_الفصل الثاني_
وقفت وأخذت تقطع الغرفة جيئة وذهابًا وهي تصيح:
- أمي كانت حاسة إن أفنان هتعملها، فضلت توصيني أخلي بالي منها، كانت حاسة، كانت حاسة وأنا بغبائي ما خدتش بالي ولا اديت خوانة، إحساسها كان صح زي ما طول عمره صح، سابتها لي أمانة وأنا ما خدتش بالي منها.
تحول صياح أَهِلَّة لهذيان لم تستطع إيقافه. سمعتا صوت الباب الخارجي، بعض الدماء اندفعت بوجه أنفال وهي تدعو داخلها أن تكون أفنان هي الطارقة، لكن خاب أملها وصوت أمها يضرب آذانها وأختها، ابتلعت لعابًا وهميًا تنتظر دخول أمها كي تُفجِعها بما حدث.ولجت الأم وهي تسأل عن سبب تيبس أَهِلَّة بمكانها، وسبب مظهر أنفال المشعث، بقيت تدور بعينيها بين الفتاتين حتى نطقت بسؤال سبقته بابتسامة غريبة:
- أفنان مشيت؟
فقط رأس أنفال التي تحركت تومئ بالإيجاب هي كل الرد على تساؤل الأم التي تركت ما بيدها أرضًا وهي تقول وما تزال على ابتسامتها:
- براحتها، تروح مكان ما تروح.
كان الرد أبعد ما يكون عن توقع الفتاتين اللتين تبادلتا النظرات بقلق على أمهما، تحدثت الأم تقطع نظراتهما وهي تشير برأسها لما بين يدي أنفال سائلة:
- الرسايل دي منها؟
أومأت أنفال مرة أخرى، فدخلت الأم وسحبت الورق عن يد ابنتها، جلست إلى الفراش وبدأت تقرأ الورقة الأولى بقلب منفطر لا يشعر به أحد:
"لا أعلم بأي الأشياء المدفونة بداخلي أبدأ! لكني سأفتتح رسالتي بك يا أبي.. لا أعلم كيف أقولها لك، لكني حقًا أكره القدر الذي جعلك أبي، وإن كان حديثي فيه من الحرام شيئًا فليسامحني الله، أعلم أن ياسمين هي أول من سيقرأ الخطاب إن لم تكن الوحيدة، وستعلق على اعترافي بالكره للقدر على أنه حرام! لا يهم، المهم أني حقًا لا أعلم لماذا دونًا عن كل رجال الدنيا اختارك الله لي أبًا، مزاحك معنا وإن كنت تراه حنانًا منك علينا فبئس الحنان قدَّمت، صوتك العالي إن غضبت وإن مزحت رعرع الخوف بقلبي منك ومن كل الأصوات العالية، تفانيك في التفرقة بيننا كبناتك أنبت الحقد بنفسي على أختاي، لم تكن يومًا الأب الذي أتمنى زوجًا مثله، ولم تكن القدوة التي أذكرها إن سُئِلت عمن هو قدوتي، أنا حقًا لم أكره بحياتي قدر ما كرهتك."
كانت أنفاس الأم غير منتظمة، لكنها أبت الاستسلام لشعور الهزيمة، حاولت التماسك قدر استطاعتها وهي تركن الورقة الأولى وتبدأ في الثانية:
"أمي، أنتِ لم تتوانِ مرة في جعلي أشعر أنه لا قيمة لي، لا شيء مما أفعل يجلب رضاكِ عليّ، ولا حديث يدور بيننا يبقى طي السر، بل يصبح حديثًا يتداول بينك وأخواتي، لم تُعيريني السمع مرة، ولا تفهمين أيًا من مطالبي البسيطة في الحياة، حتى أنكِ تصدقين الغرباء عني أنا ابنتك، أنتِ وكل ما يتعلق بكِ في أعمق نقطة من الكره بقلبي."
لم تستطع الأم التماسك أكثر، فانهالت عبراتها تنعي قلبها المكلوم من حديث ابنتها الجارح، لقد كانت تجالسها أمس وتخبرها بالحلال والحرام، لقد كانت تنصحها كأن حياتها تعتمد على ذلك، لقد بذلت ما بذلت من جهد كي تجعل منها فتاة صالحة ذات وقار في نفسها، لكن ولا مرة فهمت أفنان ما ترنو أمها إليه، كانت فقط ترى الانتقادات دون النصائح، الزَّلَّات دون الثبات، يا لحسرتها على ابنتها وعلى نكرانها لجل الوقت الذي وهبتها إياه تستمع فيه لما ليس منه فائدة. تابعت الرسالة التي انتقلت تتحدث فيها عن أنفال:
"أما أنتِ يا أنفال فلا أعرف ماذا أقول لكِ، أذكر أن أقرب الأقربين لكِ قالت لي ذات مرة أنكِ ومهما أخطأتِ فلن تسقطي أو ينكسر لكِ جناح، لا أدري أهذا لكونكِ حذرة في كل خطوات حياتكِ وكتابكِ مفتوح للجميع، أم لأنكِ غامضة وتُبدين لنا فقط ما تودينا أن نراه! على كلٍ.. أنا مدينة لك بالشكر، فلولاكِ لما استطعت كتابة الخطابات بالفصحى البليغة."
تنهدت الأم تحاول معاودة التماسك وهي تنتقل للرسالة الأخيرة المدونة لأَهِلَّة:
"بينما أنتِ يا أَهِلَّة فلا أدري أي الحديث يوفي قلبك الحقود الأناني حقه، لم أشعر في حياتي أني تافهة وبلا هدف أو فائدة إلا بسببكِ، حسبي الله فيكِ وكفى."
انتهت الأوراق بين يدي الأم، رفعت أعينها لبنتيها اللتين تقفان كتمثالين منحوتين دون حركة واحدة، قالت وقد بح صوتها كأنها كانت تصرخ لساعات:
- كل واحدة تشوف وراها إيه.
قالت جملتها فتحركت أنفال إلى دورة المياه تغتسل وتترقب القادم، بينما عادت أَهِلَّة لكتبها تستدعي التركيز الذي أبى إلا أن يخذلها في كل مرة وهي تفكر إلى أي مآل سيذهب بهم الحال بعد فعلة أفنان هذه، في حين أن الأم دلفت بخطى ثقيلة إلى مطبخ البيت، بدأت في تنظيف السمك بأمل مزيف أن تُنهي أفنان هذه المزحة السخيفة وتعود قبل عودة أبيها.
وقفت أنفال على أعتاب مطبخ البيت، لم تكن تعلم أي الدروب يسلكون في وضع كهذا، كما لم تكن على علم بمستقبل غامض لها، لقد تجاوزت عقبتها الأخيرة مع عمر بأعجوبة، تُرى في وضع كهذا سيتابع عمر الدرب معها؟! أم أن فعلة أختها ستوصِم حياتها وحياة أَهِلَّة من بعدها؟! تعلم أن فعل كالذي قدِمت أفنان عليه سيودي بسمعتهم... كم تكره قلبها هذا الذي يتنبأ بالمصائب قبل حلولها! بقيت طوال الليل وقلبها يؤلمها، والقلق يتمكن منها، وهذا لا تفسير له غير أن كارثة حتمية قادمة، وهذا بالفعل ما حدث.
شعرت أنها أنانية حقًا في هذه الدقائق التي راحت تفكر فيها بمستقبلها ومستقبل أَهِلَّة، بينما من الطبيعي أن يتمركز كل تفكيرها على أفنان ومكانها وما آل إليه حالها الآن! أهي بأمان؟ أم تراها وقعت فريسة للبشر خارج أمان البيت؟ أتملك مالًا يجعلها تخرج من البلدة؟ أم أنها ستسير لمسافة بعيدة حتى تتورم أقدامها؟ على ذِكر تورم أقدامها.. إنها تعاني من فرط حساسية تتسبب في تورم أطرافها في فصل الشتاء، كيف لها ألا تحسب حسابًا لهذا؟ لن تستطيع المشي كثيرًا! ولن تتمكن من تعريض يدها للهواء لفترة طويلة! حتمًا ستتأذى في الخارج.. وهذا ما سيجعلها تعود.. حتمًا ستعود.
انتبهت مما سقطت فيه على صوت المِقص الذي أفلتته أمها، يبدو أن يدها ترتعش، لكنها تكابر وتتابع تنظيف السمك في صمت تام، حاولت البحث عن كلمات تفتح بها الموضوع، لكن خاب رجاؤها، فآثرت الصمت حتى انتهوا من تنظيف السمك وتمليحه، وقد تزامن الأمر مع عودة الوالد من عمله الصباحي. رأت أمها تستعد لمواجهة أبيها بطامة البيت، ولكنها انتبهت أنه عاد باكرًا عن موعده! أعلِمَ من الخارج؟ أم تراه شعر بعدم الراحة فعاد؟ كل الاحتمالات تطايرت كالرماد وهي تسمع أمها تنادي والدها بقلب منفطر، أجابها بانتباه فقالت:
- ربنا يعوض عليك في أفنان.
- قصدك إيه؟ إيه اللي حصل؟!
سأل الوالد كأن أحمال الدنيا كلها تكالبت فوق أكتافه، يا لفاجعته الكبرى التي لا تساويها فاجعة! شعرت بأبيها على وشك الانهيار، أو هكذا تقول يده الممدودة في رجاء لزوجته كأنه يطالبها أن تخبره كونها مزحة، أو أن تطمئنه أنها ماتت مثلًا، لكن أمها لطمته بقولها:
- لما رجعت من بره ما لقتش أفنان في البيت، وأخواتها كانوا في حالة صعبة.
تقهقر الأب في وقفته، ليس على رجل مثله أن يمتهن التمثيل بالقوة في كل مواقف حياته، لا بد له من مرة يُسلِّم فيها راية قوته ويخر صريع الضعف، لا بد له من هزيمة بعد انتصارات عدة، لا بد له من استسلام يبرز الضعف الذي عاش عمره يواريه، وأي المواقف أصعب من هذه التي حلت عليهم جميعًا بقسوة غير معهودة في أحدهم!
غادر الأب البيت دون أي حديث إضافي، وانسابت دموع أنفال تنعي استقرارهم الذي تزعزع فجأة، عقلها يفكر في المستقبل، وقلبها ما بين ثبات وقلق على تلك المتهورة التي لا تعرف تعاملًا سويًا مع العالم، لطالما كانت أفنان طيبة القلب وفطرتها سليمة، ما بيدها ليس لها، وما بقلبها منطوق على لسانها، صافية النوايا غير خبيثة، لا تصلح للتعامل مع البشر أبدًا، فهي إما ستُصفع بالخذلان منهم، أو ستُطعن بالخيانة على أيديهم.
بقوا على ذات الوضع طيلة النهار، لا أحد فيهم لديه من العقل شيئًا كي يسخره في التفكير بالأمر، حتى الأب الذي عاد وذهب عددًا من المرات لا يفعل غير أن يدور بالبيت ركنًا ركنًا كأن هناك شيئًا ما قد فقده ويبحث عنه، كيف لأنفال التي تراقبه بقلب منفطر أن تخبره كون المفقودة هي إحدى بناته وليست شيئًا سيعثر عليه ببحثه العيني فقط؟ كيف لها أن تُطالبه أن يُعمل مشاعره ويركز عليها ليطمئنهم على أفنان إن كانت بخير.. حالة من الكآبة والصمت الغريب أحاطت بالبيت وما حوله، ذلك البيت الذي لا يصمت أبدًا ولا يعرف للهدوء طعمًا- أصبح كالمدافن، الجميع ابتلع لسانه مع مرور عقارب الساعة لادغة عقولهم الساكنة.
________________
عادت لبيت جدها فارغة الأمل والوِفاض، ما زال قلبها معبأ بالضغينة تجاه آدم وفعلته بها، لكن أين يمكن أن يكون الآن يا ترى! ما دام ليس موجودًا ببيت صاحبه يزيد، ويزيد نفسه غير موجود! أيكونا قد عادا إلى أمريكا؟! بالتأكيد لن يفعل... أمه... أليس ما قاله في حفلهما عما فعله به جده كافيًا ليُثبت أنه سيسعى للبحث عنها؟! ما حوار أمه من الأصل! كيف تغافلت عن شيء كهذا! كيف لم تنتبه إلا لكارثتها التي حلت عليها دون أن تفكر في أمر آدم نفسه! لقد كان مُدَمَّرًا وهو يواجه جده، كيف لم تكلف نفسها عناء محاولة احتوائه كابنة عم على الأقل! لحظة! وهل فعلت مسبقًا؟! يا للسخرية!
دخلت غرفتها، ارتدت ثياب مريحة بعض الشيء، واتجهت من فورها حيث غرفة والدتها، لا بد أن تحاول إصلاح ما أفسدته طيلة الفترة الماضية، جربت أن تحاول الاستحواذ على آدم وفشلت، فلتحاول التقرب منه بغرض نبيل هذه المرة، ربما يراها بالعين التي يحب أن يراها بها! طرقت بخفة فأذنت الأم بدخولها، ولجت ورأسها مطأطأ، اعتذرت عما بدر منها في الصباح، فتبسمت الأم لها في حنو، اقتربت حتى جاورتها الجلوس، اعترفت بخطئها تجاه آدم، وأقرت أنها ستتغير تمامًا. لم يكن الخبر إلا بشرى سارّة لأمها، وقد ظهر هذا في رد فعلها حينما جذبت ابنتها إلى أحضانها تربت على ظهرها بحنان، تحدثت بعد تنهيدة ارتياح:
- ده الصح لحياتك يا هيا صدقيني، وصدقيني كمان أنا عمري ما فرقت بينك وبين آدم، أنتِ بنتي، هو يمكن مش ابن بطني لكن... لكن أنا اللي ربيته وكبرته، وهو بار بيا فخد مكانة الابن جوايا زيك بالظبط.
تنهدت من جديد وهي تتابع الحديث عن آدم وعما فعله جده به، وكيف أنه عاش محرومًا طيلة الفترة الماضية، وسبب عزلته وصمته، تحدثت كثيرًا عن صفاته الداخلية، وعن جمال روحه الذي يواريه خلف قناع الصمت هذا.. تحدثت حتى أنها لم تنتبه لابتسامة عريضة شقت وجه هيا وهي ترى أنها لم تتكلف عناء محاولة اجترار الحديث من أمها عن آدم، بل إنها تحدثت عنه من تلقاء نفسها، وكأنها لا تعلم أن أكثر البشر دراية بما يجول بخواطرنا هن أمهاتنا! لقد تحدثت الأم بكثرة عن آدم لإدراكها مكنون قلب ابنتها ومبتغاها، وما دامت تسعى للتغيير فستساعدها قدر ما استطاعت، حتى لو لم يكن تغير هيا على هوى آدم، المهم أن تخرج ابنتها من التجربة بدراية تامة أنها يمكنها امتلاك أي شيء تريده، لكن لا يمكنها أبدًا امتلاك قلب رجل لا يراها.
________________
انتهوا جميعًا من تناول الغداء، فتحدثت السيدة رزان إلى يزيد تستشيره في وضع سارة، فأجاب:
- محتاج أقعد معاها عشان أقدر أحدد الفترة العلاجية، أحدد نوع التعب اللي عندها، أحدد سبيل علاجه.. لكن شفوي صعب شوية.
- مش عارفة ازاي ممكن أعمل حاجة زي دي، لكن هي فعلا ما بتديش حد فرصة خالص يتكلم معاها أو يحاول، يمكن أنفال الوحيدة اللي ليها تواصل معاها هنا.
أومأ يزيد متفهمًا، ثم رد بعد أن شرب بعض المياه:
- أنفال هتكون جزء كبير من العلاج، لكن برضو محتاج أشوف سارة.
أرسلت السيدة رزان تنادي أنفال التي تتناول وجبتها صحبة سارة بالغرفة، فأتت سريعًا تسأل عن مرادها، أخبرتها السيدة رزان بما قاله يزيد، فابتهج وجهها وأشرقت ملامحها بابتسامة ممتنة، تلعثمت في محاولة شكرها، فضحك يزيد على مظهرها وهو يقول مبتهجًا:
- ما فيش داعي للشكر يا ست البنات، تقدري بقا تحددي لي إمتى أقدر أقعد مع سارة؟
تضايقت قليلًا من جملته "ست البنات"، تعلم أنها طفلة بالنسبة إليه، لكن ألا يجب عليه الالتزام في الحديث قليلًا حتى مع من يماثلونها عمرًا! رأى يزيد تبدل وجهها، فلم يستطع السؤال عن السبب، لكنها تحدثت أخيرًا بهدوء ودون أن تنظر تجاهه:
- بعد الغدا بأمر الله لو وقت حضرتك يسمح.
كانت نبرتها حازمة بعض الشيء، فيها صد غريب استشعره يزيد لكنه لم يفهم سببه! آثر الصمت على محاولة سؤالها، فاستأذنت مغادرة. كان كل ذلك تحت أنظار آدم الذي انتبه كليًا لثياب هذه الصغيرة، تذكر في الحال تلك الفتاة جارة يزيد، لكنه نفض رأسه سريعًا يبعد ذِكراها عن مخيلته، لن ينسى أبدًا أنها خُطِبت لآخر منذ فترة ليست بالطويلة!
_____________
أعلن المغرب أذانه، يقف الأب على سجادته يؤدي فرضه، تطالعه أنفال ببعض العجب، لا تعلم سبب هذه الانحناءة في ظهره، أهي موجودة منذ زمن ولم تنتبه لها؟ أم أنها حطت عليه مع هذا الحدث الجلل الذي أحناهم جميعًا! كل شيء في هذا الوقت يدعوها للتفكر والتأمل، كل شيء يسحبها قسرًا بعيدًا عن مشكلة أساسية أصابت البيت وقاطنيه.
دق باب البيت، وتعلقت كل القلوب والعقول والعيون والآذان عليه، سيطل صوت أفنان معتذرة عما بدر منها في هذه الساعات، وتخبرهم أنهم المآل والحصن والأمان لها، ستبكي وتطلب العفو والسماح من أبيها على الرعب الذي خلفته بقلبه، وستنهار أمام أقدام أمها تخبرها أنها دومًا على صواب فيما تقول وتفعل، ستطأطئ رأسها أمام أنفال وتخبرها أنها أفضل أختٍ على الإطلاق، لطالما كانت تخاف عليها وتنصحها وتوجهها لسبيل فيه الصلاح لشأنها وشأنهم جميعًا، لكنها لم تستمع إليها ولا مرة، ستضرب أَهِلَّة على كتفها وتخبرها أن كثيرًا من الأفاعيل التي اقترفاها سويًا كانت خاطئة، والطريق التي انساقا إليها انسياق العُميان ليست إلا وحلًا لا شفاء منه إلا بالتوبة، ومع ضربتها هذه ستنتشلها لأحضانها وتخبرها أنهما سيبدآن من جديد، وسيحاولان أن يغيرا من طباعهما التي لا تعجب لا أمهما ولا ترضى أنفال.
كلها أفكار تبخرت سرابًا حينما وصل لمسمع أنفال صوت عمر يلقي بالسلام على أبيها، ووالدها يرحب به في فتور، لم تكن أفنان، لم ينقطع عرق الرعب فيهم، بل زادت سماكته بتذكرها أمر عمر، كيف ستخبره خبرًا كهذا؟ تراه سيتفهم الوضع ويضع يده بأيديهم؟ أم سيتخاذل ويخشى على سمعته وأهله؟
للمرة الثانية تذهب الأفكار سرابًا وهي تسمع صوت أبيها بجانب أذنها يقول لي بنبرة مرتجفة:
- ما تعرفيهوش حاجة، حاولي تكوني طبيعية لحد ما نشوف الدنيا فيها إيه.
أومأت توافق والدها وهي تبتلع ريقها بصعوبة. دخلت المطبخ تنهي ما طلبه والدها منها، لكنها أمسكت بمعدتها فجأة في تعب، هناك دوار أصاب رأسها، كوب الشاي الذي كانت تُعده لأبيها سقط من يدها بسبب انفراط أعصابها، أتت أمها إليها ركضًا، أبعدتها عن الزجاج المتناثر، سألتها إن كانت بخير، لكن ألمًا أسفل معدتها كان أصعب من أن تتمكن من الرد على أمها. زار عقلها فجأة تاريخ دورتها الشهرية، على حسبتها فلن تزورها قبل أسبوع! لكنها بالفعل أتت جراء اضطراباتها النفسية اليوم، ولجت من فورها لغرفة نومها وأخواتها، فتحت الخزانة كي تستخدم إحدى الفوط الصحية، لكن المفاجأة أن العلبة أمامها فارغة! كيف هذا وهي جديدة لم يمسسها أحد؟! أفنان! لا تعلم لماذا زارتها بعض الراحة في هذا الوقت، ما دامت أفنان قد انتبهت لأمر كهذا فهذا يعني أنها تعرف إلى أين هي ذاهبة. بعض الأمل مهم في مواقف كهذه!
تحدثت إلى أَهِلَّة التي لم تتأخر في شراء فوط جديدة، ثم بدلت ثيابها وتهيأت لمقابلة عمر الذي رأت في وجهه نظرة تساؤل وبعض استغراب، حاولت جاهدة ألا تنظر لعينيه، لا تضمن نفسها في مواقف ضعفها، فهي بكاءة بشكل لا يوصف. صافحته وجاورته الجلوس، بينما ترك لهما أهل البيت مجالًا كاملًا للانفراد في جلستهما، ألا يعلم والدها أن هذا خطرًا على سر قرر ألا يُفشيه؟ إنها أضعف من كتمان هكذا سر على رجل تواعدا ألا يكون للكذب مكان بينهما، أو أن يصطفي أحدهما مشكلة ويواريها عن شريكه دون أن يشاركه إياها! لقد وُضِعت في موقف لا تحسد عليه.
نبرة عمر الحانية دغدغت وتر الخوف بقلبها، سأل عن حالها وسبب اصفرار وجهها، أجابت بأول ما خطر ببالها أنه تعب الشهر المعتاد، ربت على ظهرها يواسي ضعفها، فحاولت التماسك أمام رغبتها الملحة في البكاء والصراخ كي تُفرِغ شحنة الكتمان بداخلها. سأل عمر كالعادة على أهل البيت واحدًا واحدًا، وبالرغم من أن هذا السؤال عادي لكنها لم تأخذه بشكل عادي أبدًا، فلقد شعرت وكأن أفكارها عارية أمامه لكون أول من سأل عنها كانت أفنان! لم تُجب إلا كذبًا أنها بخير، هي ترجو من الله أن تكون حقًا بخير، وأتبعت ذلك أنها ببيت أحد عمومتهم، كأنه قرأ كذبتها فسألها:
- من إمتى وفيه حد منكم بيبات بره البيت!
ابتلعت لعابها، وراحت تتابع كذبتها وكأنها فجأة أصبحت تُجيد اختلاق الأكاذيب:
- مش هتبات، عمي وبناته هييجوا بليل، وهي.. وهي هتيجي معاهم.
أومأ ينهي الحديث في هذا الأمر عند هذا الحد، وبدأ الوقت يمر بهما شبه طبيعي، من جهة أنفال تحاول ألا تكون على غير طبيعتها معه، ومن جهته فهو يوقن أنها ليست بخير، وأن هناك ما تُخفيه عنه، وعلى غير العادة قرر المغادرة باكرًا، وحجته أن أخاه طلب منه أن يبتاع له بعض الأدوية الهامة لزوجته، ولا يجب عليه أن يتأخر بها.
ذهب عمر وخلفه تنهيدة من أنفال تشي بحجم الضغط النفسي الذي كانت عليه وهو هنا، صعب للغاية أن تدَّعي كونك على خير ما يرام في اللحظات التي ينبغي عليك الصراخ فيها كي تتحرر من ضغوطك، والأصعب أن يكون ادعاؤك هذا أمام أكثر شخص يؤمَّن على ضعفك.
انقضى بهم الوقت ينتظرون دقات باب البيت، ولم يدرِ أي منهم بالوقت الذي قضوه جالسين إلا والفجر يعلن قرآنه، كأنهم كانوا مخدرين والآن فقط أفاقوا! رأت أمها متكومة على إحدى الأرائك، تحني رأسها إلى صدرها وتبكي في صمت تام، بينما والدها يعبث بالفحم الناري الذي أشعله ليدفئ غرفة المعيشة وهو في شرود تام، في حين أن أَهِلَّة قد تدثرت بلحاف وسحبها النوم من بينهم، أما أحمد -آخر العنقود- فقد نام منذ زمن بعيد، أحيانًا تحسده على عمره الصغير، فهو لا يحمل همًا، ولا يفهم من الدنيا عُقَدها، بسيط ويأخذ كل الأشياء ببساطة.
وعلى هذا النحو انقضى اليوم الأول دون وجود أفنان بين أهلها، وانقضت الليلة الأولى لها خارج أحضانهم، الأمر الذي عهدته تلك الأسرة قبلًا ها قد حل عليهم كضيف غير مرغوب أبدًا بزيارته للمرة الثانية، وليتهم قادرين على طرده!
______________
يتبع...
أنت تقرأ
أنفال ٢
General Fictionبين هذه السطور المرصوفة كلماتها يكمن جزء كبير من الحقيقة، والبعض الآخر يحمل زيفًا ربما مبالغ فيه، وربما هو أقل بكثير مما حدث في الواقع، المهم أن بعضًا من تفاصيل الحقيقة لا بد وأن تختفي تحت طيات الكذب؛ لئلا تثير بلبلة أصحابها الذين يخشون فضح حقيقتهم،...