الفصل الخامس والعشرون

1.2K 42 13
                                    

كانت تنظر له من شق الباب الصغير بفضول وهو مشغول بتدوين بعض الأوراق امامه وهو جالس على الأريكة ببهو الشقة الصغير ، ابعدت نظرها عنه وهي تزفر انفاسها بضيق فقد مر ربع ساعة وهو ما يزال على هذه الحال ولا تعلم بماذا يخطط بالضبط ؟
عزمت امرها وهي تقرر الخروج له وليحدث ما يحدث لم يعد يهمها شيء ولم يعد هناك شيء تخسره لتقلق عليه ، جففت (زهرة) كفيها المتعرقين بسترتها القطنية قبل ان تمسك بمقبض الباب لتفتحه بهدوء وببطء وهي ما تزال تراقب انحناءه امام الأوراق بتركيز ، سارت بعدها نحوه بخطى حذرة لتقف بجانب الأريكة بهدوء وهي تعض على طرف شفتيها بتفكير ناظرة له وهو ما يزال يتجاهلها تماما ، استطالت على اصابع قدميها وهي تتمسك بذراع الأريكة بكفيها بتشبث محاولة رؤية الأوراق والتي اخذت كل وقته وهي تميل برأسها بجانب رأسه المنحني امام الأوراق ليسقط شلال شعرها بجانب رأسها .
شهقت بفزع وهي تنتفض للخلف ما ان شعرت بكفه وهي تسحب خصلات شعرها بقوة حتى كاد ينتزعها من قسوته ، بينما كان (يزن) مستمر بالتركيز على الأوراق امامه وما يدونه بهم وكأنه لم يفعل شيئاً للتو ، عبست ملامحها بتبرم غاضب وهي تمسد على خصلات شعرها بألم ، ليقول بعدها (يزن) بغموض بدون ان يبعد نظره عن الأوراق
"ماذا تريدين يا زهرة"
زمت شفتيها بحنق وهي تقول بهدوء
"اتيتُ لأرى إذا كنت تحتاج مساعدة بشيء"
ردّ عليها (يزن) بجمود متصلب
"شكرا لكِ على عرضك الكريم ولكني لا احتاج لمساعدتك بشيء"
عبست شفتيها بارتجاف وهو يكلمها بلهجة متصلبة قاسية وهذا يعني بأنه لم ينسى ما حدث بينهما ، استدارت بعيدا عنه بإحباط وهي على وشك المغادرة بعيدا باتجاه غرفتها قبل ان يمسك بذراعها ليوقف حركتها وهو يشدد عليها بقوة قائلا بجفاء
"تعالي اجلسي لأتكلم معكِ"
انفرجت شفتيها بارتعاش وهي تهمس بتلعثم
"ولكني لا اعتقد بأنه بقي ما نتكلم عنه"
دفعها (يزن) فجأة نحوه لتجلس على الأريكة بجانبه وهو يقول بحزم
"افعلي ما اقول بدون اي كلام"
اعتدلت بجلوسها وهي ترجع خصلات شعرها للخلف بارتباك ، ليقول بعدها (يزن) بقوة وهو يرفع الورقة امامه بغموض
"إذاً تريدين تحقيق احلامك هناك ولا تريدين البقاء وحيدة بتلك البلاد بعيدا عني"
ابتلعت ريقها بتصلب وهي تنتظر القادم والذي اكيد سيفسد عليها كل خططها ، بينما تابع (يزن) كلامه بابتسامة جانبية وهو يلوح بالورقة امام وجهها
"انظري لقد سجلت اسمك ومعلوماتك معي بكلية الشرطة والتي سأذهب إليها لتكوني مساعدتي الخاصة والتي سأعتمد عليها بإحضار وتجهيز كل ما احتاجه معي بوقت تدريبي هناك ومعكِ ستؤخذين الخبرة بمجال عملي ، فأي متدرب هناك يستطيع إحضار معه أي رفيق ليساعده بما يحتاجه وبما يلزمه"
فغرت شفتيها بذهول وهي ترفع كفها لتلتقط الورقة من كفه وهي تنظر لها بتوجس فلو كان هذا الكلام قبل لقائها ب(سليمان) لكانت طارت من السعادة ولكن الآن تشعر بالخبر ينزل على قلبها كالصخر ليؤدي لشرخه بقوة وقد اصبحت الآن بنهاية الهاوية وعليها التصرف بسرعة قبل ان ينتهي حلمه ومعها حلمها بتحقيق حلمه للأبد ، انتفضت واقفة بسرعة عن الأريكة باندفاع قبل ان تلقي بالورقة بعيدا قائلة بتجهم عابس
"ومن الذي اخبرك بأن هذا هو حلمي ان اصبح مجرد مساعدة لمتدرب صغير بالشرطة"
ارتفع حاجبيه بعدم تصديق وهو يتمتم بوجوم
"هل فقدتِ ذاكرتك يا زهرة ونسيتِ بأنكِ انتِ من كان يحلم ان يعمل معي بالشرطة وتكوني مساعدتي"
عضت على طرف شفتيها بألم حتى شعرت بطعم الدماء ما ان تذكرت حلمها الطفولي عندما كان (يزن) بوقتها يمثل كل حياتها والتي تعيش من اجلها ولم يكن بتفكيرها الصغير سوى بأن وجود (يزن) بحياتها امر مسلم منه ، قالت بعدها بابتسامة ساخرة وهي تنظر بعيدا عنه
"لقد كانت مجرد احلام يقظة وقد استيقظتُ منها الآن ، فأنا لن اكون بعد الآن مجرد تابعة لك لأني استطيع تحقيق احلامي بعيدا عنك وبعدم وجودك"
تغضن جبينه بعدم استيعاب من كلامها الجديد عليه وهو لا يعلم ماذا تريد بالضبط وإلى اين تريد ان تصل بالنهاية ؟ ليعقد بعدها حاجبيه بحدة وهو يقول بتنهد حانق
"ماذا تريدين بالضبط يا زهرة فأنا لم اعد افهمكِ ابدا"
زفرت انفاسها بحزن وهي تنظر لحدته بشفقة لما سببته له من إزعاج وهو يحاول مراضاتها بشتى الطرق ، همست بعدها بلحظات بقوة وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بارتباك
"اخبرتك من قبل ما اريده هو البقاء هنا لأكمل دراستي واحقق احلامي ، بينما انت يمكنك الرحيل لحلمك وتحقيقه بعيدا فأنا لا احتاج لوجودك معي لأحقق احلامي ، ويبدو بأن حلمك هو كل ما يهمك واما احلامي فهي آخر ما تفكر به"
تصلبت ملامح (يزن) وهو يقول بصرامة جادة
"وماذا عن كلامكِ بأنكِ حيثما اذهب فأنتِ ستكونين معي"
زمت شفتيها بارتباك لتهمس بعدها بلا مبالاة
"هذا الكلام كان قبل ان افكر بحلمي وبمصلحتي ، فلما عليّ انا ان اضحي بدراستي وبحلمي من اجلي اللحاق بك بدون تحقيق اي هدف بالحياة ، بينما انت ستنجح وتبتعد عني وتصبح افضل مني وانا سأبقى مجرد تابعة لك بدون اي انجازات تُذكر بحياتي ، واكيد كل هذا لا يهمك ابدا"
ردّ عليها (يزن) وهو يقول بشراسة خافتة
"هل تعرفين ما تقولين حتى ، ما لذي اصاب الطفلة المتعلقة بي دائما ام ان الغيرة من حلمي قد اعمت على قلبك وبدأت بالتحكم بكِ"
ابتسمت (زهرة) باهتزاز من تفكيره الساذج وهو يظن بأنها قد تغار من حلمه والذي يكون حلمها ايضا وكم تتمنى ان يأتي ذلك اليوم والذي ترى فيه حلمه وقد اصبح حقيقة متجسدة امامها ، قالت بعدها بخفوت وهي تبعد عينيها العسلية الدامعة بعيدا عنه
"انا لم اعد طفلة يا يزن ، مثلما انت كبرت وتغيرت وانا ايضا كبرت واصبح كل ما يهمني هو ان احقق احلامي بهذه الحياة لكي لا يصبح الآخرون افضل مني واعلى مرتبة مني ، ولن اضيع المزيد من حياتي بملاحقتك والتي لن تجلب لي اي منفعة"
كان (يزن) ينظر لها بتركيز حاد وهو يحرك فكه بقسوة ، ليقول بعدها باقتضاب وهو يقبض على كفيه بقوة
"إذاً تريدين مني ان اتخلى عن حلمي لأبقى هنا واحقق احلامكِ انتِ"
نظرت له بسرعة وعينيها العسلية متسعة بجزع وهي تهمس بنشيج
"لا إياك ان تفعل هذا.."
قاطعها بصراخ وحشي وهو يقف عن الأريكة بقوة
"اصمتِ يا زهرة وافتحي اذنيكِ جيدا ، ما يزال هناك اسبوعين للرحلة واريد منكِ ان تفكري جيدا بكل كلماتك الخرقاء والتي نطقتِ بها للتو ، وان تنظفي عقلكِ من كل هذه الأفكار الجديدة والمسمومة والتي بدأت تدخل عقلك بالآونة الأخيرة ، وبعدها ستعرفين حقا ماذا تريدين"
اندفع (يزن) بدون ان يضيف أي كلمة اخرى لخارج الشقة بعنفوان وقوة ، ليترك من خلفه (زهرة) وهي تنشج انفاسها بارتجاف قبل ان ترتمي جالسة على الأريكة والتي كان يجلس عليها قبل قليل وهي تُخرج من جيب بنطالها المنديل والذي ما تزال تحتفظ به للآن ليذكرها بكل مرة بحلم (يزن) ويعطيها القوة للاستمرار بهذه الحرب والتي ستخرج منها خاسرة بكل الأحوال ولن تخرج منها بشيء سوى بعلامات ستبقى عالقة بذهنها للأبد .
_______________________________
كانت تريح مرفقيها على إطار النافذة بشرود وهواء الليل البارد يلفح وجهها بقوة عله يخفف قليلا من الحرارة والتي تشعر بها تلسع جسدها وعينيها الدامعة بقوة حارقة ، اخذت بعدها عدة انفاس من الهواء البارد والذي شعرت به يجرح حنجرتها بحشرجة مؤلمة ، لتخفض عندها رأسها للأسفل بإنهاك وهي تضم كفيها امامها بقوة وببرودة جمدت مفاصلها عن الحركة وهي جالسة على كرسي امام النافذة .
اراحت جانب وجهها فوق مرفقها وهي تفكر به الآن وقد مرت عدة ساعات طويلة على خروجه من المنزل حتى حل المساء بالمكان بأكمله ولم يظهر له اي اثر للآن ، تغضن جبينها بألم من كمية الحماقات والتي تفوهت بها امامه ولكنها ليس لديها حل آخر وقد تخيرت الآن بين اثنين لا ثالث لهما فأما حلمه وأما البقاء معها بدون اي احلام ، وهي تعلم جيدا لهفته الشديدة ليصبح اكبر ضابط بالبلد بذلك المكان وليس لأنه حلم طفولته وهدفه فقط بل لأنه سيحدد هويته وشخصيته امام العالم بعيدا عن عائلته لكي يستطيع الاستقلال عنهم نهائياً ولا يكون تابعا لهم او لأي احد كان .
اخفضت جفنيها ببطء على احداقها الدامعة بعيدا عن الهواء البارد والذي اصبح يضرب وجهها بقسوة قبل ان تغفو بعمق بدون ان تنتبه وهي مستريحة على إطار النافذة بعد ان جافاها النوم لأيام وما يزال الهواء يضرب من حولها بطنين ، شعرت بعدها بنفسها وهي تنقل لمكان دافئ بعث رعشة محببة لجسدها والدماء الحارة عادت لتدفق بأعضاء جسدها بقوة بعد ان كانت قد تجمدت تماما من البرودة والتي كانت تغلفها قبل ثواني والآن اصبح الدفء هو الذي يغلف حياتها بأكملها وطوفان من المشاعر تحوم من حولها تدفعها بقوة لتشاركها معها وتقابلها بنفس القوة والعنفوان بعد ان كانت تشعر بخمول بمشاعرها عادت الآن للاشتعال بقوة لتخرج بنفس قوة منافسها وتشاركه بنفس الشغف المجنون والذي لا يمت للرقة بصلة وقد اصبحت المشاعر العنيفة والمشتاقة هي ما تحركهما ، وبين كل طوفان يشع اسمها بحرارة بأذنها وهو يعضها بأطراف اسنانه بانفعال
"زهرتي"
لتردّ عليه بنفس الانفعال والجنون بين طبقات وعيها المنهك
"احبك يا قاسي القلب"
ليستمرا على هذه الدوامة الهائمة من المشاعر العنيفة والتي اطاحت بعقلهما معا حتى لم يعودا يشعرا بالعالم من حولهما وفقط الجنون هو ما يلفهما معا والاشتياق قد اخذ منهما مأخذه حتى ضربهما بمقتل ليقود جسد كل واحد منهما للآخر وكأنهما يعرفان طريقهما بعد ان فتك بهما الحنين لبعضهما .
بعد ساعات طويلة كان النهار يطل بالأفق لتنتفض عندها النائمة على السرير جالسة وهي تشهق بهلع لتنظر من حولها ولأثار عاصفة البارحة وكأن نيزك قد هبط بهذا المكان ليجعله بكل هذه الفوضة العارمة والتي تثبتُ بأن ما حدث بليلة أمس لم يكن حلما ناعما او من احلام يقظتها بل كان حقيقة حدثت معها بكامل إرادتها بالرغم من انها كانت مغمضة عينيها وسابحة بغلالة غفوتها الناعمة ، ولكنها كانت تشعر بعاطفته والتي شاركته بها بعد ان قتلها الحنين إليها لتخرج منها بكل هذا العنف لأول مرة بحياتها وكأن جسدها هو من كان يبحث عن عاطفته الهوجاء بعد ان اعتاد على قسوة مشاعره والتي طبعت علاماتها على روحها كوشم لا يزول .
رفعت كفها وهي تضرب بها على جبينها بغضب حانق من غباءها والذي جعلها تسير مع عاطفته وتشاركه جنون مشاعره برغبة حارقة بعد ان تركتها لأيام ، ارتمت بعدها على السرير من خلفها وهي تفكر بأنها كلما حاولت تعويد نفسها على الابتعاد عنه تعود للتعلق به اكثر ، وإذا استمرت هكذا فلن تستطيع عندها تحمل فراقه وابتعاده عنها والذي سيؤلمها كثيرا ، لتدفن بعدها وجهها بالوسادة من خلفها لتبث بها صراخها الحانق والمتألم وهي تضرب بقبضتها على ظهر السرير بكل قوة حتى احمرت بشدة من الألم والقهر ، ولكن الألم هو آخر ما تفكر به فكل ما يهمها الآن ان تخرج من هذه المصيبة بأقل الأضرار هذا إذا كان حملها بطفله بداخلها يسمى ضررا .
_______________________________
كانت تسير لخارج الجامعة قبل ان تقف امام البوابة مع صديقاتها بانتظار الحافلة ، ليقطع عليها شرودها صوت رنين هاتفها لتخرجه من حقيبتها وهي تبتعد عنهن قبل ان تجيب على الهاتف قائلة
"نعم من معي"
تشنجت بخطواتها ما ان اجاب الصوت من بالطرف الآخر بحدة
"ألم تحفظي رقمي عندك يا ابنة داوود ، على كل حال عليكِ ألا تنسي بأني لن اتركك قبل ان تخبريني باختياركِ فقد تأخر كثيرا ولم يتبقى الكثير على الرحلة"
توقفت خطواتها وهي تبتلع ريقها بغصة حزينة هامسة بخفوت مشتد
"لا تقلق انا سأتصرف بخصوص هذا الموضوع قبل ان يأتي موعد سفره"
ردّ عليها (سليمان) بخشونة
"ولكني لا اراكِ تفعلين شيئاً ، اسمعي إذا كنتِ تريدين الاستمرار هكذا فأنا عندها سأسحب هذه المنحة وتذكرة سفره فقد مللت من انتظاركِ وانتِ تحاولين خداعي.."
قاطعته (زهرة) وهي تقول بنشيج خافت
"لا ارجوك لا تفعل فقط انتظر ، انا اعدك بأنه ما ان يأتي موعد سفره فأنا عندها سأتركه نهائياً وكل واحد منا سيذهب من طريق ، اهم شيء لا تسحب المنحة منه فقد جهز كل شيء من اجل هذه الرحلة"
قال (سليمان) بعدها بلحظات بجمود
"وإذا خدعتني ولم تتركيه عندما يأتي موعد سفره ، فماذا يمكنني ان افعل عندها"
ردت عليه (زهرة) بثقة
"عندها يمكنك إيقاف الرحلة بأكملها فأنت قادر على فعلها أليس صحيحا"
قال (سليمان) ببرود جليدي
"افعلي ما يلزم قبل ان يأتي وقت الرحلة فقد بدأ العد التنازلي يا صغيرة ، لذا إياكِ وأن تخطئي وألا تعرفين ماذا سيحدث"
قالت (زهرة) وهي تبتسم بارتجاف حزين
"ثق بي"
اغلقت الخط وهي تعيد الهاتف لحقيبتها بهدوء لتزفر انفاسها بكبت وهي ترفع قبضتها لصدرها لتضربه برتابة وهي تشعر بغصة عالقة بداخله توشك على شطرها لنصفين ، جلست على المقعد من خلفها بهدوء وهي تضع حقيبتها على حجرها منحنية برأسها للأسفل ليغطي شعرها جانبي وجهها عن كل من حولها وقبضتها ما تزال تضرب على صدرها بقوة وكأنها تحاول استئصال الألم من جذوره .
"هل انتِ بخير يا آنسة ، هل تحتاجين لمساعدة"
رفعت (زهرة) وجهها بسرعة وعينيها العسلية متسعة بتوجس وهي تنظر للشاب امامها والذي يبدو يقارب من عمرها وهو يحمل حقيبة على كتفه دليل بأنه يدرس معها بنفس الجامعة ، لترجع بعدها خصلات شعرها لخلف أذنيها وهي تقول بخفوت محرج
"لا شكرا انا بخير"
نظر الشاب لقبضتها والتي كانت تضرب بها على صدرها وهي مستريحة بحجرها بارتجاف ، ليقول بعدها بتفكير وهو يعود بنظره لعينيها العسلية بصفاء غريب
"اتمنى ألا تتضايقي من سؤالي ، ولكنه من باب الفضول فقط هل انتِ زهرة داوود"
حركت (زهرة) رأسها بالإيجاب بحيرة وهي تشعر بنظرات غير مريحة متجهة نحوها من هذا الشاب ، لتقول بعدها بارتباك خافت
"اجل انا هي ، هل تريد مني شيء"
ردّ عليها الشاب بسرعة وبابتسامة
"لا فقط اردتُ ان اقول لكِ بأن والدي غسان مفلح يعمل مع عائلتكِ منذ زمن وهناك صداقة قوية تجمع العائلتين معا"
كانت (زهرة) تبتسم باهتزاز وهي تفكر وما لمطلوب منها مثلا أن تصفق له على هذه الصداقة والتي لا تعلم عنها شيئاً ، تابع الشاب كلامه بابتسامة متسعة بابتهاج
"بما اننا ندرس بنفس الجامعة وهناك صداقة قوية تجمع العائلتين معا ، فلا مانع إذاً من ان نتبع مسار العائلتين ونشكل بيننا صداقة"
انفرجت شفتيها بصدمة من هذه المفاجأة والغير متوقعة ، قالت بعدها بحزم وهي تنظر لابتسامته والتي شملت كل وجهه
"اسمع..."
قطعت كلامها بشهقة مصدومة ما ان عاد الشاب للخلف فجأة بسبب دفعة قوية من قبضة (يزن) وهو يمسك بكتفه بقوة ليديره بعدها ناحيته قبل ان يدفعه بعيدا بقسوة لدرجة اوقعه ارضا امامه ، وقفت (زهرة) بسرعة على صوت (يزن) وهو يقول له بتهديد شرس
"هذه المرة لن افعل لك شيء ، ولكن مرة أخرى إذا رأيتك قريب منها فلا تلوم عندها سوى نفسك وتذكر بأنها تكون زوجة يزن بارون واخبر هذا الكلام لكل رفاقك بالجامعة"
استقام الشاب بوقوفه بصدمة وهو ينظر له بتركيز ، بينما افاقت (زهرة) من صدمتها على قبضة (يزن) والتي سحقت كفها قبل ان يسحبها بعيدا وهي تدير وجهها للخلف قائلة بارتفاع
"انا اعتذر على ما حدث"
وصل (يزن) لسيارته ليُدخلها لمقعدها بقسوة قبل ان يدور حول السيارة ليدخل لمقعده بثبات ، لينطلق بعدها بعيدا بصمت قاتم دام لدقائق ، تنفست (زهرة) بهدوء وهي تقول ببرود
"ما كان عليك فعل هذا بالشاب وهو لم يخطئ معي بشيء"
ردّ عليها (يزن) بجمود
"لو انكِ طردته منذ البداية لما حصل ما حصل وجعلته يظن بأنكِ ترغبين بصداقته"
التفتت نحوه بحدة وهي تقول بتذمر
"هذا لأنه يكون ابن صديق عائلتنا ويعني صديقي انا ايضا ، كيف تريدني ان اطرده"
ضرب (يزن) على المقود بقوة وهو يقول بتجهم
"هل جننتِ وانتِ صدقتي كلامه بكل عقلك ، ولم تشكِ ولو قليلا إذا كان يخدعكِ بكلامه"
ردت عليه (زهرة) وهي تنظر بعيدا عنه بشرود
"وما مصلحته ليكذب عليّ بكلامه"
قال (يزن) بحدة بالغة
"لأن الجميع يطمع بكِ ، ألم تفهمي بعد من نظرات الجميع من حولك عندما تكونين تملكين العائلة والنسب والجمال ، فالجميع عندها سيرغب بالحصول ولو على نظرة منكِ"
ابتسمت (زهرة) بهدوء وهي تقول بخفوت
"ليس الجميع وحوش ليفكروا بطريقتك هذه ألا إذا كانت طريقتك انت بالتفكير"
حاد (يزن) بنظراته نحوها بتصلب وهو يتمتم بلا تعبير
"هل تقصدين بأني اطمع بكِ"
صمتت وهي تعض على طرف شفتيها بتوجس لتهمس بعدها بتصلب
"ما لذي احضرك لجامعتي يا يزن واكيد ليس من اجلي"
عبست شفتيه بتصلب وهو يقول بهدوء مشتد
"لقد كنتُ مارا بطريق جامعتك ، لذا فكرت بأن اوصلكِ ولم اكن اعلم بأنكِ تعقدين الصداقات مع الشبان"
عبست ملامحها بحزن وهي تهمس بلا مبالاة
"اتعبت نفسك بلا فائدة ، فأنا لا احتاج لتوصيلك ابدا"
ردّ عليها (يزن) بعصبية بالغة وهي يشدد من قبضتيه على المقود حتى ابيضت مفاصله
"اخرسي يا زهرة ، فسكوتك الآن هو افضل شيء تفعلينه بمثل حالتك بدل قول الحماقات والتي لن تزيد الوضع سوى سوءً"
ابعدت وجهها باتجاه النافذة وهي تزفر انفاسها بقوة متمنية ان تصل للبيت بسرعة قبل ان تفقد السيطرة على مشاعرها المضطربة منذ ليلة امس ، وما ان تحققت امنيتها ووصلت السيارة امام البناية حتى خرجت بسرعة من السيارة وهي تغلق الباب من خلفها بقوة ، وامام نظرات (يزن) وهو يضيق عينيه الخضراء بقسوة ناظرا لها وهي تجري باتجاه مدخل البناية وشعرها الكستنائي المحمر يتموج من خلفها بتمرد وهو يشعر بأن زهرته الصغيرة قد بدأت تتمرد على جذورها لتخرج منها بكل قوة بعيدا عنه .
_______________________________
بعد مرور عدة أيام طويلة ومظلمة على الجميع كانت جالسة امام حقيبة السفر وهي تضع الملابس بداخلها بشرود وكلما تمسك بقطعة ملابس تقربها امام وجهها لترتشف منها وهي تشتم رائحتها والتي تذكرها بالشخص والذي سيبتعد عنها للأبد وهي لا تصدق اقتراب يوم سفره بهذه السرعة وقد كانت تشعر بالأيام السابقة ببرودة بداخلها تزداد قتامة مع اقتراب الموعد والأيام تتسابق بسرعة وكأنها لعبة من سيصل بالنهاية اولاً وبكل الأحوال لن يصل احد سوى حلمه والذي سيرفرف عالياً ويبعدها عنه نهائياً معلنا عن نهاية قصتهما والمعلقة منذ سنوات وقد تكون ايضا نهاية الحقد المتجذر بين العائلتين بعد ان تنطفئ نيران حقدهم اخيرا .
وقفت بعيدا عن الحقيبة وهي تتنفس بهدوء قبل ان تتجه للحمام الملحق وما ان وصلت امام المغسلة حتى نظرت لاختبار الحمل المنزلي والذي احضرته معها قبل أيام بدون ان تتجرأ على استخدامه ، رفعته بعدها امامها وهي تبتسم بحزن فقد اكتشفت الآن بأنه لا يوجد اي حمل وقد يكون هذا لصالحها لكي تستطيع الاستمرار بحياتها بدون اي شيء معلق به وقد تكون هذه رسالة بأن الحمل بهذا الوقت لن يكون جيدا لها ابدا .
ألقت باختبار الحمل بصندوق النفايات قبل ان تفتح الخزانة المعلقة فوق الحوض لتُخرج منها معجون الحلاقة ومنظفات للجسم وللشعر وباقي مستلزمات الحمام ، لتسير بعدها لخارج الحمام قبل ان تلقي بما بين يديها بداخل الحقيبة وهي ترتبها بمكانها المخصص ، زفرت انفاسها باضطراب وهي تُخرج المنديل نفسه من جيب بنطالها ناظرة للعبارة والتي حفظتها عن ظهر قلب وقد زادت عليها عبارة كتبتها اسفلها بقلمها الخاص
(احبك يا قاسي القلب)
رفعت (زهرة) كفها لتمسح من تحت عينيها بارتجاف وهي تبتلع ريقها بحشرجة ، لتقرب المنديل امام شفتيها وهي تقبله بقوة قبل ان تدسه بين الملابس امامها ، اراحت كفها فوق الملابس الخاصة بالشرطة والتي تعلو بقية الملابس وهي تمسد على قماشها الأزرق بهدوء ، لترفع بعدها كفيها وهي تمسك بقبعة الشرطة السوداء برهبة قبل ان تضعها فوق الملابس الخاصة بها .
مسحت على عينيها بسرعة ما ان سمعت صوت باب الشقة يُفتح ويغلق بقوة ، لتنهض بسرعة من جلوسها قبل ان تضع غطاء الحقيبة فوق الملابس بإهمال ، سارت بعدها للسرير لتستلقي على طرفه بعد ان اطفئت الانوار وهي تحاول تمثيل النوم وهذا ما كانت تفعله طول الأيام السابقة ليبتعد عنها بهدوء بدون اي كلام .
بعد لحظات شعرت به وهو يدخل للغرفة بسكون لتسمع عندها صوت اصطدامه بالحقيبة والتي يبدو بأنه لم ينتبه لها ليتبعها بعدها اصوات خافتة صادرة من الحقيبة وكأنه يبحث عن شيء بها قبل ان يتركها وهو يدخل للحمام الملحق بصمت ، انتفضت جالسة وهي تنظر للملابس المنثورة حول الحقيبة بفوضة ، لتتنهد بعدها بيأس منه ومن عنفه بكل شيء يفعله وقد استغرقت وقتا طويلا وهي تحاول ترتيبها بنظام معين ، عادت للنهوض لتتجه للحقيبة قبل ان تجثو امامها لتعود لترتيب الملابس بداخلها كما كانت قبل ان يغزوها بعنف وهو يبث بها غضبه بدون ان تقترف اي ذنب بحقه .
تصلب ظهرها بارتعاش ما ان شعرت بقطرات الماء وهي تسقط على رأسها ببرودة ، لترفع بعدها رأسها بهلع نحوه لتصطدم بنظراته الخضراء الحادة والناظرة لها بتركيز وهو عاري الصدر ، زمت شفتيها بجمود وهي لا تصدق كيف خرج من الحمام بدون ان تشعر به بل كيف انهى استحمامه بهذه السرعة قبل ان تستطيع العودة لتمثيلية النوم ؟ وقبل ان تنطق بأي كلمة كان (يزن) ينحني نحوها بسرعة الفهد ليقيد خصرها بذراعيه من الخلف قبل ان يرفعها بخفة للأعلى وبسهولة حتى اصبح رأسها ملتصق بصدره وعنقها مكشوف امامه ، ابتلعت ريقها بحرارة وهي تتلقى قبلاته على مؤخرة عنقها من الخلف بنعومة وعنف لم تشعر بها منذ ايام وهو يشدد من احتضان خصرها وكأنه يريد إدخالها لجسده وعظامه وهي تحاول تحريك عنقها بعيدا عن مرمى شفتيه القاسيتين بدون فائدة وخصلات شعرها الكثيفة تعيق عليها حركتها بسبب التصاقها بعضلات صدره والتي ما تزال رطبة ، اخفضت رأسها للأسفل وهي تحاول النزول من هذا الارتفاع وتلوح بساقيها بتمرد وهي تضرب بهما على ساقيه من الخلف بدون ان تؤثر على جسده الصلب ولو قليلا وكأنه مصنوع من الرخام البارد والذي لا يتأثر من شيء .
انتفضت بارتجاف وحرارة بدأت بالتدفق بجسدها ما ان شعرت بتمرد كفيه وهو يدخلهما من تحت قميصها بعبث ، لتتشنج بعدها عضلات جسدها وهي تحاول إبعاد كفيه عن داخل قميصها بعنف وهي تضربهما بقوة ، اخرج (يزن) كفيه من تحت قميصها ليعود ليشدد من احتضان خصرها بعدم رحمة وهو يهمس بأذنها بانفعال واضح
"توقفي عن المقاومة يا زهرة واستسلمي لطوفان المشاعر والذي يكاد يفتك بنا منذ ايام فقد مللت من تمثيلكِ الصمود بالأيام السابقة وانتِ تدعين النوم بكل مرة من عودتي من العمل"
عضت على طرف شفتيها بحزن وهي تكتشف بأنها كانت طول الوقت مكشوفة امامه بدون ان تعرف ، ولكنه لا يعلم بأنه بهذه الطريقة سيصعب عليها فراقه اكثر والذي اصبح قريبا جدا وهو يقتلها بمشاعره والتي ستشتاق إليها كثيرا ، حركها (يزن) قليلا وهو ما يزال يرفعها للأعلى وشفتيه تتلمسان اذنها بعبث ، لتبعد بعدها رأسها بعيدا عنه وهي تهمس بخفوت شديد
"إذا كنت تعلم لما لم تحاول الاقتراب مني واخذ حقوقك كما تريد"
زفر انفاسه بخشونة امام عنقها قبل ان يتمتم ببرود
"لأني كنتُ اعلم بأنكِ سترفضين ، لذا انتظرتُ قليلا حتى تشتاقي لي ويدفعكِ الحنين لطلب المزيد من عاطفتي والتي احببتها بذلك اليوم وقابلتني بأقوى منها يا مجنونة"
زمت شفتيها بنشيج وحياء وهي تتذكر تلك الليلة المجنونة والتي شاركته بها وهي نصف نائمة ، لتنتفض بعدها بتمرد وهي تهز رأسها بعيدا عنه قائلة بقوة
"لقد كنتُ نائمة يا مخادع ، لذا لا يعتبر ما حدث بيننا بذلك اليوم حقيقة"
قال (يزن) بعدها بلحظات وهو يقبل خصلات شعرها الهائجة امامه بقوة
"على كل حال حدث وانتهى ، وانا الآن اريده ان يعاد مرة أخرى وبكامل يقظتك"
حركت رأسها بالنفي وهو يتجه بها نحو السرير قائلة برجاء ضعيف
"لا تفعل هذا يا يزن ، فأنا لا اريد حقا.."
قطعت كلامها وهي تتأوه بألم بسبب ألقاء (يزن) لها على السرير بقوة ، ليرتمي بعدها بجانبها وهو يجذبها من ذراعيها لتلتصق بصدره العاري بقوة قبل ان يشعر بقطرات دموعها تسقط على صدره بغزارة ، رفع كفيه بسرعة ليمسك بوجهها وهو يرفعه امامه بقسوة ليقول بعدها بتصلب خشن
"هل جننتِ ، ما لداعي للبكاء الآن هل انا اغتصبكِ مثلا"
زادت دموعها انحدارا امام وجهه مع بعض الشهقات وهي تهمس ببحة حزينة
"لا اريد الآن ارجوك ، لا اريد"
امسك بمؤخرة رأسها مع شعرها وهو يقربها امام وجهه قبل ان يقبل جبينها بخفوت وصمت طويل ليدفن بعدها وجهها بصدره العاري وهو يعانق جسدها بذراعيه بقوة وبملامح قاتمة غير معبرة ، شعر بعدها بارتجاف جسدها بانتحاب وهي تحاول التحرك بعيدا عن صدره بضعف ، ليفك بعدها وثاقها وهو يبعد ذراعيه عن جسدها بصمت لتتحرك بسرعة بعيدا عنه باتجاه الحمام الملحق ، وما ان دخلت للحمام حتى ساد الصمت على الطرفين ومشاعر مشحونة بالخيبة والإحباط تحوم من حولهم والمسافة بينهما تزداد اتساعا وعمقا حتى اصبح من الصعب عليهما تجاوزها لتبقى معلقة هكذا إلى امد غير محدد .
_____________________________
كانت تنظر من النافذة وهي تتلاعب بكفيها بالمكعب الملون والذي اصبح لا يفارق كفيها مؤخرا ولا حياتها وكأنه تسليتها الوحيدة بهذا المكان المنعزل بعيدا عن كل انواع البشر ، كانت تقذف المكعب للأعلى بين الحين والآخر وهي تنظر بعيدا بملل وتفكير بما فعلته بآخر تصرف مع (إياد) قبل ان يختفي من حياتها نهائياً وهو يخلف من وراءه فجوة لن تستطيع ترميمها مع الأيام ، شددت بقبضتيها على المكعب بقوة وهي تنظر بعيدا بشحوب وتتذكر كيف كانت حياتها منذ صغرها عندما كان دائما الاطفال بالمدرسة يدعونها (بالشرسة) واما الصبيان منهم فيدعونها (بالجميلة الشرسة) وكله بسبب قسوتها بالتعامل مع كل من يقترب منها حتى لم يعد احد يتجرأ على الاقتراب منها او المساس بها لتبقى وحيدة بهذا العالم كما ارادت وها هو (إياد) ايضا قد لحق بهم وتركها كجميع من تعرفهم ليتركها وحيدة كما ترغب وتحب .
انتفضت بعيدا عن النافذة بسرعة ما ان سمعت اصوات الأجهزة المتصلة بوالدتها ترتفع تدريجيا ، لتتقدم بسرعة نحوها قبل ان تمسد على جبينها وهي تقول ببعض التوجس
"ماذا هناك ، ما لذي اصابكِ الآن"
ابعدت كفها لتنحني برأسها وهي تقرب اذنها من مكان قلبها وصوت طنين الأجهزة المرتفع يرن بأذنيها بألم ، لتبتعد بعدها بسرعة عنها وهي تمسك بوجهها بحزم قائلة بصرامة مهتزة
"لا يمكنكِ فعلها وتركي بهذه اللحظة بالذات بعد كل ما فعلته من اجلكِ لكي لا تموتي ، بالنهاية تكافئيني بأن تتخلين عني الآن ، أي نوع من الامهات انتِ لتفكري بتركي ابنتكِ الآن"
تركت وجهها بعنف وهي تتنفس باضطراب ونشيج قبل ان تغادر بسرعة لخارج الغرفة وهي تصرخ بالممر بغضب
"اين هي الممرضة جولي ، يا ممرضة جولي"
كانت الممرضة المطلوبة تجري نحوها قبل ان تقف امامها باحترام ، بينما امسكت (مايا) بذراعها بقسوة وهي تقول بحزم
"حاولي مساعدة والدتي فهي تحتاج للمساعدة وألا سأقتلكِ ، سمعتني"
حركت الممرضة رأسها بالإيجاب وباهتزاز قبل ان تتركها (مايا) لتدخل الممرضة للغرفة بسرعة ، ابتعدت (مايا) عن الغرفة لتستند بالجدار المقابل لها وهي تنظر امامها بجمود ، لتلمح عدد من الممرضين يدخلون لغرفة والدتها وهي لا تعلم ماذا يفعلون معها وما مشكلتها بالضبط ؟
زفرت انفاسها بارتجاف وهي تنزل على الجدار ببطء حتى وصلت للأرض لتجلس عليها بخنوع وخذلان وهي تنظر للغرفة امامها والتي اغلقوها بوجهها بقوة ، بعد مرور لحظات صامتة وقد سكت الجميع عن الكلام وحل السكون بالممر بأكمله ليقطع الصمت بعدها شهقة قوية تبعتها عدة شهقات منهارة وقد بدأت بالبكاء بحزن لأول مرة بحياتها ومن اجلي احد وليس اي احد بل الشخص المتبقي لها بهذه الحياة المظلمة والتي لم ترى فيها اي عدل بحقها ، صحيح بأنها تكره والدتها وتحقد عليها لأنها حولت حياتها لجحيم مع زوجها الحقير ولكنها تبقى الشخص الذي انجبها على هذه الحياة والشيء الوحيد المتبقي لها من والدها والذي لا تعلم عنه شيئاً سوى من بعض البقايا والتي تركها خلفه بعد رحيله .
رفعت كفيها امام وجهها وهي تقول برجاء خافت لأول مرة تنطق به
"يا ألهي ارجوك لا تحرمني منها ، لا اريد شيئاً سوى ان تبقى موجودة وكل الأذى والذي سببته لي لم يعد يهمني إذا كانت سترحل من حياتي ، ارجوك لا تعاقبها على اخطاءها وتؤخذها مني ارجوك يا ألهي"
اخفضت كفيها ببطء وهي تستغفر بارتجاف لتحيد بنظراتها نحو المكعب الملون والذي لا تعرف متى سقط منها بالضبط ؟ لترفع ذراعها بضعف قبل ان تمسك به وما ان كانت ستلقيه بعيدا حتى عادت ووضعته بحجرها بسكون ، لتعانق بعدها ساقيها بذراعيها بقوة وهي تهتز بنحيب صامت وعينيها جاحظتين امامها وكأنها تنتظر الخبر المحتوم والذي سينهي شعاع الأمل الوحيد والمتبقي لها بهذا الظلام الدامس والذي عاشت عليه منذ كانت طفلة عندما كانت تبحث عن اي منفذ للنور ليدخل لخزانتها المظلمة وحبسها الانفرادي وما تزال تبحث عنه ولا تعلم إذا كانت ستجده يوما ما ام لا ؟
_____________________________
بعد مرور يومين وتحديدا بيوم سفره كانت واقفة امام الخزانة وهي تتلمس خشبها بحزن واسى وبهذا اليوم تحديدا ستودع هذا المكان وترحل عنه نهائياً بالرغم من المدة القصيرة والتي قضتها بهذه الشقة الصغيرة ولكنها كانت بالنسبة لها اجمل ايامها والفارق الأجمل بحياتها ، عادت بكفها لتفتح الخزانة امامها قبل ان تخرج منها ملابسها وهي تلقي بها بالحقيبة اسفلها ببرود وبعدم اهتمام حقيقي ، وما ان انتهت حتى انحنت امام الحقيبة لتغلقها بإحكام قبل ان تنظر للخزانة الخاوية بحزن مثل حياتها والتي ستتحول لحال هذه الخزانة بعد سفر (يزن) وعودتها لمنزل عائلتها .
ابتلعت دموعها غصبا وهي تزفر انفاسها بنشيج متقطع قبل ان تحمل الحقيبة من حزامها لتضعها على كتفها وهي تخرج بها من غرفتها ، وما ان خرجت حتى وقعت نظراتها على (يزن) والذي كان يقف عند باب الشقة بملامح متصلبة بقسوة وهو يرتدي ملابسه الخاصة بالشرطة وكم بدى بها بغاية الجمال والقوة وكأنه خلق ليكون ضابط شرطة ويعمل بهذا المجال ، نفضت بعدها كل هذه الأفكار عن رأسها وهي تتابع السير باتجاه باب الشقة ، لتتوقف ما ان سد (يزن) الطريق امامها وهو يقول بتصلب غامض
"هل انتِ مصرة على عدم السفر معي من اجلي تحقيق احلامكِ السخيفة"
اومأت برأسها بهدوء بدون اي كلام ، ليقول بعدها (يزن) بصرامة وهو يحرك رأسه بحدة
"لم اسمعكِ ، ماذا قلتِ"
ردت عليه بخفوت مشتد وهي تقبض على حزام الحقيبة بقوة
"اجل سأبقى هنا ولن تستطيع تغيير رأيي"
ابتسم بتصلب وهو ينظر لرأسها المحني امامه بهدوء قبل ان يتمتم بقسوة
"حسنا انتِ من اردتِ هذا"
ما ان رفعت رأسها نحوه بحيرة حتى كان يحملها بسرعة بين ذراعيه للأعلى لتسقط الحقيبة من كتفها بقوة ، انحنى قليلا ليمسك بحزام الحقيبة قبل ان يستقيم بوقوفه وهو يقول ببرود
"هيا بنا لكي لا نتأخر عن موعد الطائرة"
سار لخارج الشقة وهو يغلق الباب من خلفه بقدمه قبل ان يسير باتجاه المصعد ، لتفيق (زهرة) من صدمتها وهي تستوعب ما هو مقدم عليه لتبدأ بضرب صدره بكفيها وهي تتلوى بين ذراعيه قائلة بانفعال
"انزلني يا يزن فورا ، فما تفعله لا يجوز بحقي ابدا يا متوحش يا مجنون"
صرخ (يزن) بتجهم وهو يقف امام المصعد بجمود
"اخرسي يا زهرة وألا اسمعتِ جميع من بالبناية صوتك المزعج"
صمتت بالفعل وليس بسبب كلامه بل بسبب انفتاح باب المصعد ورجل غريب بداخله ينظر لهم بذهول وحيرة ، ليقول بعدها (يزن) باستياء حانق
"هيا تحرك نريد ان ندخل لو لم يكن لديك مانع"
امتقعت ملامح الرجل وهو يخرج من المصعد بسرعة سامحا لهم بالدخول ، ليدخل (يزن) بقوة وهو يملئ المصعد بأكمله بحجمه المهيب والصارم ، وما ان اغلق ابواب المصعد حتى قالت (زهرة) بامتعاض
"أيعجبك ما حدث الآن"
ابتسم (يزن) بهدوء وهو يقول بلا مبالاة
"لا داعي لكل هذا الغضب فأنتِ من جلبته لنفسك"
عضت على طرف شفتيها بغيض والكلام معه لم يعد يجدي ابدا ، استمر (يزن) بالسير حتى وصل بها لسيارته ليلقي بها بالمقعد الجانبي للسائق بعنف ليتبعها بالحقيبة وهو يلقي بها بحجرها قبل ان يغلق الباب عليها بالقفل ، ليدور بعدها حول السيارة حتى وصل لمقعده ليجلس بمكانه وهو يتحرك بالسيارة بسرعة واضعا الهاتف على اذنه ومن كلامه عرفت فورا بأنه يتكلم عن العمل ، ابعدت نظرها عنه وهي تضم قبضتيها معا بتوتر فيبدو بأن كل شيء فعلته قد انقلب ضدها وقد تبين بأن (يزن) لن يتركها بهذه السهولة التي توقعتها ، والمشكلة بأنه لم يتبقى لها الكثير من الوقت وهذا يعني بأن سباق الزمن قد بدأ الآن وإذا لم تسرع بالتصرف فلن يصل حلم (يزن) لمكانه المحدد وستتوقف الرحلة بأكملها وكله بسببها .
توقفت السيارة امام المطار الدولي لتحاول عندها فتح قفل باب السيارة بدون فائدة ، بينما خرج (يزن) من السيارة ليتجه نحوها قبل ان يفتح الباب بجانبها ليمسك بذراعها وهو يدفعها للخارج مع حقيبتها بقوة ليفتح بعدها الباب الخلفي للسيارة ليخرج منها حقيبته هو قبل ان يسير باتجاه مدخل المطار وهو يجرها خلفه بقوة ، حاولت (زهرة) التملص من كفه وهي تتعثر بخطواتها بكل مرة تقف بها عن الحركة بدون ان يهتم لاحتمالية وقوعها اكثر من مرة وقد اصبحت تصطدم بكل من حولها بسبب خطواتها الخرقاء ، لتصرخ بعدها بشراسة هائجة
"لما لا تفهم يا قاسي القلب بأني لا اريد الذهاب معك فأنا افُضل البقاء هنا على الذهاب معك ، ولا تستطيع ان ترغمني على ما لا اريد فهذه طريقة بدائية جدا"
دفعها (يزن) فجأة بقوة حتى تعثرت اكثر بخطواتها لتصطدم بظهره الصلب امامها وهو مستمر بالسير بسرعة بدون ان يوقفه شيء حتى بعد ان التفتت بعض الرؤوس نحوهم بحيرة ، قال (يزن) بعدها بجمود بدون ان يلتفت نحوها
"بل لدي كل الحق على إرغامك فأنا اكون زوجك وأوامري ستكون هي المجابة دائما شئتِ هذا ام ابيتِ"
زمت شفتيها بحنق من طريقته المستبدة والمتسلطة نحوها لتعود لتوقف خطواتها وهي تقول بتذمر
"لا ليس لديك الحق فأنا بشر ولستُ آلة تتحكم بها كما تريد ، واخبرتك من قبل بأني ارفض السفر معك ولا تستطيع التصرف معي بهذه الطريقة وكأني غنمة تسحبها من خلفك"
توقف (يزن) بتجهم قبل ان يلتفت نحوها بحدة وهو يهمس بتصلب صارم
"اخرسي يا زهرة وألا والله لن اكتفي بسحبك كالغنمة بل سأحملك بين ذراعي وامام كل الناس وانتِ ستكونين الملامة عندها ، سمعتني"
فغرت شفتيها بانشداه بدون ان تتجرأ على الكلام وهي تحيد بنظراتها نحو الناس المتجمهرة بساحة الانتظار ، ليعود بعدها بنظره للأمام وهو يسحبها من خلفه بعنف وقسوة باتجاه المكان المخصص لتسليم التذاكر .
بعد دقائق كان (يزن) يقف امام الصف الطويل لتسليم التذاكر وهو ما يزال يسحق كفها بداخل قبضته الصلبة بعدم شفقة نحو كفها الرقيقة والتي تحطمت بداخل قبضته الساحقة ، تلفتت من حولها وهي تبحث عن اي خيط نجاة لينقذها من مشكلتها وكل تعبها بالأيام السابقة لتحافظ على حلمه سيذهب الآن ادراج الرياح ، وقعت انظارها على طفل قريب منها ينظر لها بابتسامة مبتهجة وكم ذكرتها بابتسامة الصغير (جاد) ، لتنفض بعدها كل هذا عن رأسها وهي تشير للطفل بكفها الحرة بأن يقترب منها بالخفية ، اتسعت عينيّ الطفل ببريق سعادة وكأنه وجد فتاة احلامه وابتسامته تتسع بلهفة طفولية قبل ان يقترب منها بهدوء ، وما ان وصل الطفل امامها حتى ربتت على رأسه بحنان لم تستطع منعه والطفل ما يزال متعلق بنظره بسحرها الرقيق والذي انجذب له بسرعة ، ابعدت (زهرة) كفها عن رأسه لتشير له لجيب البنطال الخلفي ل(يزن) والذي كان يحوي التذكرة وهي تغمز له بعينها بخبث واضح ، ليفهم الطفل حركتها الشقية بسرعة قبل ان يهجم على جيب البنطال لينتزع التذكرة منه وهو يجري بعيدا عنهم وهي تلوح له بتشجيع .
انتفض (يزن) وهو يلتفت نحوها بحدة ليلمح الطفل والممسك بتذكرته وهو يبتسم له بشقاوة ، ليفلت بعدها كفها من فوره وهو يتجه نحو الطفل بسرعة وقد استطاع الإمساك به بعدة خطوات فقط بسبب اعتياده على الجري السريع والذي لم يستطع الطفل مجاراته ، بينما امسكت (زهرة) بحقيبتها لتجري بعيدا عنهم وهي تلوح للطفل بسعادة ولا يعلم كم ساعدها الآن .
وصلت عند ساحة الانتظار والتي فرغت من الناس بسبب اقتراب موعد إقلاع الطائرات وهي تلهث بتعب من الجري الطويل لتقف امام واجهة من الزجاج تُظهر المطار بأكمله بخارجها ، تقدمت امامه وهي تضع الحقيبة على الأرض بجانبها لتتلمس بعدها زجاج النافذة بهدوء ، شعرت بألم يخترق لحم ذراعها بقسوة لتلتفت بسرعة نحو (يزن) والذي كان ينظر لها بغضب يكاد يحرقها حية ، لتقول بعدها بانشداه مرتجف
"كيف استطعت الوصول لي"
ابتسم (يزن) بسخرية قاسية وهو يقول بجفاء
"انسيتِ بأني احفظ كل حركاتك الطفولية والخرقاء والتي لم تعد تجدي معي لتخدعيني بها وتفلتي مني يا زهرة الغبية"
عبست ملامحها بحزن عميق وهي تتنهد بارتجاف ، وما ان حاول سحبها من خلفه حتى اوقفته وهي تقول بصرامة
"لستُ غبية ولا تحاول نعتي هكذا ، فأنت لست افضل مني بل اسوء فقط خدعتني اكثر من مرة وليس مرة واحدة مثلي"
التفت (يزن) وهو يقول بحيرة حادة
"ماذا تقصدين بكلامكِ"
تقدمت (زهرة) حتى وقفت بجانبه تماما وهي تقول بقوة
"انا اقصد عندما خدعتني واتفقت مع والدي وجدي لتتزوجني بدون علمي ، وعندما خدعتني وتزوجت من اخرى من وراء ظهري ، ولا تنسى ايضا اهم شيء وهو بأنك خدعتني عندما لم تخبرني بأني كنتُ بالنسبة لك مكافئة لعملك مع عائلتي لتنتقم من عائلتك بطريقة حقيرة لم اتوقعها منك"
ارتفع حاجبي (يزن) بدهشة من كل هذا الكلام والفائت لأوانه ، ليقول بعدها بحنق خافت
"وما مناسبة كل هذا الكلام وقد انتهى وقته منذ زمن ، ما لذي جعلك تتذكرين كل هذا"
ردت عليه (زهرة) بشراسة مفاجئة
"لأني مللت من خداعك لي وهو يذكرني بخداع والدك لوالدتك ، عليك ان تتذكر بأني لستُ مثل حنان لتخدعني ببضع كلمات وتتحكم بي كما تشاء ، فأنا لدي شخصية قوية ولن اسمح لأي احد بأن يطمسها"
اتسعت عينيّ (يزن) بصدمة ممزوجة بالحقد وهي تتكلم عن والدته بدناءة ، ليهمس بعدها بعدم تصديق عابس
"هل تقولين عن والدتي بأنها ذات شخصية ضعيفة وهذا ما جعل والدي يتحكم بها ويخدعها بسهولة"
ابتلعت ريقها برهبة من كمية المشاعر والتي اجتاحتها من كلامه والذي لم تقصده ، لتقول بعدها بقوة حاولت جعلها طبيعية
"ألم تلاحظ هذا ام انك تتعامى عن اخطاء والدتك الفادحة والتي جلبت لعائلتي العار والخزي ، وانا من المستحيل ان اسير على خطاها وافعل نفس خطأها مع عائلة بارون والتي لم تجلب لنا سوى المشاكل منذ سنوات ، لذا ليس بعيدا عنك ان تخدعني مرة أخرى ونحن ببلاد الغرب او تتخلى عني وانا بعيدة عن عائلتي وتستغل عدم وجودهم..."
قاطعتها صرخت (يزن) وهو يرفع قبضتيه نحو عنقها وكأنه ينوي على خنقها بعد ان افقدته اعصابه تماما
"اخرسي يا زهرة ولا كلمة"
صمتت بشهقة خافتة وهي تنظر لقبضتيه بهلع وبعدم تصديق ، ليُنزل بعدها قبضتيه قبل ان يمسك بذراعيها بشراسة وهو يقربها امام وجهه بقسوة قائلا بفحيح متشنج
"اخبريني هل تظنين بأني اسعى لأنتقم من عائلتك لذلك تزوجتك منذ البداية"
عضت على طرف شفتيها بنشيج صامت لتهمس بعدها وهي تحاول إبعاد نظرها عن وجهه الشرس والذي تقابله لأول مرة وكأنها اخرجت الشيطان بداخله
"لقد فعلتها من قبل بالاتفاق مع عائلتي لتنتقم من عائلة بارون ، لذا قد تعيدها مرة أخرى معي لتنتقم من عائلة داوود وهكذا ستكون صفيت حساباتك مع العائلتين"
مرت لحظات وهي تشعر بأنفاسه الحارة بخشونة تضرب نعومة بشرتها بقوة ، ليهمس بعدها بتصلب قاسي
"إذاً هذا هو تفكيركِ نحوي"
زمت شفتيها وهي على وشك البكاء من قسوته والتي تكاد تحطم عظام ذراعيها من تشديده عليهما ، ليدفعها بعدها بعيدا عنه بقسوة وهو يتنفس بحدة بالغة ، وما ان وقفت باتزان امامه بعد دفعه لها حتى قال (يزن) بقتامة وهو يشير بكفه للأسفل وللمسافة القصيرة بينهما
"لم اتوقع منكِ هذا يا زهرة الصغيرة من بين الجميع انتِ من تجاوزتِ الحدود الحمراء المرسومة عندي والتي لم يستطع اي احد تجاوزها وخرج من بين يديّ حيا ، بإهانتكِ لأمي اولاً بعد ما قدمته لكِ من حنان كنتِ تفتقدينه بطفولتك وثانياً بتفكيرك الدنيء نحوي وسبب زواجي منكِ وانتِ تشبهيني بوالدي بالرغم من اني حاولتُ ان افهمكِ اكثر من مرة العكس"
اخفضت وجهها بهدوء وسكون وهي لم تعد قادرة على مواجهة وجهه القاسي وكلامه القاتل وهو يضربها بمقتل وكأنها بتصرفها هذا قد خانته هو ووالدته معا ، شعرت بعدها بحركته بعيدا عنها وهو يقول بصوت جامد غير معبر
"انا لن اعاقبكِ على كلامكِ ولن امسك بسوء فقط سأخبركِ بأنكِ الآن اصبحتِ حرة بعيدا عني وافعلي ما تشائين بحياتك فأنا لستُ مسؤولاً عنكِ بعد الآن ، فمن كنتُ اهتم بأمرها من قبل قد ماتت بهذه اللحظة"
رفعت وجهها ببطء ليقابلها ظهره المتصلب وكم كانت مؤلمة بالنسبة لها وكأنه صفعها بقسوة بدون ان يعلم او يبذل جهدا لفعل ذلك ، لتستدير هي الأخرى بعيدا عنه وهي تنظر من زجاج الواجهة امامها وعينيها المهتزتين تنظران لانعكاس صورته وهي تسير بعيدا عنها بصمت ، شهقت براحة بعد ان نجحت بمخططها وما كانت تسعى إليه ولكنها تشعر الآن بفجوة كبيرة بروحها وندوب ظهرت عليه بعد رحيله ولم تكن تظن بأنها ستسبب كل هذا الألم لكليهما لتبعده عنها لن تستطيع إصلاحها الأيام .
اراحت جبينها على زجاج الواجهة وهي تسمع صوت إقلاع الطائرات يكاد يصم اذنيها من قوته ، لتهمس بعدها بأنين منتحب وهي ترفع نظرها للأعلى
"سامحيني يا عمتي حنان على كل كلمة سيئة نطقتها بحقك ، ولكني لم اجد حل آخر لأبعده عني واجعله يتركني ، لذا ارجوك ان تسامحيني فأنا لم اقصد صدقيني لم اقصد"
زفرت شهقاتها بانتحاب موجع مهتز ودموعها تسقي وجنتيها والزجاج الناعم امامها قبل ان تصرخ بألم وبكل جرح خلفه بداخلها برحيله كحيوان يحتضر ليخرج على شكل صراخ موحش كروحها الموحشة منذ سنوات .
_____________________________
دخلت للمنزل بإحباط وحزن شديد وهي لم تعد تشعر بالأرض والتي تسير عليها ولا بأنها وصلت للمنزل بالفعل ، لتتوقف بتعب وإنهاك وهي تحاول تنظيم انفاسها المضطربة والتي تحاول الدخول لصدرها بجهد لتذبحه اكثر من ان تعيشه كأشواك حادة قاتلة اصبحت تعيش عليها .
"زهرة"
رفعت رأسها بضعف شديد نحو مصدر الصوت لتقع نظراتها على والدها والذي كان ينظر لها بحيرة حادة وببعض القلق ، لم تشعر بعدها بالحقيبة وهي تسقط من كفها قبل ان تجري نحو والدها بسرعة لتعانقه من خصره بقوة وكأنه امانها الوحيد والذي بقي لها بهذا العالم والذي اظلم بوجهها فجأة وهي تدفن وجهها بصدر لتكتم شهقاتها وبكاءها والذي لم ينتهي بعد وهي ترثي احلامها والتي اصبحت على عتبة الماضي ، بينما افاق (عادل) من صدمته على انهيار ابنته بأحضانه واسوء من اي مرة وهو يشعر بجسدها وهو يهتز ببكاء عنيف مرتجف ، ليرفع بعدها ذراعيه بهدوء ليعانق جسدها الضعيف وهو يحاول تهدئة انتفاضاته ويربت على ظهرها وخصلات شعرها ببطء شديد ، لم ينتبه احد لنظرات (سحر) الباكية ودموعها تجري على خديها بدون ان تعرف السبب لذلك فأما من الحنين لهذا الحضن والذي لم تحصل عليه بحياتها وأما تعاطفا مع حزنها الشديد وهي لا تعلم ماذا حدث بعلاقتهما لتعود لمنزل عائلتها بالنهاية ؟
انتفضت وهي تشعر بنظرات موجهة نحوها تحاول اختراقها لتلتفت بسرعة نحو النظرات قبل ان تصطدم بنظرات (فراس) والذي لم تنتبه لوجوده ببهو المنزل ولكن ما لا تفهمه هو نظراته النارية نحوها والتي تكاد تصلها من على بعد من عينيه السوداء الغاضبة ، مرت لحظات وهو ما يزال يعلقها بنظراته النارية قبل ان ينسحب بهدوء وهو يسير باتجاه غرفته بعيدا عن بهو المنزل ، ابتلعت (سحر) ريقها برهبة وهي ترفع كفها لتمسح الدموع عن وجنتيها قبل ان تسير خلفه باتجاه غرفته بخطوات حذرة متوجسة .
دخلت للغرفة ببطء وهي تنظر لظهره المتصلب امامها وكم ذكرتها بأول يوم لها بهذا المنزل ، لتتقدم بعدها نحوه بقلق شديد قبل ان تقف خلفه وهي تنتظر العاصفة القادمة منه بدون ان تعرف السبب لها ؟ وما ان طال الصمت اكثر حتى قالت بخفوت حزين
"ما بك"
استدار (فراس) نحوها بحدة قبل ان يقول بتجهم
"وتسألين ايضا بعد كل شيء حدث بسببكِ ، هيا افرحي ها هي قد تحققت امنيتكِ وانهارت حياة زهرة وكله بسببكِ انتِ"
اتسعت عينيها بصدمة وبعدم استيعاب لتهمس بعدها بهدوء وهي تشير لنفسها بكفها
"أتقصد بأني انا السبب بعودتها للمنزل مكسورة ، وما لذي فعلته بالضبط سيد فراس"
عقد حاجبيه بحدة وهو يقول بحنق
"لا تسخري مني فأنا جاد بما اقوله"
ردت عليه بنفس الحنق
"وانا ايضا جادة ما لذي فعلته لتغضب مني هكذا"
صرخ (فراس) فجأة باستياء متجهم
"لا اعرف ماذا فعلتي ولكني متأكد بأنكِ السبب بكل هذا ، فمنذ دخولكِ لحياتنا والجميع يعاني منكِ ومن عائلتكِ ومن ابن عمك الحقير والذي حول حياة ابنة عمي زهرة لجحيم ، ولم تكتفوا بكل هذا وما زلتم تعذبون زهرة بما تفعلون ، لقد ظننتُ بأن زهرة ستكون محمية من الأذى بزواجي منكِ ولكن يبدو بأني لم استفد شيئاً بزواج المصيبة والتي ما تزال تسبب الأذى لكل من حولها"
عبست ملامحها بارتجاف وهي تحاول السيطرة على الدموع والتي تتسابق للخروج من مقلتيها ، لتهمس بعدها بقوة وهي تنظر له بتركيز
"حقا هذا رأيك ، إذاً سأخبرك الآن بأن زهرة ليست هي الوحيدة والتي تعاني هنا وانت لا ترى احداً غيرها امامك فأنا اعاني هنا اكثر منها فبينما هي لديها عائلة يهتمون بها وتعود إليهم بضعفها انا ليس لدي احد ليسأل عني او اتجه نحوه بضعفي لأني ببساطة اصبحتُ وحيدة بهذا العالم ، وتعلم من هو السبب بحالتي هذه انت السبب"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يستمع لكلامها لأول مرة ناظرا لقوتها الجديدة عليه ، ليهجم بعدها على ذراعيها وهو يمسكها بهما بشراسة قائلا بغضب
"ماذا تقصدين بهذا الكلام ، بعد كل ما قدمته لكِ من حياة لا تستحقينها ، تلومينني بكل شيء حدث معكِ.."
قاطعته (سحر) بانهيار وهي تدفعه بعيدا عنها
"عن اي حياة تتكلم وانا لم احصل على شيء منك سوى النبذ بحياتي ، كنتُ اعيش بهدوء وبروتينية قبل ان تدخل لحياتي لتقلبها رأساً على عقب لتجعل والدي يريد التخلص مني بأسرع وقت ليلقيني لأول يد تتلقفني وهي يد ابن عمي والذي لا يطيقني من الأساس ، وبعدها اتيت انت لتكمل تشويه سمعتي وتجعل والدي يخرجني من حياته نهائياً وبعد كل ما حدث معي تأتي وتلومني على ما حدث بابنة عمك والذي لا يقارن بما حدث معي"
افلت ذراعيها بارتباك وهو يحاول استيعاب كل هذه الحقائق والتي نطقت بها دفعة واحدة ، ليهمس بعدها ببرود متشنج
"ولكنكِ انتِ من وافق على الزواج مني والقبول بي ورفضتي الذهاب مع والدك بالنهاية"
اخفضت عينيها بحزن وهي تهمس بخفوت متحشرج
"كان عليّ ان اختار بين ان اكمل حياتي منبوذة بآخر العالم بعد ان يرسلني ابي بعيدا ليتخلص من العار والذي سأجلبه له ، وبين ان ابقى مع صديق دافع عني وانقذني من وحوش كانت تريد الوصول لوالدي باستخدامي"
ابعد (فراس) وجهه بعيدا عنها بتشنج بآخر كلماتها والتي نطقتها للتو بألم وهو يكتشف الآن مكانته عندها والتي لم يكن يعلم عنها ، بينما اخفضت (سحر) وجهها وهي تشهق ببكاء قائلة بتقطع وهي تنظر لكفيها المشدودين ببعضهما
"كنتُ ابحث عن الاهتمام والحب منذ صغري ، لذا فكرتُ بأن الخروج من هذه العائلة بعيدا والتي لم تعطيني الاهتمام الذي اسعى إليه سيجعلني اجد حبي ، وكان يزن هو خياري لأجد معه الاهتمام الذي ارغبه ولم اكن اعلم بزواجه من اخرى ، وعندما ارغمني والدي على الزواج منه ظننتُ بأن املي بأن اجد حبي معه قد عاد ، ولكن يبدو بأن هذا لم يحدث فهو متعلق بابنة عمك اكثر مني ، لذا تقبلتُ هذه الحقيقة وفكرتُ بأن اقبل بأي شخص يرغب بالزواج بي ليستطيع يزن ان يحررني ويرتاح من حملي"
كان (فراس) ينظر لها بغموض وتركيز قبل ان ترفع وجهها نحوه فجأة وهي تهمس بخفوت مرتجف من البكاء
"سامحني لأنك كنت انت الخيار لأقبل بالزواج منه واحرر يزن من حملي ، سامحني لأني احاول ان اجد الاهتمام بك وبعائلتك ، وسامحني لأني سببتُ الأذى لزهرة بدون ان اقصد فأنا بالنهاية بشر ولدي رغبات بالحياة ولا استطيع منعها من الظهور"
كانت (سحر) تتنفس بسرعة وبنشيج وشهقاتها تزداد عنف ونحيب ، لتشعر بعدها بحضن يحتويها بهدوء وكف تربت على رأسها بهدوء وبرتابة ، لتغمض بعدها عينيها براحة وهي تتلقى الحضن والذي حلمت به منذ صغرها ورأته امام عينيها يحدث مع (زهرة) وكم كان شعورا رائعا الحصول على مثل هذا الحضن ، مرت لحظات ناعمة برقة النسيم بينهما قبل ان يقطعها (فراس) وهو يقول بتردد
"ما رأيكِ ان نبدأ من جديد"
انتفضت بعيدا عن حضنه وهي تهمس بعدم استيعاب
"لم افهم"
رفع (فراس) كفه بهدوء ليمسح الدموع عن خديها قبل ان يمد كفه امامها وهو يقول بابتسامة هادئة
"انا اقصد ما رأيكِ ان نفتح صفحة جديدة بيضاء بيننا ونبدأ كل شيء من جديد وكأننا الآن التقينا ببعضنا وتعارفنا للتو ، هل انتِ موافقة على كلامي"
فغرت شفتيها بانشداه وهي تنظر برهبة لكفه المفرودة امامها وكأنه يعرض عليها صفقة وهي عليها اما بالرفض او الموافقة ، لترفع كفها بارتجاف وتوجس قبل ان تضعها بكفه المفرودة وكم بدت صغيرة بداخل كفه ذات الأصابع الطويلة ، احاط (فراس) كفها بقوة وهو يشدد عليها قائلا برفق
"هل اعتبرها موافقة يا سحر بارون"
حركت رأسها بهدوء وحياء وهي تبتسم له بارتجاف ، ليحملها (فراس) بين ذراعيه بهدوء وهو يتجه بها للفراش قبل ان يصعد فوقه ليضعها بمنتصفه ويريح رأسها فوق الوسائد ، ليقول بعدها بخفوت وهو يمسك بجانب وجهها بحنية
"هل انتِ مستعدة لدخول عالمي يا زوجة فراس داوود"
عضت على ابتسامتها بخجل وهي تحرك رأسها بهدوء قبل ان يرفع (فراس) ذراعه نحو المنضدة الجانبية ليطفئ الأنوار بالغرفة وتغرق بالظلام ، لتشهق (سحر) بفزع من الظلام والذي حل على الغرفة فجأة قبل ان يسكتها (فراس) بقبلة صغيرة لشفتيها المنفرجتين بأغراء وهو يهمس فوقهما باطمئنان
"لا داعي للخوف فأنا موجود بجانبك"
وبعد هذه الكلمات والتي بعثت الراحة المطلقة بداخلها والتي اشتاقت لسماعها منذ صغرها حتى اراحت وجهها على كتفه العريض وهي تلقي بكل مخاوفها خلف ظهرها متنعمة بهذه السعادة والتي اضاعت طريقها لتصل لها بالنهاية على هيئة شخص يعوضها عن كل الحرمان والذي عاشته بحياتها من عائلتها ومن كل من تعرفهم وكل ما تتمناه الآن ألا تستيقظ من هذا الحلم والأجمل بحياتها والتي لم ترى منها سوى الكوابيس فقط .

قلوب معلقة بالماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن