_الفصل الأول_
(بعض المواقف نقف أمامها بقلب باهت هربت عنه الدماء، فلا نحن على قدر الموقف، ولا الموقف يترأف بحالنا فيدلنا أي السُّبُلِ نسلك!)
تجلس بتراس البيت، تطالع النجوم التي تتلألأ في سماء صافية، كان عقلها كتلك السماء قبل أن تتعلق بالحب، حياتها كانت أهدأ بكثير، وكأن الحب لا يكلف نفسه عناء جلب الراحة معه! تنهدت بعمق وهي تتذكر كيف تركها وغادر دون أي كلمة بعد أن طلبت الطلاق بكل قسوة! أجل.. إنها الآن نادمة، ما كان عليها أبدًا أن تنطق بشيء كهذا، لن تُنكر أنها وجدت نفسها فجأة داخل فقاعة كبيرة تسمى المسئولية. كانت أكبر مسئولياتها سابقًا هو الحفاظ على نفسها وقت السفر للجامعة، لكن الآن هي على وشك أن تخوض حياة تكون هي عمودها، وحينما رأت أن هذا البناء على وشك الانهيار بسبب بعض العيوب في سقفه فقد قررت قرارًا سريعًا أن تهدم البناء كله بدلًا من تعديله! تفكير ساذج، وتصرف غاية في الحماقة!
استفاقت على صوت رسالة، إنها من عمر! ترددت في فتحها، تخشى أن تكون حاملة لشيء يهدمها أكثر، لقد اكتشفت للتو أنها غير قادرة على الفراق، إنها أقل من تلك الكلمة التي نطقها لسانها الأحمق! فتحتها أخيرًا، وعلى غير توقعها وجدته يخبرها أنه اشتاق رؤيتها هذه الدقائق التي تركها فيها! ضحكت.. ضحكت بصوت عالٍ كأنه أطلق نكتة سخيفة؛ النكات السخيفة وحدها تجعل المرء يسقط في نوبة ضحك جنونية! حاولت لملمة الأمر حتى لا ينتبه لها أهل البيت، ثم جمعت مشاعرها التي بعثرها بكلمة وراحت تخط بعشق حقيقي عن مدى اشتياقها هي الأخرى له، وأخذت تعتذر عما بدر منها، وترفق حديثها بمدى حبها له.. انتهت اللحظة الجياشة بضغطة زر الإرسال.. انتبهت لما كتبت فصُدِمت من جرأتها، لم يسبق لها أن كانت بتلك الجرأة في وصف مشاعرها له! أخذت تدعو الله ألا يرى الرسالة، ثم وقفت تدور حيث هي في خجل ازدادت وتيرته وهي تستمع لرنة هاتفها تعلن اتصاله.. توترت وشعرت أن صوتها هرب عنها، ماذا ستقول؟ كيف تعتذر؟ كم الأسئلة الذي تراكم عليها جعلها تضغط زر الرفض بدل الإجابة، ازداد توترها من فعلتها، وازدادت أسئلتها سؤالا آخر وهو السبب في رفضها للمكالمة، بالتأكيد لن تخبره أن التوتر هو السبب!
أجابت أخيرًا حينما عاود الاتصال، سأل عن حالها، وسأل إن كانت قد تناولت العشاء، وإن كانت قد صلت فرضها، ثم بدأ يسرد بعض الأفعال التي كان يقوم بها ابن أخيه الذي لم يتعدَّ العامين، وكيف أن حركاته تثير ضحكهم، اندمجت معه في الحديث وكأن شيئًا لم يحدث، وانتهت المكالمة ككل ليلة بينهما.. نظرت للهاتف بين يديها والعجب يملأ ملامحها، كيف له أن يتخطى الأمور العصيبة بتلك البساطة! كيف له أن يُخرجها من حال إلى حال بهذه السهولة! شعرت أن ما حدث قبل مغادرته لم يحدث، وأنها فقط كانت تتخيله! تنهدت وابتسامة ممتنة أشرقت فوق ثغرها، لكن هذه الابتسامة أفِلَت حالما رأت أختها أفنان تقف أمامها، وبسرعة انقبض قلبها ألما حينما عاودتها ذكرى حديث أفنان عن عمر المليء بالإعجاب به، وكيف أنها تتواصل معه عبر مواقع التواصل، وكيف أنها بدأت تعتاد جلوسها معه على انفراد، الكثير من الأشياء التي لا ترضي قلبها وتجعلها تخشى مستقبلًا قد يكون حالكًا بسبب التغاضي عن كل ما يحدث الآن. استفاقت على صوت أفنان تسأل:
- كنتِ بتكلمي عمر؟
الغصة التي مرت عبر طول فكها لن تُصنف غيرة بالتأكيد، إنما هو شعور أكثر لعنة، ألا وهو "الخوف"، ابتلعت لعابًا وهميًا وهي تجيبها:
- آه.
فقط الإيجاب هو ما قدمته، وتحركت سريعًا حتى لا تسمع المزيد من أختها، دلفت الغرفة بهدوء تام، تدثرت بأفكارها وراحت في نوم عميق أفزعها منه كابوس مزعج رأت فيه نفسها تقف على حرف جرف هار، ما يقبع بالأسفل ليس سوى ثعابين، ثعابين ضخمة وبألوان مختلفة، الجرف آيل للسقوط، وهي تنظر للأسفل برعب حقيقي، وحينما قررت التماسك والنظر خلفها كي تجد شيئًا يُنجدها، فإذا بها ترى أباها على مقربة، ينظر تجاهها بنظرات خاوية! مدت يدها دون النطق تطلب مساعدته، لكنه كان يدفعها للسقوط بعينيه، وبالفعل انزلقت أقدامها عن الجرف فشقت صرخة حنجرتها، لم تكن الصرخة سوى باسم عمر! استيقظت من نومها فزعة، العرق يتصبب عن جسدها البارد كالثلج، وأنفاسها تركض في تلاحق، وأعينها يغشى عليها احمرار كاد يفجرهما.. بدأت تستعيد هدوءها رويدا رويدا حينما وجدت الكل نيام، وابتلعت لعابا مغطى بالخوف.. تحركت واغتسلت، ثم تقربت لله بركعتين، ترجوه فيهما أن يُطمئن قلبها، وأن يغفر لها ويرحمها من عذاب التيه والخوف.. انتهت وعاودت النوم، ولكن قبل أن يُغمض جفنها أرسلت برسالة لعمر.. كتبت فيها:
"اخترتك رجلًا لي، واطمأنت لك نفسي، وسلمت لك روحي وقلبي، فما خيَّبت نظرتي لك يومًا، حتى في أحلك المواقف بيننا.. كنت أنت البطل الذي يتجاوز عن أخطائي ويُغمض عينيه عن زلاتي، أحبك بقدر جمال قلبك، ونقاء روحك، وصدق نيتك تجاهي."
_________________________
أنت تقرأ
أنفال ٢
Ficción Generalبين هذه السطور المرصوفة كلماتها يكمن جزء كبير من الحقيقة، والبعض الآخر يحمل زيفًا ربما مبالغ فيه، وربما هو أقل بكثير مما حدث في الواقع، المهم أن بعضًا من تفاصيل الحقيقة لا بد وأن تختفي تحت طيات الكذب؛ لئلا تثير بلبلة أصحابها الذين يخشون فضح حقيقتهم،...