارة (يزن) وبالتالي ستخسر حياتها معه ، يكفي كل ما تعرضت له من تهميش وتجريح وضرب بحياتها ، لذا ليس من العدل ان تخسر بالنهاية املها الوحيد بالحياة المريحة والتي تمنتها كثيرا على مدى سنوات .
خرجت (سحر) من الحمام لتترك من خلفها (زهرة) والتي رفعت راسها باتجاه مكان اختفائها لتسقط كفيها عن اذنيها بتهدل على جانبي جسدها ، لتتمسك بعدها برخام الحوض البارد بكفيها من خلفها وهي تنشج بهدوء ناظرة للأعلى بارتجاف مهتز وكأنها تحتضر بكل معنى الكلمة لتفكر عندها بعذاب إلى متى ستبقى تضحي بعلاقتها من (يزن) من اجلي إرضاء جميع من حولها ؟ متجاهلين قلبها والذي يتوسل طلبا للرحمة .
_______________________________
كانت تشدد من قبضتيها على قماش ثوبها بقوة لتعود لإفلاته وهي تعيد الكرة مرة أخرى بينما عينيها شاردتين بالطريق المتحرك بجانبها ، لتعود بذاكرتها لكلام تلك الفتاة الصغيرة والذي كان يمثل الواقع بصورة كبيرة فهي لم تخطئ ابدا بأي كلمة قالتها وكلها ستؤدي لإيذاء (يزن) بالنهاية وهي لن تتحمل رؤية احد يتأذى بسببها او يموت امامها كما حدث مع (حنان) بالماضي .
(وإذا كنتِ تحبينه حقا فستتركينه لي وانا سأهتم به بدلا عنكِ)
تنهدت (زهرة) بارتجاف وهي تتذكر هذه الجملة تحديدا من بين كلامها القاسي والذي نحر روحها من حقيقته ، ولكن لما عليها هي ان تضحي فقط لأنها تحبه ؟ بل هي تعشقه وتعتبره الحياة والتي كانت تنتظرها منذ طفولتها فعلاقتهما بدأت من هناك منذ ذلك الماضي لتتجسد وتنمو بداخلهما مع مرور السنوات حتى انزرعت جذورها للأبد وليس من السهل اقتلاعها من داخلهما .
انتفضت ما ان شعرت بكفه تشدد على كفها المستريحة على ساقها بقوة ليتبعها بعدها صوته وهو يقول بخشونة
"ما بكِ ، بماذا تفكرين بكل هذا الشرود"
التفتت (زهرة) باتجاهه وهي تراقبه بغموض وعلى وجهها تعلو ابتسامة حزينة مرتجفة ، ليلتفت بعدها باتجاهها وهو يواجه عينيها الحزينتان بلونهما النقي وهالات من الاحمرار تعتلي اسفل عينيها ، وما ان كان سيتكلم حتى سبقته (زهرة) بالكلام وهي تعود للنظر امامها بهدوء
"لا لا شيء ، لا افكر بشيء"
عاد (يزن) للنظر للطريق امامه بدون ان يفلت كفها ، لتقول بعدها (زهرة) بكل ما تملكه من ثبات وهي تمسح عينيها بكفها الحرة
"يزن اعتقد بأن طلاقنا سيكون الحل الأفضل للجميع والحل لكل مشاكلنا لأننا.."
قاطعها (يزن) وهو يقول بتصلب
"اصمتِ"
عضت (زهرة) على طرف شفتيها بقوة قبل ان تهمس بخفوت مشتد
"اسمعني اولاً قبل ان تحكم..."
عاد (يزن) لمقاطعتها بقسوة اشد وهو يقبض على كفها اكثر حتى كاد ان يحطم مفاصلها
"اخرسي يا زهرة ولا تنطقي بأي كلمة غبية وألا والله سأرميكِ من نافذة السيارة"
عادت (زهرة) للنظر للأمام بحنق وهي تعرف بأن تهديده هذا ليس من فراغ ، لتحاول تحرير كفها من قبضته بدون فائدة حتى خفف من تشديده عليها بدون ان يفلتها ، تنهدت بتعب وهي تتمتم بنشيج خافت
"انا فقط لا اريد ان يحدث معي مثل ما حدث بعمتي حنان"
اتسعت عينيّ (يزن) بصدمة وهو يوقف السيارة على قارعة الطريق ، ليلتفت بعدها باتجاهها بحدة وهو يقول بغضب
"ما هذا الكلام الغريب يا زهرة ، هل حقا تظنينني سأفعل بكِ مثل ما فعل والدي بوالدتي ، هيا اخبريني"
حركت (زهرة) رأسها بالنفي باهتزاز هامسة بهدوء
"لا ليس هذا ما قصدته"
ردّ عليها (يزن) بحدة اشد افزعتها وهو ينظر لها بتركيز
"انظري إلي وانتِ تقولين هذا الكلام"
ابتلعت ريقها برهبة وهي تلتفت باتجاهه لتنظر لعينيه الخضراء الحادة وهي تقول بابتسامة رقيقة
"ليس هذا ما قصدته فأنت من المستحيل ان تفعل مثله لأنني اثق بك"
حرك (يزن) رأسه باتزان وهو يعود لتحريك السيارة بعيدا عن قارعة الطريق قائلا بهدوء
"جيد ، هذا ما أريد سماعه منكِ"
عادت (زهرة) للنظر بعيدا عنه بشرود ، لتشعر بكفها والتي ما تزال بقبضته وهو يرفعها لشفتيه ليقبل باطنها قائلا فوقها
"ثقي بي كل شيء سيكون على ما يرام"
زفرت (زهرة) انفاسها باضطراب وهي تخفض جفنيها على احداقها بهدوء وتتمنى لو تطول هذه اللحظة للأبد ، ولكن اللحظات الجميلة لا تطول كالعادة قبل ان تنتهي بسرعة فبعد مرور ثواني فقط كانت السيارة تقف امام بوابة المنزل الخارجية ، لتحاول بعدها سحب كفها من قبضته قبل ان يشدد عليها اكثر وهو يلتفت باتجاهها قائلا بهدوء
"هل انتِ حقا بخير"
حركت رأسها بالإيجاب بدون ان تنظر إليه فإذا فكرت بالنظر إليه فسيكشف ما يجول بخاطرها من نظراتها المرتبكة ، ليترك بعدها كفها على مضض وهو يعود للنظر للأمام قائلا بقوة
"اعتني بنفسكِ جيدا"
فتحت باب السيارة بسرعة لتخرج منها بحذر وهي تتمسك بطرفي ثوبها بكفيها قبل ان تقفل الباب من خلفها لتسير بسرعة باتجاه البوابة بدون ان تلتفت للخلف ، لتستمع بعدها لصوت سيارته القوي وهي تبتعد عن مسار سمعها ، اكملت سيرها لداخل المنزل بتوجس وهي تحاول السير على اطراف اصابعها بظلام المنزل الموحش ، وما ان وصلت لغرفتها بعد عناء طويل حتى ارتمت على فراشها من الإنهاك والذي تعرضت له بهذه الليلة الطويلة باستثناء رؤيتها للعروسين والوحيدين والذين زرعا البهجة بداخلها ، لينتهي كل شيء بكلام تلك الفتاة الصغيرة والتي نسفت احلامها تماما بكم الحقائق والتي قذفتها بها .
عانقت (زهرة) ركبتيها مع قماش الفستان الطويل بذراعيها بدون ان تبدله وهي تغمض عينيها براحة علها تحصل عليها بهذا النوم والذي اخذها بعيدا بثواني بدون اي كوابيس او تفكير وعينيه الخضراء تحاوطانها بكل مكان وحنان .
______________________________
كانت جالسة على طرف السرير وهي تنظر امامها بشرود واجم ، بينما تفرك يديها مع قماش طبقات ثوبها وهي تبتلع ريقها بتوجس بين الحين والآخر وكأنها تنتظر ورقة اختبارها على احر من الجمر والتي ستصلها الآن وهي تراجع معلومات الاختبار بذهنها لكي لا تنسى ما حفظته ، لا تعرف ما لذي تنتظره تحديدا من جلوسها هكذا ؟ ولكن ما تعرفه بأن ما يفصلها عن بداية حياتها الزوجية لحظات فقط ولا تعلم إذا كانت ستكون بداية موفقة او فاشلة .
زفرت انفاسها بقوة وهي تستغفر ربها نافضة كل هذه الأفكار السوداء عن رأسها لتعود وتذكر نفسها بالشيء والذي كانت تقوله دائما طول حفلة الزفاف وهو بأن هذا الشخص يكون حبيب طفولتها والحلم المستحيل المنال ، لذا لا داعي للخوف والذي بلا فائدة والذي اكيد سينغص عليها فرحتها والتي انتظرتها طويلا .
تجمدت بمكانها ما ان سمعت صوت باب الغرفة يفتح ليتبعها (مؤيد) بدخوله وهو يغلق الباب من خلفه قبل ان يضع حقيبة الملابس بجانب الخزانة العريضة ، وما هي ألا لحظات حتى شعرت بجلوسه بجانبها بهدوء جعل مفاصلها ترتعش بهلع ، ليقول بعدها وهو يتمتم بابتسامة
"لقد احضرتُ لكِ حقيبة ملابسك من والدتك ، وإذا رأيتِ بأن هناك اي شيء ينقصك من ملابس فأخبريني لأحضره لكِ من فوري"
حركت (فاتن) رأسها بجمود وهي تفكر بأن الملابس هي آخر ما تفكر به الآن ، ليتابع بعدها (مؤيد) كلامه وهو يقول ببعض الإحراج
"اعرف بماذا تفكرين الآن وبأنكِ لم تتوقعي حدوث كل هذا وان تصل صداقتنا لهذا المنحى من التطور ، ولكن اللوم لا يقع عليكِ بشيء فأنا الذي بدأتُ بهذه المشكلة عندما ادخلتكِ لشركة والدي لتعملي بها وادخلتكِ لعالمي الفوضوي والمجنون"
التفتت (فاتن) باتجاهه وهي تنظر له بحيرة ولا تفهم ما مناسبة كل هذا الكلام الآن ، لترفع كفها بارتجاف ناحيته قبل ان تعود بها لحجرها وهي لا تعرف كيف تتصرف ، قال (مؤيد) بعدها بلحظات بغموض وهو يسند كفيه على ركبتيه بوجوم
"ولكن لا تقلقي فأنا سأنتقم لكِ من أساس المشكلة واستعيد حقك منه ، فأنا الذي بدأتُ بكل هذا وانا الذي سأنهيه من عندي ، وانتِ لا علاقة لكِ بكل هذا لترغمي على الزواج مني بهذه الطريقة والعمر ما يزال امامكِ طويلا لتختاري من يناسبكِ ويميل له قلبك"
انفرجت شفتي (فاتن) بارتعاش وعدم استيعاب وهي تشعر بألم غير مبرر ينهش احشاءها ، لتهمس بعدها ببحة خافتة متوجسة
"انا لا افهم ماذا تقصد بكلامك يا مؤيد"
التفت (مؤيد) باتجاهها لينظر لها بابتسامة هادئة ، ليقول بعدها برفق وهو يرفع كفه ليربت على رأسها بهدوء
"انا لن اسامح نفسي على ما حدث لكِ بسببي قبل ان انتقم من الذي التقط لنا الصور ، وبهذا الوقت يمكنكِ عيش حياتكِ كما تريدين وكما كنتِ تفعلين ، فأنا لستُ بهذه القسوة لأنتهك برائتكِ بعد ان تزوجتني بالإرغام ، لذا لا داعي للخوف مني فأنا لن ألمسكِ او اؤذيكِ بشيء ، وعندما يتوقف كلام الناس واحقق انتقامي لكِ يمكنكِ الحصول عندها على حريتكِ مني والعودة لحياتكِ السابقة بين عائلتك"
شهقت (فاتن) بدون صوت وعينيها تنظران له بأنين موجع قاتل وهو يثبت لها بأنها لا شيء بحياته وما تزوجها ألا ليسكت كلام الناس بعد ان ظنت بأنها قد وصلت لحلمها اخيرا عاد ليحطمه بقوة وبكل بساطة ، همست بعدها بجزع متلعثم
"ولكن ، ولكن عائلتك أنها.."
قاطعها (مؤيد) وهو يخفض كفه عن رأسها قائلا باطمئنان
"لا تقلقي من عائلتي فهي لن تلاحظ شيء وهي اصلا لا تهتم لأمري ابدا ، لذا اطمئني من هذا الأمر وخاصة بأننا بعيدين عنهم بجناح خاص بنا"
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تشعر بشوك عالقة بحلقها لتتمتم بعدها بحشرجة حزينة
"وماذا عني انا"
عاد (مؤيد) لرفع كفه وهذه المرة ليمسك بجانب وجهها وهو يقول بابتسامة جانبية
"ستعيشين كما تحبين وسأحضر لكِ كل شيء ترغبين به وتشتهينه ، ولن تشعري بالنقص ابدا لأن كل ما تتمنينه سيكون بين يديكِ وهذا الجناح بأكمله سيكون تحت تصرفك وحدك ولن يتدخل احد به"
ارتجفت ابتسامتها وهي تود لو تصرخ به بأعلى صوتها بأنها لا تريد كل هذا بل تريده هو فقط والباقي لا يهمها ، ولكن كيف ستفهمه هذا الكلام وفكرة زواجها منه بالإرغام لإسكات الناس تستحوذ على تفكيره ، لم تشعر بعدها بالدمعة والتي سقطت على وجنتها بهدوء حتى وصلت لكفه ، ليرتبك بعدها وهو يقول بوجوم
"لما البكاء الآن وانا اقدم لكِ كل ما تريدينه من الحياة المريحة والتي ليس عليكِ فعل شيء بها ، ألهذه الدرجة تنفرين من علاقتنا والعيش معي"
حركت (فاتن) رأسها بالنفي باهتزاز وهي تشهق بخفوت ، لتتمتم بعدها بغصة حزينة
"لا انا فقط اريد ، اريد.."
قاطعها (مؤيد) وهو يضع اصبعه على شفتيها قائلا بهدوء وروية
"اهدئي ولا داعي للكلام فأنا افهمكِ جيدا ، من الصعب عليكِ التعايش بين بيئتي بعيدا عن بيئة عائلتك والتي اعتدتِ عليها ، ولكني سأحاول كل جهدي ان اشعركِ بأنك بين عائلتكِ وبأنك لستِ غريبة بينهم"
زفرت (فاتن) انفاسها بحرارة فوق اصبعه والذي ابعده بسرعة عن شفتيها كما ابتعد هو عنها وهو يقف امامها بهدوء ، رفعت نظراتها الزجاجية له بحزن ليبتسم لها بهدوء قبل ان يقول بجدية
"والآن ارتاحي انتِ بغرفتكِ وخذي راحتكِ بها وانا سأذهب للغرفة المجاورة لكِ ، وإذا احتجتِ لأي شيء فأنا سأكون بجانبكِ ولن اتركك"
حركت (فاتن) رأسها لا إراديا وهي تشعر بالخدر بعنقها من كثرة تحريك رأسها حتى اصبحت كالنعامة ، ليقول بعدها (مؤيد) بابتسامة متسعة وهو يستدير بعيدا عنها
"تصبحين على خير ، واحلاماً سعيدة يا فاتنة"
سار بعدها لخارج الغرفة بهدوء وهو يتنهد براحة لأنه انتهى من كل هذا وتأكد من سلامتها فإذا كانت تسعى للزواج من شخص آخر غيره او كانت تنفر منه بعد كل ما حدث فهو من المستحيل ان يتجرأ على تحطيم أحلامها بكل هذه الدناءة بسبب خطأ ارتكبه هو وهي التي تحملت الملامة ، ولم يكن يعلم بأنه قد حطم حلمها بالفعل بتصرفه والذي اطفئ نور برائتها واحلامها الطفولية بالوصول لفارس احلامها والذي كان هو يتجسدها دائما بمخيلتها الخصبة .
_______________________________
انتفضت بذعر مستيقظة ما ان سمعت صوت الطرق على باب غرفتها ، ليتبعها بعدها دخول جدها ووالدها لغرفتها ونظراتهم الغامضة موجهة ناحيتها تماما ، رفعت (زهرة) كفيها بارتجاف لتبعد خصلات شعرها عن وجهها لخلف أذنيها وهي تنظر لفستان الحفلة والذي ما تزال ترتديه ، ولكن ما لفائدة من إخفاءه الآن وعلى الأكيد سيكونون عرفوا بكل شيء من دخولهم القوي لغرفتها ، ليحدث عندها ما توقعته وما ان كان (عادل) على وشك التدخل وهو يعقد حاجبيه بحدة حتى اوقفه الجد بكفه وهو يقول بصرامة
"اهدئ يا عادل ودعني انا اتصرف"
ابعد (عادل) نظراته بعيدا عنهم بتجهم ، ليقول بعدها الجد بتركيز وهو ينظر لها بحدة واضحة
"لما فعلتِ هذا ، لما ذهبتِ مع يزن لحفلة زفاف عائلته وامام كل الناس ، ما لذي كنتِ تسعين إليه من هذه الحركة"
اخفضت (زهرة) نظراتها للأسفل وهي تضم قبضتيها معا بحجرها بخنوع ، ليتابع بعدها الجد كلامه بنفور حاد
"إلى متى ستستمرين باللحاق به عمياء البصيرة وفاقدة الوعي ، بعد كل ما فعله بكِ وبعد كل الإهانات والتي لحقت بكِ بسبب عائلته ما زلتِ مستمرة على نفس طريقه ، رغم كل التحذيرات والتي اوصيناكِ بها"
زمت (زهرة) شفتيها بارتجاف لتهمس بعدها بخفوت لا تعبير فيه
"انا اعتذر ولكنه يبقى زوجي وانتم من زوجتموني إياه منذ البداية"
تغضن جبين (عادل) بحدة وهو يسمع منها لأول مرة مثل هذا الكلام البارد والفاتر ، بينما قال الجد ببرود جليدي وبنفس الوقت حاد
"هل اصبحتِ تحاسبيننا يا وقحة"
ردت عليه (زهرة) بوجوم وهي ما تزال تخفض نظرها للأسفل
"لا ولكني لم اكن يوما مهمة بالنسبة لكم بل كنتُ مجرد مكافأة على اعمال يزن وتحقيق انتقامه لكم وعندما انتهى الاتفاق بينكما اصبحتم تريدون استعادتي والتخلص من يزن نهائياً"
صرخ (عادل) فجأة بحدة وعدم تصديق مما يسمعه منها
"اخرسي يا زهرة"
انتفضت (زهرة) بمكانها وهي تعض على شفتيها بتوجس وارتعاد يسري بكل انحاء جسدها ، ليسود بينهم مشاعر مضطربة واجواء مغيمة عليهم بحزن وكأن كل واحد منهم قد سافر لعالمه الخاص ، ليقطع الجد بعدها بلحظات الصمت والذي غيم عليهم حتى اصبح ثقيلا
"اسمعيني الآن واخبريني ، هل تريدين حقا الطلاق من يزن ام تريدين العودة للسير بطريقه والمليء بالألغام والعقبات والذي لن تخرجي منه سليمة ابدا ، انا الآن اخيرك وانتِ عليكِ بالاختيار"
زفرت انفاسها بارتباك وهي تشدد من ضم قبضتيها المرتجفتين معا وكأنها تحاول حل مسألة عويصة ليس لها حل وهو يخيرها بين النار بالعودة ليزن والذي ستحترق منه وعليه وتحرق الجميع معها وبين الجليد بالعيش بعيدا عن يزن ولكن مع تجمد قلبها وروحها للأبد ، قالت بعدها بلحظات بقوة تجتاحها لأول مرة
"اريد الطلاق من يزن ، ولكن كيف سيحدث هذا وهو مصر على عدم الطلاق مني"
تنهد الجد بهدوء قبل ان يقول بابتسامة جامدة
"هو لن يتوقف عن اللحاق بكِ قبل ان نقنعه بالطلاق منكِ ولو بالإرغام ، وبسبب حضوركِ معه حفلة زفاف عائلته اصبح كل من بالبلد يعرف بزواجكِ منه ، لذا هذه المرة سنعتمد عليكِ انتِ بهذا الطلاق"
رفعت وجهها بسرعة باتجاه جدها وهي تقول بجزع
"وماذا سأفعل انا بالضبط"
ردّ عليها جدها بهدوء وبكل بساطة
"سأعطيكِ مهلة لتقنعي يزن بالطلاق منكِ بكل أدب ، وإذا لم تنجحي فسأستخدم انا طريقتي لأبعد يزن عن طريقنا فقد طالت هذه المشكلة كثيرا ، وحتى يأتي ذلك الوقت نحن سنعقد قرانك مع فراس رسميا"
فغرت (زهرة) شفتيها بذهول وبهلع وهي تحاول استيعاب كلامه الأخير والذي قسم قلبها لنصفين ، لتهمس بعدها بانفعال متشنج
"لا لا تفعل بي هذا يا جدي ، فأنا لا اريد الزواج من فراس وانا متزوجة من يزن.."
قاطعها الجد ببرود وهو يستدير بعيدا عنها
"اصمتِ وافعلي ما اخبرتكِ به فهذا لا شيء امام ما افكر بفعله"
صمتت (زهرة) بالفعل وهي تنشج بهدوء ناظرة له باهتزاز واضح ، بينما غادر جدها لخارج الغرفة بأكملها بجمود بدون ان يضيف اي كلمة اخرى ، لتطلق العنان لدموعها وهي تهطل على وجنتيها بانهمار صامت ومعذب وبعض الشهقات بدأت تخرج من شفتيها لا إراديا ورغما عنها ، ولم ترى نظرات والدها الغريبة ناحيتها ليقول بعدها بجمود شارد
"لو استطيع ان افهم فقط ما لذي يمتلكه ذلك النكرة ليجعلكِ تتعلقين به هكذا وبهذه الطريقة المهووسة ، رغم كل الإهانات وهدر الكرامة والتي تعرضتِ لها من عائلته"
توقفت (زهرة) عن البكاء لتتبقى فقط الشهقات الخافتة وهي تعذب روحها ، لترفع بعدها نظراتها الحزينة باتجاه والدها قبل ان تتمتم بابتسامة ضعيفة
"لأنني احبه"
عبست ملامح (عادل) باهتزاز وهو ينظر لابتسامتها الضعيفة وجوابها الصادق والنابع من قلبها والظاهر بعينيها الشفافيتين والتي لم يرى بنقائهما ، وكم ذكرته بصفاء وحزن عينيّ (حنان) فيبدو بأنها قد ورثت عنها جمال عينيها وشفافيتهما لتُظهر كل المشاعر بحدقتيهما بدون إخفاء شيء .
استدار (عادل) بسرعة بعيدا عنها وعن ابتسامتها والتي شعر بها وقد اضعفته لأول مرة ، ليسير بعدها لخارج الغرفة بهدوء وعبارتها الأخيرة لا تبارح ذهنه مقترنة مع صوت شهقاتها الضعيفة والتي ما تزال تخرج من خلفه باحتضار .
______________________________
كانت جالسة بمنتصف السرير الواسع وهي تحتضن طبقات ثوبها بذراعيها ناظرة بعيدا بوجوم واجمل احلامها تحول لأشنعها وهي تتمنى لو انها لم تتعرف عليه ولم تدخل عالمه لتتعلق به اكثر واكثر حتى احتل كيانها بالكامل بدون ان يبذل اي عناء او مجهود لفعلها ، الآن عرفت معنى عبارة احذر مما تتمناه لأنه قد ينقلب ضدك ويتحول لأشنع احلامك وعندها لن تستطيع التخلص منه ابدا وسيبقى محفور كوشم بداخل قلبك للأبد .
حركت عينيها الواسعتين باحمرار طفيف للسرير الواسع وهي تبتسم بحزن فقد اعتادت كل يوم عندما تستيقظ من نومها ان تجد (اسيل) نائمة بجانبها فهذه عادتها لا تستيقظ ألا بعد ان توقظها بنفسها للمدرسة بعد عناء طويل من محاولة افاقتها وهذه اول مرة لا تكون حاضرة لتشهد على استيقاظ جميع افراد عائلتها ما عدا والدتها والتي دائما ما تكون مستيقظة قبل الجميع لتذهب بعد ان تنتهي من إيقاظ الجميع لتساعد والدتها بالمطبخ وهذا كان روتينها اليومي ، واما اليوم لا احد معها بهذه الغرفة الواسعة والموحشة وهي جالسة فوق سرير عريض يكاد يبتلعها من ضخامته ويتسع لكل أفراد عائلتها واكبر بأضعاف من السرير والذي كانوا يتشاركونه هي واخوتها جميعا .
تحركت (فاتن) بضعف لتنهض عن السرير وهي تحاول تجميع طبقات ثوبها لأعلى ممسكة بها بإحكام قبل ان تسير باتجاه الحمام المرفق بعد ان اخرجت الملابس من حقيبتها والملقاة ارضا منذ تركها هناك ، لتدخل بعدها للحمام وهي تجر خلفها اذيال الخيبة وممسكة بكومة من طبقات ثوبها بين ذراعيها وهي تحتضنها لصدرها وكأنها آخر ما تبقى لها من ليلة زفافها التاريخية .
كانت تنظر بعد لحظات من النافذة الكبيرة امامها بشرود وهي تجفف شعرها الطويل بالمنشفة بيدها بحركة رتيبة ، لتُنزل بعدها المنشفة عن شعرها وهي تنظر للحديقة الخلفية للمنزل وللخضار البديع فيها وكأنها متنزه كامل موجود خلف المنزل واجمل بكثير من الذي كانت تراه بمتنزه العاصمة والذي لم تكن تصل له سوى نادراً ، ألقت بالمنشفة بعيدا وهي ترفع كفيها على زجاج النافذة بلهفة لتحاول فتحه بدون فائدة وهي لا تفهم تركيب صنع هذه النوافذ والتي تختلف تماما عما تعرفه من نوافذهم الصغيرة ذات الإطار الخشبي البسيط .
كانت (فاتن) تحاول فتح النافذة الطويلة امامها من الأطراف حتى تكسرت اظافرها من الألم ، لتضرب بعدها على زجاج النافذة بقبضتيها بيأس بعد ان تعبت من المحاولة ، زمت شفتيها بتفكير وقد خطرت على بالها فكرة لتسير بسرعة لخارج الغرفة قبل ان تقفل الباب من خلفها بهدوء ، سارت بعدها على اطراف اصابعها لخارج الجناح بأكمله بدون ان تصدر اي صوت ، وما ان فعلت حتى عادت للسير بسرعة وهي تنزل السلالم بحذر ملتفته من حولها بتوجس .
وصلت بالنهاية للحديقة رائعة الجمال وهي تكتشف جمال رؤيتها عن قرب والفرق الشاسع بينها وبين المتنزهات والتي كانت تذهب إليها بصغرها ، كانت تسير بتمايل على الأرض العشبية الرطبة من تحت قدميها العاريتين وهي تتنفس هواء الصباح براحة بينما ما يزال اهل المنزل نيام وهذه فرصتها لتستمتع باكتشاف هذا المنزل الكبير ، دارت حول نفسها عدة دورات وشعرها الطويل الرطب ينطلق حرا مع الهواء العليل ، لتتصلب بعدها بمكانها ما ان سمعت الصوت الأنثوي الرقيق يقول من خلفها بحيرة
"من انتِ"
عضت (فاتن) على شفتيها بخوف من القادم وهي تشعر بأنها قد مسكت بجرم شنيع بتنقلها بحديقة المنزل بحرية بالغة وهي ما تزال جديدة هنا ، التفتت للخلف ببطء شديد وهي تقبض على كفيها بجانب جسدها بتوتر ، وما ان التقت عينيها بعينين دخانيتين حتى تجمدت بمكانها من المفاجأة وهي تنظر لنفس الفتاة والتي رأتها بالشركة واصطدمت بها بالخطأ ويبدو بأنها نفسها من نعتها (مؤيد) بالإيطالية من بين كلامه ، انتفضت (فاتن) ما ان عادت (مايا) للكلام بحدة متصلبة
"قلتُ لكِ ، من انتِ"
ردت عليها (فاتن) بسرعة وبارتباك شديد
"انا فاتن زوجة مؤيد بارون"
تحولت ملامح (مايا) للبرود بلحظة وهي تفكر بأنه كان عليها توقع هذا فهي لم تحضر الزفاف بالأمس ولكن ما جعلها تشك وهو خروج العروس بأول يوم لها بعد زواجها ، ولكن لما تهتم اصلا بكل هذا والعائلة كلها لا تعنيها بشيء ، تشعر بأنها قد اصبحت بالآونة الأخيرة فضولية جدا بخصوص هذه العائلة وهذا ما يدفعها لتسرع بالخروج من هنا بدون رجعة ، عادت بنظرها للفتاة وهي تنظر لها من رأسها حتى اخمص قدميها لتتسع عينيها بتذكر وقد عرفت الآن اين رأتها فهي نفسها من كانت تعمل بالشركة وسكبت على سترتها العصير ، ولكن ما لا تفهمه كيف اصبحت تلك العاملة البسيطة زوجة ابن من عائلة (بارون) .
رفعت (فاتن) نظراتها لها لتصدم من نظراتها المستنكرة نحوها لتعرف عندها بأنها قد كُشفت امامها وتذكرت اين رأتها ، اخفضت نظرها للأسفل بسرعة وهي تعض على شفتيها بخزي وإحراج لأول مرة تتعرض له بهذه الدرجة المبالغة وهي تتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها بهذه اللحظة بعيدا عنها .
قالت (فاتن) بخفوت محرج وهي تقطع الصمت بينهما والذي طال كثيرا حتى اصبح مؤلما بالنسبة لها
"لقد تعرفتِ عليّ صحيح ، واكيد تتسائلين كيف وصلتُ لهذه العائلة واصبحتُ زوجة لابنهم"
امتقعت ملامح (مايا) فليس هذا ما قصدته بنظراتها ولكن يبدو بأن هذه الفتاة لديها حدة نظر ومن عينيها الحزينتين عرفت بأنها ليس من ذلك النوع من الفتيات والذي ظنته بالبداية ، لتقول بعدها وهي تتنهد بهدوء
"ليس هذا ما كنتُ افكر به بالضبط ، ولكن على كل حال هذا ليس مهما الآن ما دمتِ قد وصلتِ لهذه العائلة الكئيبة بالنهاية وتورطتِ بها"
رفعت (فاتن) نظراتها نحوها بحيرة وهي تفكر بكلامها فهي حقا قد تورطت بعلاقة فاشلة منذ البداية لم تحصل منها على اي سعادة وحلم قد طار مع مهب الريح ، قالت بعدها بتوتر بدون ان تستطيع منع نفسها
"إذاً انتِ إيطالية صحيح"
نظرت لها (مايا) بحاجبين مرفوعين بحيرة لتقول بعدها بابتسامة باردة
"اجل إيطالية الأم وعربية الأب ، ولكن كل من يراني يظن بأني إيطالية الأصل فلم احصل على شيء من عائلة والدي ، لا شكل ولا حياة"
كانت (فاتن) تنظر لها بتفكير وبحاجبين معقودين بحيرة بالغة وهي تدور بعينيها على ملامحها الآسرة بانبهار ، لتتابع بعدها (مايا) كلامها وهي تقول بابتسامة ساخرة بوجوم
"وكيف عرفتِ بأني إيطالية يا ترى ، هل هو من شكلي والذي لا ينتمي لهذا المكان ام من كلام الناس عني بعد ان اصبحتُ قصتهم الجديدة والتي يتسلون بها"
ارتبكت (فاتن) قليلا قبل ان تبتسم بهدوء قائلة برقة
"عرفتُ من كلام مؤيد عندما نعتكِ بالإيطالية ، وعندما رأيتكِ توضحت الصورة امامي"
عبست ملامح (مايا) وهي تنظر لجوابها البريء مثلها وحتى الآن لم تحاول مجاراتها بالكلام او ان تخطئ بالكلام معها ولو بالصدفة ، لتقول بعدها وهي تزفر انفاسها بملل
"حسنا ولكنكِ لا تنكرين بأنكِ عرفتِ منذ البداية بأني اجنبية مثل جميع من يراني ، فأنا لم ارث اي شيء عن شكل والدي وعائلته ولا احد يصدق بأني فرد من هذه العائلة ، أليس كذلك"
حركت (فاتن) رأسها بالنفي ببراءة لتقول بعدها بابتسامة لطيفة
"صحيح بأنني شككتُ بأن تكوني اجنبية ، ولكن كلامكِ غير صحيح ، فجميعنا نورث صفات من والدينا معا حتى لو طغت صفات احدهما على الأخرى ، ولكن بالنهاية سيخرج منا صفات من الوالدين ، فمثلا انا ورثت شكل والدتي وبنفس الوقت ورثت عن والدي امورا لا ترى بالعين مثل حساسيته بفصل الخريف وضعف الشخصية ، وانتِ اكيد ستكونين نفس الشيء"
ابعدت (مايا) نظراتها بعيدا عنها وقد بدأت تنزعج من صراحة هذه الفتاة المنطلقة اكثر من الازم وهي التي لم تعتد على الكلام مع هذا النوع من الأشخاص وبكل هذا الود ، لتفكر بعدها بكلامها الصحيح فرغم وراثتها لشكل والدتها استطاعت وراثة بعض الصفات من والدها كالذكاء وقوة الصلابة وتحمل المسؤولية ، ولكنها لم تحتمل التفكير بكل هذا لتقول بعدها بنفاذ صبر
"حسنا يا فتاة ، هيا اذهبي وعودي لزوجك ، فأكيد سيكون الآن يبحث عنكِ"
اظلمت عينيّ (فاتن) ما ان تذكرت زواجها من (مؤيد) بعد ان تناست موضوعه تماما عادت لنفس النقطة المظلمة والتي حطمت احلامها الوردية ونسفت سعادة وقتها بالحديقة البديعة والتي خففت عليها همومها ، لتتمتم بعدها بالموافقة وهي تستدير بعيدا عنها قبل ان توقفها (مايا) وهي تقول بهدوء
"انتظري قليلا"
عادت (فاتن) للالتفات باتجاهها لتفاجئ بيدها الممدودة والممسكة بمنديل وردي تعرفه جيدا وقد كانت قد نست امره تماما ، لتقول بعدها (مايا) وهي تلوح بالمنديل امامها
"هذا منديلكِ وشكرا لكِ فقد فادني كثيرا بذلك الوقت"
رفعت (فاتن) كفيها لتلتقط المنديل من يدها وهي تقربه من أنفها لتشتم رائحة الورود والتي تعرفها جيدا ، همست بعدها بحيرة وهي تخفض المنديل عن وجهها
"ما كان عليكِ ان تعيديه لي فأنا قد اعطيتك إياه عربون على اسفي.."
قاطعتها (مايا) وهي تقول بابتسامة هادئة
"بل كان عليّ ان اعيده لكِ وخاصة بأنه ليس منديل عادي بل هو شيء قيم بالنسبة لكِ ، وانا لا احب الاحتفاظ بأشياء ليست لي او أمانات بحوزتي ، لذا كان عليّ ان اهتم به حتى اعيده لكِ ولم اكن اتوقع بأني سأراكِ بهذه السرعة"
ابتسمت (فاتن) بإحراج من كلامها الأخير والمغزى منه ، لتهمس بعدها بسرعة وبارتباك
"شكرا لكِ على اعتنائكِ به"
حركت (مايا) رأسها باتزان وهي تتمتم بخفوت
"حافظي عليه وإياكِ وان تعطيه لأي شخص لا يقدر قيمته وألا ستتمزق الذكريات بداخله ولن تستطيعي عندها استعادته فليس الكثيرون يقدرون الأمانات وما تحملها من ذكريات"
كانت (فاتن) تحرك رأسها بامتنان وهي تشعر بأنها قد بدأت تتكلم عن امور اخرى بعيدا عن المنديل والذي صنعته والدتها خصيصا من اجلها بصغرها ، لتستدير بعدها بسرعة وهي تسير باتجاه المنزل ومن حيث جاءت وهي تقبض على المنديل بين كفيها بقوة ، لتترك من خلفها (مايا) وهي شاردة بعيدا عن الجميع ناظرة للسماء الباهتة بوقت الشروق كبهوت عينيها الدخانيتين والحزينتان .
_______________________________
دخلت للمنزل بحذر قبل ان تتوقف عند المدخل ما ان تقابلت نظراتها مع امرأة متوسطة العمر تنظر لها بعينين حمراوين مخيفتين تنظران لها بتركيز مريب ، ابتلعت (فاتن) ريقها بتشنج وهي تنظر للمرأة امامها والتي تبدو متحفزة للهجوم عليها بأية لحظة وكأنها ينقصها مشاكل مع افراد العائلة وهي لم تدخل لهذا المنزل سوى بالأمس ، بينما كانت (سمية) تنظر لها من اسفلها لأعلاها بنظرات متعالية نافرة لتقول بعدها بجمود حاد
"ماذا تفعل زوجة ابن سليمان الجديدة خارج غرفتها بثاني يوم لها بعد الزواج ، ام أن المشاكل الزوجية بدأت تظهر من الآن وهذا المتوقع من زواج الغفلة"
تصلبت ملامح (فاتن) بألم وهي تشعر بكلماتها تصفعها بقوة وكأنها كانت حاضرة على علاقتهما وتعرف كل شيء حدث بينهما بأول ليلة لهما ، قبضت على كفيها بقوة حتى ابيضت مفاصلها من القهر الشديد والذي تشعر به بهذه اللحظة وعلى حياتها الزوجية الحالمة والتي انهارت قبل ان تبدأ حتى اصبحت تشعر بأنها ضيفة ثقيلة على هذه العائلة .
كانت (سمية) ستعاود الكلام لولا تدخل (مؤيد) وهو يحاوط كتفي (فاتن) بذراعه القوية قائلا بابتسامة لطيفة
"اين ذهبتي حبيبتي ، كنتُ ابحث عنكِ بكل مكان بالجناح الخاص بنا ، ما كان عليكِ ترك زوجك وحده والخروج من الجناح هكذا"
حادت (فاتن) بنظراتها نحوه بعدم استيعاب ممزوج بالامتقاع الشديد لما يحدث امامها الآن ، بينما كانت (سمية) تتنقل بنظرها بينهما باشمئزاز واضح ومستنكر ، ليقول بعدها (مؤيد) وهو يوجه كلامه لزوجة والده ببراءة مصطنعة
"خالتي سمية كيف حالكِ ، لم اركِ منذ زمن وتقريبا منذ سنوات طويلة"
ردت عليه (سمية) بعصبية بالغة
"إياك وان تناديني خالتي مرة اخرى لأني لستُ خالتك يا ابن سليمان المكروه"
عبست ملامح (مؤيد) بحزن مزيف وهو يقول بلا مبالاة
"حسنا إذا كنتُ انا مكروه فماذا عن ابنك المنبوذ والذي لم اره منذ ايام ، أتعلمين الآن عرفتُ لما البيت اصبح هادئ وخالي من المشاكل لأن اساس المشاكل قد رحل من البيت نهائياً ، كان على والدي فعل هذا منذ زمن مع ياسر ، شقيقي الصغير سأشتاق إليك كثيراً"
عقدت (سمية) حاجبيها بحدة وهي تصرخ بانفعال حانق
"اخرس يا مكروه العائلة واياك وان تخطئ بالكلام عن ابني والذي لم يحصل سوى على النبذ من هذه العائلة البائسة ، كنتُ اعلم بأن جميعكم تتشمتون بالذي حدث بابني مع انه لا يستحق كل ما حدث معه ولكن حظه ابتلاه بعائلة قاسية وبوالد يحتكر اشقاءه الكبار عليه وكأنه ليس ابنه من لحمه ودمه"
حرك (مؤيد) عينيه بعيدا عنها وهو يتمتم بملل
"حسنا عن اذنك الآن ، ولكني مضطر لمقاطعة حوارك الشيق فأنا اريد اخذ زوجتي لنعود لجناحنا ونكمل شهر عسلنا ، لذا وداعا خالتي سمية"
سحب بعدها (مؤيد) زوجته معه بعيدا عنها وهو ما يزال يحاوط كتفيها بذراعه بقوة ، لتقول بعدها (سمية) من خلفه بامتعاض وهي تسير بالاتجاه المعاكس لهم
"إلهي جهنم تحرقك انت وشهر عسلك يا ابن سليمان وعائلة بارون كلها تحترق معك من صغيرها لكبيرها مثل ما حرقتوا قلبي على ابني يا ظالمين يا مستبدين.."
انقطع كلام (سمية) المقهور بسبب ابتعادها عنهم ، بينما كان (مؤيد) يصعد بها السلالم وهو متشبث بكتفيها ، لتحول بعدها نظرها من مكان اختفاء (سمية) لزوجها ما ان تمتم بهدوء
"ما لذي دهاكِ لتخرجي من الجناح بثاني يوم لنا بعد الزواج ، ألهذه الدرجة متحمسة لتتعرفي على اهل المنزل حتى بدأتِ بسمية والتي كانت على وشك التهامكِ حية"
ردت عليه (فاتن) بتفكير وهي تنظر لخطواتها
"أهي تكون زوجة والدك"
قال (مؤيد) بابتسامة وهو يسير بها بعيدا عن السلالم بالممر الطويل
"اجل ولا افتخر بهذا فهي زوجة والدي بالاسم فقط وخاصة بأنها لا تحب احدا سوى نفسها واولادها الفاشلين والذين من اجل حمايتهم تعض من يقترب منهم"
ارتفع حاجبي (فاتن) بذهول وهي ترى الفرق الشاسع بينها وبين والدتها الضعيفة وتفكر إذا كان بقية افراد العائلة مثل تلك المرأة ، لتهمس بعدها بوجوم وهي تنظر امامها
"ولكن لما كانت تدعوك بمكروه العائلة"
توقف (مؤيد) عن السير ما ان دخل بها لجناحهم ، ليقول بعدها وهو يلتفت باتجاهها بابتسامة هادئة
"هذا اللقب تطلقه عائلتي عليّ منذ زمن وتقريبا منذ تركتُ الجامعة بآخر سنة لي وحطمت احلام كبير العائلة ، لذا بدأ يُطلق عليّ هذا اللقب حتى اعتادت العائلة مناداتي به"
عبست ملامحها برقة وهي تهمس بتجهم
"ولكن هذا ليس مبررا لتناديك العائلة بهذا اللقب"
ابعد (مؤيد) ذراعه عن كتفيها وهو يقول بابتسامة شاردة
"لا تنظري للأمر بهذا المنظور ، فهذا اللقب لديه مميزات كثيرة مثل يمكنني فعل ما اشاء بحياتي بدون ان يحاسبني احد او يتجرأ على منعي احد لأنني ببساطة مكروه العائلة"
امتقعت ملامحها وشعرت بمرارة غريبة اتجاهه وكلامه لم يقنعها ولم يدخل عقلها ابدا فهذا الذي يقوله يسمى إهانة بحق ابن العائلة ، وما ان كانت ستتكلم حتى سبقها (مؤيد) بالكلام وهو يبتعد عنها باتجاه غرفته قائلا ببساطة
"على كل حال انا اشعر بالجوع بعد كل الوقت والذي قضيته وانا ابحثُ عنكِ ، لذا انتظريني هنا حتى ابدل ملابسي لنتناول الفطور معا ، وإياكِ والخروج من الجناح بدوني مرة اخرى"
اقفل باب الغرفة من خلفه امام نظراتها الحزينة بهدوء وقد بدأت تكتشف الآن امورا كثيرة عن هذه العائلة لم تكن تعرف عنها والظاهر بأن القادم سيكون افظع ، الآن فقط بدأت تؤمن بمقولة بأن المنازل الكبيرة هي التي تخفي اسرارا خطيرة لا يعلم عنها سوى اصحاب المنزل وهي قد اصبحت منهم وقد تكون لمدة وجيزة .
______________________________
دخل لغرفة مكتبه بخطوات ثابتة قبل ان يتبعه ابنه للداخل وهو يقفل الباب من خلفه بهدوء ، ليلتفت بعدها باتجاه والده والذي وقف خلف مكتبه وهو يجلس على كرسيه بجمود صامت ، قال (عادل) بعدها بلحظات وهو يتقدم للداخل امام والده
"ما لذي تخطط لفعله حيال ابن بارون ، وكيف ستعقد قران زهرة من فراس وهي متزوجة من ذاك"
تنهد الجد بهدوء وهو يسند ذراعيه على سطح المكتب ليقول بعدها بغموض حاد
"لن تبقى متزوجة من ذاك كثيرا ، وايضا عقد زواجها من يزن نحن من صنعناه ونحن من مزقناه يعني قد اصبح باطل"
ردّ عليه (عادل) وهو يزفر انفاسه بكبت
"اجل اعرف ، ولكنك نسيت بأنه يملك نسخة من ذلك الزواج والذي اكده بالمحكمة يعني هما متزوجان رسميا وامام العالم بعد الذي فعلوه بالأمس"
رفع الجد كفه لذقنه وهو يتمتم بجدية
"اكيد لم انسى ، لذلك اريد ان اعقد قرانها مع فراس من اجل ان اتخلص من ابن بارون بطريقة اسرع ، ولكنه لن يكون عقد قران فعليا بل مجرد كلام"
عقد (عادل) حاجبيه بتجهم وبعدم فهم ليقول بعدها بحنق وهو يتقدم امام مكتب والده
"ماذا تقصد بكلامك يا ابي ، اخبرني اريد ان اعرف فهذه التي تحدد مصيرها تكون ابنتي"
كان الجد ينظر له ببرود وبمشاعر غامضة عصفت بين الاب وابنه ونظرات حادة تحدث بينهما لا يفهمها سوى من عاش تحت سقف منزل عائلة داوود منذ الأزل ، ليقول بعدها الجد بثبات وهو يحرك رأسه بتركيز
"دائما تثبتُ لي مدى غباءك يا عادل ، ولكني سأخبرك من اجل ان تطمئن على مصير ابنتك كما تزعم ، لقد قصدت بكلامي بأن نعمل عقد قران مزيف بين زهرة وفراس بالوقت الذي تحاول فيه زهرة إقناع يزن بالطلاق فأنا لستُ واثق بطريقة إقناعها ، وعندما يعلم يزن بعقد القران المزيف فسيوافق عندها على الطلاق فطبيعة الأشخاص أمثاله لا يحتملون الخيانة من جهة من وضعوا بهم كل ثقتهم وكأنها قد كسرت الرابط المقدس والذي يجمعهم ، ونحن سنستغل عندها الفرصة لنحول عقد قرانهم لحقيقة بعد الطلاق"
حرك (عادل) رأسه بالإيجاب ليقول بعدها بتفكير
"ولكن كيف سيعلم يزن عن عقد قرانهم المزيف وهل سيصدق هذا الكلام"
ردّ عليه الجد بابتسامة واثقة تحمل الخبث والدهاء معا
"اكيد سيصدق لأن ما لا تعرفه بأن هناك بالمنزل جواسيس توصل له كل الأخبار والتي تحدث مع زهرة اولاً بأول"
انتفض (عادل) صارخا بعدم تصديق
"ماذا تقول يا ابي ، هناك جواسيس بالمنزل تعمل مع ذلك الحقير ولم تقل شيئاً ، ولكن لا بأس فأنا سأمسك بهم واحداً واحداً.."
قاطعه الجد قائلا بصرامة وهو يضم قبضتيه فوق سطح المكتب
"اهدئ ولا تفعل شيئاً ، فهذه المرة الجواسيس هي من ستعمل لصالحنا عندما تنقل خبر عقد القران المزيف ليزن سنكون عندها قد وصلنا لمرادنا ولن يستطيع عندها التشكيك بصحة الخبر"
تنهد (عادل) بهدوء وهو ينظر بعيدا عنه ، ليقول بعدها بوجوم
"ولكن ماذا عن رأي زهرة ، انها لا تريد الزواج من فراس وترفضه بشدة"
نظر له الجد بتركيز وهو يتمتم بخفوت مشتد
"لقد اعطيناها فرصة لتفكر به كزوج وخيرناها بين الموافقة والرفض ، ولكن ماذا فعلت بالمقابل بقيت متمسكة بذلك الحقير وزادت بأن ذهبت معه للحفلة بالأمس لتنشر خبر زواجها منه على العلن ، لذا فهي قد اضاعت فرصتها لنفكر برأيها وزواجها من فراس سيحدث عاجلاً ام آجلاً"
كان (عادل) ينظر لوالده بعدم اقتناع ونظراتها الحزينة لا تبارح تفكيره ، ليهمس بعدها بتصلب خافت
"ولكن أليس من حقها ان تختار هي شريك حياتها"
تجهمت ملامح الجد ليقول بعدها بجفاء متصلب
"ما لذي اصاب عقلك يا عادل ام ان الأبوة قد اصبحت تؤثر عليك فجأة ، إذا كنت قد نسيت فأنا سأذكرك ما لذي جعلنا نخسر حنان ، أليس السبب هو الصبر عليها لتوافق عليك زوجا لتختار بالنهاية الهروب مع ابن بارون ضاربة بكل المبادئ والتي تربت عليها عرض الحائط ، أهذا ما تقصده بحقها بأن تختار شريك حياتها ، هيا تكلم"
تغضن جبين (عادل) بانزعاج وهو يعود لتذكيره بنفس النقطة ، ليتمتم بعدها باضطراب شاحب
"ولكن زهرة مختلفة عن حنان"
ردّ عليه الجد بصراخ متصلب مفاجئ
"لا لا يوجد اختلاف نفس التعلق المجنون والتشبث بعائلة بارون والتي دمرت فاتنة عائلتنا والآن سيدمرون زهرة عائلتنا ، وانت ما تزال تقول حقها بالاختيار والذي اكيد سيكون يزن اختيارها ، لقد كنتُ اظن بالبداية بأنها تختلف عن حنان ولكنها نسخة عنها وقد اخذت نفس غباءها"
كانا كلاهما يتنفسان بقوة ناظرين لبعضهما باشتعال ورثاه عن بعضهما ليصبحا نسختين طبق الأصل امام بعضهما وكأنهما يتكلمان بلغة الصمت والتي لا يفهمها سواهما ، ليتمتم بعدها (عادل) وهو يتنهد بهدوء
"حسنا يا ابي لقد فهمت ، لا داعي لتذكيري بكل مرة بنفس القصة والتي حفظتها عن ظهر قلب ، انا فقط اريد الأفضل لابنتي"
ردّ عليه الجد بتأكيد
"والأفضل لها هو ابن عمها فراس"
زفر (عادل) انفاسه بملل من هذا الحوار والذي لن يخرج منه بفائدة ولا يعرف حتى الآن إلى اين سيصل بكل هذا الكلام وما لذي يريده بالضبط ؟ ليستدير بعدها بعيدا عن والده وهو يتمتم بهدوء بالغ
"ارجوك يا ابي ، حاول أن تجعل ما حدث بحنان ألا يحدث بابنتي زهرة"
سار بعدها (عادل) لخارج غرفة المكتب بخطوات جامدة وامام نظرات الجد المتفحصة وهو يضيق عينيه الحادتين حتى تجمعت تجاعيد العمر من حولهما والتي لم تقدر على تخفيف حدة نظره ودهائه الماكر والذي قاد هذه العائلة واوصلها لكل هذا المجد على مدار سنوات .
_____________________________
كانت واقفة امام غرفته بالمساء وهي تعض على شفتيها بتوتر بينما تلوي اصابع قدميها فوق الأرض الباردة بتشنج واضح ، لتزفر بعدها انفاسها بهدوء وهي تتخذ قرارها الأخير بالدخول لتطرق عندها على باب الغرفة بهدوء قبل ان تكتشف بأنه مفتوح من الأصل ، اكملت فتح باب الغرفة بكفها بحذر وهي تدخل للغرفة الهادئة والشبيهة بالغرفة المقيمة بها ، لتتجمد بعدها بمكانها وهي تنظر ل(مؤيد) والذي كان ينظر لها بصدمة كذلك وهذا يعني بأنه لم يسمع طرقها على الباب ولكن ليس هذا ما صدمها وأوقف انفاسها بل لأنه كان عاري الصدر بدون قميص .
تلونت (فاتن) بالاحمرار الشديد حتى اصبحت وجنتيها كحبات الطماطم وهي ترتجف بتوتر ، لترفع كفيها تلقائياً لعينيها وهي تغطيهما بهلع لتسير بسرعة بتعثر باتجاه الباب قائلة بتلعثم
"انا اسفة جدا جدا ، سأغادر من هنا حالا"
ولكنها لم تصل لمكان الباب بسبب التوتر الشديد والذي انساها اين مكان الباب حتى اصطدمت بالخزانة الكبيرة بالقرب من الباب ، لتعود للخلف بتعثر قبل ان تشعر بذراعين قويتين تتلقفانها بخفة قبل ان تسقط وهي ما تزال مستمرة بتغطية عينيها بكفيها بذعر ، شعرت بسخونة صدره العضلي والعاري يلامس جانب وجهها ليبعث بداخلها شرارات من الحرارة المجنونة ، لتخفض بعدها كفيها عن وجهها ببطء شديد وهي تنظر لصدره والذي تلقفها إليه للتو وخصلات من شعرها الطويلة علقت بين ثنايا صدره .
اقترب (مؤيد) بوجهه منها قبل ان يطبع قبلة صغيرة على وجنتها والتي ما تزال مشتعلة بإحراج من الذي حدث لتزداد احمرارا بعد قبلته ، ليهمس بعدها فوق وجنتها بهدوء
"خديكِ المدوران يبدوان كحبات الطماطم"
انتفضت بفزع وهي ترفع كفيها لتمسح على وجنتيها بهدوء وطفولية ، ليرفع يده وهو يبعد كفها عن وجنتها قبل ان يعود لتقبيلها ببطء اشد وبنعومة ارق ، بينما كانت هي متجمدة بين ذراعيه ومتمسكة بهما امام صدره وهي لا تريد الابتعاد عن هذه النعومة وهي تنقلها لعالم آخر مليء بالألعاب النارية والمتفرقعات والتي كانت دائما تحلم برؤيتها .
ابتعد (مؤيد) بعدها بلحظات بسرعة عنها وهو يعدل من وقوفها امامه بعد ان كانت ستقع ممسكا بذراعيها برفق وهو يتراجع للخلف بهدوء قبل ان يفقد السيطرة على نفسه امامها ، وقد كانت تبدو بهذه اللحظة بغاية البراءة والطفولية بفستانها الجينز القصير والذي يملك حمالات مربوطة على كتفيها كالحزام وهي ترتدي اسفلها قميص ابيض بدون اكمام وجوارب طويلة اسفل فستانها وشعرها الحر يغطي ظهرها بالكامل وهو يصل لخصرها واكثر لتبدو كطفلة جافاها النوم لذا اتت لغرفته لتمرح هنا وهناك علها تحصل على بعض المرح بغرفته وخاصة مع خديها المحمران بشدة والمدورين بجمال لتكتمل صورة الطفلة امامه .
ما ان استدارت (فاتن) بعيدا عنه تنوي الخروج من الغرفة وهي على وشك الانفجار بالبكاء من الإحراج الشديد والذي تعرضت له حتى اوقفها صوت (مؤيد) وهو يقول على مهل
"انتظري قليلا يا خجولة ، ثواني لأرتدي قميصي"
تجمدت بمكانها ليس لأنه طلب منها هذا بل لأنه نعتها بالخجولة وهي تشعر بكل جزء بجسدها وقد تصلب عن الحركة تماما والدماء الحارة تدفق بكل اعضاء جسدها من تحت بشرتها الشاحبة ، وبعد مرور ثواني كما قال سمعت صوته وهو يقول بمرح
"هيا استديري ولا داعي لكل هذا الخجل ، ومن حسن حظك بأنني كنتُ بدون قميص فقط"
استدارت ببطء نحوه وهي تنفض كلامه ومغزاه عن رأسها قبل ان يغشى عليها من التفكير ، زفرت انفاسها ببعض الراحة وهي تراه وقد ارتدى قميص قطني فوق صدره العضلي والذي لا تستطيع نفض صورته عن رأسها ، قطع (مؤيد) الصمت قائلا وهو ينظر لها بحيرة
"إذاً ما سبب زيارتكِ لي بغرفتي بالمساء ، هل تحتاجين لمساعدة بالنوم"
امتقعت ملامحها وهي تلعن غباءها والذي جعلها تتهور وتأتي لغرفته بكل هذه الجرأة متجاوزة الحواجز والتي وضعها بينهما وكأنه ليس زوجها ومحلل عليها التصرف معه بكل وقاحة العالم ، نفضت كل هذه الأفكار عن رأسها لتعود لموضوعها الأهم وهي تتمتم بخفوت متلاعبة بأصابع كفيها
"كنتُ اريد منك ان تهاتف شقيقي امجد لأستطيع التكلم مع والدتي فقد اشتقتُ إليها كثيرا واريد الاطمئنان عليها ، فأنا لا املك هاتف لأستطيع التكلم معها ، لذا لو امكنك.."
قاطعها (مؤيد) وهو يقول بهدوء
"انتظري ، انا لدي حل لمشكلتك"
عقدت حاجبيها بعدم فهم وهي تنظر له بحيرة ، ليسير بعدها لطاولة الزينة وهو يخرج من درجها لوح اسود صغير قبل ان يعود ليجلس على السرير امامها ، ليربت عندها بكفه على المكان بجانبه وهو يقول بابتسامة
"هيا تعالي واجلسي بجانبي يا فاتنة"
تقدمت (فاتن) باتجاهه بهدوء وهي تعض على ابتسامتها البلهاء قبل ان تجلس بجانبه ملتصقة به تماما ، ليقول بعدها (مؤيد) وهو يمد كفه بالهاتف نحوها
"هذا هاتفي البيتي ولا استخدمه كثيرا ومدون عليه كل ارقام عائلتي ورقم شقيقك ، يعني يمكنك اعتباره من الآن قد اصبح هاتفك ويمكنكِ عندها الاتصال بشقيقك أو بي ايضا بأي وقت"
رفعت كفها لتمسك بالهاتف بحذر وهي تنظر له برهبة وكأنه شيء غالي وثمين وعليها الحرص بالتعامل معه ، بينما كان (مؤيد) ينظر لها بابتسامة متسلية ولعينيها الحزينتين والتي بدأت تلمع بالنجوم وهي تنظر للهاتف بسعادة ولهفة طفولية وكفيها الصغيرين يمسكان بالهاتف بقوة وكأنها اثمن هدية تحصل عليها بحياتها ، قال (مؤيد) بعدها بلحظات بملل والابتسامة ما تزال تحتل محياه
"حسنا أستبقين تحدقين بالهاتف كثيرا ، هيا افتحيه"
حادت (فاتن) بنظراتها نحوه بحياء وهي تتمتم بعبوس
"لا اعرف كيف افتحه ، فأنا لم امسك بحياتي هاتف"
اختفت ابتسامة (مؤيد) قبل ان تتحول لضحكة صاخبة وهو يتمتم من بين ضحكاته
"بأي عصر تعيشين انتِ يا فتاة ، لا اصدق بأنكِ لا تعرفين كيف تفتحين هاتفا وبهذا الوقت طفل السنتين اصبح يجيد استخدام الهاتف"
عبست ملامح (فاتن) اكثر وهي تشعر بالخزي يندمج مع الحنق الشديد مما يحدث معها منذ مجيئها لغرفته ، لتقول بعدها بانفعال مرتبك وهي تنظر بعيدا عنه
"توقف عن الضحك ، انا لم امسك بحياتي مثل هذا الهاتف المتطور ولا احد بالعائلة يملك هاتفا سوى شقيقي امجد والذي لا يسمح لنا باستخدامه"
تنفس (مؤيد) بهدوء وهو يحاول إيقاف ضحكاته لتتحول لسعلاة متواصلة ، ليقول بعدها بهدوء وهو يشير بكفه للهاتف بيدها
"هيا اعطيني الهاتف لأريك كيف يستخدم يا جاهلة"
وضعت (فاتن) الهاتف بكفه بعنف وهي تنظر له بتجهم حزين ، ليرفع الهاتف امامها وهو يشرح لها كيفية استخدامه مشيرا لها بأصبعه على شاشته الكبيرة والمضيئة امامهما ، كانت ابتسامتها تتسع تدريجيا مع كل كلمة يقولها وكأنه يقص عليها قصة قبل النوم حتى ملئت الابتسامة وجهها المشرق بالكامل ، توقف (مؤيد) عن الكلام وهو يلتفت لابتسامتها البريئة وهي تحفر بخديها الحمراوين بجمال ، ليقول بعدها (مؤيد) بحزم وهو يرفع الهاتف نحوها
"حسنا يمكنكِ الآن استخدامه ، واكيد عرفتِ كيفية الاستخدام جيدا ، ولن تواجهي اي مشكلة بالتعامل معه فهو ابسط مما تتخيلين"
افاقت (فاتن) من سحر اللحظات والتي كانت غارقة بها لترفع كفها وهي تلتقط الهاتف من كفه بهدوء ، لتهمس بعدها بابتسامة مرتجفة
"شكرا لك"
ابتسم (مؤيد) بهدوء وهو يقول بابتسامة جانبية
"لا داعي للشكر فهذا واجبي ، فأنا زوجك ومهمتي ان اوفر لكِ كل ما تحتاجينه"
اهتزت زاوية شفتيها وهي ما تزال تبتسم بشرود وكلمة زوج تدغدغ حواسها ولكنها بالنهاية ليست زوجة فعلية بل مجرد زوجة بالاسم فإذا كانت حقا زوجته لما لا يوفر لها احتياجها الأساسي وهي حاجتها للعلاقة الزوجية الكاملة ولعاطفته اتجاه زوجته ، تنهدت (فاتن) بحزن لتشعر بكفه وهي تعيد خصلات شعرها لخلف اذنها وهو يتلمس جانب وجهها بحنية ليقرص بعدها خدها المدور قبل ان يبعد كفه بسرعة عن وجهها وكأن تيار كهربائي قد اصابه .
وقفت (فاتن) عن السرير بهدوء لتتمتم بعدها بوجوم وهي تسير لخارج غرفته
"تصبح على خير مؤيد ، وشكرا لك على الهاتف مرة اخرى"
رفع (مؤيد) نظراته بوجوم باتجاه باب الغرفة والذي خرجت منه للتو ، ليرفع بعدها كفيه وهو يمسح بهما وجهه مرجعا خصلات شعره للخلف وهو يتخلله بإنهاك ويفكر إلى متى سيبقى يقاوم تلك الهالة من البراءة والتي تلاحقها بكل مكان حتى اتلفت اعصابه بالكامل ، ولكنه ليس لديه اي خيار غيره فهو الذي ادخلها لعالمه وحياته بإرادته الحرة وورطها معه ، إذاً فهو لا يملك بين يديه سوى الانتظار وبعدها سيعرف كيف يتصرف معها بعيدا عن استغلال برائتها وانتهاكها فهذه الطفلة تبدو لا تعرف شيئاً عن عالم البشر الوحشي وقسوته ، والدليل بأنها لا تعرف كيف تستخدم هاتف إذاً فكيف بالعلاقة الحميمية بين الزوجين ؟
____________________________
خرجت من الحافلة المدرسية وهي تجر خطواتها بتخاذل ناظرة للأسفل بإحباط اصبح يداهمها مؤخرا وكأن هموم العالم ملقاة فوق كتفيها وخاصة بأن فجوة وحدتها قد ازدادت عمقا بعد ان تخلت عن صديقتها الوحيدة والتي تحملت من إهاناتها وتجريحها الكثير حتى فاض بها الكيل ، ولكنها مع ذلك تبقى خيار افضل من هذه الوحدة القاتلة والتي تعايشها هذه الأيام وخاصة بعد حفلة زفاف (مؤيد) ، تشعر بأن كل فرد بعائلتها اصبح لديه شريك ليقضي معه وقته ويكمل معه مشوار الحياة كأشقائها والذين ارتبطوا كل واحد منهم بزوجة يهتمون بها ويجعلونها مصدر اهتمامهم باستثناء شقيقها (ياسر) والذي لا تعرف اين اراضيه الآن ولكن الأكيد منه بأنه يملك اصدقاء يقضي معهم وقته ، وحتى ابنة عمها الشقراء ارتبطت بشقيقها بحلول ايام واصبحت مصدر اهتمامه بسرعة قياسية ، لتتبقى هي بهذه العائلة وحيدة مهملة على الزاوية بالرغم من ارتباطها من ابن عمها ولكنه يبقى ارتباط صوري ومؤقت وليس كارتباط الباقين فهي من المستحيل ان تصل لمرتبة زوجته وقد افهمها هذا الأمر مرارا بتصرفاته وكلامه معه .
توقفت (سحر) عن السير لتجلس فوق المقاعد بالطريق بتعب وهي تفرد ساقيها على اقصى امتدادهما امامها وليس لديها الرغبة بالعودة للمنزل والذي اصبح لا يطاق العيش به وهذا ما جعلها تسير بطريق معاكس لمنزلها تماما ، مدت ذراعيها امامها لتدلك ساقيها من تحت زي المدرسة ببطء ، لتشعر بعدها بجلوس احدهم بجانبها وهو يقول بصوت تعرفه جيدا
"ما لذي تفعله الصغيرة السمراء خارج مدرستها ، هل يعقل بأن تكون هربت من المدرسة"
عبست ملامحها وهي تزفر انفاسها بكبت ، لتهمس بعدها بوجوم بارد
"لقد انتهى اليوم المدرسي ، وهذا ليس من شأنك يا ابن داوود"
ارتفع حاجبي (فراس) بدهشة من ردها وهي تنعته بهذا الأسم ، الحقيقة لم يكن يقصد إزعاج خلوتها و الجلوس بجانبها هكذا ولكن منظرها وهو يقود السيارة ناظرا لها عن بعد وهي جالسة على المقاعد بالطريق منكسة الرأس تدلك قدميها من تحت زي المدرسة الرمادي استفزه كثيرا وبعث القلق بأنحاء جسده وكأنها طفلة تنتظر قدوم والديها ليوصلوها للمنزل بعد يوم مدرسي طويل ومتعب .
قال بعدها (فراس) بابتسامة هادئة وهو ينظر لانتكاس رأسها للأسفل حتى جعل ذيل حصانها القصير يميل على كتفها الايسر
"وإذا كان قد انتهى اليوم المدرسي ، لما لم تعودي للمنزل حتى الآن بدلا من جلوسكِ بالطريق هكذا"
رفعت وجهها بهدوء ناحيته لتقول بعدها ببرود جليدي
"اخبرتك هذا ليس من شأنك ، وارحل من هنا وألا ستورطني بمشكلة مع والدي إذا رآك برفقتي"
كان (فراس) ينظر لملامحها السمراء الناعمة والهادئة بخلاف عينيها السوداء القاتمة بلون حالك لا يحمل للنعومة صلة ولكنه جذاب بشكل غريب يدعو للتمعن فيه اكثر ، قال (فراس) بعدها بحزم وهو يحدق بها بقوة
"سأترككِ عندما اطمئن بأنكِ عدتي للمنزل يا ابنة بارون"
عضت (سحر) على شفتيها بغيض وهو يتكلم معها  بنفس نبرتها ويلقبها على اسم العائلة كما فعلت قبل قليل ، لتنتفض بعدها واقفة عن المقعد بعيدا عنه قبل ان تقول بفظاظة وهي تعدل الحقيبة من على كتفيها
"ابقى بعيدا عني لو سمحت ، افضل لك ولي"
استدارت بعدها تكمل سيرها بعيدا عنه قبل ان تنتظر رده ، لتسمع بعدها صوت خطواته القوي يتبعها من الخلف تارة تصبح سريعة وتارة أخرى تصبح بطيئة وكأنه يتناغم مع خطواتها الصغيرة وكم اشعرها هذا الأمر براحة غريبة وكأنها اصبحت مهمة بالنسبة لأحدهم ليراقبها عن بعد ويطمئن على سلامتها لكي لا يصيبها أي مكروه ، ولكنها مع ذلك تشعر بالقلق من منظرها برفقته والذي سيجلب لها الحلقة الأخيرة من حياتها بعنوان ضحية فتاة قتلها والدها بسبب سيرها مع شاب غريب والأسوء بأنه من عائلة اعدائهم ، اقشعر كل جسدها فجأة من الفكرة ولم تشعر بخطواته من خلفها والتي اسرعت باتجاهها حتى وصل لها بلمح البصر ليوقف سيرها وهو يفرد ذراعه الطويل امامها .
شهقت (سحر) فجأة بذعر من ذراعه الملتصقة بصدرها تماما لتلتفت باتجاهه بعنف لتفاجئ بعينيه وهو ينظر لأسفل قدميها بحدة ، لتنقل بعدها نظراتها للأسفل قبل ان تتسع بجزع وهي تنظر للفجوة الكبيرة بالأرض والتي كادت ان تقع بها لولا ذراعه والتي اوقفتها بآخر لحظة ، قال (فراس) بعدها بلحظات بحدة وهو يرجعها للخلف بعيدا عن الفجوة بذراعه الملتصقة بصدرها
"هل انتِ عمياء ام مجنونة وتريدين الانتحار ، لقد كدتِ تقعين بالحفرة بسبب عدم انتباهك"
كانت (سحر) تنظر له فاغرة شفتيها بارتعاش قبل ان تتحول لابتسامة شاردة ووجنتيها تتوردان ببلاهة وكأنها مراهقة صغيرة قد وقعت بين ذراعي بطلها والحقيقة بأنها ذراع واحدة ، حول (فراس) نظره للطريق من حوله وللناس والتي بدأت تتجمع على الحدث ليصرخ بهم وهو يشير للفجوة بكفه بصرامة
"من المسؤول عن هذه الحفرة بالأرض ، ولماذا ليست مرممة او مغلقة للآن ، هكذا اي احد سيقع بها ببساطة إذا كان طفل او اي احد غير منتبه ، ما هذه اللامبالاة الشديدة والتي تملكونها"
كانت عينيّ (سحر) تحدقان به بانشداه وبكل انفعال وبكل كلمة اخرجها امامها وهو ما يزال يحتضن صدرها بذراعه الطويلة والقوية ، ليتقدم بعدها رجل غريب كبير بالسن باتجاههم وقد خرج من المحل المقابل للطريق ، لينظر للحفرة امامه بوجوم وهو يقول بإحباط
"الحقيقة هذه الحفرة موجودة منذ ايام بسبب عمال البناء الجهلة ، وقد قدمنا بلاغ للبلدية بشأنها ولكنهم دائما يأجلون هذا الموضوع ويتجاهلونه لأن هناك امور اهم تشغلهم عنها"
قال (فراس) وهو يحرك رأسه بتفكير
"وحتى لو لم يأتوا ، لا ينفع ان تتركوها هكذا للمارة ، على الأقل ضعوا تنبيه او تحذير للمارة لكي لا يسقط احد منهم بها فيما بعد"
حرك الرجل رأسه بالإيجاب وهو يقول بابتسامة بشوشة
"انت على حق بكلامك يا بني ، لم يفكر احد بهذا فقد ظننا بأن البلدية ستهتم بالأمر ، سأحضر الأن لافتة من المحل عندي لنضعها كتحذير للمارة"
حرك (فراس) رأسه بالإيجاب وهو ينظر للرجل وهو يبتعد من امامهم بسرعة ، التفت بعدها ل(سحر) والتي كانت ما تزال تنظر له بدهشة لينتبه عندها لذراعه والتي ما تزال تعانق صدرها وتحميها من الوقوع ، ابعد (فراس) ذراعه عنها وهو يرفعه لرأسه بارتباك قبل ان يعود الرجل وهو يمسك بعامود اللافتة والمكتوب عليها بالرموز احذر ، وضعها الرجل بجانب الحفرة بمساعدة (فراس) ، وبعد ان انتهى الرجل غادر بعد ان شكره وصافحه وهو يعده بأن يتكلم مع البلدية مرة أخرى ليعود بعدها لمحله بجانب الطريق .
نظرت (سحر) للحفرة امامها لتحاول تجاوزها وهي ترفع قدمها القصيرة عنها قبل ان تشعر بيدين قويتين تمسكان بخصرها ليرفعها عالياً فوق الحفرة وهو يتجاوزها بسهولة ، ليعود لأنزالها على الأرض امامه كالدمية وهي تشعر بدوار طفيف من الذي حدث الآن وكأنها كانت للتو تطير بالهواء لتعود للهبوط على الأرض بسلام وبكل سلاسة ، ترقع (فراس) اصبعي السبابة والإبهام امام وجهها لتفيق من شرودها المذهول على وجهه المبتسم .
تجهمت ملامح (سحر) بارتباك متشنج لتدفعه بعدها بسرعة بعيدا عنها وهي تتجاوزه بعيدا قائلة بقوة
"ابتعد عني يا ابن داوود ، وإياك واللحاق بي مجددا"
قال (فراس) من خلفها بضحكة خافتة خشنة
"هذا بدلا من ان تشكريني لأني ساعدتك ، كان عليّ تركك تقعين بالحفرة حتى تتعلمي الأدب بالتصرف بتهذيب يا ابنة بارون"
زمت شفتيها بحنق وإحراج وهي تستمع لنبرة التسلية بصوته وكأنه ينقصها سخريته السخيفة وهي تشعر بالدوار والذي سببه لها يكاد يفتك بها ، اكملت سيرها بعيدا عنه بلا مبالاة ليقطع عليها السير جسد ضخم يكاد يتجاوزها بالطول وبالحجم اضعاف ، ما ان رفعت رأسها باتجاهه وهي تشعر بعنقها وقد التوت من شدة رفع رأسها على اقصاها حتى سمعت صوته وهو يقول بغموض خافت
"هل انتِ ابنة عائلة بارون"
انتفضت من صوته الخشن والذي دب الذعر بكل انحاء جسدها بارتعاش ، وما ان كانت على وشك الاستدارة حتى اصطدمت بجسد آخر يملك نفس ضخامة ذاك وكأنها قد حوصرت بمكان للعمالقة ، وقبل ان تنطق بأي كلمة وعينيها تتنقل بينهما بهلع حتى اندفع واحد بينهما ليكمم فمها بقوة والآخر كان يمسكها من ساقيها الملتويتين بإحكام ، لتشعر بعدها بدوار آخر يختلف عما كانت تشعر به قبل قليل يسحبها بعيدا لظلام ساحق مخيف ، ولم تشعر بعدها سوى بأحدهم يحملها بين ذراعيه الضخمتين ليدخلها لمكان يصدر صوت كمحرك السيارة قبل ان يأخذها لعالم آخر بعيدا جدا عما تعرفه ، وكل هذا امام نظرات (فراس) المصدومة وهو لا يصدق ما حدث امام عينيه المذعورتين وهي التي لم تغب عن نظره سوى للحظات ليراها وهي تختطف ببساطة من قبل رجلين ادخلوها لحافلة صغيرة قبل ان تذهب بها بعيدا جدا .

قلوب معلقة بالماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن