زهرة ربيع عمري الجزء الثاني من سلسلة وللعمر بقية-الفصل الرابع

553 23 0
                                    

:"والدها رجل سيئ"
قالتها فلة بينما تنظر لها ثم تنهدت وهي تكمل: "كان يكبرني بثمانية أعوام ولم يخبرني أنه متزوج من امرأتين أخرتين.. أظنه أخبر أبي الذي لم يهتم سوى بتزويجي فقد كان مريضًا وخائفًا من تركي وحيدة"
اتسعت عينا أصالة بينما تسرح فلة بماضيها الذي بدا مدى ألمه على ملامحها التي شحبت لتبدو كأنها كبرت ضعف عمرها وهي تسهب: "وكانت هذه أولى الكذبات بسلسلة طويلة من الكذبات التي انتهت بهروبي منه.. مع فتاة بالسادسة وطفل بالرابعة دون أن أعلم أني حامل بالطفلة الثالثة.. فعدا عن زواجه من امرأتين.. كذب علي وأخبرني أنه سائق شاحنات وقد كان يملك شاحنة بالفعل وأنا صدقته.. وأنجبت زهرة وبعدها بعامين أنجبت أنور.. بعدها أصبح يغيب لأيام وربما أسابيع وأنا لم أكن أسأل فقد كنت لا أتلقى منه أي شيء"
سألتها أصالة: "كيف؟.. ألم يكن يمنحك مالًا أو يساعدك؟"
ضحكت بسخرية وهزت رأسها نفيًا بينما ترد: "لا.. كان وجوده كعدمه.. على العكس كان غيابه أفضل.. فقد كنت أكره أن يرفع يده على أبنائي خاصة أنهما كانا هادئين ولا يسببان المشاكل.. وقد نلت القليل منه لكني كنت أردعه وبإحدى المرات طردته.. لكن كنت أوافق على مصالحته لأجل ابنتي.. كنت أفكر بمستقبلها دون أب وأشعر بالحزن من التسبب بحرمانها منه.. إلى أن اكتشفت أنه لن يضرها شيء سوى وجوده قربها"
ابتلعت لعابها والتفتت لها تكمل: "بإحدى الأيام أتت امرأة غريبة لمنزلي.. لم أعرف إلا اسمها.. نوارة.. نوارة كانت بنفس عمري أرتني صورة لها مع زوجي وأخبرتني أنها زوجته"
كانت أصالة تنصت لها دون تعبير بينما تردف: "لم أصدم فقد توقعت شيئًا كهذا ولم أغضب.. والعجيب أنها توقعت عدم صدمتي وقالت أن ما عانيته أنا هي الأخرى عانته معه.. لكن كان الأسوأ ما قالته تاليًا.. أخبرتني أنها انجبت منه طفلين وأنها تنوي أن تتطلق لأنها اكتشفت بوجود أربعة مثلي أنا وهي"
شهقت أصالة بعنف بينما تقول بصدمة: "أربعة بالإضافة لك.. أتعنين أنه متزوج من ستة لا ثلاثة؟!"
أومأت لها فسألتها: "كيف؟!"
ردت: "بعضنا كان بعقود رسمية والأخريات بعقود عرفية وهذا كان وقتها.. أنا لا أعلم كم تزوج قبلها أو بعدها.. نوارة وقتها أخبرتني أن تلك لم تكن المشكلة.. المشكلة بما يعمله حقًا.. أخبرتني أن قريبها اكتشف أمره وطلب منها تركه بعد أن كانت تملك شكوكًا حوله.. سميح كان سمسار زواج سياحي"
انعقد حاجبي أصالة وهي تسأل: "زواج ماذا؟!"
ردت: "زواج سياحي.. أي أنه يزوج الفتيات من رجال أجانب يأتون بشهور الصيف ليتزوجوا فتيات صغيرات مقابل بعض المال.. وبعدها يتركونهن وربما يأخذونهن معهم وغالبًا تختفي الفتاة بعدها"
كانت مصدومة بالفعل وقالت بذهول: "هل هذا قانوني.. هل أحله الشرع حتى؟!"
هزت رأسها ترد: "لا أعلم.. كل ما علمته وقتها أن نوارة أخبرتني أنها علمت أن زوجته الأولى أخذ منها ابنتها قبل أسبوعين.. ومنحها لأحد هؤلاء الرجال وكانت الفتاة في الرابعة عشر وحسب.. عندها فهمت لم هي هنا.. كنت بالفعل أملك شكوكًا حيال عمله فقد كان يملك مالًا كثيرًا لم أفهم أبدًا مصدره.. وعندما كنت أسأله كان يخبرني أنه للعمل.. ونوارة لم ترد أن تلاقي أي فتاة مصيرًا ترفضه لابنتها لذا قررت تحذيري بعد أن أخبرها قريبها بمكاني.."
ابتسمت بحزن تهمس: "كان معروفًا لا يمكنني رده وبعد رحيلها حزمت حقائبي وتوجهت لمنزل عمتي مع أبنائي.. كان والداي قد توفيا وأنا كنت أعمل مع عمتي بالخدمة منذ بلغت الثالثة عشر.. خدمت والدتك ووالدة زوجك رحمهما الله لفترة مع عدة منازل أخرى لأتمكن من تأمين معيشتنا مع عمتي بهذا المنزل الذي كتبته باسمي فيما بعد.. فلم تكن تملك غيري أنا وأبنائي.. وعندما عرف سميح مكاني حماني والد أمير ومنعه من الاقتراب مني أو من أبنائي وأنا أصررت أن يطلقني فلم يتأخر بالذات بعد أن اخبرته أني لن أطلب منه أي شيء.. كنت وقتها حامل وأنجبت نوارة وقد قاست الكثير معي.. فما أن بلغت العاشرة بدأ المرض والتعب ينالا مني.. وبعدها بثلاثة أعوام هدني الزمن فاضطررت لتقليل العمل.. وقتها علمت أن الله عوضني خيرًا فأبنائي الثلاثة خرجوا للعمل معي ليعينوني وبعد ستة سنوات أتى سميح عارضًا علي عشرة آلاف جنيه مقابل تزويج الفتاة الكبيرة"
ضحكت بسخرية وأكملت: "كان قد نسى اسمها حتى.. ولحسن حظي أنها كانت مخطوبة لعلي زوجها.. فأسرعت بإتمام الزواج بعد أن تفاهمت مع والدته وبالمرة التالية كانت زهرة قد تزوجت.. يومها نظر لنوارة وأنا أخبرته ألا يفكر حتى.. وأني لا أنوي بيع ابنتي وألا يريني وجهه مجددًا.. لكنه نظرنحوي وأخبرني أني لن أخفيها عنه للأبد.. عندها علمت أني لن أخلصها منه سوى بتزويجها مثل شقيقتها لكن للأسف لم يتقدم لها أي رجل مناسب ولم أرد فعل ما فعله أبي"
كانت أصالة لا تزال على صدمتها فرغم كل المآسي التي كانت تقرأ عنها وتسمع القليل منها إلا أنها لم تشعر بالألم لأجل أي شخص كما تشعر به الآن تجاه فلة وعائلتها.. لابد أنهم عانوا كثيرًا بكل شيء.. فعائلة بلا أب أو عمل أو شهادة أو حتى معاش يعينهم كيف تحملوا كل هذا.. اقتربت منها وانحنت نحوها تربت على كتفها وقالت: "لا تخافي"
التفتت تنظر لها فأكملت: "أنت تعبت ولن يضيع الله تعبك ثقي بهذا"
ابتسمت لها وهمست: "أعلم أنه لن يضيع ما بنيته وسيحميني كما حماني دائمًا"
**
لم تعلم كم من الوقت نامت كل ما تذكره استيقاظها لتجد نفسها مستلقية على فراش لتواجه سقفًا من الخشب القديم العفن.. وبعد بضع دقائق استقامت وتأكدت بأنها لا تحلم وعندها تذكرت ما حدث.. نهضت سريعًا وتلفتت حولها وما أن رأت بابًا ركضت نحوه وحاولت فتحه لكنه كان موصودًا.. حاولت وحاولت دون جدوى.
التفتت وبدأت بالبحث عن مكان آخر تخرج منه لكنها كانت بغرفة مغلقة من كل الجهات.. وبعد دقائق وبينما كانت لا تزال واقفة تتخبط بين الخوف وبين محاولة إيجاد حل وجدت الباب يُفتح ووالدها يدخل ويقف أمامها.. كانت تشعر بغضب عارم وخوف لا يضاهى لذا سألت بتوتر: "أين أنا؟.. لم أحضرتني إلى هنا؟
"
رسم ابتسامة بدت باردة ومزيفة ولم تفهم هل هو ممثل سيئ أم هي من كانت تكرهه لدرجة أن تقف أمامه لا تشعر نحوه سوى أنها تتمنى اختفاءه.. تحرك نحوها قائلًا: "ألم تملي من الخدمة بالبيوت نوارة؟"
ابتلعت لعابها بينما تراه يقترب منها أكثر حتى أصبح على بعد خطوات منها.. ومع كل خطوة يقتربها كانت تشعر بأنفاسها تختنق أكثر وأكثر وهي تحاول ادعاء الثبات والهدوء: "أعني أنتِ لستِ بالجمال المطلوب.. لكن منذ متى كان الجمال مطلوبًا لحصد المال عزيزتي؟!"
وقف أمامها وهي لثوانٍ شعرت بالألم من كلماته وعلمت أن هذا كان واضحًا.. فقد شعرت بدمائها تتجمد وهي تحاول ألا تبكي بينما يبتسم بتشفي كأنه حقق انتصارًا لكونه آلمها بمواجهة الحقيقة وقد استغل هذا وأكمل: "أنتِ لن تنالي الكثير ببقائكِ بذاك البيت.. تفعلين ما سبقتك والدتك بفعله سنين.. تخدمين البعض وتعدي الطعام للبعض الآخر.. لن تنالي شيئًا من تنظيف قذارة غيرك ووالدتك خير دليل على صحة كلامي.. ها هي الآن حبيسة الفراش معظم الوقت بعد أن فقدت صحتها للا شيء.."
انحنى يقترب من وجهها أكثر وهو يردف: "لكن معي ستنالين كل ما تحلمين به.. طاوعيني ولن تندمي"
لم يكن هناك فرصة للتفكير حتى.. هو لن يخدعها بكل ما قاله فهزت رأسها برفض لتتسع عيناه بصدمة ألجمته مكانه.. فقد كانت صادقة بالفعل وأكدت هذا بقولها: "أنا راضية بما كتبه الله لي.. لقد كان رحيمًا بي منحني أمًا لا تعوض ومنحني أشقاء يحبونني.. منحني سقفا أنام تحته قريرة العين.. منحني الصحة ومنحني حسن المظهر وطيب اللسان.. أنا راضية لانه كان كريما معي كما هو دائما أبي!"
كان يفكر بردٍ مناسب لكن هي لم تمنحه فرصة وأكملت: "ولم قد أكره عملي والله غمرني برحمته وعطفه.. لم أدخل بيتا إلا وأحبني أهله وأحسنوا معاملتي.. ولم أنظر يومًا لما بيد غيري.. لست ناقمة على عملي ولا حياتي.. إن كان الله ارتضاها لي فهي الخير وما علي إلا اتقائه والسعي وهو ما أفعله"
بعد ثوانٍ من محاولة إيجاد رد.. فشل ولم يملك سوى أن ابتسم بسخرية ورد: "تتحدثين كوالدتك!"
نظرت له قليلا ولم تقدر على منع نفسها من قول: "وأنت تتحدث كما أخبرتني أنك ستفعل يومًا ما"
صمت بينما يطرق قبل أن يعاود القول: "اسمعي.. ما دمت مؤمنة بالله فأنت بالتأكيد تؤمنين أن الزواج شرع الله"
ابتسمت بسخرية وردت: "شرع الله!"
نظرت له قليلا باحثة عن أي أمل أن هذا الواقف أمامها يبحث عن مصلحتها فعلًا ويفكر بأمرها.. لكن عندها تذكرت كلمات والدتها عنه قبل أن تكمل: "شرع الله بالتأكيد.. لكن بشرع الله الزواج يدعى الرباط المقدس.. رباط يصل روحين بقوانين وشعائر الله.. رباط يكرمني ويمنحني الأمان.. رباط أوصى به الله الطرف الآخر بي لأني الأضعف.. وحذره من المساس بي سوءا ما دمت أتقي الله به.. رباط مقدس أبي وليس صفقة رخيصة.. تلك الصفقة حاشا أن تكون من شرائع الله!"
كان عاجزا عن الرد وتخيلت أن قلبه غليظا ولن تلمسه كلمة واحدة مما قالت.. هو يريدها أن تتوقف عن الحديث حتى يتكلم هو.. وما كانت لتسمح له بالتلاعب بها كانت توقن أنها على حق لذا قالت: "أظنك عرفت ردي والآن أعدني لأمي وأنور"
مط شفتيه ورد: "هذا لن يحدث.. في الحقيقة أنا لا أهتم بكل ما قلتيه.. ستنفذين ما أطلبه منك.. وإلا ستحدث أمور لن تعجبك"
كادت تعترض لكنه لم يمنحها فرصة وأكمل: "أمور لوالدتك وشقيقتك!"
تجعد جبينها وهي تسأله: "ما علاقة شقيقتي بالأمر؟!"
ابتسم بسخرية ورد: "لا أظنها ستبقى على ذمة زوجها إن أخبرت عائلته بعملي الذي خجلت والدتك من إخباره لهم وحتى تتجنب الأسئلة أخبرتهم أني ميت.."
اتسعت عيناها وتجمد الهواء بصدرها وهي تتخيل أن يحدث هذا بالفعل صحيح علي يعرف كل شيء لكن والديه لا يعرفان.. هو الآخر فضل ألا يخبرهم حتى لا يعاملوا شقيقتها بسوء.. ارتجفت وهي تهمس: "لن تفعلها بالتأكيد!"
ضحك بسخرية قبل أن ينظر لها بعيونه الباهتة الخالية من أي علامة للرحمة وهو يرد باستهزاء: "جربيني يا ابنة فلة!"
**
كانت أصالة تقطع المنزل ذهابًا وإيابًا بعد أن تمكنت بصعوبة من تهدئة فلة وإجبارها على النوم بعقار عندما فُتِح الباب.. فاتجهت سريعًا لأمير وأنور ورغم أن الإجابة كانت واضحة إلا أنها سألت سريعًا: "هل عثرتما عليها؟!"
هز أمير رأسه بنفي بينما تحرك أنور ناحية غرفته واقتربت هي من أمير وقالت: "بلغ الشرطة أمير لابد أنه اختطفها!"
تنفس بعمق بينما يستند على الحائط بجواره بتعب ويرد: "رامي أخبرنا أنه لابد من مرور أربعٍ وعشرين ساعة على اختفائها لنقوم بعمل بلاغ لكن سنذهب على أي حال!"
سمعت حركة من خلفها فالتفتت لتجد أنور يخرج من غرفته ليسأله أمير: "احضرت البطاقة؟"
أومأ بإيجاب قبل أن يقترب منهما قائلًا: "سأتصل بزهرة لتأتي سيدتي و..."
-:"سأبقى بجوار والدتك"
التفتت لأمير الذي أكمل عنها: "لا يمكنها ترك والدتك فهي مريضة وهي ستجيد الاعتناء بها كما أن شقيقتك لديها طفلين لتهتم بهما"
كاد يعترض لكن أمير ربت على كتفه ورد: "هذا ليس مهمًا الآن.. لنلحق برامي فهو ينتظرنا أمام قسم الشرطة.. هيا!"
أومأ له وتحرك معه بينما اقترب أمير منها وقال: "اجلسي بجوارها ولا تتحركي كثيرًا كعادتك.. وأنا سأتصل بك ما أن نصل لأي شيء"
التفت بعدها مغادرًا يتبع أنور وهي
تتنهد بتعب وتهمس: "ليحميك الله نوارة"
*****
كان يجلس بهدوء على مكتبه وهو يفكر بحديث روضة.. ثم التفت ينظر لصورة ريناد وهي تقف بجواره وابتسم تلقائيًا بينما يمسك الإطار وينظر لها قليلا قبل أن يهمس: "سأفعل أي شيء لأجلك"
تنفس بعمق بعدها ثم التقط هاتفه وقرر الاتصال بروضة.. لكنه توقف في اللحظة الأخيرة عندما دخل له أحد العمال واتجه نحوه سريعًا قائلًا: "سيدي.. سيدي.. هناك شجار في الصالة.. أحد الزبائن يضرب مدير المطعم!"
نهض فورًا وتوجه للخارج ليجد المكان يعج بالفوضى فالجميع واقف وإحدى الطاولات ملقاة رأسًا على عقب وكل ما عليها متناثر حولها.. تحرك ناحية الشاب الصارخ بينما مدير الصالة يقف أمامه بأنف نازف وما كاد الشاب يرفع يده عليه ليصفعه إلا ووجده يقف أمامه ليمنعه.. لم يعجبه مظهره بالذات أنه لم يتوقف عن الصراخ لذا ودون فهم ما حدث تراجع برأسه واندفع نحوه يضربه على أنفه فسقط أرضًا يتأوه وهو يلعن بحدة.. راقبه سعد بملل قبل أن يضع يديه بجيبي بنطاله ثم رفع وجهه يسأل ببساطة: "ليخبرني أحدٌ ما مشكلة هذا الثرثار!"
*****

زهرة ربيع عمري - الجزء الثاني من سلسلة وللعمر بقية - مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن