الفصل الثالث

3.4K 84 21
                                    

وصل (يزن) لباب البيت بعد عودته من المدرسة ليرفع رأسه الصغير لينظر عندها باستغراب لمكانها الفارغ والمعتاد رؤيتها فيه تنتظره هناك لتجري بعدها باتجاهه لتهاجمه وهي تعانقه بقوة وبكل سعادة ، ولكن يبدو أنها اليوم لم تأتي لانتظاره كما هي العادة فهل يعقل أنها نسيت موعود عودته من المدرسة ؟ أم أنها قد تكون انشغلت عنه باللعب ؟
حرك (يزن) رأسه بلا مبالاة وعدم اهتمام فعلى الأقل سيرتاح من ازعاجها المتواصل له ليصعد بعدها سلم الباب القصير بهدوء ، وما أن كان على وشك دخول المنزل حتى سمع صوت غناء خافت وأصوات أخرى كخربشة الطباشير ، ليلتفت بعدها بعيدا عن الباب وهو يرهف السمع ليكتشف عندها بأن مصدر الصوت خارج من زوايا حديقة المنزل الواسعة .
سار (يزن) بعيدا عن باب البيت بعد أن تفوق عليه فضوله ليعرف من هو الذي يصدر هذه الأصوات ، وما أن وصل لزاوية بعيدة من الحديقة حتى لمح طفلة جالسة على ركبتيها العاريتين وتمسك بيدها الصغيرة حجر ناتئ كبير لتخترش به على الأرض الصلبة والتي لم تنبت بها العشب ، بينما شعرها الكستنائي الطويل متهدل على جانبيها وهو يغطي ملامحها تماما لينزل على الأرض كالستار من انحنائتها ، ليصله بعدها صوت غنائها الخافت والطفولي وهي تحرك رأسها مع الأغنية
"كان هناك طفلة صغيرة تلعب بالبستان ، تقطف زهرا ووردا من البستان ، وتركض ، تركض ، تركض ، تركض بكل أنحاء البستان ، حتى تصل ، تصل ، تصل لبيت يملئه الألوان.."
كان (يزن) يستمع لكلمات الأغنية والتي كتبها بنفسه ومن أجلها عندما طلبت منه وتوسلت إليه أن يكتب لها اغنية جميلة تشبهها كثيرا لتخطر هذه الأغنية على ذهنه ما أن تذكر عشقها للخروج للبساتين وقطفها للزهور دائما ، ليحرك بعدها عينيه الخضراوين بعيدا عنها بإزعاج وهي ماتزال تكرر كلمات الأغنية والتي حفظتها أكثر منه حتى أنه طلب منها قبل فترة أن تتوقف عن غنائها فقد أصبحت تزعجه كثيرا وهي تغنيها فوق رأسه ليل نهار .
توقفت (زهرة) عن الغناء فجأة وهي تأن بألم لتنفض يدها الصغيرة بسبب الجرح والذي أصابها من نتوءات الحجر ، تقدم (يزن) باتجاهها ليقف أمامها وهو ينظر لرأسها المحني ، ليقول بعدها بقوة وببعض الحدة
"ماذا تفعلين بلعبك بالحجارة ، ألا تعلمين أنها مؤذية على صغيرة مثلك ، ألم تجدي مكاناً أفضل لتلعبي فيه"
انتفضت (زهرة) قليلا بمكانها قبل أن ترفع رأسها الصغير بوجل ، لينظر عندها (يزن) لعينيها العسلية والبراقة بلمعان بسبب أشعة الشمس القوية والتي جعلت شعرها الكستنائي يتموج بلون الذهبي ، لتعبس بعدها ملامح (زهرة) وهي تقول بشفتيها الصغيرتين العابستين باستياء
"لا تتدخل ، وابتعد عني"
وبعد هذه الكلمات عادت (زهرة) لتخفض رأسها لتمسك بالحجر بيدها الأخرى وهي تتابع خترشتها بقوة ، بينما كان (يزن) ينظر لها بذهول وهو يسمع كلمات يسمعها منها لأول مرة ، انحنى (يزن) قليلا على ركبتيه كما تفعل ليصل لطولها قبل أن يقول بجدية خافتة
"إذاً ماذا هناك ، ولما أنتِ غاضبة"
استمرت (زهرة) على تجاهلها له قائلة بامتعاض طفولي
"لا شيء ، ولا أريد اخبارك ابدا"
ردّ عليها (يزن) بتفكير وببرود
"حقا ، إذاً لما تغنين كلمات أغنيتي إذا كنتِ غاضبة مني هكذا"
توقفت (زهرة) عن ما تفعل وهي لا تعرف بماذا تجيب عليه وكأنه قد امسكها بالجرم المشهود ، لتنظر بعدها بعيدا عنه وهي تعض على شفتيها المرتجفتين دليل أنها على وشك البكاء ، قال (يزن) بعدها بلحظات بهدوء وبصبر
"هيا يا زهرة أخبريني بماذا اغضبتك ، ولما لم تأتي لاستقبالي عند باب المنزل كالعادة"
نظرت له (زهرة) بعينيها الدامعة لتقول بعدها بخنوع وهي تتلاعب بالحجر بيدها
"لأنك لا تريدني أن أكون موجودة بحياتك ، وتريد ايضا الذهاب بعيدا عني لأنك تكرهني وتكره عائلتي"
ارتفع حاجبي (يزن) بتذكر لما حدث بليلة أمس وقاله لها ، ليقول بعدها بتفكير وبملل
"ألهذا أنتِ غاضبة لأني صرخت عليكِ قليلا ، يا لك من طفلة حقا"
ردت عليه (زهرة) بسرعة وبتذمر
"لا بل لأنك تريد مغادرة هذا المنزل ولا تريدني أن أكون موجودة معك"
أخفضت (زهرة) رأسها بحزن كالزهرة الذابلة لتنزل دموعها على الأرض لتسقيها ، بينما قال (يزن) بعدها بلحظات بجدية
"ما هذا الكلام يا زهرة ، انا أكيد سأغادر من هنا فبالنهاية هذا ليس منزل عائلتي ، يعني إقامتي هنا مؤقتة حتى أكبر وأستطيع الاعتماد على نفسي"
همست (زهرة) ببحة بكاء وبدون أن تنظر إليه
"ولكن لما لا تبقى تعيش بهذا المنزل للأبد ، لا أحد سيعترض على تواجدك"
تنهد (يزن) بنفاذ صبر قبل أن يقول بحدة
"هل جننتِ يا زهرة ، انا اعيش بهذا المنزل رغما عن عم والدتي والذي يريد التخلص منّا انا ووالدتي بأسرع وقت ممكن ، وأيضا أنا لن أبقى طوال حياتي اعيش محبوسا بغرفة واحدة مع أمي"
ازداد نحيب (زهرة) وبكاءها حتى أصبح مرتفعا ومزعجا ، ليرفع (يزن) يده باستسلام ليربت على رأسها الناعم بهدوء وهو يقول بصبر ولطف حاول استجلابه
"اهدأي يا زهرة فهذا البكاء بلا فائدة ولن يغير من الحقيقة شيء ، وأيضا.."
قطع كلامه صوت (زهرة) المتقطع من البكاء
"إذاً خذني معك إلى المكان الذي ستذهب إليه"
ابعد (يزن) يده عن رأسها بصدمة قبل أن يقول باستنكار
"هذا مستحيل يا زهرة ، مستحيل فهذا منزلك انتِ ولا تستطيعين الخروج منه"
عادت (زهرة) لنحيبها وهي تشهق بقوة من البكاء وبدت حالتها أسوء من قبل ، لتمر لحظات عصيبة على (يزن) ومزعجة من صوت بكاءها المرتفع ليحك رأسه بتفكير قائلا بخفوت
"اسمعي زهرة صحيح أنني سأغادر بعيدا عنكِ ولكني سأعود لزيارتك ورؤيتك يعني لن انساكِ بل سأتذكرك دائما"
توقفت (زهرة) قليلا عن نحيبها ودموعها ما زالت تجري على خديها بهدوء مع شهقاتها الخافتة ، لتقول بعدها بخفوت مرتبك
"أهذا يعني أنك ستعود من أجلي وبعدها تؤخذني معك ولن تطردني من حياتك"
عقد (يزن) حاجبيه بتفكير فليس هذا ما قصده من كلامه ، ولكنه سيتحمل من أجل ألا يسمع المزيد من صوت بكاءها المزعج ، ليقول بعدها بخفوت وهو يحرك رأسه بالموافقة
"اجل"
لم يشعر (يزن) بعدها ألا بجسدها الصغير يندفع باتجاهه وبقوة تفوق سنها ليعود للخلف من وزنها ويسقط على الأرض الصلبة وهي تحتضنه بكل قوة وبسعادة ، كان (يزن) سيعترض بغضب من وزنها فوقه وهي تحاصره بذراعيها الصغيرتين ليصمت عندها وهو يربت على ظهرها بهدوء وحنية .
مرت لحظات صمت هادئة ببراءة الطفولة قبل أن تبتعد عنه (زهرة) قافزة بمرح لتقف أمامه ووجهها يشع كالشمس المشرقة الذهبية وشعرها يشكل هالة عسلية مبهجة للنظر ، لتقول عندها بلهفة طفولية وبعجلة
"هيا بنا لنذهب لعمتي حنان ، فلم أذهب لرؤيتها منذ الصباح وقد اشتقت أليها كثيرا"
وبعد أن أنهت كلامها السريع وكأنها بسباق غادرت من أمامه باتجاه المنزل وهي تدندن بأغنيتها المفضلة وبنفس الوقت تتمايل بمشيتها كالفراشة الصغيرة والتي لا تحمل أي هموم بحياتها الملونة ، بينما تركت من خلفها (يزن) يراقبها بحزن وهو يتسائل هل ستبقى بهذه البراءة والطفولية وقتا طويلا بين عائلتها الحقودة أم ستتغير لتصبح نسخة عنهم .
_________________________
من خلف الباب الموارب كانت هناك يدين صغيرتين تمسكين بإطار باب غرفتها وعينيها الدخانيتين تراقبين الزوجين والمتشاجرين على الدوام ولكن هذه المرة كانت والدتها أكثر غضبا وتمردا من أي مرة وهي تبدأ بالنقاش الحاد قائلة باشتعال لزوجها الواقف أمامها بجمود
"هذا يكفي فقد اكتفيت من كل هذا ، اسمعني جيدا اما أن تجد حلا لهذه الحياة والتي لم تعد تطاق معك او سأتركك بلا رجعة ولك الاختيار"
كتف (جون) ذراعيه فوق صدره وهو ينظر لها ببرود ليقول بعدها بابتسامة متجهمة
"وأنا أيضا قد اكتفيت منكِ ومن ابنتك والتي عليّ تحملها رغما عني ، لذا إذا كنتِ تريدين الرحيل من هنا بلا رجعة فلا مانع لدي فالمهم عندي أن اتخلص منكِ فلم تجلبي لي سوى المشاكل ووجع الرأس منذ معرفتي بكِ"
اتسعت عينيّ (إيميلي) الزرقاء بصدمة لتمتعض بعدها من فورها وهي تصرخ بحقد وشر
"لا تنسى بأنني انا من تدمرت حياتي منذ معرفتي بك بل منذ مشاركتك لخطتك الحقيرة والتي جعلتني اخسر كل ما أملك بلحظة ضعف وحب أحمق ظننتُ بأنك تمتلكه باتجاهي لأكتشف بأنني كنتُ واهمة وأنك لا تساوي شيئا مقابل ما خسرته"
ردّ عليها (جون) بعد لحظات بابتسامة ساخرة مشمئزة
"ستكونين حمقاء إذا كنتِ تظنين بأنك ستخدعينني بهذا الكلام وانت تضعين كل اللوم عليّ لتبرأي نفسك من الفعلة والتي كنت الأساس فيها ، ولن تستطيعي إنكار بأنكِ كنتِ أيضا تسعين لثروته والتي ستجعلكِ ملكة كما كنتِ تحلمين وعندما انهارت كل أحلامكِ وعدتي لحياتكِ الوضيعة مرة أخرى بدأتي تضعين كل اللوم على أي أحد ترينه أمامكِ ناسية أن كل هذا من صنع يديكِ أنتِ"
كانت (إيميلي) تتنفس بسرعة وهي تواجه كل هذه الحقائق المخزية عن حياتها ، لتقول بعدها بحدة خافتة ناظرة له بكل حقد العالم
"لقد تجاوزت كل الحدود معي يا جون يكفي أني تحملت الحياة المخزية معك وحالتك المتدنية وانت حتى الآن لم تستقر على عمل محدد وغير هذا الديون الكثيرة والتي لم تسددها حتى الآن ، يبدو أنه قد حان الوقت لتحاسب على أخطائكِ بالماضي يا سيد زوجي أم ماذا تقول"
عقدت الطفلة حاجبيها بعدم استيعاب لتدون هذه الجملة برأسها وهي تفكر بسرعة بماذا أخطأ زوج والدتها بالماضي وهذا ما عليها أن تعرفه ، نظرت بعدها بسرعة باتجاه (جون) لتتسع عينيها الرمادية بهلع وهو تنظر له وهو ممسك بشعر والدتها بقوة وهو يتمتم بشر مخيف
"حاولي فقط لأجعل عندها حياتكِ جحيما وأسوء من قبل ويمكنني أيضا أن اجعلكِ تلحقين بزوجك السابق فيبدو انكِ اشتقتِ إليه كثيرا ، ولن يكون صعبا عليّ فقد فعلتها من قبل وببساطة"
ارتجفت (إيميلي) بجمود هامسة بغضب مرتبك
"كيف تتجرأ على قول هذا ، أتريد حقا التخلص مني بهذه البساطة وماذا عن كل ذلك الحب أكان خدعة"
ضحك (جون) بفحيح وهو ما يزال متمسك بشعرها الأشقر ليقول بعدها بسخرية
"حقا يا إيميلي ألم تكتشفي بعد أن كل ذلك الحب والذي كنت أكنه لكِ بالماضي قد اختفى لقد كانت مجرد نزوة وتجاوزتها وحتى عند زواجك بذاك الرجل فقد كان هدفي كله من أجل ثروته لا أكثر ، والآن وبعد أن ضاع كل شيء وعدنا لنقطة الصفر فأنا لم أعد أهتم بأحد ولا بكِ ، وسأتحملكِ فقط لأني أشفق عليكِ ومن أجل ألا تكشفي امري بالمستقبل"
فغرت (إيميلي) شفتيها بصدمة وهي تنظر له وهو يبعد قبضته عن شعرها ، لتهمس عندها بقرف من بين أسنانها
"يا لكِ من نذل وحقير وشرير ومقزز.."
قطعت كلامها بسبب إمساك (جون) بفكها بقبضته حتى كاد أن يحطمه وهو يهمس بهدوء
"اهدئي وتوقفي عن النطق بأشياء ستندمين عليها فيما بعد ، فما لا تعرفينه بأني أملك أوراق رابحة ستحولك لمجرمة لم أظهرها بعد لذا احذري من استفزازي من الآن وصاعدا"
شهقت (إيميلي) بعدم تصديق قائلة بألم من قبضته الممسكة بفكها
"غير صحيح انت تكذب مستحيل أن تفعلها بي.."
قاطعها (جون) وهو يبتسم بثقة واستفزاز
"بل أستطيع فعلها فهناك أشياء كثيرة لا تعرفينها عني يا عزيزتي وتجهلينها"
ابتلعت (إيميلي) ريقها بارتباك مشحون من الأجواء والتي أصبحت خانقة بالنسبة لها ، لتهمس بعدها بضعف وتفكير
"إذا كنت حقا تستطيع التخلص مني ببساطة ولا تُكن لي أي مشاعر إذاً لما وافقت على طلبي بأن تسكن ابنة زوجي السابق معنا ، كان يمكنك أن ترفض بما أنك لا تطيق وجودها بمنزلك"
ترك (جون) فكها ليبدأ بالتربيت على خدها بهدوء هامسا ببرود
"سؤال جيد ، وسأخبرك بجوابه تحملي لابنتكِ ولمصاريف دراستها وعيشها معنا هدفه واحد وهو الثروة والتي سأحصل عليها بعد سنوات وبعد أن تصبح بين يديها"
ردت عليه (إيميلي) بصوت باهت هامس
"لا غير ممكن"
قال (جون) بتأكيد وهو يتراجع للخلف أمامها
"بل هذه الحقيقة فبعد كل شيء انا ما زلتُ اطمع بتلك الثروة والتي لم نستطع الحصول عليها بعد كل شيء فعلناه من أجلها ، وستكون المقابل لكل ما أقدمه لكما ولابنتكِ العزيزة وابنة ذلك الرجل"
انسحب بعدها (جون) وهو يضحك عاليا أمام العيون المتربصة له بين عيون مفكرة ذكية وهي تحاول تحليل كل كلمة قالها لعيون غاضبة ونارية وبنفس الوقت عاجزة ومكسورة ، نقلت (مايا) عيونها باتجاه والدتها الشاردة قبل أن تتراجع الطفلة وهي تغلق الباب من خلفها بهدوء .
استدارت (إيميلي) لتتجه لغرفتها ولكن ما أن مرت بغرفة ابنتها حتى رفعت يدها لا إراديا لتفتح بابها بهدوء ، ليطل عليها من خلفه السرير الصغير والمتهالك والذي يحمل من فوقه الطفلة والشاخصة بنظرها بعيدا عنها بالظلام ، تنهدت (إيميلي) بهدوء وهي تنظر للجسد الجامد والراقد فوق السرير بدون أن يصدر عنه أي حركة ، لتعود بعدها لأغلاق الباب بهدوء وببطء شديد وهي ما تزال تنظر لها وكأنها قد بدأت الآن تتعرف على ابنتها ، وما أن اغلقت الباب أخيرا من خلفها حتى التفتت تلك العيون الدخانية باتجاه باب غرفتها وشفتيها الصغيرتين تبتسمان بقوة فقد عرفت الآن كل الذي أرادت معرفته منذ وقت طويل .
________________________
كان ينظر بملل لرأسه المحني أمامه منذ وقت وهو يحاول عقد رباط حذائه والذي انحل بطريقهما للمدرسة ليضطرا عندها للوقوف بزاوية الطريق حتى يعيد عقده جيدا مرة أخرى ، التفت (مؤيد) للطرف الآخر من الطريق ما أن سمع اصوات ليلمح عندها مجموعة من الأولاد بزيهم المدرسي وأصغر منه سنا ولكن ليس هذا ما لفت انتباهه بل تجمعهم عند زاوية معينة يضحكون ويلوحون بشيء يقذفونه بين بعضهم ، ليعقد بعدها حاجبيه وهو يمعن النظر بهم جيدا ليلاحظ عندها بين أقدامهم طفلة صغيرة جالسة ارضا وهي تحتضن نفسها ومن صغر حجمها لم يستطع رؤيتها بالبداية .
سار (مؤيد) بعيدا عن شقيقه ليقطع الشارع والفاصل بينهما ليصل للطرف الآخر من الطريق ، وما أن وقف خلفهم حتى قال بابتسامة بليدة
"أليس من المفترض أن تكونوا الآن بالمدرسة أيها العفاريت الصغيرة أم ما رأيكم أن أخبر والديكم أين تقضون وقتكم"
استدار جميع الأولاد ناحيته بسرعة لتتحول نظراتهم من المرح للخوف وهم يرفعون رؤوسهم الصغيرة للأعلى بسبب قصر قامتهم أمامه ، ابتسم (مؤيد) باتساع قائلا بكل محبة
"حسنا سأسامحكم ولكن بشرط أن تختفوا عن نظري فورا والآن وإذا رأيت أحدا منكم ما يزال واقفا امامي فلا تلوموا سوى انفسكم وقد حذرتكم"
بعد أن أنهى (مؤيد) كلامه كان الأولاد قد فروا هاربين من أمامه وبعيدا عنه وكأنهم كان ينتظرون هذه الفرصة ليهربوا منه موقعين من خلفهم الشيء والذي كان يقذفونه بين بعضهم ليتبين بأنه دمية قماشية ، اقترب (مؤيد) من الدمية ليجثو على ركبتيه وهو يلتقطها ، ليعود بعدها للوقوف وهو يتجه للكتلة الصغيرة والمتكورة حول نفسها ولا يظهر منها شيء سوى شعرها الأسود الطويل والملتف من حولها ليشكل غيمة تحميها منهم .
وصل (مؤيد) ليقف أمامها قبل أن يعود ليجثو على ركبتيه قائلا بهدوء وهو يحاول أن يرى شيئا من بين كومة شعرها السوداء
"هل هذه الدمية لكِ"
مرت لحظات قبل أن ترفع الطفلة رأسها من بين قدميها ببطء وبوجل وهي تنظر ل(مؤيد) بخوف ، بينما كان (مؤيد) ينظر للمخلوقة الغريبة كما يسميها من وجهها الدائري الكبير والذي لا يناسب حجمها الصغير لعينيها البنية والمستديرة ألا من انحناءة صغيرة عند الجفنين أفسدت استدارته ليعود بالنهاية للتركيز على شعرها الطويل والذي يغطي كامل جسدها .
نظرت الطفلة للدمية والتي بين يديه قبل أن ترفع يديها الصغيرتين هامسة بخفوت لا يكاد يسمع
"أنها لي"
نظر (مؤيد) للدمية والتي ما تزال بين يديه قبل أن يمدها باتجاهها ، لتلتقطها الطفلة من بين يديه بسرعة لتدسها بحضنها بقوة .
"ما لذي تفعله بلعبك مع الأطفال ونحن متأخرين عن المدرسة بما فيه الكفاية"
انتفض (مؤيد) واقفا على قدميه قبل أن يستدير باتجاه (إياد) وهو ينظر لها بامتعاض ، ليقول بعدها بتذمر
"لقد كنتُ أساعد هذه الطفلة ولم أكن ألعب معها ، لما تظن بي السوء دائما"
عبست ملامح (إياد) لينظر للطفلة المحتضنة للدمية من وراء كتفه ، ليقول بعدها وهو يتنهد بيأس
"حسنا اعتذر لقد أخطأت لنذهب الآن للمدرسة"
ما أن خطى (مؤيد) خطوتين بعيدا عن الطفلة حتى شعر بيدين صغيرتين تمسكين بكفه ليتبعها صوتها هامسة بنشيج
"لا تتركني وألا عادوا"
التفت (مؤيد) باتجاه الطفلة باستغراب ليقول بعدها بارتباك
"لا استطيع يا صغيرة عليّ المغادرة وانتِ اذهبي لمنزلك"
تمسكت الطفلة أكثر بكفه قائلة بحزن والدموع تتجمع عند انحناءة عينيها
"لا أرجوك لا أريد العودة للمنزل وحدي وألا عادوا مرة أخرى وضايقوني"
حك (مؤيد) شعره الطويل الناعم بتفكير لينحني بعدها أمامها قائلا بهدوء
"حسنا سأذهب معكِ لمنزلك ، ولكن هل منزلك قريب من هنا"
حركت الطفلة رأسها بالإيجاب بسرعة وبابتسامة واسعة ، بينما كان (مؤيد) ما يزال يراقب شعرها الطويل والذي يحتضن جسدها ويكاد يصل للأرض من طوله دليل أن المقص لم يلمسه بحياته ، قال (إياد) من خلفه بحزم وهو يكتف ذراعيه فوق صدره
"حقا يا مؤيد يبدو أنك تنوي على طردنا من المدرسة على الأكيد"
كان (مؤيد) قد استقام بوقوفه وهو يمسك باليد الصغيرة للطفلة قائلا بابتسامة واثقة
"لا تقلق يا إياد كل شيء له حل عندي ، ولا تنسى ما كنت تقوله لي دائما إذا عملت عمل جيد فأكمله للنهاية ولا تتركه خلفك ، وأنا الآن اتبع نصيحتك"
تجهمت ملامح (إياد) بعدم اقتناع وهو يذكره بنصائحه والتي كان يقولها له دائما ولكن شقيقه لم يكن يتبعها ابدا والآن أصبح يتبعها بعد فوات الأوان ، قال (مؤيد) بلا مبالاة وهو يتجاوز شقيقه مع الطفلة
"هيا يا شقيقي تعال واترك كل شيء خلفك ولا تقلق لن نتأخر"
تنهد (إياد) بيأس وهو يحرك رأسه بعدم تصديق من تصرفات شقيقه اللامبالية قبل أن يلحق بهما بطريق منزلها .
وصلا بالنهاية لمنزل بسيط بل أقرب منه للمتهالك ومجموعة من الأطفال يحومون من حوله يبدو عليهم من ملابسهم حالتهم المادية المتدنية مثل ثوب الطفلة البسيط والتي ما يزال يمسك بيدها ، قال (مؤيد) بصدمة وهو يرفع أصبعه باتجاه المنزل
"هل هذا منزلكِ"
حركت الطفلة رأسها بالإيجاب وهي تنظر للمنزل بسعادة قبل أن تفلت يد (مؤيد) لتجري بعيدا عنه باتجاه منزلها ، لتتوقف عندها بمنتصف الطريق لتستدير بعدها باتجاههما قبل أن تعود إليهما وما أن وصلت أمام (مؤيد) حتى احتضنته من خصره بسعادة وهي ما تزال تمسك بالدمية بيدها المحتضنة ، أفاق (مؤيد) من الصدمة ليربت بيده على شعرها الطويل بلطف ، لتبتعد عنه بعدها لتجري بعيدا عنه لتعود للالتفات لهما قائلة بمرح طفولي وهي تلوح لهما بالدمية وشعرها الأسود الطويل يتطاير معها
"شكرا لكما ، شكرا لك مؤيد"
رفع (مؤيد) يده ليلوح لها بهدوء بينما (إياد) اكتفى بالابتسام لها فقط ، ليخرج عندها صوت طفولي من خلفها يقول بارتفاع وصخب
"فاتن تعالي إلى هنا"
غادرت (فاتن) من امامهما بسرعة ، بينما كان (مؤيد) ما يزال ينظر لأثرها بتفكير ، ليشعر بعدها بضربة قوية على رأسه وصاحبها يقول بتذمر
"هيا تحرك إلى المدرسة ، وإذا حاولت مساعدة أحد آخر مرة أخرى فسأقتلك ، الآن عرفت السبب والذي يجعلك دائما مصيدة لزوجة والدي وابنها"
كان (إياد) قد سبقه بالسير بطريق المدرسة ليلحقه بعدها (مؤيد) قائلا بابتسامة بلهاء
"ماذا افعل مع طيبتي والتي لا استطيع إيقافها ، أنها جزء من شخصيتي وليس من السهل اقتلاعها"
قال (إياد) بسخرية وهو يحرك رأسه بيأس
"إذاً تحمل عواقب هذه الطيبة ، مثل تلك المرة عندما أدخلت تلك القطة الضالة لمنزلنا ولغرفتك ليكشف امرك أمام زوجة والدنا وابنها والذين لم يتوانوا عن أخبار جميع من بالمنزل بفعلتك لتعاقب عندها بالحرمان من النوم بغرفتك مرة أخرى"
اتبع (إياد) كلامه بضحكة عالية بينما كان (مؤيد) قد أصبح يسير بجانبه وهو يبرم شفتيه بغضب قائلا بإحباط
"لا تذكرني ، عندما أتذكر ما حدث يقشعر بدني ، الآن عرفتُ فقط كم حياتي مليئة بالمآسي وأسوء حتى من حياة تلك القطة الضالة"
_________________________

قلوب معلقة بالماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن