الظلام الحالك يسود الأجواء، وقد رُفع أذان العشاء منذ ساعات، من المؤكد أن الناس نيام في هذه الأوقات، لإنها إحدى قرى الصعيد، بالتحديد داخل محافظة سوهاج.
المعروف في صعيد مصر وبالأخص بتلك القرية، أن الناس يذهبون إلى أسرتهم بعد صلاة العشاء ليستيقظوا عند الفجر في كامل النشاط؛ مزاولين مهنة الزراعة والحرث التي تُمثل مهنة أغلب القانطين بها أو البعض الأخر فيما يخص الأثار والسياحة.
تسللت فتاة تتشح بالسواد من أخمص قدميها إلى أعلى رأسها، تتلفت حولها بقلق لتتيقن من خلو الطريق ثم أسدلت وشاحها الذي به درجة من الشفافية يسمح لها برؤية موطئ قدميها، أغلقت باب المنزل الداخلي خلفها بهدوء، تتوجس إيقاظ حارس البوابة الذي يغط في سبات عميق.
حاولت أن تكتم ضحكاتها على صوت شخيره الذي ينافس صوت صافرة القطار في الإزعاج، تقدمت من البوابة الرئيسية وقبل أن تغادر توقفت لحظات ثم استدارت عائدة إلى الحارس، أسندت خصرها بيدها ولوت شفتيها من أسفل الحجاب قبل أن تبتسم ابتسامة خبيثة تعبر عن نيتها الطفولية، اقتربت منه على مهل رافعة طرف التلحيفة الموجودة حول عنقه ووضعتها على وجهه لتخفي كلا أنفه وفمه، رغم ثقلها إلا إنها بدأت بالإهتزاز إثر تأثير تتابع أنفاسه المصاحب لشخير مرتفع الضجة.
تراجعت مسرعة قبل أن تخونها ضحكاتها فيلتغي الموعد الذي جازفت من أجله في الخروج من منزلها بتلك الساعة.
عبرت البوابة الرئيسية وأغلقتها خلفها بهدوء ولكن تركتها مفتوحة قليلاً حتى تستطيع العبور إلى الداخل مجدداً حين عودتها، وبمجرد خروجها حثت قدميها على المسير بسرعة.
***
فُتح باب الشقة بهدوء وتسلل الظل إلى الداخل على أطراف أصابعه محاولا عدم إحداث أي ضوضاء أو جلبه قد تتسبب في إيقاظ حرمه المصون من نومها، فإذا حدث وأفاقت من سباتها سيقضي المتبقي من الليل في جدال عقيم ينتهي بغضب كل منهما من الأخر ويجعل حياتهما أكثر تعكيرا.
انتشر الضوء في كل أنحاء الشقة معلنا فشله في التسلل خفية إلى الداخل دون أن تشعر به زوجته، فيبدو أنها كانت جالسة بانتظاره تتوعد له بليلة طويلة من الصراخ .. هذه هي عادتها منذ عدة أشهر، تجعل حياتهم كالجحيم في الأرض.
تنهد بصوت مرتفع يحاول أن يستعد نفسيا لما هو قادم بينما نهضت من مقعدها ووقفت أمامه بملامحها الغاضبة التي تسببت في إختفاء أي أثر لجمالها البديع، فقد تحولت زرقة عينيها الرائقة إلى قطعة جليد يتوعد بالدمار كما جمعت شعرها فوق رأسها مبعثرة بضع خصلاته كأنها تعلن استعدادها لمعركة ضارية.
بدأت الحديث مضيقة بين عينيها: كنت فين يا فادي ؟
أجابها بثبات: ف الشغل
- لحد الساعة إتنين بعد نص الليل ؟
- الشغل عايز كدا أقول لا ؟
- أومال لو كنت موظف ف الشركة مش صاحبها كنت عملت إيه ؟
تنهد صابرا: ما هو عشان أنا صاحبها باتأخر فيها
تكلمت بسخرية: لما حضرتك تشتغل للساعة دي، يبقى بلاها موظفين أحسن وأشتغل فيها لوحدك
- نجلاء، اقصري الشر أحسن، أنا جاي تعبان ومافيش خُلق للخناق
- ومين قال إننا بنتخانق؟ دا بس مجرد كلام، هو أنت لسه شوفت خناق
- ما أنا بأمهدلك عشان ما تدخليناش في مرحلة الخناق دي
- طب شغل واحد معاك تاني .. يشيل من عليك حمل الشغل دا كله ع الأقل يوفرلك ساعتين تلاته راحه
- أنا مش بأمن لأي حد وبعدين دا شغل مهم ما ينفعش حد غيري يعمله ... عن إذنك بقى أروح ارتاح شوية
- أه، عشان تنزل من النجمة وأصحى مالاقكش كالعادة
زفر بقوة قائلاً بتعب: تصبحي على خير يا نجلاء
ابتعد عنها متجهاً إلى غرفة النوم لكنها أوقفته بكلماتها الجارحة التي تُذكره دائماً بأنها هي السبب فيما هو فيه الآن: أنا كتير بأندم إني خليت بابا يديك الفلوس اللي فتحت بيها الشركة دي
استدار إليها نصف إستدارة وحدثها من فوق كتفيه: أول ما الشركة تقف على رجلها ويبقى معايا سيولة هأرجع لبابكي كل قرش أدهوني بالفايدة كمان لو تحبي
ابتسمت ساخرة: وهو أنت فكرك أنك لما ترجعله الفلوس يبقى خلاص مالوش جميل عليك ؟
بدأ الغضب البارد يلتمع في عينيه: ومين قالك إني ناكر للجميل ؟، إنتي اتكلمتي عن الفلوس وأنا بأطمنك أنها هترجعله تاني مش هأكلها عليه يعني
- أنت عارف كويس إن بابا مش بيفرق معاه الحاجات دي
ثم تابعت ببطء: مادام أنا مبسوطة
حدق بها بتركيز متسائلا: وإنتي مش مبسوطة ؟
عقدت ذراعيها وأدرات ظهرها قائلة بحزن: وهأنبسط إزاي يعني وأنت بتجيلي بعد نص الليل وبتمشي الصبح بدري ومش قادرة أقعد معاك ساعة على بعض
اقترب منها وأمسكها من كتفيها مديرا إياها لتواجهه، قال مبتسماً بحب: طب أنا مش بأشتغل عشان أظبط حياتي أنا وإنتي ؟، عشان تعيشي مرتاحه واللي تطلبيه يجيلك على طول
وضعت يديها على صدره العريض ونظرت إلى عينيه السود قائلة بدلال: أنا عايزاك أنت مش عايزة أي حاجه تانية
اتسعت ابتسامته وغمزها: يعني عندك استعداد ما تغيريش عربيتك كل سنة وتبطلي تروحي للكوافير 3 مرات في الأسبوع وما تشتريش كل شهر دولاب هدوم كامل وما تسافريش برا ؟
زمت شفتيها بطريقة جعلته يكتم ضحكته بصعوبة بينما أجابته على استحياء: بص العربية مش مهمه والسفر بردو مش ضروري أوي بس اللبس والكوافير أنا ما أقدرش أعيش من غيرهم .. أنا مش بأعمل حاجه في يومي غير إني أهتم بلبسي وشعري
أمسك ذقنها بين أصبعيه: يبقى تستحمليني شويه، أظبط الأمور وأثبت رجلي في العالم اللي أنا دخلته دا وبعد كدا هأفضل معاكي لحد ما تزهقي مني
تنهدت بقلة حيلة: وهو أنا ف إيدي حاجه غير إني استحمل واستنى ؟
ضمها إلى صدره حيث أصبحت دقات قلبه تصل إلى مسامعها: أه لو تعرفي بحبك قد إيه .. عمرك ما هتقلقي للدرجة دي
لفت يديها بقوة حول عنقه وهي تدفن رأسها بين طياتها: أنا بحبك أكتر مما تتخيل، حبي ليك مالوش حدود وهو دا اللي بيخليني هاتجنن عليك، وبخاف عليك من أي واحدة ممكن تاخدك مني
قبل وجنتها النضرة هامساً: إنتي مافيش منك أصلاً، فيه حد يسيب الأصل وياخد صورة ؟
همست بحنق: فيه ناس بتحب الرمرمه !
ضحك مبعداً إياها عن صدره: وأنا ف نظرك رمرام يا ست نجلاء ؟
هزت كتفيها: مش عارفه بقى
وضع يداً أسفل ركبتيها واليد الأخرى إلتفت حول خصرها ثم قام بحملها متجهاً إلى غرفتهما الخاصة، همس في أذنها هائماً: أنا بقى اللي هأعرفك
ابتسمت بخجل وقد عقدت ذراعيها خلف عنقه باحكام، هذا حبيبها الذي فضلته على جميع الرجال، فقط من دق قلبها من أجله.
***
طرقت بالهاتف على كفها في قلق، رفع زوجها نظره من فوق أسطر الكتاب المشغول في قراءته متنهداً: أنا نفسي أفهم إنتي بتقلقي نفسك ليه ؟ الراجل بيتأخر ف شغله مش عيب وبنتك بتقلق زيادة عن اللازم
ثم أضاف مازحاً: وحسب اللي أنا شايفه هي مش جايباه من برا
تنهدت: ما أنت سمعت صوت البت كان عامل إزاي، فضلت تعيط لحد لما دموعها نشفت، أكيد في حاجه أكبر من إنه اتأخر عليها
- يعني هيكون في إيه أكتر من كدا ؟
وضحت بهدوء قلق: يمكن يكون عارف واحدة عليها
اعتدل في جلسته وظهر على ملامحه الغضب: استغفري ربنا يا سمية، إن بعد الظن إثم، الواد ما شوفناش منه العيبه وقمة في الأخلاق، قوليلي حاجه واحدة عملها تخليكي تظني فيه كدا
أشاحت بيدها حيرة في أمرها: مش عارفه بقى أهو اللي جه ف بالي
عاد يستغرق في كتابه بعد أن قال لها: اهدي يا سمية وعقلي بنتك بدل ما تشعليلها أكتر، وبعدين إنتي عارفه بنتك أكتر من أي حد تاني، يعني دي تعمل العامله وتقول مش أنا .. فهميها تتعامل إزاي مع جوزها وسيبيهم سوا وياريت ما تتدخليش بأكتر من كدا خليها تعتمد على نفسها، هي هتفضل عيله لحد امتى ؟، وكمان إحنا مش هنفضلها العمر كله
أومأت موافقة فكل كلمة قالها زوجها لديه بها كامل الحق، وضعت هاتفها على المنضدة المجاورة وأمسكت بالمصحف تتلو آياته لتهدأ قليلاً ويخف قلقها.
بعد مرور دقائق معدودة، سمعت سمية المفتاح يدور في قفل الباب ويدخل ولدها الأكبر وقد ظهرت عليه ملامح الإعياء.
شهقت بفزع واتجهت إلى ابنها بقلب مفجوع: مالك يا حمزه ؟، وشك مخطوف كدا ليه ؟
حاول أن يرسم ابتسامة وإن كانت باهتة على شفتيه، قال يُطمئن والدته: مافيش حاجه يا ماما، أنا بس ما نمتش من يومين فعشان كدا تعبان
اقترب الأب مردداً: حمدالله ع السلامة يا ابني
ثم أضاف عندما رأى مظهره: بلاش تتعب نفسك زيادة في الشغل
سمية بحنان: اطلع خد دوش سخن عقبال ما أجهزلك لقمة تاكلها
حمزه بإرهاق: لا ما تتعبيش نفسك هأنام على طول عشان مسافر الصبح بدري لقنا
سمية بفزع: أنت لحقت ترجع من دمياط عشان تروح قنا !، يا حمزه مش كدا حرام عليك نفسك، ربنا هيحاسبك عليها وعلى اللي بتعمله فيها
لاحظ الأب إرهاق ولده وعدم قدرته على الحديث فأنهى الحوار: روحي إنتي حضري الأكل عشان ياكل وأنت روح استحمى وتعالى كُل
ثم أضاف بحزم عندما لاحظ بوادر اعتراضهما: اعملوا اللي بأقولكوا عليه من غير مجادلة وكلام كتير
تنهد حمزه ثم إتجه إلى غرفته ينفذ أمر والده بينما نظرت سمية إلى زوجها في ألم: هو هيفضل يقتل ف نفسه كدا لحد إمتى ؟
- إدعيله إنتي بس إن ربنا يريح باله ويهدي سره
- ما أنا بأدعي دايماً بس من ساعة البت اللي ما تتسمى دي وهو حاله اتقلب وبقى بيشتغل كأنه بينتحر، ربنا ينتقم منها
زجرها زوجها: خلاص يا سمية، ما تدعيش على حد كفايه إنك تدعيله هو بس
تنهدت متجهة إلى المطبخ: حاضر يا أحمد أديني سكت أهو
عاد أحمد إلى مقعده وتابع قراءة كتابه داعياً لابنه بصلاح الأحوال.
***
وقف أسفل شجرة المانجو الضخمة يفرك يديه ببعضهما ثم يرفعهما بالقرب من فمه لينفث فيهما أنفاسه لعلها تبعث بعض الدفء، رأته من على بعد وهو يسير ذهابا وإيابا، تبسمت وهي تقترب هامسة: أسفة لو اتأخرت عليك بس عقبال ما عرفت أخرج من البيت واتأكدت إنه الكل نام
اقترب منها متناسياً برودة الجو وابتسم: ولا يهمك أنا مستعد أقف 100 سنة من غير ما أزهق أو اشتكي المهم إني هأقابلك
ابتسمت بخجل، حاول أن يرفع الحجاب ليظهر وجهها لكنها نفرت إلى الخلف في فزع، قال مهدئاً: ما تخافيش أنا بس كنت عايز ارفع الطرحة دي عشان أشوف وشك .. ما تعرفيش وحشني قد إيه
تلفتت حولها بقلق ثم رفعت الحجاب مظهرة وجهها الذي أضاء بسبب ضوء القمر المسلط عليه فبدت كحورية قد هبطت من الجنان، رغم أنها من أقصى الصعيد إلا أنها تمتلك بشرة بيضاء ناعمة كالأطفال بسبب قلة تعرضها لضوء الشمس - فمن غير المسموح لها الخروج إلا في أضيق الحدود- عيونها البنية تلألأت نتيجة للحب الممزوج بسحر ضوء القمر كذلك البسمة الناعمة على شفتيها الكرزيتين؛ كل ذلك أضفى عليها سحراً خرافياً.
همس لها ولهاً: وحشتيني
نظرت أرضاً بخجل قائلة بصوت بالكاد سمعه: بس ..، ماينفعش اللي أنت بتقوله دا
ابتسم: طب طمنيني عنك .. أخبارك إيه ؟
هزت كتفيها: عادي زي كل يوم
أردفت بقلق: أنت طلبت تشوفني هنا وفي الوقت دا عشان تسألني على أخباري ؟
تنهد: لا، بس كنت عايز أقولك إني طلبت إيدك من أبوكي
لمعت عينيها بسعادة: وإيه اللي حصل ؟
- رفضني
سألته بحزن: ليه ؟
- عشان يتيم وماعنديش لا أب ولا أم، شغلي مش ثابت يعني إنهارده بأشتغل بس بكره يا عالم
- بس دي أرزاق بإيد ربنا، وأهلك مالكش يد ف موتهم
- قولي لأبوكي الكلام دا مش ليا أنا
زفرت بقوة: دا على أساس إني لو قولتله هيغير رأيه يعني
تابعت وهي تنظر له برجاء: طب وهنعمل إيه دلوقتي ؟
اقترب منها ولكن عندما لاحظ تراجعها تنهد متوقفا: مافيش غير حل واحد
سألته بلهفة: وإيه هو ؟
أجابها لهجة قوية كأنه لا يوجد أمامهما حل أخر: إننا نهرب سوا يا حياه !

أنت تقرأ
رُزقت الحلال
Romantizmإلى كل من رأى أن خطأه لا يغتفر وأنه ما عاد هناك طريق للعودة فلتعلم .. أنا أبواب التوبة دائماً مفتوحة على مصرعيها لا تقفل ساعة أو تستريح حيناً فإذا أدركت خطأك وأين مربطه .. قاومه .. عالج داءك بيدك وقوتك التي وهبها الله لك فلتكن حراً من كل قيد وأسر فل...