مراجعة الأدلة.

40 13 0
                                    

«تعبت، زهقت، شايفة إن مفيش أمل تاني! كُل حاجة بتتقفّل قُدامي ومحدش حاسس بـيَّ حتى أقرب الناس لـيَّ، كُل مبقاش يشوف غير مصلحته وإللي هو عاوز يشوفه وبس، ومش مُهم حد تاني؛ عشان كدة مكانش قُدامي غير الحل ده.. مكانش قُدامي غير إني أموت، يمكن أشوف الحلو إللي إتحرمت منه في الدُنيا، في الأخرة».

أنهيتُ كلامي تزامُنًا مع دخول صاحب الفُندق بفنجانيۡ قهوة وكأنه بات الفراش الخاص بمكتبي! وضع فنجاني الخاص أمامي فقُلتُ له وأنا لا أزال مُمسكًا بالورقة التي تركتها سمر -أو قاتلها- وأقرأ ما بها بصوتٍ مسموع:

- ركز كدة في إللي جاي ده..

فجلس بمواجهتي مُنتبهًا دون أن يغمض له جفن، إذ بات عادل الدهشان زميلي في القضية الآن!

- .. «محمود، راتب، سامي، عابد، رويدا؛ إنتوا السبب في إللي أنا وصلتله، أو علىٰ الأقل أغلبكوا، فيكوا الشخص الحقيقي إللي كان سبب ورا مأساتي في الحياة، وفيكوا إللي كان سبب ورا موتي عشان مهتمّش بـيَّٰ، عشان أهمل أقرب الناس ليه، وفيكوا إللي شافني مش موجودة بمنتهىٰ البساطة، وفيكوا إللي ظلمني».

رفعتُ عيني مؤقتًا لأرىٰ التعابير التي كانت تعتلي وجه عادل الدهشان لحظتها فوجدته مُنتبهًا كُل الإنتباه معي، فأكملت:

- .. «علىٰ العموم، مش هيفرق دلوقتي العِتاب، أهم حاجة تكونوا مبسوطين دلوقتي، مش هتوحشوني!».

ثم ألقيتُ الورقة علىٰ المكتب من أمامي مُنتظرًا الرد من عادل عمَّا قيل، وقد عقدتُ يديَّ من أمام صدري كإيماءة مني علىٰ الإنتباه برغم الضيق، لـمَٰ سيُقال.

- .. بصراحة، أنا شايف إنها انتحرت.

سُرعان ما استنتجتُ سر هذا الاستنتاج:

- شايف إنها انتحرت، ولّلا نفسك تكون انتحرت؟.. عشان الفُندق بتاعڪ ميتقفلش.

ظهرت تعابير الخجل علىٰ وجهه لجُزءٍ من الثانية ثم بادر بتبديلها عمدًا ليُثبت العكس بقوله:

- أصل بالعقل كدة يا باشا؛ مين في الناس إللي فوق دول له مصلحة من قتلها؟

سؤالًا منطقيًّا!

فتحت يدايَ لأُخرج من جيب سُترتي عُلبة السجائر ثم أخرجتُ منها واحدة قبل أن أُشعلها، وقد كان هذا ملجئي الوحيد للهرب من التوتر أو الجهل بأمرٍ ما، وأحيانًا استخدمها لتسهيل عملية التفكير. وبالرغم من أن عادل الدهشان ليس مُدخن.. الأمر الذي كان من الواضح استيعابه لعدم وجود مطفئة سجائر علىٰ مكتبه، إلَّا أنه لم يُظهر حتىٰ تعابير الضيق إشعالي السيجارة.

- .. شوف يا عادل، أحيانًا القاتل مبيعملش كدة عشان مصلحة مُعينة، في ألف سبب وسبب مُمكن يوصلّوا الجاني إنه يرتكب الجريمة ضد المجني عليه، منها حاجات كتير زي الضغينة الشخصية، أو التار، أو حتىٰ الغيرة؛ يعني عندڪ أشهر مثال حيّ علىٰ كلامي ده هو «قآبيل وَ هآبيل»، بصرف النظر عن مين فيهم قتل التاني، المُهم إن القتل مكانش ناتج عن فايدة مادية أو حتىٰ معنوية.

فأومئ عادل برأسه علامة الإيجاب، عندها توقفت مكاني لألف حول المكتب عدة مرات وأنا أُدخن.

- السؤال الصح؛ «إللي قتلها قتلها ليه؟».

ثم أشرتُ نحو عادل قائلًا:

- إحنا هنعتبر الصفات إللي موجودة في الورقة ديه صفات القاتل مش المقتولة، بكدة هنوصل لخيط.

فأجاب عادل وقد بدأ يحصوهن علىٰ أصابع يده:

- اكتئاب حاد، ميول انتحارية، جرأة مُفرطة، سيكوباتية، نرجسية..

وقد غفل عن أهمُّهن:

- .. نسيت أهم واحدة؛ التكبُّر! إللي ساب الجواب ده كان فاكر إن زكاؤه مُمكن يخرجه من كارثة زي ديه لو كتب إسمه وسط المُتهمين عادي، كان فاكر إنه هيدخل وهيخرج من غير ما يتعرف.

رأىٰ بعينايَ لمعان غير طبيعي، فبدأ يشعر بالريبة.

- طب ما مُمكن مَيكونش فعلًا من المُتهمين يا باشا!

قالها عادل بنبرة تلقائية، فأجبت:

- لأ، عشان محدش مُمكن يكون أقرب من المُتهمين دول للدرجة إللي تخليه يعرف قد إيه سمر كان ليها ميول انطوائية في آواخر أيامها، وكان عارف كويس قوي إنها مُمكن تتنقل لفُندق فاضي ضايع زي الفُندق بتاعڪ.

ولقد اعتبرها صاحبنا إهانة، فأشرتُ نحوه قائلًا:

- متزعلش، بس أنا بدور في أجازاتي أصلًا عن الفنادق الضايعة عشان محدش يزعجني، وأهو حصل.

فضحڪ.

- .. المُهم، إحنا كدة عارفين إن المُتهم مش هيخرج من الخمسة بتوعنا.

قال:

- يعني إحنا كدة بندوَّر علىٰ أسوء واحد فيهم؟

- برضه لأ! إحنا كدة بندوَّر علىٰ أكتر واحد فيهم شبه سمر، فيه من صفاتها.

فأومئ برأسه علامة الإيجاب، وكان هذا تزامُنًا مع إنتهائي من السيجارة.

* * *

جرافولوجي | Graphologyحيث تعيش القصص. اكتشف الآن