الفصل الثامن والعشرون

1.2K 40 16
                                    

كانت جالسة على طرف السرير وهي تضع الكتاب فوق حجرها وشاردة بالنافذة امامها ببرود ونسمات هواء الصباح تضرب خصلات شعرها بهدوء لتطيرها بعيدا حول وجهها الشاحب كشمس هوجاء تحيط بها ألسنة اشعة حمراء تدور من حولها وهالة من الحزن ترافقها منذ ثلاث سنوات ، ابعدت نظراتها العسلية الجامدة بعيدا عن النافذة ما ان بدأ هاتفها بالرنين مخترقا هالة سكونها ، لتلتقط بعدها الهاتف من جانبها قبل ان تجيب عليه قائلة ببهوت
"نعم ، من معي"
ردّ عليها من بالطرف الآخر بابتسامة هادئة
"كيف حالكِ يا زهرة ، اما زلتِ تتذكريني"
رفعت رأسها بسرعة وقد اتسعت عينيها بصدمة على اتساعهما وهي تهمس بتأكد
"عمي عدنان"
ردّ عليها (عدنان) بابتسامة حانية
"اجل عمك عدنان والد زوجك المسافر"
تنهدت (زهرة) براحة وقد ظنت بلحظة خوف بأنه (سليمان) قد عاد للاتصال بها ليعود لتهديداته المعتادة ، عادت للقلق بجزع وقد تغضن جبينها بحيرة من سبب اتصاله بها الآن ، لتقول بعدها بسرعة بتوجس خافت
"هل هناك مشاكل يا عمي وهل كل امور يزن على ما يرام ، ارجوك اصدقني بالقول"
قال (عدنان) من فوره باطمئنان
"اهدئي يا صغيرتي ليس هناك اي شيء مما تقولينه قد حدث وكل امور يزن على ما يرام ، فقط اردتُ الاتصال بكِ لأطمئن عليكِ واخبركِ عن مفاجأة ستعجبك"
عقدت حاجبيها بحيرة اشد بآخر كلماته وهي تفكر بالمفاجأة والتي سيخبرها عنها ، ليتابع بعدها كلامه وهو يقول بقوة
"ولكن قبل كل شيء اريد منكِ ان تخبريني كيف حالكِ وهل كل الأمور عندكِ بخير"
ابتسمت باهتزاز وهي تحرك رأسها بهدوء قائلة بنشيج مرتجف
"بخير"
ردّ عليها (عدنان) بشك
"حقا"
قالت (زهرة) بسرعة بابتسامة حزينة
"اجل حقا بخير ، ارجوك يا عمي اخبرني بالمفاجأة والتي تريد اخباري عنها"
زفر (عدنان) انفاسه بهدوء قبل ان يتمتم بجدية
"اردتُ اخباركِ بأن يزن سيعود للبلاد غدا فقد انهى تدريباته كاملة بكلية الشرطة ، وحصل على الشهادة اخيرا وقد حان وقت عودته إلينا"
تجمدت (زهرة) للحظات وهي تتنفس بنشيج قبل ان تخفض جفنيها على احداقها الدامعة ودمعة صغيرة لم تستطع مقاومتها تخرج منهما وهي تحاول استيعاب كلامه ببطء شديد على ذهنها المشوش وحقيقة واحدة تدور بذهنها وهي (يزن) سيعود ، لتفتح بعدها عينيها بسرعة وهي تهمس بخفوت لا يكاد يسمع
"يزن سيعود"
ردّ عليها (عدنان) بتأكيد
"اجل سيعود ، هذا ما كنتُ اقوله الآن"
اخرجت شهقة مرتجفة من صدرها المنتحب وهي تخفض رأسها بهدوء لترفع كفها الأخرى وهي تغطي بها شفتيها لتحاول منع شهقاتها من الوصول له عبر الهاتف ولكن لم تستطع منع انتفاضات جسدها من الاهتزاز بنحيب معذب وهي تتذكر آخر لقاء بينهما وآخر مواجهة أنهت كل شيء بينهما وقطعت علاقة الثقة والتي تربطهما معا بعد ان اهانت والدته امامه وشككت بنواياه ، اخرجها من دوامة ذكرياتها القاتمة صوت (عدنان) وهو يقول بقلق وحنية
"زهرة هل ما تزالين معي على الخط ، هل انتِ بخير"
سقطت كفها عن شفتيها وهي تهتز بارتجاف بعد ان هدأت شهقاتها قليلا ، لتهمس بعدها ببحة بكاء حزينة
"لا لستُ بخير ، لستُ بخير ابدا"
عادت للبكاء بصمت وهي تخرج كل كبت السنوات بهذه اللحظة بالذات بعد ان وصلت لحافة الانهيار ، ليقول (عدنان) بعدها بلحظات بصوت جاد
"انا افهمكِ يا صغيرتي واعلم بكل شيء حدث معكِ ، ولكني اتذكر مرة عندما اخبرتني فتاة صغيرة بأنه عليّ بالعمل والصبر لأصل لكل ما اريده وانا اتبعتُ نصيحتها بالحرف الواحد ، لذا عليكِ انتِ ايضا اتباع هذه النصيحة وكل شيء بعدها سيكون على ما يرام بأذن الله"
زفرت انفاسها بابتسامة صغيرة ما ان تذكرت كلامها والذي قالته ل(عدنان) عندما اوصلها للمنزل بعد ان اختطفوها قبل ثلاث سنوات ، قالت بعدها بهدوء وهي تمسح دموعها بكفها الأخرى
"شكرا لك يا عمي ، وعلى اتصالك بي"
حرك (عدنان) رأسه باتزان وهو يهمس برفق
"لا بأس اعتني بنفسكِ جيدا ، فغدا سيكون يوم مهم"
اغلقت الخط بعد ان ودعته وهي تعود لشرودها بالنافذة واضعة الهاتف بجانبها ودموعها تعود للسيلان بصمت على خديها بدون اي تعبير ، لتسمع بعدها صوت طرق على باب غرفتها قبل ان يُفتح بهدوء لتدخل عندها (سحر) ببطء وهي تقول بخفوت
"أيمكنني الدخول ام انكِ مشغولة"
وعندما لم تجد اي ردّ منها تحركت بعيدا عن الباب لتجلس بجانبها وهي تربت على كتفها قائلة بحيرة
"زهرة هل تسمعينني ، ما بكِ لما لا تردين عليّ"
اخفضت (زهرة) وجهها باهتزاز وهي تهمس بوجوم
"سيعود يزن للبلاد يا سحر"
عقدت حاجبيها بريبة وهي تقول بقلق
"هذا خبر رائع ، ولكن لما لا تبدين سعيدة"
التفتت (زهرة) نحوها فجأة وهي تقول بانفعال متشنج
"لأن كل شيء انتهى ، انتهى"
ارتفع حاجبيها بعدم استيعاب وهي تنظر لانهيارها الواضح واهتزاز جسدها ببكاء عنيف ، لتقول بعدها باستغراب واجم
"لم افهم ، ماذا تقصدين"
ازداد اهتزاز جسدها وهي تعانق صدرها بذراعيها بانتحاب متألم وهي تخفض رأسها للأسفل بحزن عميق ، لترفع بعدها (سحر) ذراعيها بتردد وهي تعانق كتفيها برفق لتريح جانب رأسها على صدرها وهي تمسد على رأسها بخفة وهدوء ، بينما تقبلت (زهرة) هذا العناق الصامت والذي تحتاج إليه ليخفف عنها مما تشعر به بهذه اللحظة وهي تتمنى ان لا يأتي الغد ابدا لكي لا تضطر عندها لرؤية المواجهة والتي ستقضي على ما تبقى لديها من مقاومة حاولت الحفاظ عليها بالثلاث سنوات الماضية والتي ستضيع منها الآن من نظرة واحدة من عينيه الخضراء القاسية ، ولم ينتبه احد للطفل (عمران) والذي دخل للغرفة ليجلس بجانب السرير والجالسين عليه ليبدأ بالبكاء بصراخ وهو يتفاعل مع بكاءها وكأنه يشعر بالألم والذي سيفتت والدته الروحية .
______________________________
دخل للغرفة وهو يصفر بمرح كعادته ليتوقف ما ان لمح قدميها الصغيرتين والظاهرتين من خلف باب الخزانة المفتوح ، ليعقد بعدها حاجبيه بحيرة وهو يفكر بأنها لم تستقبله عند باب الجناح كعادتها كلما عاد من العمل مساءً ، هل هناك ما يشغل تفكيرها بعيدا عنه ؟ والحقيقة بأنه ليس الآن فقط بل منذ تجمع العائلة على مائدة العشاء وهي تتصرف بغرابة غير طبيعية واغلب الوقت تكون شاردة الذهن بعالم آخر .
تحرك نحوها بخطوات خافتة وهو يتسلل من خلفها بهدوء بدون ان تشعر به حتى وقف خلفها تماما ، لينظر بعدها لكفيها وهي تدس الملابس فوق بعضها بهدوء لينزل بنظره بتمعن لملابسها وهي ترتدي بنطال جينز قصير جدا بلون الأبيض يعلوها قميص بدون أكمام بنفس لون البنطال وكأنها ذاهبة للشاطئ وهي تظهر ساقيها الممتلئين عن السابق بتناسق وذراعيها ذات البشرة الحليبية والتي لا يستطيع خدشها اي شيء بالعالم .
رفع (مؤيد) كفيه ليحاوط خصرها بذراعيه بقوة وهو يشعر بارتجاف جسدها بانتفاض من حركته المفاجئة وهو يدفن وجهه بشعرها الأسود الكثيف براحة ، اخفضت (فاتن) كفيها بهدوء لتتلمس على ذراعيه المعانقين لخصرها برفق وشرود ، بينما قال (مؤيد) بأنفاس منفعلة وهو ما يزال يدفن وجهه بشعرها
"لما لم تستقبليني من عودتي من العمل ام انكِ انشغلتِ بأمور اهم مني ومن رؤيتي"
شعرت بقشعريرة تسري بطول عامودها الفقري من انفاسه الملتهبة والتي تلفح مؤخرة عنقها ، لتهمس بعدها بابتسامة معتذرة
"اعتذر فقد نسيتُ بأن هذا موعد عودتك من العمل"
ابعد (مؤيد) وجهه عن شعرها ليريح ذقنه على كتفها الأيسر وهو يقول بابتسامة جانبية بعبث
"لا لم يعجبني اعتذاركِ ابدا فهو يبدو جاف وخالي من المشاعر تماما"
زفرت (فاتن) انفاسها باضطراب قبل ان تستدير حولها لتقف امامه وهي تستطيل على اطراف اصابع قدميها لتقبل ذقنه بنعومة وهي تهمس امام شفتيه بارتعاش
"انا اعتذر"
كان (مؤيد) ما يزال يحاوط خصرها بذراعيه بقوة قبل ان يرفع كفه ليرجع خصلات شعرها الطويلة لخلف اذنيها برفق ، ليتمتم بعدها بتفكير وهو ما يزال يتلمس خدها المحمر بأصابعه
"ماذا هناك يا فاتنة ، لما تتصرفين بغرابة مؤخرا ، هل السبب يكون من والدي فهو يتكلم دائما كلام طائش بدون ان يهتم لمشاعر احد ، ام من سمية والتي تعشق بث سمها بالآخرين"
قالت (فاتن) بسرعة وهي تحرك رأسها بالنفي بقوة
"لا يا مؤيد لم يفعلوا لي شيء فقد اعتدتُ على وجودهم بيننا كأفراد عائلتي"
عقد (مؤيد) حاجبيه وهو يمسك بجانب وجهها قائلا ببعض الحدة
"إذاً اخبريني ما سبب حالتكِ هذه ولا تشغلي تفكيري اكثر ، فقد مللتُ من محاولة قراءة أفكاركِ وانتِ تحاولين التكتم عن الأمر"
زمت شفتيها بارتباك وهي تنظر له بعينيها المنحنيتين بحزن ، فماذا ستقول له مثلا ؟ بأن نظرات شقيقه (ياسر) تضايقها وهي تلاحقها بكل مكان بدون ان تتركها وشأنها وهي تسبب لها الضيق لدرجة لم تعد تتجرأ على الخروج من جناحها كالسابق وهو يلازم البيت ليل نهار ، وماذا ستستفيد بعدها إذا اخبرته فهو اكيد لن يستطيع طرده من منزله او محاسبته على نظراته وهو لم يخطئ معها بشيء للآن .
قال (مؤيد) بوجوم وهو يمسك بوجهها بكفيه معا
"هل يعقل بأن تكوني ما تزالين حزينة بسبب كلام الدكتورة عن العلاج والذي سيطول اكثر"
رفعت رأسها بسرعة وقد نسيت هذا الموضوع تماما بالرغم من انها شعرت بإحباط شديد بتلك اللحظة ولكنها بعدها تعايشت مع الأمر الواقع ، قالت بعدها بنشيج خافت وهي تنظر للأسفل بعيدا عنه
"لا تقلق فقد تقبلت هذا الأمر ولم يعد يهمني الآن ، فكما قلت من قبل كل ما يهم هو الاهتمام بصحتي وبعدها نفكر بالأطفال"
اتسعت ابتسامة (مؤيد) بسعادة قبل ان يحتضنها بين ذراعيه بقوة وهو يهمس فوق رأسها براحة
"احسنتِ هكذا اريدكِ يا فاتنة ، وجودك بهذه الحياة يكفيني لينسيني كل همومها وروتين العمل الممل"
دفنت وجهها بصدره بهدوء قبل ان يبعدها عنه ليمسك بكتفيها وهو يقول بجدية صارمة
"انتِ لم تخرجي بالمنزل بهذه الملابس صحيح"
رفعت حاجبيها بحيرة وهي تقول بعبوس
"لا فأنا لم اخرج من الجناح الخاص بنا اليوم ، وقد ارتديتُ هذه الملابس الآن"
عقد حاجبيه بحدة ليشدد من إمساك كتفيها اكثر وهو يقول بحزم هادئ
"اسمعي يا فاتن انتِ لم تعودي تعيشين لوحدكِ بالمنزل بغض النظر عن وجود والدي وزوجته ولكن الآن وجود شقيقي ياسر سيحتم عليكِ الانتباه لما ترتدينه فلا تستطيعين ارتداء ما يحلو لكِ من ملابس ، ولكن بجناحنا الخاص يمكنكِ ارتداء ما يعجبكِ وما يسر زوجك ، واما خارجه فعليكِ الالتزام بلباس المحتشم دائما وشعركِ حاولي عقده ولا تتركينه حرا هكذا ، فهمتِ كلامي يا فاتنة"
حركت رأسها بالإيجاب وهي تبتلع ريقها بتشنج قائلة بطاعة تامة
"حاضر يا مؤيد ، ولا تقلق بخصوص هذا الشأن فأنا سأكون حريصة جدا من الآن وصاعدا"
حرك (مؤيد) رأسه بقوة وهو يربت على رأسها قبل ان يقترب منها ليقبل جبينها وجانب وجنتها بهدوء ، ليبتعد بعدها عنها وهو يتقدم امام الخزانة المفتوحة ليُخرج منها بعض الملابس قبل ان يتجه للحمام الملحق وهو يكمل تصفير نغمته الخاصة ، بينما كانت نظرات (فاتن) معلقة بباب الحمام والذي اغلقه من خلفه وهي تتمنى لأول مرة لو أنهما يعيشان لوحدهما بدون ان يكون هناك اي احد بينهما وهي تشعر بانقباض غريب مما هو قادم ناحيتهم وهذا امر غير مبشر ابدا .
______________________________
دخل للشقة بهدوء وهو يعقد حاجبيه بحيرة من الهدوء المخيم على المكان على غير العادة ، ليتلفت بعدها من حوله وهو يرهف السمع بالصمت المحدق بالمكان ، اغلق باب الشقة من خلفه ليسير باتجاه غرفتها بثبات وما ان دخل للغرفة حتى اصطدمت نظراته بحقيبة ملابسها والموضوعة ارضا وهي تجلس امامها بهدوء وصمت مريب .
تقدم (إياد) نحوها بسرعة ليقول بعدها وهو يقف امامها باتزان متصلب
"ما لذي يجري هنا يا جنان ، وماذا تفعلين بحقيبة ملابسك"
ردت عليه (جنان) بدون ان ترفع رأسها او ان تستقيم من انحناءها
"سأرحل"
عقد (إياد) حاجبيه بحيرة وهو يتمتم بوجوم
"اين سترحلين ، هل تعنين بأنكِ ستذهبين للمبيتِ عند والديكِ"
قالت (جنان) بصوت قاطع ببرود
"بل سأرحل نهائياً"
مرت لحظات صامتة بينهما بسكون ليقطع الصمت بعدها صوت (إياد) وهو يقول بحدة وجفاء
"ماذا تقصدين بكلامكِ ، واشرحي لي ما لذي تخططين لفعله الآن فقد مللت من تقلباتك العاطفية"
وقفت (جنان) من جلوسها لينظر لملابس الخروج والتي كانت ترتديها وهي عبارة عن قميص وبنطال ، ليرفع بعدها نظره لوجهها الخالي من اي زينة لأول مرة وآثار المرض ما تزال ظاهرة بذبول على ملامح وجهها وعينيها العسلية القاتمة ، قالت بعدها بخفوت وهي تنظر له ببرود غير معبر
"لقد قررتُ ان احررك مني يا إياد"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يقول بصدمة
"ماذا تقولين"
انحنت (جنان) امام الحقيبة لتخرج منها ورقة قبل ان تستقيم بوقوفها لترفعها نحوه وهي تقول ببرود جليدي
"هذه اوراق الطلاق والتي ما ان توقعها وتقول يمين الطلاق حتى ننفصل عن بعضنا نهائياً وكأنه لم يحدث بيننا شيء وبالحقيقة لم يحدث بيننا شيء ، لذا هلا وقعتها لأرحل من هنا"
كان (إياد) ينظر لها بتركيز وكأنه يتأكد من كلامها والذي يخرج منها لأول مرة بعد ثلاث سنوات من الكفاح بزواج غير مكتمل ، اخفض نظره للأوراق وهو يقول بعصبية بالغة
"جنان هل هذه لعبة جديدة تلعبينها معي لأني حقا لم يعد لدي الصبر لأتحمل نتائج قراراتك ، لذا اخبريني فورا ما لذي تفكرين بفعله بعد هذه الخطوة"
اخفضت (جنان) كفها بالورقة وهي تقول ببساطة
"انا لا اخطط لفعل شيء ، فقط اتبع كلامك عندما اخبرتني بأنك ستطلقني بالوقت الذي اريده عندما اشعر بالظلم بعلاقتنا ، وانا الآن اريد حقي بالطلاق منك"
عبست ملامحه باهتزاز وتشنج قبل ان يندفع نحوها وهو يكبل ذارعيها بقوة قائلا باستياء واضح
"ولما الآن تريدين الطلاق بعد مرور ثلاث سنوات على زواجنا وانتِ تتلقين مني الظلم والإهمال ومع ذلك بقيتِ متشبثة بي لآخر رمق بحجة حبكِ الكبير نحوي ، ما لذي غيركِ وجعلكِ تنقلبين هكذا وتطلبين الطلاق بهذا الاصرار ، هل تخططين لتشويه صورتي امام والديكِ وامام العالم"
ردت عليه (جنان) بهلع وهي تمسك بجانب وجهه برفق
"ما هذا الكلام السخيف ، مستحيل ان اشوه صورتك او اسمح لأي احد بأن يمسها بسوء فهي دائما ستبقى مميزة بنظري وامام كل العالم"
ردّ عليها (إياد) باقتضاب وهو ينزع كفها عن وجهه بعنف
"إذاً ما لذي غيركِ هكذا ، وإياكِ وابتداع الأكاذيب امامي فهي لن تقنعني ابدا"
زفرت انفاسها بنشيج وهي تنظر بعيدا عنه قائلة بشرود بارد
"لأنه لم يعد لدي طاقة للاستمرار بهذا الجهاد والكفاح اكثر ، وانت تصر على أبعادي عنك بكل الطرق الممكنة وقد تعبت من معاملتك لي وكأني وباء خطير ، ولا تعلم كم هذا الشعور يؤلمني ويعذبني بشدة"
ابعد (إياد) كفيه عن ذراعيها بهدوء ليهمس بعدها بوجوم
"اسمعي الموضوع بأني انا..."
قاطعته (جنان) بصراخ منتحب حانق
"توقف لا اريد سماع تبريراتك والتي حفظتها عن ظهر قلب ، واعلم جيدا بأني لن استطيع ان اكون بمكان حبيبتك الشقراء والتي اصبحت تهذي باسمها بنومك ويقظتك ، وانا اتعذب على الهامش بحياتك"
كان (إياد) ينظر لها بعيون متسعة بصدمة من كلامها الحانق وهي تعترف بألمها بصدق لأول مرة أمامه ، ولا يستطيع لومها بهذا فقد تمادى كثيرا بجرحها بدون ان يقصد ذلك وكله بسبب تفكيره المنشغل بزوجته الضبابية (مايا) وهو ما يزال يتبع اخبارها من رجل ارسله لمراقبتها ليطمئنه عليها بين الحين والآخر وهو يرسل له صورها مرفقا مع اخبارها حتى اصبح مهووسا بسماع تلك الأخبار .
اشاح (إياد) بوجهه بعيدا عنها وهو يقول بتصلب خافت
"لم اكن اعلم بكل ما تعانيه بسببي ، واعتذر عن تقصيري الدائم بحقك ، ولكن ليس باليد حيلة فأنا لن استطيع ان ابادلك حبكِ ابدا"
رفعت (جنان) كفها لتمسح عينيها بقوة وهي تقول بابتسامة باهتة بسخرية
"وهذا الذي توقعته منك ، لذا اختصر عليّ الطريق يا إياد واعطني طلاقي وهذا سيكون الأفضل لكلينا ، وخاصة من اجلك فأنت لن تستطيع العودة لحبيبتك وانا موجودة هنا كالعقبة ، وبابتعادي عن حياتك سيكون الطريق اسهل امامك"
التفت (إياد) نحوها بسرعة وهو يقول بحدة
"ما هذه التفاهات والتي تنطقين بها ، انتِ اكيد لستِ عقبة بحياتي فأنا الذي تزوجتك بكامل إرادتي واقحمتكِ بحياتي ، لذا ليس لكِ اي ذنب بالذي يحدث معي"
تصلبت ملامح (جنان) وهي ترفع الورقة امامه قائلة ببرود شاحب
"هذا قراري النهائي يا إياد ولن اتراجع عنه ابدا ، لذا ارجوك نفذه لي فأنا لم اطلب منك بحياتي اي طلبات من قبل بهذا الاصرار"
نظر للورقة بكفها قبل ان يلتقطها بهدوء وهو يقربها امام نظره بتركيز ليقول بعدها بابتسامة هادئة
"إذا كان هذا الطلب سيريحك من العذاب ، فأنا إذاً سأنفذه لكِ بدون اي تردد ، ولكن هذا لن يقطع العلاقة والتي تجمعنا معا منذ فترة طويلة"
تراجع (إياد) بخطواته ليلتقط القلم من على المنضدة قبل ان يوقع على الورقة امام نظرات (جنان) الجامدة بدون تعبير ، ليمد بعدها الورقة امامها قبل ان تلتقطها منه بسكون ، لتقول بعدها بجمود وهي تبتسم له بشحوب
"بقي شيء واحد وهو ان ترمي عليّ يمين الطلاق"
تجمدت ملامحه وهو يقول باستياء
"أهذا ضروري"
ردت عليه (جنان) وهي تبتسم بتأكيد
"اجل فأنا اريد ان يتم كل شيء على أكمل وجه بدون اي نقص ، فعندما تقولها الآن امامي سأعرف عندها بأننا قد انفصلنا عن بعضنا حقا ولم تعد ملكي بعد الآن بالرغم من انك لم تكن ملكي من الأساس"
تنفس (إياد) بقوة وهو يرفع كفه لشعره ليمسك بخصلاته بعنف وتفكير قبل ان يخفض كفه وهو يستدير بعيدا عنها ، ليقول بعدها بخفوت متصلب
"انتِ طالق"
لم يرى (إياد) ملامحها والتي ازدادت برودا وتصلبا وهي تعض على طرف شفتيها بنشيج خافت ، لتزفر بعدها انفاسها باضطراب وهي تهمس بقوة
"وطلب آخر اريد منك ان توقع على اوراق الموافقة لأستطيع الانضمام مع رحلة الوفد الطبي اليوم للذهاب للأماكن النائية والمقطوعة عنها الموارد الطبية ، فأنا احتاج كثيرا لهذه الرحلة ، فهلا لبيت لي هذا الطلب ايضا"
تصلبت زاوية شفتيه قليلا بوجوم قبل ان يقول وهو يحرك رأسه بالإيجاب بدون ان ينظر إليها
"لا بأس اعتبري طلبك مجاب"
ابتسمت (جنان) بهدوء وهي ترفع حقيبتها بكفها بعد ان دست الورقة بداخلها لتجرها بعدها من خلفها بصمت ، وما ان وصلت لباب الغرفة حتى قالت بجمود صارم
"عندما اعود من رحلتي سأتكلم انا مع عائلتي لذا لا داعي لتتكلم انت معهم ، والآن اتمنى لك كل التوفيق بحياتك يا دكتور إياد"
ردّ عليها (إياد) بخفوت متزن
"ولكِ ايضا يا ممرضة جنان"
خرجت (جنان) بدون ان تضيف كلمة أخرى لتخلف من بعدها السكون بكل أرجاء الشقة ، ولم تسمع زفرة (إياد) المرتاحة وكأنه تخلص من الصخرة والتي كانت تجثم فوق صدره وتمنعه من التحرك وهو يشعر بنفسه الآن قد اصبح حرا ولم يعد هناك اي احساس بتأنيب الضمير والذي كان يعذبه بيقظته وبنومه وهذا اجمل شعور يمر عليه بالثلاث السنوات الماضية .
______________________________
كان يسير بخطوات ثابتة ببهو المطار الواسع وكفه مرفوعة بالحقيبة لكتفه وهو يتنشق هواء بلاده النقي والذي اشتاق إليه كثيرا بعد غياب دام لثلاث سنوات تاركا كل شيء يخصه من خلفه ، ما يزال يذكر يوم رحيله عندما خذلته وتخلت عنه (زهرة) الصغيرة والذي ظن بأنها ستكون مختلفة عن الباقيين وستعوضه عن كل ظلمهم والذي تلقاه منهم هو ووالدته ولم يطلب سوى وجودها بقربه بهذه الحياة القاسية ، ولكن يبدو بأنه قد اخطئ بهذا الطلب وتلقى بعدها عقابه على فعلته ما ان اهانت والدته وشككت به لتكون اللحظة الفاصلة بعلاقتهما .
توقف (يزن) عن السير ما ان لمح والده وزوجته واقفين عند ساحة الانتظار وهما ينظران له بسعادة بالغة واضحة على ملامح وجوههم البشوشة ، ما ان اقترب منهم حتى تقدم (عدنان) بهدوء ليمد كفه امامه وهو يقول باتزان مبتسم
"مرحبا بعودة ضابط عائلة بارون وفخر العائلة"
اخفض (يزن) نظراته للكف الممدودة امامه وهو يضيق عينيه بتركيز ، ليتذكر بعدها الشخص الوحيد والذي سأل عنه بالثلاث السنوات الماضية وهو يتصل به كل فترة ليعرف كل اخباره ويطمئن عليه والحقيقة بأنه كان يتجاهل كل اتصالاته بالبداية ولا يعطيها اهتماما ولكن مع الوقت ومع اصرار المتصل به وهو لا يكف عن الاتصال به يوميا حتى اعتاد بعدها على الأمر وهو يجيب على كل اتصالاته ليصبح الموضوع بالنسبة له روتينياً واتصال يومي لا يكتمل يومه بدونه .
رفع (يزن) كفه ليصافح والده بسكون وهو يحرك رأسه بالإيجاب بدون كلام ، ليشدد بعدها (عدنان) على كفه وهو يرفع كفه الأخرى ليربت بها على كتفه بقوة وابتسامة هادئة بوقار تحتل محياه فقد وصل اخيرا لمبتغاه والذي كان يسعى إليه منذ سنوات ، افلت بعدها بلحظات كفه وهو يقول بابتسامة متسعة بهدوء
"كيف هي احوالك بعد التخرج يا ضابط الجنايات ، هل واجهت مشاكل بالسفر"
ردّ عليه (يزن) باقتضاب وهو يشرد بعيدا عنه
"لا كل شيء على ما يرام يا.. ، يا والدي"
تنفس (عدنان) بهدوء وهو يبتسم له باتزان وسعادة قبل ان تتدخل (غيداء) وهي تقف امامه قائلة بابتسامة صغيرة مهتزة
"كيف حالك يا يزن ، وكيف كانت دراستك بكلية الشرطة"
حاد (يزن) بنظراته نحوها بغموض وهو ينظر ببرود لنظراتها المتلهفة ناحيته والتي رآها من قبل على مدار سنوات ، ليقول بعدها بجمود وهو يشيح بوجهه بعيدا عنها
"بخير ، كل شيء بخير يا خالة"
تنفست (غيداء) بارتجاف وسعادة وليس لأنه اجابها بأدب لأول مرة بل لأنه نعتها بخالة لأول مرة بحياته وهذا يكفيها لتشعر بأنها مرغوبة ناحيته ولو لم تأخذ محل والدته بحياته ، لم تستطع بعدها منع نفسها من الاقتراب منه قبل ان تعانقه بهدوء عند خصره وهي تهمس بنشيج خافت
"مبروك تخرجك وحصولك على الشهادة يا بني ، واتمنى لك ان تصل لأفضل المراتب بحياتك بالمستقبل"
عقد (يزن) حاجبيه بتجهم وهو يخفض نظره لرأسها قبل ان يرفع كفه وهو يربت على ظهرها برفق مشدود ولأول مرة يشعر بهذه المشاعر ناحية احد غير (زهرة) وهو الذي فقد الاحساس بالعواطف منذ وفاة والدته لتعود عاطفة الأم للحياة بعد سنوات طويلة من الجفاء ، ابتلع بعدها ريقه بتصلب وهو يقول بهدوء بالغ
"شكرا لكِ يا خالتي غيداء"
شددت (غيداء) من عناقه عند خصره وهي تشعر براحة كانت تبحث عنها طويلا وكلماته عادت لتنمي عندها غريزة الأمومة والتي ما تزال محرومة منها للآن وقد حاولت البحث عنها بداخله كثيرا ليواسيها من الحرمان والنقص والذي تشعر به بحياتها منذ سنوات طويلة ، لطالما كان (يزن) مسؤوليتها منذ دخل لمنزل عائلتهم طفل بالعاشرة لا يعلم اي شيء عن عائلة والده لتهتم (غيداء) بكل ما يخصه من ملبس وطعام وحمام ولم تكن تسمح لأي من الخدم او من العائلة التدخل بأموره الشخصية والتي كانت تتحكم بها هي وحدها وكأنها تبث به غريزة امومتها المعذبة بالاهتمام به كابنها تماما ولكن ما ان كبر اكثر حتى بدأ يبتعد عنها تدريجيا ويتلاشى حلم امومتها بعيدا عنه فهي بالنهاية ستبقى زوجة والده وهذا ما كان يثبته لها دائما .
ابتسم (عدنان) بهدوء وهو يرفع كفه ليربت على ظهرها قائلا بمرح هادئ
"هيا يا غيداء يكفي عناق وابتعدي عن الولد فهو الآن سيكون مرهق جدا من رحلة السفر الطويلة وانتِ تتعبينه بالوقوف بمنتصف المطار هكذا ، وايضا تعرقلين سير المسافرين ونحن نقف بطريقهم"
ابتعدت عنه (غيداء) بسرعة وهي ترفع كفها لتمسح عن عينيها بهدوء قائلة باعتذار
"اعتذر منكم فقد انفعلت قليلا مع مشاعري"
اقترب (عدنان) منها ليحاوط كتفيها بذراعه وهو يقول بابتسامة جانبية
"لا بأس وايضا على كل حال علينا الذهاب الآن وتركه فهو لديه رحلة أخرى باتجاه زهرته والتي اكيد ستكون تنتظره على أحر من الجمر"
تصلبت ملامح (يزن) بجمود وهو يذكره بالفتاة الصغيرة والتي لم تترك تفكيره للحظة على مدار سنوات والآن سيضطر لمواجهتها مرة أخرى بعد هذا الوقت الطويل وهو لا يعلم ماذا سينتج عن هذه المواجهة ؟ قطع عليه افكاره القاتمة صوت (عدنان) وهو يقول بصرامة مفاجئة
"اسمع يا يزن هناك امر مهم عليك معرفته ولم اعلم عنه سوى بعد فترة قصيرة من سفرك ، ولكن عليك معرفته لتعلم جيدا ماذا حدث بسفرك ومن وراء ظهرك ، وهذا سيغير عندك كل المعتقدات والتي تفكر بها الآن ، لذا اسمعني جيدا وانصت"
عقد (يزن) حاجبيه بتركيز وهو يشعر بتصلب وانقباض بكل أنحاء جسده لأول مرة مما هو قادم من والده سيغير عنده كل الموازين رأساً على عقب .
______________________________
كانت جالسة على السرير بتكور وهي تضم ساقيها بذراعيها بقوة ناظرة امامها بجمود مهتز وكأنها تنتظر القادم بحياتها والذي كانت تتوقع مجيئه بأية لحظة بدون ان تشعر بالسنوات والتي مرت بلمح البصر امامها حتى اصبحت ثلاث سنوات كاملة وهي تعيش فقط على بقايا قوة ستذهب مع مهب الريح من اول مواجهة امام (يزن) والذي اكيد سيكون يحمل بقلبه نحوها الكثير من المشاعر المتناقضة والتي ستضربها بالصميم وتطعن قلبها الملهوف به فأكثر شيء تعرفه عن (يزن) منذ صغره بأنه لا يسامح احد اخطئ معه بسهولة .
انتفضت بشهيق خافت لا إراديا ما ان فتح باب الغرفة بهدوء وهو يطرق عليه بنغم حرق اعصابها المنهارة ، لتُدخل بعدها (سحر) بهدوء وابتسامة متسعة غير مريحة تحتل محياها قبل ان تجري بسرعة لسريرها وهي تقول بخفوت متلهف
"اسمعي يزن قد اتى للمنزل وهو ينتظرك الآن ببهو المنزل ، لذا هيا انزلي بسرعة إليه"
فغرت شفتيها بارتعاش وجسدها يزداد اهتزازا وهي تتأرجح للأمام وللخلف بارتجاف وهي تتخيل كيف سيكون شكله وهو ينتظرها بالأسفل ؟ قالت بعدها بجزع وهي تنظر بعيدا عنها
"لن انزل إليه"
ردت عليها (سحر) بعدم استيعاب
"ولما لا تريدين النزول لزوجك ، هذا ليس جيدا بحقك وانتِ ترفضين النزول له واستقباله بعد عودته من سفره والذي طال لسنوات"
قالت (زهرة) بلا مبالاة
"اخبريه بأني غير موجودة ، افعلي اي شيء ليرحل من هنا"
رفعت (سحر) كفها لتربت على كتفها برفق وهي تقول بخفوت حاني
"كيف تقولين مثل هذا الكلام بعد ان عاد من سفره واتى لرؤيتكِ اخيرا ، ألستِ متشوقة ولو قليلا لرؤيته بعد هذه المدة الطويلة ، ألا تشعرين بالتلهف لرؤية يزن وقد اصبح ضابط كبير بالشرطة بعد تخرجه من الكلية"
التفتت (زهرة) نحوها ببطء قبل ان تدفع كفها بعيدا عنها وهي تقول بعصبية بالغة
"توقفي يا سحر وافعلي ما قلته لكِ ، ارجوكِ"
تنهدت (سحر) بهدوء وهي تسير نحو باب الغرفة هامسة ببرود
"كما تريدين ، ابقي مختبئة هنا بعيدا عنه وبدون ان يعلم عنكِ احد"
عبست ملامح (زهرة) وهي تنظر بشرود لمكان اختفاءها عند باب الغرفة ، لتتحرك بعدها من مكانها وهي تنهض بعيدا عن السرير قبل ان تقف امام باب الغرفة وهي تنظر من حولها بارتباك ، زمت شفتيها بابتسامة حالمة وهي تفكر كيف سيبدو مظهره الآن بعد مرور ثلاث سنوات على رؤيتها له ، اكيد سيكون مشبع وينضح بالرجولة والنضوج بعد ان تجاوز منتصف العشرين من العمر وهو بكل اعماره كان يبدو شديد الجاذبية امامها حتى وقعت بعشقه طفلة .
ابتلعت ريقها برهبة وهي تسير باتجاه السلالم لتلقي فقط نظرة عليه تشفي بها لهفتها الشديدة نحوه واشتياقها والذي وصل عندها لأقصاه وهي حتى الآن ما تزال محرومة من صوته ومن كل شيء يخصه ، لذا ليس هناك مانع ابدا من ألقاء نظرة صغيرة لن تضر احدا ابدا وبالأخص (يزن) .
ما ان وصلت أعلى السلالم حتى وقعت نظراتها على (يزن) والذي كان يحمل الطفل (عمران) عالياً وهو يقذفه عدة مرات لفوق رأسه بسعادة واضحة عليهما ، لتتجمد بعدها بمكانها وهي تنظر للصورة والتي حلمت دائما لرؤيتها له ولكن مع ابنهم والذي سيكون مدلل والديه وخاصة والده والذي سيرث عنه قوته وصلابته ووسامته منذ صغره لتكون عندها اسعد انسانة على وجه الأرض ، ولكن للأسف القدر لم يمنحها شيء مما كانت تتمناه فلم تحمل بطفله ولم تستطع الحفاظ على زوجها والذي احبته بكل جوارحها وتعلقت به بجنون لتخسره بالنهاية كما خسرت والدته تماما ، لم تنتبه لخطواتها وهي تنزل عن السلالم ونظراتها شاردة بهما بانجذاب ساحر ، لتفيق بعدها على نفسها ما ان التقت نظرات (يزن) القاسية بعينيها بحوار طويل صامت يعبر عن المسافة والوقت والذي ابعدهما عن بعضهما لفترة طويلة جدا قضت على المتبقي لديهما من مقاومة وصبر فاق احتمالهما .
قطعت (زهرة) حوار العيون والذي اصبح مؤلما لها وهي تخفض رأسها للأسفل بارتجاف ، ليُنزل بعدها (يزن) الطفل للأسفل قبل ان يستقيم بوقوفه بهدوء بالغ ، تراجعت (زهرة) للخلف وهي تنوي صعود الدرجات بعيدا عن الجميع وهي تحاول إبعاد نظراتها عنهم بوجوم ، لتتصلب بعدها بمكانها بارتعاش ما ان قصف صوت (يزن) من خلفها وهو يقول بصرامة هادرة
"توقفي مكانكِ"
توقفت (زهرة) بالفعل لتستدير نحوه ببطء شديد وهي تنظر بتوجس لما هو مقدم عليه الآن وتستحق كل ما يحدث معها الآن ، فهي التي جاءت لمواجهة العاصفة بقدميها وبإرادتها الحرة وهي تنظر لملامحه الهادئة تماما وقد يكون هذا هدوء ما قبل العاصفة ، زمت شفتيها بقوة وهي تنشج بدون صوت وصدرها يهبط ويرتفع لا إراديا وكأنها تنتظر حكمها بالإعدام من القاضي الكبير ، رفعت حاجبيها بدهشة وهي تنظر من بين غباشة دموعها ببلاهة لكفه والتي ارتفعت ناحيتها وهو يهمس بخفوت وشبح ابتسامة يحتل ملامحه بريبة
"تعالي"
بقيت متجمدة بمكانها وهي لا تعلم ما لخطوة التالية والتي عليها ان تخطوها وما صحة ما يفعله معها ، لتشعر بعدها بكف (سحر) وهي تربت على كتفها بخفة مشيرة بعينيها نحو (يزن) بتشجيع مبتسم ، حادت بنظراتها بعيدا لتصطدم بنظرات والدها والذي لم تنتبه لوجوده منذ بداية المواجهة ليحرك بعدها رأسه بالإيجاب باتزان وهو يبتسم لها بهدوء ، لتبتسم بعدها بضعف وهي تعود بنظرها ل(يزن) والذي ما يزال يرفع كفه نحوها بجمود وعينيه الخضراء تنظران لها بتركيز اعتادت عليه منذ سنوات حتى اصبحت تلك العينين تحاوطها بأحلامها وبكل مكان تذهب إليه وكأنها تمثل حماية لها .
تحركت (زهرة) نحوه بتباطء قبل ان تسرع بخطواتها ليتحول لجري وهي تنقض عليه بدون تفكير متناسية كل الخوف والذي كانت تعيشه قبل لحظات وعواطفها هي التي اصبحت تعصف بها الآن وهي تتعلق بعنقه بعناق شرس ومجنون اعتاد عليه منها منذ سنوات ، ليرفع بعدها ذراعيه وهو يعانق جسدها بعنف تدريجيا حتى كاد يكسر عظامها من تشديده على جسدها الهش والذي ازداد نحولا وضعفا عن السابق .
مسحت (سحر) دموعها بكفها قبل ان تتحرك بعيدا وهي تسحب (عمران) الصغير معها رغم ممانعته الشديدة لتضطر لحمله بين ذراعيها غصبا وهي تغادر به بعيدا عنهما ، بينما تحرك والدها بهدوء وهو يغادر باتجاه خارج المنزل والذي كان متجه له منذ البداية ، ولم ينتبه احد للجد وهو ينظر لهما ببرود حاد وببعض الإنهاك والواضح على ملامح وجهه المجعدة بسبب تقدمه بالعمر قبل ان يغادر بعيدا عنهما وهو يعود ادراجه باتجاه غرفة مكتبه ومنفاه الوحيد بهذا المنزل الكبير .
كان (يزن) يتخلل شعرها الهائج بكفه بقوة حتى كاد يقتلع خصلاته ويشدد على خصرها بكفه الأخرى بتقييد حتى كاد يعتصر خصرها الغض والذي نحف اكثر عن السابق وهو يهمس بأذنها بفحيح حانق اشعل وجنتيها
"لما كنتِ تريدين الهروب مني وعدم رؤيتي يا قاسية القلب ، وتقولين عني بأني قاسي القلب"
ردت عليه (زهرة) بانفعال وهي تدفن وجهها بكتفه العريض متشبثة بقميصه بكفيها بكل قوة تمتلكها بجسدها المرتجف
"لأني كنتُ خائفة من ردة فعلك ، كنتُ مرعوبة من نظراتك القاسية نحوي بالرغم من اني استحقها بعد كل ما فعلته معك"
ردّ عليها (يزن) باقتضاب وهو يشدد على خصلاتها بعنف شرس حتى تأوهت بألم
"اخرسي يا زهرة ، واخبريني فورا لما لم تقولي لي عن مخطط سليمان بارون ، لما اخفيتِ عني الأمر بكل هذه المدة الطويلة بدون ان تخبريني بشيء"
اتسعت عينيها العسلية بهلع وهي تبتعد قليلا عنه هامسة بصدمة
"كيف عرفت"
رفع (يزن) كفيه بسرعة ليمسك بهما وجهها بقوة وهو يشدد عليه مقربا له امامه قائلا بقسوة تنضح بعينيه القاتمة
"كيف استطعتِ اخفاء مثل هذا الموضوع المهم عني ، كيف فعلتِ كل هذا من وراء ظهري ، تكلمي اجيبِ من اين واتتكِ مثل هذه الجرأة لتخونيني هكذا مع سليمان بارون"
اهتزت حدقتيها بدموع حبيسة وهي ترفع كفيها لتمسد على قبضتيه الممسكة بوجهها قبل ان تهمس بارتجاف حزين صادق
"لأني احبك فعلت هذا ، ولأن حلمك هو ايضا حلمي ، وأي شيء من اجل سعادتك سأفعله فأنا احبك يا قاسي القلب"
شهقت (زهرة) بنشيج ودموع وهي تفقد السيطرة على نفسها تماما لتجهش بالبكاء امامه وهي تحاول السيطرة على شهقاتها العنيفة والتي مزقت صدرها ، ليدفنها بعدها (يزن) لصدره بهدوء وهو يعود لمعانقتها بعنف اخف ليربت على شعرها برفق بعيدا عن القسوة وهي تنتحب بصدره بانفعال بالغ ، بينما كان (يزن) يهمس بخفوت مشتد وهو يقبل خصلات شعرها المحمرة بين اللحظة والثانية
"هششششش ، يكفي بكاء يا غبية فأنا لن اتخلى عنكِ مرة أخرى"
ما ان بدأت بالهدوء قليلا وهي تحاول تنظيم انفاسها الذاهبة حتى ابعدها (يزن) عنه قائلا بحزم خافت وهو يمسح الدموع عن وجنتيها المحمرتين برفق
"هيا اذهبي واحضري حقيبة ملابسك بسرعة ، لنذهب من هنا"
رفعت نظراتها الدامعة نحوه بارتباك ليسبقها بعدها بالكلام وهو يقول بابتسامة قاسية
"لا تقلقي يا زهرة فكل شيء قد اصبح بقبضتي الآن ولن يتجرأ احد مرة أخرى على الوقوف بيننا ، فقد حققت حلمي بعد كل شيء ولم يبقى الآن سوى عودتك معي واكمال النقص بحياتي"
عقدت حاجبيها بعدم استيعاب وهي لا تستطيع فهم اي كلمة من كلامه والصعب على ذهنها المشوش من كل ما حدث من حولها ، لترفع بعدها كفها لجانب رأسها ببطء وهي تبتسم بمرح مرتجف قائلة بطاعة مصطنعة
"حاضر يا ضابط يزن"
ابتسم (يزن) بهدوء حتى تشنجت زاوية شفتيه بحنان قبل ان يمسك بجانب وجهها ليقبل وجنتها المحمرة بقوة وهو يهمس فوقها باشتعال منفعل
"لا تتأخري عني"
ابتعد (يزن) عنها وهو ينظر لها وهي تجري بعيدا عنه لتصعد السلالم بتعثر واضح بدون ان تأبه بخطواتها الخرقاء وهي تلوح له بطفولية وسعادة وشعرها هائج من خلفها يطير من حولها مثل شعاع الشمس حتى اختفت عن نظره تماما ، ليبتسم بعدها بشرود للشمس الصغيرة والتي اصبحت كبيرة مرة واحدة لتنثر من شعاعها الذهبي على كل من حولها وهي تعطيهم من اشعتها والتي تساعدهم بها بدون ان تأبه بمصلحتها الشخصية وهذا ما فعلته معه من وراء ظهره وهو الذي نسي من تكون (زهرة) تلك الصغيرة والتي تحب مساعدة الآخرين بالخفاء بدون ان يعلم عنها احد .
_______________________________
كانت تمسك بالتفاحة وهي تقطعها لأنصاف بالسكين بيدها بشرود ، لتنفض بعدها كفها عن قطعة التفاحة ما ان خدشت اصبعها بالسكين ، رفعت اصبعها امام نظرها ببرود وهي تنظر لقطرات الدم والتي اصبحت تنزل من اصبعها بانحدار ، لتلتقط بعدها المنديل من المنضدة الجانبية قبل ان تلف بها اصبعها بقوة لتتابع عندها تقطيع التفاح كما كانت تفعل قبل قليل .
توقفت يديها عما تفعل ما ان بدأ هاتفها بالرنين بجيب بنطالها ، لتلقي بعدها بالسكين بطبق التفاح قبل ان تضع الطبق فوق المنضدة الجانبية وهي تقف عن الكرسي بجمود ، نظرت لوالدتها والتي كانت شاردة بعيدا عنها بدون ان تهتم لوجودها بجانبها ، تنهدت بهدوء وهي تُخرج الهاتف من جيبها قبل ان تتجه للنافذة بالغرفة بصمت ، لتجيب بعدها بجمود وهي تنظر من النافذة بهدوء قاتم
"من معي"
ردّ عليها من بالطرف الآخر بجفاء
"مرحبا مايا الايطالية او اقول زوجة زوجي الأولى"
تصلبت ملامح (مايا) بجمود وعينيها تنظران بعيدا بدون اي تعبير فقط بعض الغيوم بدأت بالتجمع بحدقتيها وهي توشك على بدأ عاصفة مطرية ستقلع كل ما يأتي امامها ، قالت بعدها بتصلب بدون اي مواربة
"كيف عرفتِ رقمي ، دعيني اخمن سرقته من هاتف زوجك المحترم صحيح"
ضحكت (جنان) بخفوت وهي تقول ببساطة بالغة
"اجل ولكنها لا تعتبر سرقة بكل معنى الكلمة فأنا زوجته ويحق لي ان افعل ما اشاء من سرقة الأرقام والتحكم بالأشخاص والذين ما يزالون يحتلون حيزا كبيرا بحياته"
كانت (مايا) تستمع لها بجمود وهي تشعر بأنفاسها تزداد شراسة وقوة بدون ان تعرف السبب لذلك ، لتقول بعدها وهي تبتسم ببرود جليدي
"حسنا ولكن بعلمكِ هذا كله لا يهمني ، لذا هلا تكلمتِ بالمهم الآن واخبرتني سبب اتصالكِ بي يا زوجة الدكتور قبل ان افصل الخط واريح نفسي من هذا الجدال"
ردت عليها (جنان) بسرعة وهي تقول بجمود
"انتظري قليلا حتى انهي كلامي وبعدها يمكنكِ الحكم إذا اعجبكِ الكلام ام لا ، لقد طلقني إياد رسميا"
ارتفع حاجبي (مايا) بصدمة وهي تحاول التركيز بما قالته تلك المختلة وعندما طال الصمت اكثر قالت بعدها بسخرية حانقة
"يا للأسف وماذا تريدين مني ان افعل ، إذا كنتِ تنتظرين مني مواساة على ما حدث لكِ فقد اخطئتِ بطلب الرقم"
قالت (جنان) وهي تبتسم بهدوء
"لا داعي لمواساتكِ فأنا الذي طلبتُ منه ان يطلقني وهو رضخ لطلبي فورا ، يعني الطلاق قد حدث بتوافق الطرفين"
زفرت (مايا) انفاسها بغضب وهي تضيق عينيها الضبابية ، لتهمس بعدها بوجوم نافذ الصبر
"ولما تخبريني بكل هذا الكلام ، من قال لكِ بأني اهتم لأخباركم وما يحدث من مهزلة وسخافات بحياتكم الزوجية"
قالت (جنان) بعدها بلحظات بخفوت مشتد
"لأنكِ تكونين زوجته ذلك المكان والذي لم يستطع اي احد الوصول له ، لذا يهمني ان تعرفي بأن الطريق لإياد اصبح خاليا الآن إذا كنتِ تفكرين بالعودة له ، فأنا قد خسرت هذه الحرب وسلمتُ لكِ راية الاستسلام وهذه اول مرة افعلها بحياتي ، لذا اهنئكِ على فوزكِ يا مايا بارون"
تجمدت (مايا) للحظات وهي تتنفس برتابة قبل ان تهمس بابتسامة ساخرة بمرارة
"يا للسخافة ، وماذا تتوقعين مني الآن ان اشكركِ على هذه التضحية واحتفل بفوزي عليكِ بحرب لم ادخل بها من الأساس ، اسمعي انا التي رفضتُ إياد منذ البداية وليست مايا من تقبل يد المساعدة من احد لم تطلبها منه ، لذا انسي كلامكِ هذا وانشغلي بطلاقك بعيدا عني وإياكِ وان تعودي للاتصال بي مرة أخرى ، فكما قلتُ من قبل وسأعود لأكرر انتِ وإياد خارج حياتي ولا تنخدعي بزواجنا فأنا اصلا لم اكن موافقة عليه منذ البداية"
ردت عليها (جنان) فجأة بقوة
"ولما إذاً لم تطالبي بالطلاق منه للآن ، لما ما تزالين زوجته"
عبست ملامح (مايا) بنشيج وهي تطرح السؤال والذي كان يدور بذهنها لسنوات ، والحقيقة بأنها حاولت طلب الطلاق منه بآخر مواجهة حدثت بينهما قبل ثلاث سنوات عندما انتهى كل شيء بتمزيقه للأوراق ومحاولته لاجتياحها ومن وقتها لم تعد تفكر بمفاتحة الطلاق معه مرة أخرى بالرغم من انها اصبح بمقدورها طلب الطلاق منه بالمحكمة والتي تعمل بها وبمساعدة (جوزيف) ايضا ، ولكنها مع ذلك لم تحاول وهي تشعر بالألم كلما فكرت بالأمر ولا تعلم إذا كان بسبب مشاعر جديدة بدأت تتجه نحوه ؟ ام إذا كان بسبب رغبتها ببقائه بحياتها والتي لم يعد هناك اي احد بها غير والدتها والتي ليست متأكدة ببقائها طويلا .
قطعت (جنان) الصمت وهي تقول بصوت شاحب ببرود
"أرأيتِ انتِ تكنين له المشاعر مثله تماما ، واسمعي هذا ايضا إياد لم يلمسني بحياته ولم اكن زوجته يوما فأنتِ للأسف كنتِ مزروعة بعقله وبجسده طول الوقت"
اتسعت عينيّ (مايا) الرمادية بشحوب قبل ان تمتقع ملامحها بحنق وهي تقول بعدم تصديق
"وما لذي يدفعني لأصدق كلامكِ الغير منطقي عن حياتكِ الزوجية"
ردت عليها (جنان) بلا مبالاة
"فكري كما تريدين فهذه هي الحقيقة وستتأكدين منها بنفسكِ عندما تعودين لإياد يوما ما ، وهذا الأمر يعتمد على ذكائكِ يا حلوة"
امتعضت ملامح (مايا) بعدم اقتناع وهي تهمس ببرود
"لما تفعلين كل هذا معي ، ظننتُ بأنكِ تكرهينني ولا تطيقينني بسبب سرقة إياد منكِ"
تشنجت ملامح (جنان) وهي تقول بتصلب باهت
"هذا الكلام كان بالماضي واما الآن فقد اقتنعتُ بمصيري المحتوم ، وانا الآن اقدم لكِ خدمة كبيرة لأول مرة لذا استغليها جيدا ، ولا تعتبريها من زوجة زوجك بل يمكنكِ اعتبارها من فاعلة خير"
قالت (مايا) بابتسامة باردة بدون اي تعبير
"إذاً ليس لدي شيء اقوله لكِ سوى بالتوفيق ووداعا"
اغلقت (مايا) الخط بهدوء وهي شاردة بالنافذة بجمود وعينيها تشحبان بلون فضي باهت لأول مرة يتحول لهذا الصفاء ، تراجعت بعدها بخطواتها لتعود لجلوسها على الكرسي وهي تدس الهاتف بجيبها على صوت والدتها والتي كانت تقول بحيرة
"مع من كنتِ تتكلمين"
ردت عليها (مايا) بلا مبالاة وهي تلتقط طبق التفاح من على المنضدة لتضعه بحجرها من جديد
"مع فاعلة خير"
نظرت لها (ايميلي) بعدم استيعاب وهي تضيق عينيها بشحوب قبل ان تشيح بوجهها بعيدا عنها بعدم اهتمام ، ولم تنظر لابتسامة (مايا) المهتزة وهي تزيل المنديل عن اصبعها بعد ان توقف الدم وتجمد بداخله ليعود كما كان وهي تحركه بسعادة فكل شيء سيعود لطبيعته مهما كان حجم الخدش كبيرا فهو بالنهاية سيلتئم ويعود لقوته وهذا هو مبدأ حياتها والذي تربت عليه منذ الصغر .

قلوب معلقة بالماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن