_الفصل الحادي عشر_
تواجهت الفتاتان، واحدة يملأ وجهها عبرات الحنين والاشتياق واللهفة، والأخرى صامتة شاردة في عيني الأولى، ليست بغريبة عليها، تشعر تجاهها بالألفة، رأتها كثيرًا في أحلام النوم واليقظة، لم تكن بتلك الملامح تحديدًا، كانت أنقى من ذلك! رجفة سرت عبر طول جسد سارة التي بدأت تشعر بصداع فتاك أمسك برأسها وعنقها، شعرت أنفال بارتعاش يد سارة بيدها، نظرت تجاه يزيد بفزع وهي تقول:
- هتدخل في نوبة فزع.
لم تتم جملتها إلا وهي تلتفت إليها وتحتضنها من الخلف، بدأت تغمغم في أذنها أنها تحبها، وأنها تريد مساعدتها، وكل من حولها يركضون خلف راحتها، الجميع مهتم لها ولأمرها، فقط عليها أن تواجه ما هي فيه لتفيق وتساعدهم، عليها أن تتخلى عن الخوف، عليها أن تكون قوية كفاية لأن تهزم الخوف وتعود لهم من جديد زهرة يانعة.مع حديث أنفال الهامس خلف أذن سارة المرتجفة بدأت تهدأ، ومع نهاية ارتجافها سقطت فاقدة للوعي. ركضت تجاهها أختها التي كانت تشاهد كل ما يحدث بأعين زائغة ومعدة مضطربة، بحاجة للقيء، لكنها تقاوم، بحاجة لفقدان الوعي، لكنها تقاوم، بحاجة للصراخ، لكنها أيضًا تقاوم، حملت أختها مع يزيد الذي دخل بها لبيت السيدة العجوز، تركها بأيدي النساء يعملن على إفاقتها، طلب من الفتاة الغريبة أن تخرج معه لبعض الوقت، وقفت بين ثلاثة من الرجال البادية عليهم النعمة، عينها على الباب الذي تسكن خلفه قطعة من روحها، وسمعها هناك على بعد أيام وأيام كانت تصرخ فيها سارة بطريقة مُفزعة، كان آخر شيء تسمعه منها هو ذاك الصراخ الذي لا يبرح سمعها، أختها حية تُرزق، هذه نعمة لو بقيت تشكر الله عليها العمر كله فلن توفيه حقه.
انتبهت لسؤال يزيد عن هويتها، حاولت التحدث لكن جفاف حلقها وفمها تسبب في تشقق بشفتيها فأدماهما، تحرك نعيم جالبًا لها بعض الماء، وأخرج مصطفى محرمة وقدمها لها، استفاقت من صدمة اللقاء وهيبته وهي ترد بصوت بالكاد سمعوه:
- هبة، أنا هبة أخت سارة.نظر الرجال الثلاثة لبعضهم قبل أن يجلس نعيم على مقربة منها، قال بهدوء تام:
- ما تخافيش يا بنتي، هي سارة بخير، فيه مشكلة صغيرة بس هي بتعاني منها و...
انتفضت وهي تنظر إليه تسأله بقلق جم:
- مالها؟ مالها أختي؟!
- الذاكرة عندها مشوشة، وفقدت النطق.صُدمت مما سمعت، قالت بانكسار:
- من يوم اللي حصل مش كده؟ طب.. طب هي كانت فين كل ده!
تحدث نعيم يسرد لها باختصار ما مرت به سارة، وبقيت هبة تسمعه بقلب منفطر وروح تائهة، ظنت أختها ميتة منذ ذاك الحين الذي أخبرها فيه الناس أن امرأة أقلتها للمشفى، وتعبت كثيرًا وهي تبحث في كل مشفى تطالها أقدامها، لكن ولا واحدة زارتها حالة سارة، كل ذلك بعد أن أفاقت من غيبوبة استمرت لأسبوع بأكمله، فقدت الأمل في وقت قصير، و تركت بيت أبيها بما فيه من ذكريات، وسكنت منزل جدتها متخلية تمامًا عن عمومتها الذين يسكنون الجيزة، وحينما وجدت أن الموت يراودها لقلة الزاد خرجت تبحث عن مصدره، ولم يتركها الله في حيرة، بل رزقها بطبيبة أكرمتها، ومن يومها وهي ما بين عيادة الطبيبة والبيت، ولا مجال لحديث مع أحد أو غير ذلك.. حتى الذكريات تتجاهلها كي لا تقتلها حزنًا وقهرًا. ليس هينًا أن يختفي كل من أحببتهم في غمضة عين!
أنت تقرأ
أنفال ٢
General Fictionبين هذه السطور المرصوفة كلماتها يكمن جزء كبير من الحقيقة، والبعض الآخر يحمل زيفًا ربما مبالغ فيه، وربما هو أقل بكثير مما حدث في الواقع، المهم أن بعضًا من تفاصيل الحقيقة لا بد وأن تختفي تحت طيات الكذب؛ لئلا تثير بلبلة أصحابها الذين يخشون فضح حقيقتهم،...