الفصل العاشر

1.8K 53 11
                                    

كانت تسير بخطوات خافتة حافية القدمين بدون ان تصدر أي صوت على أرض المطبخ وعينيها على ظهره المتصلب والدخان المنبعث منه ، لتتوقف بعدها خلفه تماما وقبل أن تنطق بأي كلمة سبقها (يزن) قائلا بخفوت
"إلى متى ستبقين واقفة خلفي هكذا وانتِ تفكرين بطريقة للبدء بالكلام"
اتسعت عينيّ (زهرة) بالظلام وهي تهمس بتذمر
"كيف عرفت بمجيئي وأنا لم اصدر أي صوت عند قدومي ، وكأنه لديك عينان خلف ظهرك"
انفجر (يزن) بالضحك بارتفاع لأول مرة وأمام نظرات (زهرة) المذهولة فهذه أول مرة تراه يضحك فيها بكل هذا الانشراح ، ليخفض بعدها يده بالسيجارة وهو يقول بابتسامة هادئة ويشرد بالدخان بعيدا
"أتعلمين ما لشيء المميز فيكِ يا زهرة ، هو عدم التأثر بما حولكِ فبعد كل هذه السنوات لم تستطيعي تغيير نفسكِ ولم يستطع أحد تغييرك بل بقيت كما انتِ تلك الطفلة البريئة بحركاتها وتصرفاتها وهذا ما جعلني أحفظ كل شيء عنكِ للآن"
كانت (زهرة) تنظر له مذهولة لتحليله لأمور عنها لم تكن تعرفها ، ليتابع بعدها (يزن) كلامه وهو يعود لينفث من دخان سيجارته
"أتذكرين عندما كنتِ تأتين من خلفي لمحاولة أفزاعي وبكل مرة اكتشف وجودكِ من خلفي ، وللآن ما زلتِ تفعلين نفس الشيء"
ابتسمت (زهرة) باتساع وبحنين لتلك الأيام وقد فهمت الآن ما كان يقصده بكلامه عنها ، لترفع بعدها ذراعيها وهي تلفهما حول خصره بعناق هادئ ، لتهمس بعدها بخفوت وهي تريح رأسها على ظهره
"وانت أيضا لم تتغير كثيرا ما زلت نفس الطفل البارد والذي يكتشف كل شيء عني مهما اخفيت عنه"
قال (يزن) بعد لحظات بوجوم حزين وهو يتلمس كفيها بهدوء
"بل تغيرت وأكثر مما تتوقعين ، فذلك الطفل لم يعد له وجود ولم تعد حياته ذو معنى بعد أن فقد كل ما يملك وكل شيء جميل بحياته حاول كل جهده الحفاظ عليه ولكنه فشل"
شددت (زهرة) من احتضانه وهي تبتسم بحزن هامسة بنشيج خافت
"ولكنك ما زلت تملكني وتحاول كل جهدك الحفاظ عليّ"
عاد (يزن) لينفث من دخان سيجارته وهو يحرك رأسه بشرود عابس ، لتقول بعدها (زهرة) بارتباك متوتر
"هل أنت غاضب مني بسبب ما قلته بمنزل عائلتك"
اخفض (يزن) السيجارة عن شفتيه وهو يتمتم بجفاء
"لست غاضب من تدخلك وكلامك بل غضبت لأنك وضعتِ كل اللوم عليكِ بالذي حدث ، وانتِ لا تعرفين اصلا ماذا كان يمكن أن يفعلوا بكِ لو صدقوا كلامك الأحمق ذاك"
ردت عليه (زهرة) بحزن وهي تخفض ذراعيها عن خصره
"كنتُ أحاول المساعدة فلم أتحمل فكرة أن يضربوك أمامي بدون أن افعل شيئاً"
ألقى (يزن) فجأة بالسيجارة من نافذة المطبخ قبل أن يستدير باتجاهها قائلا بجمود
"اسمعي يا زهرة انا لن أتحمل فكرة أن يؤذيكِ احد بسببي يكفي ما شاهدته أمامي من إيذاء لوالدتي ، ولا أريد أن يتكرر هذا معكِ ، لذا حاولي البقاء بعيدا عن عائلتي وكل ما قد يسبب لكِ بالمشاكل ، وحتى لو كانوا يقتلونني أمامكِ لا تتدخلي ولا تحاولي أخذ الملامة عني"
تأوهت (زهرة) بخفوت وهي تضع يديها على أذنيها قائلة بارتجاف ومرارة
"توقف عن هذا الكلام يا يزن لأني لن أسمح لهم بأن يقتلوك حتى لو قتلوني قبلك ، لا أريد مشاهدة أحد آخر يموت امامي لن أتحمل ابدا ابدا"
تصلبت ملامح (يزن) وهو يلعن لسانه لأنه نطق بمثل هذا الكلام أمامها ، ليتقدم بعدها نحوها قبل أن يعانق جسدها المرتجف لصدره القوي وهو يهمس بخفوت
"اهدئي يا زهرة ، انا لم اقصد ما قلته ، لقد كان مجرد مثال"
اخفضت (زهرة) يديها عن أذنيها لتعانقه بالمقابل بقوة وهي تدفن وجهها بصدره براحة ، لتتمتم بعدها بخفوت وهي تشدد من عناقه اكثر
"عدني أنك لن تقول مثل هذا الكلام مرة أخرى وستبقى دوما موجود بعالمي"
زفر (يزن) أنفاسه بيأس منها ليقول بعدها بجدية حادة
"ما هذا الكلام السخيف يا زهرة ، انا لا أستطيع أن اعدك على مثل هذه الأمور فلا أحد يستطيع أن يمسك الموت.."
قاطعته (زهرة) وهي تشدد بقبضتيها على ظهره
"فقط عدني وارحني أرجوك لكي أستطيع الصمود أكثر بهذه الحياة"
تنهد (يزن) بهدوء وكبت ليهمس بعدها ببرود
"أعدك"
اخرجت (زهرة) نفسا مرتجفا مع تنهيدة طويلة ، ليبعدها بعدها (يزن) عنه وهو ينظر لها بتركيز قائلا بهدوء
"أما زلتِ بملابس الأمس للآن"
أخفضت (زهرة) رأسها بإحراج وهي تقول بخفوت
"لم أستطع إحضار ملابسي من المنزل ، لهذا لا أملك سوى هذه الملابس ، ولكني غدا سأذهب لأحضرها على الأكيد"
حرك (يزن) رأسه بوجوم وهو يفكر بعيدا عنها ، ليقول بعدها بحزم وهو يربت على خدها بهدوء
"حسنا اذهبي الآن للنوم فلديكِ جامعة غدا ، وبالغد سنكمل كلامنا"
وما أن تجاوزها حتى أمسكت (زهرة) بسرعة بذراعه توقفه وهي تقول بتوجس وقلق
"ما بك يا يزن ، هل أنت بخير"
التفت (يزن) نحوها بهدوء ليقول بعدها بابتسامة غامضة
"لا تقلقي يا زهرة فأنا لن ألمسك قبل أن أكمل باقي الأمور والمتبقية عليّ كزوج والتي تستحقها كل زوجة"
تمسكت (زهرة) بذراعه وهي تقول بصوت حزين
"ولكني لا أريد أي شيء منك فقط أريدك أنت"
ردّ عليها (يزن) بقوة وإصرار
"هذا الكلام الأخير عندي يا زهرة فلا تناقشي فيه ، فأنا لن اكون ظالما معكِ واحرمكِ من حقوقك كزوجة تستحق أن تحصل على كل شيء تتمناه"
افلتت (زهرة) ذراعه وهي تزم شفتيها بعبوس ، ليضع بعدها كفه على جانب وجهها وهو يتمتم بابتسامة هادئة
"كل شيء سيتحسن يا زهرة فقط احتاج لبعض الوقت لأكمل الأمور المتراكمة عليّ وبعدها سأتفرغ لكِ"
حركت (زهرة) رأسها بارتجاف وهي ما تزال عابسة ، ليقبل بعدها طرف شفتيها وأعلى خدها وهو يحوم بشفتيه على كل ملامحها وتفاصيل وجهها الدقيقة قبل أن يبتعد عنها وهو يتنفس بقوة ، ليغادر عندها من أمامها لخارج المطبخ بهدوء وأنفاسها تخرج من خلفه بارتجاف وبسعادة بالغة وهي تتمنى أن يبقى هذا الشعور ملازما لها دائما فقد أصبحت مهووسة به .
_______________________
فتحت باب الغرفة بقوة لتصدم بالظلام المنتشر بها بالنهار الباكر ، لتتجه من فورها للستائر وهي تفتحها بعنف ليدخل ضوء الشمس لكل إنحاء الغرفة ، نظرت للنائمة على السرير وشعرها الأسود متجمع على وجهها يخفي كل ملامحها ، رفعت يديها لتزيل الغطاء عن كامل جسدها وهي تقول بحدة بالغة
"هيا استيقظي يا كسولة ، هل ستقضين طول اليوم نائمة يكفي أنكِ فوتي حافلة المدرسة عليكِ ، وها هو السائق الخاص ينتظرك بالخارج هيا تحركي"
لم تتحرك (سحر) من مكانها بل بقيت على نفس استلقائها ، لتقول بعدها بجفاء من بين كومة شعرها السوداء
"لا أريد الذهاب إلى المدرسة اليوم"
عقدت (سمية) حاجبيها بعصبية وهي تلقي بالغطاء بعيدا لتقول بعدها بتفكير
"ولما لا تريدين هل انتِ مريضة"
ردت عليها (سحر) بخفوت بدون أن تتحرك من مكانها
"لا أريد الذهاب وفقط"
ارتفع حاجبي (سمية) بدهشة فهذه أول مرة تتخلى ابنتها عن الذهاب للمدرسة والتي كانت دائما ملتزمة بالذهاب إليها والاستيقاظ مبكرا من أجلها وقبل حتى أن تشرق الشمس ، حركت (سمية) كتفيها بلا مبالاة لتقول بعدها ببرود
"لا بأس لقد أخبرتك من قبل أن المدرسة غير مفيدة للفتيات فماذا سيفعلن بالشهادة مثلا بعد أن يتزوجن وينجبن الأطفال ، وانتِ اصلا لستِ بهذا الذكاء لتستطيع الوصول لمراتب لم يصلها أحد من قبلك ولولا مكانة عائلتكِ المعروفة لما استعطتِ حتى اجتياز الصفوف الأولى"
لم تعرف بأن كلماتها كانت تصيب (سحر) بالصميم وكأنها تلكمها بقوة وهي تذكرها بالحقيقة المرّة والتي تتعلق بعلاماتها المتدنية جدا بجميع الصفوف وكما قالت لولا مكانة عائلتها المعروفة لما رفعوها للصفوف الأعلى حتى وصلت للثانوية العامة بل كانت بقيت تعيد الصفوف الأولى واحدة تلو الأخرى ، ولكنها كانت دائما تأمل بأن يوما ما ستصل لمستويات أعلى بالدراسة وتحسن وضع علاماتها المتدنية وتجد حلمها الضائع فيه ، ولكن بكل مرة تحطم والدتها معنوياتها لتذكرها بحقيقة وضع دراسة الفتيات لتعود لنفس النقطة من جديد فوالدتها لم تهتم يوما بدراستها فكل ما كان يهمها هو دراسة الفتيان فقط .
سارت (سمية) باتجاه باب الغرفة وهي تتمتم بتذمر
"كان عليكِ قول هذا منذ البداية قبل أن نطلب من السائق إيصالك"
صرخت (سحر) فجأة من خلفها وهو ماتزال ممددة على السرير
"لقد غيرت رأيي سأذهب للمدرسة مع السائق"
وقفت (سمية) عند الباب لتنظر لها من خلف كتفها وهي تقول باستغراب
"الآن كنتِ تقولين بأنك لا تريدين الذهاب وبعدها بلحظات أصبحتِ تريدين الذهاب ، حقا غريبة الأطوار"
غادرت (سمية) لخارج الغرفة ببرود ، لتترك خلفها الكومة والتي ما تزال مستلقية على السرير بسكون ، انتفضت (سحر) فجأة بعد لحظات لتجلس على السرير بهدوء لتبعد عندها خصلات شعرها عن وجهها وهي تنظر بعيدا بوجوم فبعد ما حدث بالأمس ومعرفة زواج (يزن) وقد أصبح الإحباط يلازمها طول ليلة أمس وهي لا تصدق بأن الشخص الوحيد والذي وضعت به آمال كثيرة بهذا المنزل قد تخلى عنها أيضا ، تنهدت بعدها بغصة ماتزال عالقة بحلقها وهي تتمنى لو تحدث معجزة الآن تخفيها عن وجه الأرض للأبد ولن يلحظ أحد اختفاءها لأنه لا وجود لها اصلا بحياتهم ، حتى تلك الفتاة المدعوة (مايا) يهتمون بها أكثر منها مع أنه لم يكد يمر بضعة أيام على وجودها بينهم لتؤخذ هي كل اهتمامهم وحب اشقائها .
نهضت (سحر) عن السرير لتبدأ بتجهيز نفسها للمدرسة والشيء الوحيد والذي يسلي وحدتها ، وقفت بالنهاية أمام المرآة لتبتسم لها بسخرية وقد فهمت الآن السبب والذي جعل (يزن) يفضل تلك الفتاة عليها وهي تنظر لخصلات شعرها السوداء الخفيفة بالمقارنة مع شعر الفتاة الكستنائي المحمر وملامحها السمراء الهادئة بالمقارنة مع الملامح البيضاء الجذابة وايضا عينيها السوداء القاتمة بالمقارنة مع عينين عسليتين واسعتين كالبدر والنتيجة هي بأن المقارنة معها ستكون فاشلة بكل المقاييس ، زمت (سحر) شفتيها بحزن لترفع يديها لشعرها وهي تعقده على هيئة ذيل حصان ، لتنظر له وهو يتدلى خلف ظهرها بخفة وقصر وكانت قد فكرت من قبل أن تستخدم خصلات مستعارة معه ولكن النتيجة كانت مريعة وقد أصبح لكل خصلة لها لون من درجات الأسود .
التقطت حقيبتها المدرسية وهي تتجه لخارج غرفتها بسرعة ، وصلت للسيارة والسائق ينتظر فيها لتدخلها من فورها وهي تجلس بالمقاعد الخلفية قبل أن تضع حقيبتها بحجرها لتشرد بالنافذة بجانبها بهدوء ، تحركت السيارة خارج أسوار منزلها لتسير بعيدا باتجاه مدرستها وهي ما تزال شاردة بالطريق والذي حفظته أكثر من حياتها ، لتنظر لشريط حياتها وهو يمر أمامها بسرعة كلما شردت بأفكارها لوحدها وتحديدا منذ كانت طفلة تتمنى الكثير بحياتها ومنها الخروج واللعب كأشقائها الفتيان والخروج مع العائلة ومع والديها لأماكن ممتعة بالعطلات وبدل كل هذا قضيت كل طفولتها فتاة وحيدة بمنزل كبير لم تحصل منه على أي حنان وهي تنظر لوالديها وهما يميزان اشقائها الفتيان عنها وكأن الفتيات إنجابهن خطأ كبير ولا فائدة من وجودهن بالحياة وهذا ما كانت تثبته لها والدتها باستمرار بتصرفاتها معها لدرجة جعلتها تتمنى لو أنها كانت ولد ولم تكن فتاة لكانت على الأقل حظيت على القليل من الحنان والذي يغدقونه على اخوتها الأولاد .
اندفعت (سحر) للأمام بسرعة بسبب وقوف السيارة المفاجئ ، لتنظر بحيرة للطريق أمامها والذي ما يزال طويلا حتى تصل للمدرسة ، قالت بعدها بقلق للسائق أمامها
"ماذا هناك لما توقفت فجأة"
ردّ عليها السائق بتجهم وهو ينظر أمامه بتركيز
"إنه سائق متهور اصطدمت سيارته بنا ، ولكن لا تقلقي أنا سأتعامل معه"
خرج بعدها السائق من السيارة وأمام نظرات (سحر) المتوجسة ، لتنظر بعدها لحقيبتها وهي تشدد على حزامها بارتباك وتفكر بأنها هكذا ستفوت عليها الحصة الأولى لليوم وهي التي لم تفوت عليها أي حصة من قبل ، أخرجت (سحر) رأسها من النافذة وهي تنظر للسائق وقد كان يتكلم مع شخص غريب ولابد من أن يكون نفسه من اصطدم بهم ، لترفع بعدها رأسها أكثر وهي تحاول تبين شيء من ملامحه وما أن ابتعد السائق قليلا عنه حتى استطاعت عندها رؤيته بوضوح بداية من شعره الأسود الفاحم والمرفوع للأعلى لوجهه الأسمر النحيف وعينين سوداوين متسعتان تنظران للسائق بحدة لتصل بالنهاية لجسده الطويل جدا والنحيف وهو يذكرها بلاعبين كرة السلة ، وبالمقابل أدار الرجل رأسه بعيدا عن السائق لينظر لوجه الفتاة والخارج من نافذة السيارة ليمعن النظر أكثر بملامحها السمراء كالرمل الناعم ومعها عينين سوداوين قاتمتين كالحجر الأسود وشفتين واسعتين بانتفاخ متناقضتين مع ملامح وجهها الصغيرة ليصل لذيل حصانها القصير والمائل مع انحنائتها ، تراجعت (سحر) بسرعة لتدخل رأسها من النافذة بارتجاف وهي لا تصدق كيف كانت وقحة هكذا وأطالت النظر به بجرأة ولكنه هو أيضا فعل نفس الشيء بالمقابل .
قال (فراس) باستغراب وهو ينقل نظره للسائق أمامه
"هل كنت توصل عائلتك معك"
ردّ عليه السائق بحدة وهو يشير بيده بتحذير
"لا دخل لك ، ولكن بما أنك ذكرتني فعليّ الآن الذهاب لإيصال الفتاة فقد تأخرت كثيرا عن المدرسة بسببك ، ولكن ما يزال لدينا كلام كثير عن الأضرار والتي سببتها بالسيارة"
حرك (فراس) رأسه بملل ليقول بعدها وهو يستدير بعيدا عنه
"وكما أخبرتك انا مستعد لأي تكاليف سببتها بسيارتك وسأكون متواجد بأي وقت تريده واسمي هو فراس داوود ، والآن وداعا"
سار (فراس) باتجاه سيارته وامام نظرات السائق الحانقة من هذا المدلل الوقح ، ليعود بعدها كذلك لسيارته قبل ان يدخل امام نظرات (سحر) القلقة وهو يقول بهدوء
"اعتذر يا آنسة على التأخير ، سنذهب الآن للمدرسة"
تنهدت (سحر) براحة من أن المشكلة انتهت أخيرا ولم تؤخذ وقتا أطول ، لتحيد بعدها بنظراتها للسيارة المبتعدة والتي تجاوزتهم بسرعة ، بينما سار السائق بعيدا بعكس اتجاه السيارة الأخرى وبعيدا عنها ونظراتها ما تزال عالقة بصورة السيارة المبتعدة حتى اختفت عن نظرها تماما .
____________________________
كانت تسير باتجاه الجامعة بعد أن اوصلها (يزن) بسيارته وهي تبتسم بإشراق وراحة فمنذ أن استيقظت بالصباح الباكر وهي تشعر بطاقة تفاؤل تعتليها وخاصة أنها شاركت (يزن) على مائدة الإفطار لأول مرة وهي التي كانت دائما معتادة على تفويت مائدة الإفطار بمنزل عائلتها لتكون هذه أول تجربة لها مع (يزن) والذي أصر على حضورها رغما عنها ، لمحت (زهرة) من بعيد صديقاتها المجتمعات أمام بناء الكلية لتسير بسرعة باتجاههن ولكن وقبل أن تصل إليهن شعرت بشيء يكمم فمها وانفها بالقوة لتشعر بعدها بالخدر والإنهاك يسير بكل مفاصل جسدها ، لتبدأ عينيها بالانغلاق تدريجيا قبل أن يحل السواد على كل عالمها وهي تشعر بجسدها لم يعد قادرا على حمل نفسه لتتركه يهبط بسلام وهدوء .
مرت لحظات لتتحول لدقائق وبعدها لساعات وهي تشعر بها لا تنتهي لتفقد بعدها شعورها بالوقت والسواد قد لون عالمها تماما وهي تشعر به يبتلعها شيئاً فشيئاً ، لتلمح بعدها (يزن) من بعيد وهو يختفي مع الظلام لتحاول عندها الوصول إليه بكل جهدها بلا فائدة حتى رأته بالنهاية وهو يتلاشى تماما عن نظرها ، انتفضت (زهرة) بارتعاش وهي تشعر ببرودة المياه كالجليد تهبط على وجهها الجاف لتبدأ عندها خيوط من الوعي تعود إلى ذهنها المرهق وهي تسمع تمتمه فوق رأسها وكلام غير مفهوم يقول
"أنت لا تتدخل يا عدنان بما أنك لا تريد مساعدتي بهذه الخطة وانا اصلا لا أحتاج لعونك ، لذا رجاءً أخرج من هنا ودعني أكمل عملي فأنا هنا أحاول إنقاذ سمعة العائلة من الفساد والذي سيحل علينا من عائلة داوود والتي لم تجلب لنا سوى العار بحياتنا وفقدان والدنا بسببهم"
ردّ عليه المقابل له قائلا بحدة أخفت
"لا أصدق ما فعلته ، كيف وصل بك الحال لهذا المستوى المتدني لتختطف فتاة ليس لها ذنب بأفعال عائلتها ولا بأفعال يزن ، أتظن بأنك بهذا التصرف ستنقذ العائلة ، وماذا ستستفيد من كل هذا سوى جعل يزن يقطع علاقته بنا نهائيا أو قد يبلغ عنا للشرطة بأننا خطفنا زوجته وهذا ليس بعيدا عنه"
اتسعت عينيّ (زهرة) العسلية بذعر ما أن نطق باسم (يزن) وقد بدأت تعي الآن بالمكان المتواجد به ، بينما قال (سليمان) لشقيقه وهو ينظر له ببرود
"توقف عن هذا الكلام الفارغ والذي لن يوقفني عما أفكر في فعله الآن ، ولا تقلق على الفتاة فأنا لن احبسها عندي طول اليوم فقط سأتكلم معها قليلا وبعدها أطلق سراحها ، لذا إذا لم يكن لديك شيء تفعله هنا فارحل من هنا لأكمل ما بدأته"
نظر لها (عدنان) بنظرات غامضة قبل أن يغادر بعيدا عنها لخارج غرفة المكتب ، ونظرات (زهرة) ما تزال عالقة بمكان اختفاءه بوجوم ، لتنتفض بعدها ما أن سمعت الصوت الصارم يقول بحزم
"جيد أنكِ استيقظتِ أخيرا ، هيا أجلسي جيدا يا ابنة داوود لأتكلم معكِ"
اخفضت (زهرة) نظرها للأريكة الوثيرة والتي كانت ممددة عليها بغرفة المكتب قبل أن تنقل نظرها لكل أنحاء الغرفة الواسعة وهي تنظر للمكتب المذهب فيها وللأرائك وللجدران بلون البني الفاتح الفخم وكل شيء فيها معمول بإتقان يدوي وفخامة بالغة ، لتستقيم بعدها بجلوسها وهي تنزل ساقيها للأسفل قبل أن تستوي جالسة أمامه ، بينما جلس (سليمان) على الأريكة أمامها والطاولة هي الشيء الوحيد الفاصل بينهما ، ابتلعت (زهرة) ريقها بتوجس وهي تنظر ليديها بحجرها لتشعر بأنها أمام جدها وهذا المتوقع بسبب الشبه الكبير بين العائلتين من ناحية السلطة والنفوذ والقوة ، قال (سليمان) فجأة بهدوء وهو يكتف ذراعيه فوق صدره
"إذاً انتِ قد أصبحتِ زوجة يزن صحيح"
نظرت له (زهرة) بتشنج قبل أن تحرك رأسها بالإيجاب بارتباك ، ليكمل بعدها (سليمان) كلامه وهو يتقدم بجلوسه أكثر
"وكيف وافقت عائلتك على هذا الزواج أم أنها لم توافق اصلا بل أرغمت عليه"
اهتزت حدقتي (زهرة) بهلع وهي تشعر به يقرأ أفكارها فكيف عرف بأن عائلتها أرغمت على الموافقة مع أنها هي التي بدأت أولاً وزوجتها به ولكنها بالنهاية أرغمت بسبب العقد والذي ثبته (يزن) بالمحكمة بدون أن يعرف عنه أحد ، ولكنها حتى الآن لم تعرف ما لذي فعله (يزن) من أجل عائلتها وجعلهم يوافقوا على عقد زواجها معه لتكون هي مكافأته على عمله ، ضمت (زهرة) كفيها معا بارتجاف وهي تهمس بتلعثم
"لا بل هي من وافقت عليه بنفسها وجدي هو من عقد زواجنا معا برضاه"
صرخ (سليمان) فجأة وهو يقف عن الأريكة باندفاع
"كفى كذباً ، أتريدين مني أن أصدق مثل هذه الترهات والتي لا تستطيع خداع أحد"
ارتعشت (زهرة) بمكانها وهي تتمنى أن ينتهي هذا الاستجواب بسرعة والذي بدأ ينهك أعصابها ، ولكن ما تمنته لم يحدث ابدا وهو يكمل كلامه بحقد كان ينحر روحها نحراً
"لا شيء يأتي بدون مقابل وأنا متأكد بأن عائلتك لم توافق على هذا الزواج بدون مقابل ولا أعرف ما هو ، ولكن من النظر إلى أفعال عائلتك بالماضي اتجاهنا والعار والذي ألحقوه بنا فكل شيء إذاً متوقع منها"
رفع (سليمان) قبضته وهو ينظر لها قائلا بشر وكأنه يكلم نفسه
"لن أدعهم يدمروننا أكثر من هذا ويعيثون بعائلتنا فسادا ، يكفي أنهم اخذوا منا كبير عائلتنا بأفعالهم الدنيئة والتي لا تغتفر ابدا"
تجمدت ملامح (زهرة) وهي تحاول استيعاب كلامه فهل يعقل بأن موت كبير عائلة بارون من يد عائلتها ؟ ولكن كيف استطاعوا فعل هذا ؟ شهقت (زهرة) بذعر ما أن ضرب بقبضته على الجدار بجانبه بقوة ، ليعود بعدها بنظره لها وهو يتمتم بغموض
"إذاً لا تريدين قول الحقيقة"
اخفضت (زهرة) نظرها بارتجاف وهي تفرك يديها الحمراوين بقوة حتى اصبحتا تؤلمانها وصور الموت والدماء تعود لتداهم مخيلتها ، عاد (سليمان) للجلوس على الأريكة بهدوء ليقول بعدها بجمود وتركيز
"اسمعي سأستخدم معكِ الطريقة المختصرة فأنا لن اتسبب لكِ بالمشاكل ولا لعائلتك ولكن بشرط أن تتركي يزن نهائياً ، أعني بكلامي أن تنفصلي عنه وتخرجي من عائلتنا وحياتنا للأبد"
رفعت (زهرة) رأسها بسرعة قائلة باندفاع لا إراديا
"ارجوك اطلب مني اي شيء آخر ألا هذا الطلب"
تجهمت ملامح (سليمان) بعدم تعبير ليتمتم بعدها بجدية باردة
"حسنا إذاً اسمعي ما لذي سيحدث لو لم تنفصلي عنه يا ابنة داوود ، بالنسبة ليزن سيخسر كل حقوقه كابن لهذه العائلة وأعني بخسارته للثروة والأملاك والأراضي والتي من المفروض أن تصبح ملكه بالمستقبل ، وهذا بالإضافة لأسم العائلة والذي سيخسره كذلك فنحن من المستحيل أن نسمح بأن يقترن اسم أحفادنا باسم العائلة والتي دمرتنا على مرور سنوات ، وغير هذا الإشاعات والتي ستظهر بين الناس وبين اقران عائلتنا عن خائن العائلة يزن ، وأيضا.."
كانت (زهرة) تتنفس بسرعة ونشيج وهي تتلقى كل هذه الحقائق المصيرية والتي ستحدث مع (يزن) ما أن ينشهر زواجهما بين العالم ، لتشجع بعدها نفسها وهي تهمس بذبول باهت
"وماذا.."
ابتسم (سليمان) بكل حقد وشر يملكه لهذه العائلة ، ليقول بعدها بابتسامة باردة بدون أي حياة
"وأيضا قد يصل الأمر لمحاولة ردّ الضربة وهو بفعل المثل مع فرد من عائلتكم ، أقصد كما حدث مع حنان داوود"
فغرت (زهرة) شفتيها بانشداه وهي تتخيل أن يعاد ما حدث مع (حنان) مع شخص آخر بإحدى العائلتين ليذهب ضحية انتقام وردّ الضربة ، قبضت بيديها المرتجفتين على بنطالها الجينز وهي تغرز أظافرها بجلده السميك لتخفف من ارتجافها لتهمس بعدها بلا وعي وهي لم تعد تشعر بشيء سوى بصور الدماء تداهم ذهنها المشوش
"أخبرني هل لديك طريقة لأستطيع الانفصال عنه"
ردّ عليها (سليمان) بابتسامة خبيثة متسعة
"احسنتِ كان عليكِ قول هذا منذ البداية ، ولا تقلقي فأنا عندي لكِ طريقة سهلة وكل ما علينا فعله هو طلب الطلاق بالمحكمة وأنا سأعاونك بهذا وبما أننا من أكبر العائلات بالبلد فطلبنا لن يكون صعب التنفيذ عليهم وحتى لو كان يزن نفسه لا يريد الطلاق ، ولكن أهم شيء هنا ليحدث الطلاق هو ان تكون مصرة على هذا الانفصال حقا"
زمت (زهرة) شفتيها بقوة وهي تحاول منع أنهار من الدموع من الخروج بهذه اللحظة ، لتحرك بعدها رأسها بالإيجاب وبتجمد وهي تشعر بعنقها قد تصلب تماما عن الحركة بدون أن تشعر به وكأن الارتجاف بيديها قد وصل لعنقها من شدته ، لتقف بعدها بسرعة وهي تقول بكل ما تستطيع من هدوء أمامه
"أنا موافقة على كل ما تقوله ، لذا هل تسمح لي بالمغادرة الآن"
وقف (سليمان) وهو يقول بصوت صارم
"حسنا ولكن إذا تراجعتِ بكلامك فلن أضمن لكِ النتائج فقد استخدم عندها الطريقة الأصعب ، والآن يمكنك الذهاب يا ابنة داوود وأتمنى أن يكون اللقاء الأخير بيننا"
التقطت حقيبتها وهي تخرج من غرفة المكتب بسرعة وكأنها تهرب من الواقع القاسي والذي نسف كل أحلامها والتي كانت تحملها للعالم قبل أن يخطفوها ، خرجت من غرفة المكتب وهي تسير بارتجاف خائر القوى وتفكر ما بالهم عليها لما الجميع دائما يستخدمها بخططهم ويخيرونها بكل شيء وكأنه ليس هناك أحد بالعالم غيرها ليلعبوا بها هذه اللعبة وكأنها الوحيدة والتي تستطيع التحكم بعلاقتها مع (يزن) بغض النظر عن أن (يزن) هو الذي تزوجها بالبداية .
توقفت (زهرة) عن السير ما أن ظهرت أمامها ببهو المنزل الواسع فتاة سمراء ترتدي زي المدرسة وهذا دليل على أنها كانت عائدة من المدرسة للتو ، لتحاول بعدها تجاوزها بصمت بدون أن تعيرها اي اهتمام قبل أن تسمع صوت الفتاة قائلة بهدوء بالغ
"لما سرقته مني"
توقفت (زهرة) عن السير وهي تعقد حاجبيها بحيرة لتقول بعدها باستغراب
"ماذا"
استدارت (سحر) نحوها ببطء وما أن كانت على وشك الكلام حتى سبقها (عدنان) قائلا من خلفها بقوة
"اتبعيني يا زهرة لأوصلك معي"
رفعت (زهرة) نظراتها العسلية باتجاه (عدنان) باستغراب قبل أن تحرك رأسها بالإيجاب فهي حقا تحتاج لهذه التوصيلة وليس لديها اي طاقة الآن لانتظار المواصلات أكثر ، ليتقدم بعدها (عدنان) بعيدا عنهم باتجاه باب المنزل قبل أن تتبعه (زهرة) بسرعة وهي تتجاهل (سحر) الواقفة بمكانها والتي لم تعرف ماذا تريد منها ، بينما تجمدت (سحر) بمكانها وهي تنظر بغيرة بالغة لتلك الفتاة وببعض الحقد والذي بدأ يتسرب لحدقتيها السوداء باتجاهها ولم تشعر بالدمعة اليتيمة وهي تهبط على خدها بحزن .
__________________________
كان يقود السيارة بعيدا عن المنزل ليقول بعدها بتصلب جامد
"أين تريدين مني أن اوصلك"
انتفضت (زهرة) من سؤاله لتهمس بعدها بصوت خافت لا يكاد يسمع
"إلى منزل عائلتي ، هذا إذا كنت تذكر أين مكانه للآن"
عقد (عدنان) حاجبيه بتجهم وهو يشعر بلهجة اتهام بكلامها وهي تقول إذا كان يذكر مكانه للآن وتقصد بعد أن جاء إليه قبل سنوات ليأخذ من عندهم (يزن) ولم يعد بعدها إليه مجددا ، قال بعدها بلحظات بقوة وهو يركز على الطريق أمامه
"اكيد أتذكر"
حانت منها التفاتة ناحيته وهي تنظر لهدوئه الغريب والمتزن والمتناقض عن شقيقه الغاضب مع ملامحه المشدودة وكم يذكرها بهدوء (يزن) والذي يحمل من خلفه الكثير ، ولكن هذا لا ينكر بأنه يملك وسامة هادئة مع سنوات عمره الكبيرة والذي يدل بأنه كان شديد الوسامة بشبابه وهذا الذي جعل (حنان) تقع بحبه ببساطة متغاضية عما وراء هذا الحب ، زمت (زهرة) شفتيها بحنق من تفكيرها المنحدر عن الماضي فيبدو أن الإنهاك والجفاف العاطفي كان لهما الأثر على تفكيرها بهذه اللحظة .
اراحت (زهرة) جانب رأسها على النافذة بجانبها بشرود وهي تتنهد بتعب ، ليقطع بعدها الصمت صوت (عدنان) وهو يتمتم بوجوم
"إذاً هل استطاع سليمان إقناعك بالانفصال عن يزن بهذه السهولة"
غامت ملامحها بحزن قبل أن تهمس بصوت مشتد
"أنت لا تعرف شيئاً عما يحدث معي يا عمي ، لذا أرجوك لا تحاول الحكم على تصرفاتي بدون أن تعرف شيئاً عما أعانيه واخسره من أجل سعادته ومصلحته"
تصلبت ملامح (عدنان) وهو يشعر بإهانة غير مباشرة موجهة نحوه ، ولكنه لا يستطيع الاعتراض فهي على حق بكل كلمة قالتها فما يدريه ماذا قال لها (سليمان) بالداخل حتى اقنعها وأكيد سيكون اظهر كل اسلحته أمامها فبعد وفاة والده أصبح (سليمان) هو زعيم العائلة بكل شيء لذا دائما يرى نفسه مسؤول عن أي خطأ يحدث بالعائلة حتى لو كان صغيرا وكذلك الكره اتجاه عائلة (داوود) والذي أصبح يغذيه بداخله يوما بعد يوم حتى أصبح جزءا منه لا ينفصل عنه ابدا وهو يلومهم على موت والده وعن كل شيء حل بهم .
قال (عدنان) بعد لحظات طويلة من الصمت القاتم وهو يهمس ببرود
"ولكن يزن تخلى عنا وتخلى عن كل شيء من اجلك ، فكيف ستفعلين هذا به بالنهاية"
أغمضت (زهرة) عينيها العسلية الدامعة وهي تزفر انفاسا ملتهبة كالنار تحرق كل احشائها لتعود لنفسها لتحرق المتبقي منها ، لتعود لفتح عينيها من جديد وهي تتمتم بتجمد كعينيها والتي تجمدت الدموع بهما
"من أجل مصلحته أفعل كل شيء وحتى لو كلفني هذا أن اخذله واتركه نهائيا وحتى لو كان بالنسبة لي كل الحياة والتي اتمناها معه فقط بدون أي أحد آخر ، صدقني يا عمي حتى لو بقيت اقول لكم ما يمثله لي يزن بحياتي منذ سنوات فلن تستطيعوا فهم ما يعتمل بداخلي اتجاهه"
ارتجفت (زهرة) بنشيج وهي تطبق على جفنيها بقوة تمنع الدموع من التسرب منهما والغصة بداخلها تكاد تفتت حلقها من حبسها بداخلها كل هذه الفترة ، بينما شعر (عدنان) بالانكسار وهو يعقد حاجبيه بألم ويفكر بأنه لم يرى بحياته مثل هذا الحب والذي تكنه لابنه وحتى مع (حنان) لم يرى منها كل هذا الحب مع أنه كان دائما يحاول جعلها تهيم حبا به ولكنه لم يصل لهذه الدرجة من الصدق والتضحية من أجله ، ابتسم (عدنان) باستهانة وسخرية فهناك شتان كبير بين حبهما والمبني على المصلحة والانتقام وبين حب ابنه مع هذه الفتاة والمبني على الإخلاص والتضحية ، ولكنه مع ذلك لم يستطيع نسيان حبها والذي تخلل بعظامه ليحتل قلبه رغما عنه ولولا الانتقام لأبقى عليها طول العمر ولما كان تخلى عنها ببساطة .
ابتلع (عدنان) ريقه بتشنج ليقول بعدها بتردد السؤال والذي كان يدور برأسه ولم يكن لديه الجرأة لنطقه
"هل كانت بخير"
اتسعت عينيّ (زهرة) العسلية من سؤاله المباشر والمختصر بدون أن يكلف نفسه بشرح ولكنها استطاعت فهمه بسرعة ، لتهمس بعدها بشرود حزين وهي تبعد رأسها عن النافذة بجانبها
"بغض النظر عن شعورها وهي محبوسة بغرفة واحدة مع ابنها وعن حرمانها من الخروج لأي مكان ونفور عائلة عمها منها ولكن وجود ابنها بجانبها كان الوحيد والذي يجعلها بخير ، ألا ترى بأنك تأخرت كثيرا بهذا السؤال"
أغمض (عدنان) عينيه بألم وملامحه متصلبة تماما فقد استطاعت إصابته مباشرة والانتقام لوالدة (يزن) وهي تعيد بداخله شعور تأنيب الضمير والذي لم يتركه طيلة سنوات حياته ، بينما كانت (زهرة) تنظر له بنظرات باهتة لا توجد بها أي حياة فعندما يتعلق الأمر ب(يزن) وبوالدته فهي تتحول لشرسة مدافعة لم تكنها من قبل ، ليقول بعدها (عدنان) بابتسامة متشنجة متعبة
"لقد استطعتِ الانتقام مني بمهارة يا فتاة ، يبدو أنكِ تكنين لي الكثير من المشاعر القوية"
أدارت (زهرة) وجهها بعيدا عنه وهي تتنفس بارتجاف لتهمس بعدها بهدوء
"اعتذر يا عمي إذا كنت قد قلت كلام لا يجوز وتخطيت حدودي معك ، ولكني انفعلت أكثر من اللازم بدون ان انتبه"
ردّ عليها (عدنان) ببساطة وهو يحرك رأسه بالنفي
"لا بأس فأنا استحق كل ما يقال عني ، ولكن هل سيأتي اليوم والذي سيغفر لي"
ابتسمت (زهرة) بحزن حتى شملت ابتسامتها كل وجهها قبل أن تتمتم ببحة لطيفة
"سيأتي ذلك اليوم يا عمي فقط عليك بالجهد والصبر والعمل وبأذن الله سيأتي ، وعندها ستكون كل القلوب قد تصافت وتنظفت من كل الأحقاد بداخلها"
ابتسم (عدنان) بهدوء وهو يحرك رأسه باتزان ، ليقول بعدها بلحظات بحزم وهو يوقف السيارة امام المنزل
"لقد وصلنا لمنزلك ، أتمنى لكِ يوما سعيدا بالمتبقي منه"
حركت (زهرة) رأسها بهدوء وهي تبتسم بارتجاف ، وما أن خرجت من السيارة حتى قالت بابتسامة صغيرة وهي تمسك بإطار الباب
"أنا أسامحك يا عمي على كل شيء فعلته بعمتي حنان فأنا لم احمل بحياتي أي ضغينة لأحد ، وأتمنى أن تحصل على هذا السماح من يزن قريبا"
ابتسم (عدنان) باتساع وهو يتمتم بحنية
"شكرا لكِ يا ابنتي"
أغلقت (زهرة) باب السيارة لتغادر بسرعة باتجاه المنزل وامام نظرات (عدنان) وهو يتنهد براحة يشعر بها لأول مرة بحياته ، بينما وصلت (زهرة) لداخل المنزل لتستمر بسيرها حتى وصلت بالنهاية للغرفة الحبيبة على قلبها ، لتريح بعدها رأسها وكفها على سطحها وهي تقول بانهيار باكي وقد أطلقت سراح دموعها للانحدار على خديها المتوردين من حبس الدموع
"لقد عدتُ إليكِ يا عمتي واسوء من أي مرة ، فقد قررتُ قبل قليل أن اتخلى عن يزن وانفصل عنه نهائيا ، ولكن ماذا افعل يا عمتي ليس بيدي شيء افعله وكل الحواجز مبنية بيننا تبعدني عنه دائما ، لقد خطفوني وهددوني بأنه سيخسر كل شيء واسوء قد يذهب أحد ضحية علاقتنا كما فعلوا بكِ يا عمتي ، كيف تريدين مني أن اتحمل كل هذا بدون أن افعل شيئاً لن أستطيع الاستمرار فأنا لستُ بقاسية القلب لأفكر بسعادتي على حساب يزن وعلى حساب من سيتأذى بسببي"
هبطت (زهرة) ببطء وهي ما تزال متمسكة برأسها وكفيها على خشب باب الغرفة البارد حتى وصلت بالنهاية للأسفل لتجلس على الأرض بانهيار خافت ، ولم تنتبه للعيون الصغيرة والحزينة والتي كانت تنظر لها من بعيد بعد أن تبعها من الخلف بدون أن تشعر والوحيد والذي انتبه لعودتها للمنزل من بين جميع أفراد عائلتها .
_________________________
كانت تسكب الشاي بالكوب برفق قبل أن تضع الأبريق جانبا لتوزع بعدها نظراتها من على سطح الطاولة وهي تبحث عن الملعقة ، لتظهر امامها اليد والممسكة بالملعقة وصاحبها يقول بمرح
"أهذا ما تبحثين عنه يا حلوة"
التفتت (فاتن) بحنق باتجاه الشاب الصغير والذي يقارب بداية العشرين بعمر شقيقها تقريبا والذي يعمل معها بنفس المطبخ مع اثنتين ومنذ عملها هنا بالأمس وهو يتدخل بكل صغيرة وكبيرة تفعلها ، رفعت كفها لتلتقط الملعقة من يده قبل أن يبعدها عنها عاليا وهو يقول بضحكة عابثة
"ليس بهذه السرعة ، عليكِ اولاً اخباري باسمك لأعطيكِ إياها"
زفرت (فاتن) أنفاسها بنفاذ صبر لتقول بعدها وهي ترفع كفها
"لو سمحت اعطيني الملعقة لأكمل عملي"
ردّ عليها الشاب وهو يحك رأسه بالملعقة قائلا
"ولكن ليس هذا الجواب والذي أريده يا جميلة العينين"
ابعدت (فاتن) عينيها البنية بعيدا عنه ببرود لتتمتم بعدها بحزم
"إذا بقيت تتصرف معي هكذا فسأخبر السيدة عائشة"
عبست ملامح الشاب وهو يلوح بالملعقة ليهمس بعدها بوجوم
"مجددا السيدة عائشة ، ماذا تظنين تلك العجوز قادرة على فعله ، كان من الأفضل لها أن تتقاعد عن العمل"
ردت عليه (فاتن) بحنق وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بهدوء
"إذا سمعتك السيدة عائشة فأنت من ستتقاعد عن العمل"
بدأ الشاب بالضحك بارتفاع ليتمتم بعدها بابتسامة جانبية وهو يقرص خدها المدور
"مزحة لطيفة منكِ يا جميلة العينين"
قصف صوت ممتعض من خلفهما يقول بتصلب
"هذا المكان للعمل وليس للتسلية واللعب ولكن على ما يبدو بأنكما تستمتعان كثيرا بوقتكما ، ولكن ما سيكون رأي السيدة عائشة لو رأتكما"
ابعدت (فاتن) بسرعة كفه عن خدها وهي تحكه بانزعاج ، بينما التفت الشاب باتجاه الفتاة وهو يقول ببرود مستفز
"توقفي عن هذه الحركات يا مي فأنتِ آخر من يتكلم عن الالتزام بالعمل يا سيدة متطفلة بكل شيء"
زمت (مي) شفتيها بغيض وهي تدير وجهها بعيدا عنهم ، بينما استغلت (فاتن) فرصة انشغاله لتسرق منه الملعقة على حين غرة منه قبل أن تضعها بكوب الشاي لتسير بعدها بعيدا عنهم باتجاه باب المطبخ ، وما أن كان الشاب على وشك اللحاق بها حتى وقفت أمامه (مي) بقوة وهي تسد عليه الطريق ، ليقول بعدها الشاب بتذمر وهو ينظر لها بحنق
"ابتعدي عن طريقي يا مي وألا هربت مني جميلة العينين وأنا حتى لا اعرف اسمها"
دفعته (مي) من صدره بقبضتيها وهي تقول بعنف وقسوة
"توقف عن اللحاق بتلك الطفلة يا سعيد فمنذ مجيئها وقد نسيت خطيبتك تماما ، ألم تخبرني من قبل بأنني أجمل فتاة رأيتها بحياتك ، وماذا حدث الآن"
ابتعد (سعيد) عنها وهو يبتلع ريقه بتوتر ليقول بعدها بابتسامة متسعة خبيثة
"اجل اكيد ومن يستطيع نسيان أجمل فتاة رأيتها بحياتي ، انتِ لا أحد يستطيع أن يتحداكِ يا جميلة الجميلات"
ابتسمت (مي) بإغراء لهذا الإطراء وهي تلف خصلات شعرها المموجة حول أصبعها بدلال ، لتقول بعدها بضحكة صاخبة مغوية
"أعرف هذا ولكن سماعه منك تحديدا يا حبيبي يجعلني اكثر من سعيدة ويجعلني أكثر جمالا بعينيك"
ابتسم (سعيد) بغموض وهو ينظر بعيدا عنها باتجاه باب المطبخ ليتمتم بعدها بشرود
"ولكن تلك الفتاة الطفلة تبدو مميزة لطيفة وجميلة وخاصة بعينيها الكبيرتين ، فقط لو اعرف اسمها"
أخفض (سعيد) عينيه نحوها لينظر لتجهمها الواضح وعينيها تكاد تخرج نارا ملتهبة ، ليرفع يديه بسرعة وهو يحاوط وجهها قائلا بابتسامة جذابة
"ولكنكِ يا حبيبتي تبقين أجمل منها بعشرات المرات ، وستبقين دائما بالقمة بالنسبة لي"
رفعت (مي) يديها لتمسك بكفيه بسعادة قبل أن يسمعوا صوت (عائشة) من بعيد وهي تصرخ
"تعالي يا مي فأنا أحتاج للمساعدة هنا"
اخفض (سعيد) يديه عن وجهها بهدوء لتغادر (مي) بعيدا عنه بوجوم وهي تتمتم بكلام غير مفهوم يبدو كشتائم ، بينما كان (سعيد) ينظر لها بابتسامة قبل أن يرفع كفه ليقبل أطراف أصابعه والتي أمسكت بخدها المدور فهو لن يتركها بهذه البساطة قبل أن يعرف عنها كل شيء وليس اسمها فقط .
_________________________
كانت حدقتيها العسليتين جامدتين بالنافذة أمامها وقد جفت الدموع عنهما تماما ليتبقى فقط بعض الاحمرار والمنتشر أسفل عينيها وأعلى خديها ، بينما يديها المحمرتان مضمومتان معا فوق صدرها والذي كان يتحرك بنشيج متعب وكأنه بسباق ، لتلمح بعدها سيارة (يزن) من بعيد وهي تدخل أسوار منزلها قبل أن يخرج من السيارة باندفاع تعرف عواقبه جيدا ، أخفضت كفيها المضمومتان بذعر وهي تفكر كيف عرف بأنها عادت للمنزل وهو كان بالعمل ؟ ولكن ليس هناك وقت للتفكير الآن فهو سيكون قادم من أجلها على الأكيد ولا تعرف ماذا سيفعل بعدها ؟
وبدون تفكير اتجهت (زهرة) بسرعة نحو باب الغرفة لتغلقه بالمفتاح بارتجاف وهي تتمنى أن يسامحها وان يقدر ظرفها وما تمر به ، بينما كان (يزن) قد دخل للمنزل بالقوة وهو يتجاهل حراس الأمن ، ليتجه من فوره للسلالم وهو يصعدها بجمود وأمام نظرات أفراد العائلة المذهولة بالبهو الواسع .
كانت (زهرة) تضع أذنها على باب الغرفة وهي تحاول استراق السمع لتصدم بصوت الخطوات القوية والمتجهة نحوها ، لتبتسم بعدها بمرارة بالغة وهي تستدير لتريح ظهرها على باب الغرفة فيبدو أنه بعد كل هذه السنوات ما يزال يذكر مكان غرفتها والذي لم تغيره منذ كانت طفلة ، شعرت به من خلفها وهو يطرق على باب الغرفة بقوة ويحاول تحريك مقبضه بلا فائدة ، ليعود ليطرق على الباب بقوة أكبر وهي ما تزال ساكنة بمكانها مستندة بالباب من خلفها ، لتسمع بعدها صوته المتصلب وهو يقول بحدة
"افتحي الباب يا زهرة وكفى جنون الأطفال هذا"
تنهدت (زهرة) بدون صوت وهي متمسكة بصمتها وتمسك بكفيها بقوة تمنعهما من التهور وفتح قفل الباب ، لتسمع بعدها صوت أنفاس (يزن) الحادة وهو يحاول أن يتمالك نفسه قبل أن يفقد أعصابه ويحطم الباب فوق رأسها ، ليكمل بعدها كلامه بحدة حاول جعلها أخفت
"إذاً ألن تخبريني ما لذي غير حالك هكذا وجعلكِ تعودين لمنزل عائلتك بعد أن وافقتي على أن تكوني زوجتي ، وماذا عن الوعود والذي قطعناه لبعضنا ، ألا تعني لكِ شيئاً"
وضعت (زهرة) كفيها على شفتيها وهي تكتم شهقة بكاء كانت على وشك الخروج وتسند رأسها للباب من خلفها برفق لتستمع بعدها لباقي تعذيبه لها وهو يقول بتفكير
"اجل فهمت الآن ، يبدو أن الحياة معي لم تعد تعجبكِ ، لذا قررتِ العودة لحياتكِ السابقة والأكثر رفاهية ، وهذا كله بسبب كلام الأمس صحيح ، كان عليكِ قول هذا الكلام سابقاً يا زهرة"
انسابت دمعتين من عينيها العسلية وهي تحرك رأسها بالنفي لا إراديا وباهتزاز وكأنه يراها أمامه ، بينما كان (يزن) يتنفس بتصلب وهو يرفع كفه لشعره الأسود يكاد يقتلعه من مكانه وعينيه الخضراء تنظران بقتامة لباب غرفتها فمنذ معرفته بعدم وجودها لا بجامعتها ولا بشقته اكتشف فورا بأنها عادت لمنزل عائلتها ولا يعرف حتى الآن السبب لذلك ، ولولا تأكده بأن جدها ووالدها غير متواجدين بالمنزل بهذا الوقت لظن بأنهم عادوا لإرغامها لتتركه مجددا .
اتسعت عيني (يزن) الخضراء ما أن سمع صوت نشيج وأنين بكائها الخافت يصله من خلف الباب ، ليسرع بعدها لطرق الباب من جديد بقوة هادرة وهو يقول بتوتر حانق
"ما بكِ يا زهرة تكلمي ، وأخبريني ما لذي حدث معكِ لتتركي كل شيء خلف ظهرك وتعودي لمنزل عائلتك مجددا ، هيا افتحي الباب قبل أن ادمره فوق رأسكِ هذا"
ارتجف كل طرف بجسد (زهرة) وهي تحاول الصمود امام قصفه وتتمنى أن يأتي أحد وينقذها من هذا الحال قبل أن تضعف أكثر ، لتتحقق امنيتها سريعاً وهي تسمع صوت رجل الأمن من بعيد يقول بحزم
"سيد عليك الرحيل من هنا فسكان هذا المنزل متضايقين من وجودك بينهم"
التفت (يزن) باتجاهه بغموض ليعيد بعدها نظراته لباب غرفتها قبل أن يتمتم بجدية هادئة
"اسمعي يا زهرة انا لدي غدا رحلة تدريب عمل ولا أعرف لمتى ستطول ، ولكن بهذه الفترة اتمنى ان تعودي لعقلك وتفكري بالذي فعلته ، وعندما أعود اتمنى ان تكوني مستعدة للكلام والنقاش معا فهناك الكثير علينا التكلم عنه"
بقي (يزن) واقفا للحظات أمام باب الغرفة ليرفع كفه وهو يتلمس سطحها بهدوء ، ليغادر بعدها بعيدا عن الغرفة قبل أن يتوقف وهو يحيد بنظراته للمسار والذي يؤدي لباقي الغرف وبنهايته تقبع غرفة والدته والتي ما يزال يتذكر كل شيء فيها كظهر كفه ، نفض (يزن) كل هذا عن رأسه وهو يتابع السير دافعا رجل الأمن بعنف عن طريقه ليكمل سيره للسلالم ، بينما كانت (زهرة) تنشج بهدوء وهي تتبع أصوات خطواته بتركيز وتعرف جيدا بأنه تذكر غرفة والدته والموجودة بآخر هذا الممر ، لتستدير بعدها بسرعة وهي تواجه باب الغرفة وما أن رفعت كفها بارتجاف باتجاه مقبض الباب حتى بدأت تداهمها الذكريات وكلام (سليمان) يقصف ذاكرتها قصفاً
(حسنا إذاً اسمعي ما لذي سيحدث لو لم تنفصلي عنه يا ابنة داوود ، بالنسبة ليزن سيخسر كل حقوقه كابن لهذه العائلة وأعني بخسارته للثروة والأملاك والأراضي والتي من المفروض أن تصبح ملكه بالمستقبل ، وهذا بالإضافة لأسم العائلة والذي سيخسره كذلك فنحن من المستحيل أن نسمح بأن يقترن اسم أحفادنا باسم العائلة والتي دمرتنا على مرور سنوات ، وغير هذا الإشاعات والتي ستظهر بين الناس وبين اقران عائلتنا عن خائن العائلة يزن)
ارجعت كفها بسرعة لصدرها وهي تشدها بأنين منهك من كل ما يحدث من حولها ، لتسقط بعدها جالسة عند باب الغرفة وهي ترتجف بقوة لترفع كفيها المرتجفين بألم قبل أن تبدأ بحفهما بخشب باب الغرفة وهي تشعر براحة مؤقتة تتمنى لو تطول أكثر .
بينما وصل (يزن) لبهو المنزل الواسع وهو ينظر ببرود لأفراد العائلة والمجتمعين ليكمل بعدها سيره باتجاه باب المنزل ، ولم ينتبه للصغير (جاد) والذي كان يحارب مع يد المربية والتي تمسك بذراعه توقفه عن اندفاعه حتى استطاع الإفلات منها بعد أن قرص ذراعها بقوة وهو يجري باتجاه (يزن) بسرعة ليمسك بعدها بيده قبل أن يخرج من المنزل وهو يقول بقوة
"انتظر ، لا تذهب"
توقف (يزن) بمكانه ليلتفت بحيرة باتجاه الصغير والذي قال بسرعة وبانطلاق طفولي
"هل أنت زوج زهوره"
حرك (يزن) رأسه بارتياب وهو ينظر للصغير بتفكير ليلاحظ عندها الشبه الكبير بينه وبين (زهرة) ليس الآن بل عندما كانت (زهرة) ما تزال طفلة بالخامسة من عمرها فهذا الصغير يملك نفس ملامحها الجذابة وبياضها الآسر فقط الفرق هو سواد عينيه وشعره .
قال (جاد) فجأة وهو يحرك كفه بيديه بقوة
"اسمع عليك مساعدة زهوره فقد خطفوها الأشرار وهددوها وانت هو بطلها الخارق ، لذا عليك مساعدتها والانتقام لها"
عقد (يزن) حاجبيه بحدة وهو يحاول فهم كلمات هذا الصغير فيبدو أنه ينسج كلمات من خياله الواسع أو من كرتون شاهده ، بينما وصلت المربية أمامه ممتعضة الملامح لتمسك من فورها بيد الصغير بعنف وهي تسحبه بعيدا عنه ، ليفلت (جاد) كفه وهو يقاوم المربية وهي تسير بعيدا به ليقول بعدها بصوت مرتفع طفولي
"لقد سمعتها كانت تبكي وتقول بأنهم خطفوها وارغموها على فعله ، لذا انتقم لها وأقتل الأشرار"
كان (يزن) ينظر بجمود لمكان اختفاء المربية ومعها الصغير ، ليتذكر صوت نشيجها الخافت والذي سمعه من خلف الباب ولكن من سيتجرأ على فعلها وخطفها وتهديدها ، اتسعت عينيّ (يزن) بوحشية وقد طرأت على ذهنه فكرة كان قد غفل عنها فهذا ليس بعيدا عنهم فعله ابدا .
________________________
كانت تجهز حقيبتها الصغيرة وهي تضع بها ما تحتاج قبل أن تعلقها فوق كتفها ، لتسير باتجاه باب الغرفة وهي تخرج منه بهدوء لتنظر للممر الفارغ قبل أن تتجاوزه بسرعة ، وما أن نزلت السلالم بحذر حتى اصطدمت بآخر شخص كانت تريد رؤيته بهذه اللحظة ، بينما تراجع (إياد) للخلف درجتين وهو ينظر أمامه بصدمة للفتاة والتي تبهره بكل مرة بطله تختلف عن الأخرى وهو ينتقل من شعرها الذهبي والمعقود على هيئة ذيل حصان لملابسها الأنيقة والتي هي عبارة عن بنطال جينز أسود ضيق وقميص ابيض يعلوه سترة جينز سوداء لتبدو مثل فتيات الجواسيس ، ابعدت (مايا) عينيها الدخانية بعيدا عنه وهي تتجاوزه لتكمل نزول الدرجات المتبقية ، ليفيق بعدها (إياد) من ذهوله وهو يستدير ليتبعها من فوره بجمود ، وما أن وصلت لبهو المنزل حتى شعرت بيد تمسك بذراعها لتديرها ناحيته ليلتف معها ذيل حصانها والذي استراح على كتفها بسكون ، كان (إياد) ينظر لذيل حصانها ليقول بعدها بجدية وهو ينظر لعينيها بتركيز
"إلى أين تظنين نفسك ذاهبة أم هل هي حفلة جديدة بمنتصف النهار"
نفضت (مايا) كفه عن ذراعها بعنف لتهمس بعدها بلا مبالاة
"هذا ليس من شأنك ، ولا علاقة لك إلى أين أذهب وماذا أفعل ، أهتم بشؤونك فقط"
لتعود للاستدارة بعيدا عنه وهي تكمل سيرها وترجع ذيل حصانها للخلف قبل أن يعود لمقاطعة طريقها وهو يقف أمامها مباشرة ، ليقول بعدها بتحذير وهو يرفع كفه بنفاذ صبر
"توقفي عن هذه الحركات وكأنه ليس هناك أحد مسؤول عنكِ ، فإذا نسيتِ انتِ لم تعودي تعيشين لوحدكِ بإيطاليا بل أصبح لديكِ الآن عائلة وهي المسؤولة عن تصرفاتك"
ابتسمت (مايا) ببرود وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها هامسة بعدم اهتمام
"لا فرق"
لتسير بعيدا عنه وأمام نظراته المذهولة من شدة برودها ووقاحتها ، ليتبعها بعدها وهو يعود ليقف أمامها وهذه المرة امسك بذراعيها بقسوة قائلا بجمود
"توقفي عن استفزازي بهذه التصرفات ، وعودي فورا لغرفتك لأني لن أسمح لكِ بأن تخرجي من المنزل هكذا ، أتظنين لا أحد مسؤول عنكِ هنا تمرحين وتلعبين كما تريدين"
كانت (مايا) تنظر لحدته بغموض وهي تراقب عينيه الغاضبة والتي تميل للون البني المحروق بغضبها وأنفاسه الحادة تضرب ملامحها الشفافة بقوة ، لتتمتم بعدها بهدوء وبابتسامة مستفزة
"ألا تلاحظ بأنك الوحيد والذي تؤدي دور المسؤول عني بينما باقي أفراد عائلتك فلا يهتمون اصلا بوجودي ، لذا لما لا تكن مثل الباقين وتترك هذا الدور عنك"
تصلبت ملامح (إياد) بعدم تصديق من برودها وهو ممسك بها بين ذراعيه وكأنها تستمتع باستفزازه وإخراج كل ما هو أسوء فيه ، ليهمس بعدها بابتسامة واثقة وهو ينظر لها بقوة
"إذاً اعتبري من الآن انني أصبحتُ مسؤولاً عنكِ ولا يمكنكِ فعل ما تشائين بدون أذني ، أعجبكِ هذا الدور أم لا فلا يهمني"
تجمدت ملامح (مايا) قبل أن تدفعه بعيدا عنها بقسوة وهي تنفض يديه عن ذراعيها ، لتقول بعدها بتصلب وهي تقرب وجهها أمامه
"هذا سيحدث بأحلامك فقط يا إياد بارون"
سكن (إياد) بمكانه وهو ينظر لوجهها القريب منه ولعينيها الدخانية والتي ازدادت قتامة لينزل لشفتيها الحمراوين والمطبقتين بتصلب وكل ملامحها تنضح بقسوة يراها لأول مرة ، قطع عليه تأمله صوت رنين هاتفه بجيب سترته ، ليتراجع قليلا عنها وهو يخرج الهاتف من جيب سترته قبل أن يجيب قائلا
"نعم ماذا هناك يا جنان"
كانت (مايا) على وشك الرحيل لتتوقف ما أن سمعت اسم الفتاة لتبتسم عندها بسخرية ما أن تذكرت تلك الفتاة الوقحة والتي تفهم جيدا مثيلاتها واللواتي يحاولن بكل جهدهن نصب الفخاخ للإيقاع بالشخص المثالي والذي يشكل بالنسبة لهن الهوس فقط لأنه الأفضل ، نفضت كل هذه الأفكار عن رأسها وهي تصب ذهنها على شيء واحد عليه تحقيقه قبل أن تسير باتجاه المنزل بسرعة ، بينما تركت خلفها (إياد) وهو يقول بحدة بالغة للطرف الآخر
"حسنا يا جنان سآتي بعد ربع ساعة ، قلت لكِ بعد ربع ساعة تصرفي بهذا الوقت إلى أن آتي"
فصل الخط بوجهها وهو يتنهد بكبت فلم يمضي سوى عشر دقائق على تركه للمشفى وبدأت الزيارات بالتراكم الآن وكأنه ليس هناك احد غيره بالمشفى بأكمله ليساعدهم بمشاكلهم ، استدار بسرعة خلفه ليصدم باختفائها تماما كما توقع لقد استغلت انشغاله لتهرب منه ، ليخفض بعدها يده بالهاتف للأسفل وهو يتمتم بشراسة منقبضة
"سحقا لها ، أين ذهبت تلك المجنونة"

قلوب معلقة بالماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن