_الفصل الثالث عشر_
كان على وشك السقوط في بحور الفِكر الذي تواعد معها، فلديه قرارات جديدة لا بد من كلمة فيها، ولا بد من خطوة تجاهها.. لكن هاتفه حال دون ذلك وهو يعلن اتصالا من هيا، قرر ألا يرد من أجل الوفاء بوعده مع أفكاره، لكنها عاودت الاتصال، إذًا الأمر مهم! رد يرى ما الأمر، لكنه لم يسمع سوى دموعها ونحيبها.. فانتفض سريعًا من مكانه يسأل عما حدث معها، وحينما علم أن جده واتته أزمة قلبية انتقل على إثرها للمشفى- ركض من البيت يقود سيارته دون اهتمام لسرعته.
شريط طويل من ذكريات تتأرجح أمام عينيه: طفل يمسك بيد زوجة عمه، يناظر الدخول والخروج من بوابة المطار، يلمح جده وعمه ينهيان أوراق السفر، يدخل بيتًا ضخمًا على الطراز الحديث، يتحدث إليه الجد عن حياة جديدة بجمال خاص، يتعرف إلى غرفته، ينطوي على نفسه في أحد أركانها ويذاكر، يقسم أنه سيصبح شيئًا للمستقبل من أجل أمه وأبيه، شاب في مقتبل العمر، يُدرك أنه سيتزوج من فتاة عاش معها على أنها أخت له، يقرر الصمت حتى يتمكن من زرع الذبذبة بداخلها وداخل كل من تسول له نفسه تحديد مصيره ورسم حياته، شاب يكبر أكثر ويحصل على درجات علمية عالية، يصبح محاطًا بالصمت أكثر، ويرى القساوة تفوح من جده وكل ما يخصه، المتحكم الوحيد في مصائر العائلة بأكملها، الصامت صمت المشكوك فيهم، شاب يتقابل مع شاب آخر، يصبح الصاحب والأخ والطريق والحياة، يقف على أعتاب القرار الأخير يبلغ عن رغبته وقراره النهائي في العودة للوطن، خروجه من المطار وذكريات الطفولة تراوده، تصميم الجد على خطبته من ابنة عمه، معرفته الحقيقة كاملة التي أخفاها الجد بكل أنانية، كسره لعين جده أمام ضيوفه بإظهار حقيقته.. الجد الآن بين الحياة والموت..
انتهت ذكرياته مع وصوله للمشفى التي يُنعش فيها قلب الجد، وقف أمام باب غرفته متلحفًا بيد زوجة عمه الباكية، عينه لا ترتفع عن الباب، ينتظر خبرًا يهدئ من روعه، رغم كل شيء لن يستطيع كره جده، لن يستطيع التخلي عنه، لن ينكر أبدًا أنه سبب كل النعيم الذي هو فيه من مال وتعليم ومكانة، ولن ينسى أيضًا أن لولا سفره لأمريكا لما كان تعرف إلى يزيد الذي هو بمثابة نفسه الآن.
خرج الطبيب يحمل فوق تعابيره أسفًا مقدمًا، اقترب آدم قبل الجميع يسأله حالة جده، نفى الطبيب بقلة حيلة وهو يوضح:
- حالته متأخرة أوي، وبقاله فترة ما خدش دوا القلب.. مش بإيدينا إلا الدعا يا بني.
غادر الطبيب تاركًا خلفه قلوبًا مشتتة المشاعر، ولم يكن بيد أيهم إلا الدعاء الذي لم يطل وقته إذ بحركة غريبة سريعة حدثت فجأة، الممرضات يركضن لداخل الغرفة ويخرجن، الطبيب يطلب صاعق الكهرباء، لكن قبل أن يمس به جسد الجد استعاد الأخير بعض أنفاسه، وبعد بضع دقائق قضاهم الطبيب وممرضاته في ضبط الأجهزة بجسد الجد- خرجت إحدى الممرضات تطلب آدم بناءً على رغبة الجد، لم يكن مستعدًا في الواقع لتلك المواجهة، يعلم يقينًا أن ذاك المشهد الدرامي سيكون مآله اعتذار مغلف بأسف وأعذار لا حصر لها، لكن الله استرد أمانته قبل أن يخطو للغرفة خطوته الأخيرة!
________________
تجلس بشرفة البيت تجاورها سارة وهبة اللتان تختطفان النظر لبعضهما، ما زالتا غير مصدقتين أنهما على قيد الحياة! وما زالت أنفال منذ عادت من عند الشيخ تواظب على ما طلب منها أن تفعل، لديها أمل كبير في الله أن سارة ستُشفى قريبًا، لقد أظهرت استجابات عديدة منذ الأمس، أولها أن سمحت لهبة بمسك يدها أثناء العودة، وثانيها أن أدت فريضة العشاء والفجر في جماعة معها وهبة والسيدة رزان، وآخرها جلوسها معهم بالشرفة الآن، لا تعلم أي علاج هو صاحب الإنجاز في حالتها، لكن لتواظب على الجميع ما دامت النتيجة في تقدم...
سمعت صوت رزان تبكي، فانتفضت للداخل تسألها ما حدث، عرفت بأمر وفاة جد آدم، جلست إلى جوارها، فأخبرتها رزان بما فعله فيها، وأنه سبب تعاسة حياتها طيلة الفترة الماضية، ردت أنفال محاولة أن تسحبها لسبيل المسامحة، وأن الرجل الآن يُسأل، وهو بحاجة لمسامحتها، أعلمتها أنها قادرة على ذلك، وأن ما حدث بحياتها به أو بغيره كان ليحدث، فذلك مكتوب عند الله، وكان اختبار صبرها، ونتيجته كانت خيرًا لها، إذ سخر الله لابنها دروبًا للنجاح ربما ما كان ليصل لها دون ما حدث، ووصلت هي لدرجة من اليقين ما كانت لتحلم أن تصل لها، بل وللنضج أيضًا.
بعد الكثير من الحديث في الأمر سمعنا صوت سيارة يزيد بالأسفل، صعد وجلس إليها، قال ببعض التردد:
- آدم محتاجك جنبه يا ست الكل.
- أروح فين؟ أروح للبيت اللي بدأت فيه كل أحزاني؟ وأروح لمين؟ للشخص اللي...
لم تتم كلماتها بسبب يد أنفال التي أمسكت بيدها، ضغطت عليها مع ضغطها عينيها تذكرها بما تحدثا فيه منذ قليل، تنهدت بقوة تحاول التماسك والثبات، أنفال على حق، الموت لا شماتة فيه، ولن تنال شيئًا من عدم مسامحتها له، بل ستكون أفضل منه وستذهب للتعزية في موته، ستنسى الماضي من أجل الحاضر، هذا وحده القرار السليم!
ارتدى الجميع ثيابه استعدادًا للذهاب إلى بيت الجد الكبير، وأصر مصطفى على التواجد معها، فانطلق الجميع من بينهم أنفال وهبة وسارة، حيث وجدها يزيد فرصة لأن تستشعر الفتاتان جو الحزن على الموتى، ويستعيدان ذكرى وفاة أحبائهما، لربما غير ذلك شيئًا من نفسيهما، لربما استطاعتا تجاوز الفاصل الزمني بين الحادث واللقاء باليقين أن الدنيا إلى فناء، وأن عليهما متابعة الحياة وإقامة رسالاتهما فيها لأجل بعضهما، فهما يستحقان حياة مثالية لا يشوبها ماضٍ بهذه القساوة.
وصل الجميع لبوابة البيت، الذكريات تقتحم رأسها بقوة، حبها لفارس، العقبة التي وضعها والده بينهما، إصرار فارس ووفائه لوعده، مجيئها برفقته لنيل رضا والده، فظاظته وغلظته معهما، وختامًا طرده لهما من بيته، الآن هي على أعتاب البيت نفسه الذي طُردت منه منذ ما يتجاوز الخمس سنوات بعد العشرين، وما عليها إلا أن تدعس الماضي وذكرياته، ربما عادت لنقطة البداية من أجل البداية!
أمسكت بيدها أنفال، وتقدمتا سارة وهبة اللتان يُناظران البيت بأعين لامعة، ترتيبه وزهوره وألوانه، أرضه وجدرانه وكمالياته، كل شيء هنا يستدعيك للتأمل. جلس الأربعة متجاورين، ولكن لم يطُل جلوس رزان وهي ترى والدة هيا تقترب منها بأعين استحال بياضها احمرارًا من شدة البكاء. تواجهتا لدقيقة قبل أن يلقيا بأنفسهما بين يدي بعضهما، هما بحاجة لهذا العناق، فرزان مدينة لها بكل ما بذلت من أجل تربية آدم وتنشئته نشأة سليمة، ووالدة هيا بقلب كبير يحمل من الحب ما يكفي لإشباع غالب جوعى الحب. بقيتا على وضعهما دقائق معدودات، ثم تجاورتا جلستهما في صمت حتى أقبلت عليهما هيا، بفستان أسود يصل للأرض، وأكمام طويلة تنتهي بعقدة عند المعصم، خصلاتها ملفوفة بعناية في وقار سيدة أربعينية ربما، قدمتها والدتها لرزان التي ابتسمت من بين دموعها وهي تستقبلها بين أحضانها، قالت بصوت بح:
- كبرتِ يا هيا.
- كنت أتمنى أشوف حضرتك في ظرف أفضل.
قالتها بينما تبتعدان عن بعضهما، ربتت رزان على يدها وهي تعقب:
- المكتوب مكتوب يا بنتي.
تشارك الجميع العزاء، وبدأت المعزيات في الإياب واحدة خلف الأخرى، حتى فرغ البيت على قاطنيه، قررت رزان المغادرة، لكن قدوم آدم صحبة مصطفى ويزيد ونعيم أوقفها محلها، استقبلت آدم بين ذراعيها، فهمس يرجوها:
- سامحيه يا ماما، سامحيه بالله عليكِ، قد ما كان سبب تعاستنا لكن ليه أفضال ما نقدرش نتجاهلها، وقد ما كان فيه قسوة مليان حنية، سامحيه يا ماما، أرجوكِ.
- سامحته ونسيت الماضي من وقت ما قررت أدخل البيت هنا يا بني، سامحته من كل قلبي، ربنا يسامحه.
قالتها تطمئنه وتطمئن نفسها، هي بحاجة لذلك في الواقع. استأذن الجميع الذهاب، وبينما الكل عند باب البيت الخارجي التفتت أنفال لترى آدم يقف بعيدًا بصحبة هيا، بدا كلاهما قريبين بالمسافة، وبدت يد آدم في تردد ما بين لمس هيا لتعزيتها في موت الجد، وبين رفض عقله لذلك، لكن وبكل أسف ترك نفسه للخطأ يسحبه سحب العميان بحجة المواساة، لامس ذراعها بيده مربتًا... هنا والتفتت أعين أنفال لجهة أخرى تنعي رؤيتها ونظرتها التي خابت في هذا الشاب...
بينما على جهة أخرى من نفس المكان فقد كان يقف معزيًا، يخبرها معرفته عن مدى حبها لجدها وتعلقها به، ويواسيها أن هذه هي الحياة ولا بد من تقبل الواقع والقدر، كانت هي تومئ على يقين بصحة ما يقول، لكن قلبها يؤلمها، لقد كان يشعر بدنو أجله، كان في أيامه الأخيرة يكرر على مسمعها أنه يشم رائحة الموت من حوله، تذكر أنه أخبرها أن آدم يحبها حبًا لا يعلمه حتى هو، لكنه لم يستطع رؤية هذا الحب لما يحمل فوق قلبه من مشاعر متضاربة تجاه الحياة وأمه وجده، زرع فيها القوة من جديد كي تسعى لكشف حقيقة آدم أمام آدم نفسه، دفعها لصفعه بحقيقة التيه التي كان يعيشها، فاصدم بواقع قد يحمل من الخسارة ما لا يقدر عليه، الآن عليها أن تحدد مصير الواقع هذا، إما بارتباط أبدي قوي، أو انفصال مع بتر ذكريات الماضي ومتابعة حياتها التي تنفرط أيامها دون قدرة منها على جمعها! قالت:
- جدي أمني أمانة، نصيبك من ورث أبوك وجدك محفوظ ومثبوت بالورق.
- مش وقته يا هيا.
- لا وقته يا آدم...
ابتاعت لعابًا محملًا بالقلق وهي تتابع ما بدأت:
- وكمان أنا... محتاجة أعرف هخطط لمستقبلي ازاي وفين.
لم يتحدث، انتظرها تتابع حديثها، لم يكن يعلم أنه انتهى بالفعل، وأن القادم من قول بلسانه هو، قراره هو، تصريفه هو... لكنه إلى الآن لم يستطع اتخاذ القرار الذي لا ريب فيه! كيف سيخبرها بحاجته لوقت إضافي! ألهذه الدرجة هو ضائع! ضعيف! لن يُصنف وضعه هذا بالحذر أبدًا، لقد وضع نفسه في خانات متعددة، فكر فقط في تنفيذ ما رغب، في معارضة جده على قراراته وإن صحَّت، لكن لم يفكر في أي تلك القرارات صحيحة أو على قدر من الصواب على الأقل، المهم فقط هو ألا يحدد له أي أحد مستقبله، رغم أن بعض رؤى الكبار تصدق، والأخذ بقولهم أحيانًا يكون مكسبًا!
انتبه على صوتها تسأله فيما شرد، لكن صوت أمه على الجهة الأخرى تناديه للمغادرة حال دون رده، أو أنقذه من الرد.. اتفق معها على موعد لقاء بنهاية الأسبوع، وحينها سيكون كل شيء على بينة.. هكذا كان ينوي، وعلى هذا كانت هي تنتظر.
_________________
لم يغمض لها جفن تلك الليلة، شعور القلق عاود يتسرب من قلبها إلى معدتها من جديد، لا تدري لماذا هذه الانقباضة بقلبها، ولا تدري إلام ستنتهي الأمور، موضوع أفنان لن ينتهي بهذه البساطة! ووالدها بدأ بالفعل في بث الرعب داخلها بصمته الأيام السابقة وسؤاله المفاجئ عن سبب ترك أفنان البيت.. ربما عليها أن تجلس مع أفنان قبل أن يفعل أباهما؛ تعلم أفنان جيدًا، لن تُفيد أحدهم بكلمة، فهي لا تجيد الحديث في الحياة الواقعية، ولا تتمكن من الرد بشكل لائق فيما يخص المواضيع التي قد تكون فاصلة في حياتهم، كما لا يمكنها إيصال معلومة مفيدة للطرف المُتلقي، بل تبقى تدور حول الموضوع دون قدرة على إيضاح ما تريد قوله بالضبط!
تحركت إلى حيث يمكنها التحدث مع أفنان بعيدًا عن الآذان، جالستها بعد إبداء رغبتها في معرفة تفاصيل ما حدث الفترة الماضية، والأمر الذي أثار تعجب أنفال أن أختها كانت تتحدث ببساطة وطلاقة لم تعهدها عليها! كانت دومًا ما تُخطئ التعبير عما تود التحدث فيه، لكنها الآن توصله بأفضل طريقة ممكنة! حاولت أنفال أن تتذكر كم مرة تحدثت مع أختها في أسرار تخصها، أو آراء تراها في أمور معينة، أو محاولات لفتح مواضيع مختلفة مثلًا... ويا للعجب! لا وقت جمعهما على ذلك! بقيت تستمع لما تسرد أفنان بوجع طفق على نبرتها وهي تحكي وكأنها تنفجر:
- أنا مشيت عشان خُفت يا أنفال، خُفت تكون طاقة أمك ناحيتي خلصت فعلًا، خُفت تقول لبابا على كل اللي كنت بعمله زي ما هددتني، أنا عملت كمية غلطات ما تتغفرش، وهي زهقت مني، خُفت بجد.
ربتت أنفال على فخذها بحنان تستجديها المزيد من البوح بما يُثقل قلبها وكاهلها، وكأن أفنان كانت بانتظار ذلك، فراحت تعترف:
- أبوكِ مكرهني فيه وفي حياتي يا أنفال، الغلط ممنوع، ولو حد غلط فينا البيت كله بيتعاقب، والحياة بتقلب ضلمة وسواد على الكل، أنا بخاف منه لدرجة الكره، هزاره معانا نفسه مكرهني في نفسي، ما فيش أب بيهزر مع ولاده بصوت عالي، أنا بخاف من الصوت العالي يا أنفال.
أومأت أنفال تؤكد فهمها لما قالت أختها، وانتظرت باقي حديثها الذي أتى دون توقف:
- أنا طلعت من هنا ومش عارفة نفسي رايحة على فين، وأول من جه ببالي لما طلعت الشارع كانت أم رحمة صحبتي، رحمة دي كانت معايا في الدبلوم، هي بنت متعبة وأمها تعبانة أوي، كانت بتحبني جدا الست دي، ولما كانت تيجي المدرسة كانت تسأل عليا زي ما بتسأل على بنتها، وأنا أعرف إن بنتها اتجوزت وسافرت من مدة، بس ما كنتش أعرف إن أم رحمة كمان اتجوزت وجوزها قاعد معاها في البيت.
- وعرفتِ بيتها منين؟!
كان هذا سؤال أنفال اللاحق لما قالته أفنان، فأجابت الأخيرة بخجل من نفسها:
- بصراحة أنا رحت لها قبل كده مع رحمة.. كان يوم دراسة وأنا ما رحتش فيه المدرسة.
لم تعلق أنفال، بل انتظرت متابعة أفنان لما حدث معها، وبالفعل تابعت:
- رحت لها، وفتحت لي بيتها، وعاملتني زي بنتها وأكتر، عمي الشيخ سعيد هو اللي كان بيدور حواليا عشان يعرف أهلي وعنواني، بصراحة ربنا أنا فضلت في الأول خايفة أقول له يقوم يرجعني وأبويا يعمل لي حاجة، وهناك فكرت كتير أكلمك على النت أو أتصل بيكِ من أم رحمة، بس منعني إني عارفة إن بابا بيلم التليفونات كلها مجرد ما تحصل مشكلة في البيت، فخفت يكون فونك معاه.. لغاية ما قلت لعمي الشيخ سعيد على عنواننا وقلت اللي يحصل يحصل...
تنهدت أفنان بقوة قبل أن تقول من بين دموعها:
- تصدقي بالله؟ يوم ما أبوكِ جه كنت حاسة إنه جاي.. ولما شفته يا أنفال قدامي ما اتهزش فيا شعرة، هو كان بيعيط أوي، وده المفروض يضعفني.. بس العكس إني ما حستش بأي حاجة.. ما كنتش فاكرة غير إنه ضربني مرة على ودني بالقلم لدرجة إني ما بسمعش بيها كويس لحد دلوقتي عشان عليت صوتي عليكِ في مرة، إنه ضربني بالقلم قدام عمي صابر مرة عشان القهوة اتقلبت مني وأنا بقدمها، إنه كان يهزر مع الكل وينساني، حاجات كتيييير أوي افتكرتها في اللحظة دي يا أنفال جمدت دموعي في عيني.
انهارت بما تقول، ولم يكن بيد أنفال إلا أن احتضنتها بقوة، فراحت تتابع أفنان بتعب:
- ويوم ما حبيت إنسان ما شافنيش غير أخت ليه، ويوم ما حاولت أكون صداقات أمي كانت تقف في طريقي وتقول لي أصحاب النت بييجي من وراهم مشاكل، كانت تراقبني في كل خطوة وكل كلمة، ما حستش يوم واحد إنها بتثق فيا...
علمت أنفال أن ما تحمله أختها ليس بهين، إنها تنتبه لتفاصيل على قدر بساطتها تؤلم ألم السياط على جلود متورمة! حاولت أن تُهدئ من حالتها لكنها فشلت.. فأفنان تحبس البكاء منذ زمن بعيد، والآن هي راغبة في التحرر من قيد عبئها وألمها.. فلم تجد أنفال بُدًا من تركها ترتاح ولو قليلًا.. وفي خضم ما يحدث بينهما كان عند الباب من تقطعت نياط قلبه حزنًا وضعفًا لما سمع.. لكن أيهما لم ينتبه لوجوده، أو هو من تعمد التخفي عن أنظارهما!
بقيت الفتاتان على حالهما، إحداهما تشكو خرابها النفسي، والأخرى تتحسر على ما فات من عمر وهي غير قريبة لأختها.. وعلى جهة أخرى يبكي هو في صمت تام حتى اكتفى مما سما وعاد نادمًا لغرفة نومه، كان ينوي أن يُجلس أفنان ويفتح تحقيقًا قويًا معها عن كل ما حدث وما فعلته به الفترة الماضية، أما الآن فقد اكتشف مدى هشاشته وأنه غير قادر على توجيه سؤال واحد لها، فإجابتها قد تتضمن في النهاية أنها تكرهه كأب لها.. لم يكن يعلم أن هذا بالفعل كان اعتراف أفنان الأخير لأختها، وأن أوان جعلها تشعر به كأب قد فات واندثر مع الزمن.. لم يُجِد احتواء بناته بالشكل الكافي، بل وزرع بينهم البغض بتفضيله واحدة عن الأخرى، يعلم أنه يُقرب أنفال من نفسه أكثر من اللازم، ومع ذلك فقد انفجر فيها ذاك اليوم وحملها بالكامل الذنب في فعلة أفنان، لكن الحقيقة وكل الحقيقة أنه الوحيد المذنب هنا بين الجميع.
انتصف الليل، وولجت كل واحدة إلى فراشها ترتجي النوم، لكن من أين لمن اهترأ قلبه أن يرى نومًا، فكل قطعة من القلب تضرب بجزء من جسده وتُشعره أن القلب يتنقل بين العضلات والأوردة، فأصبح كل الجسد عليلًا... تصاعد أذان الفجر، ووقفت أنفال على سجادتها في ركن قصي، تبكي بحرقة تُفرغ مخزون الحزن والألم بقلبها، لا يغيب عن بالها وعقلها ما رماها أبوها به، وزاد عليها حديث أفنان عن شعورها بالنقص بينهم، الكثير من الوجع يتكالب عليها فيفقدها التحكم في صوتها الذي علت نبرته بالبكاء، وأفقدها قدرة التحكم في دموعها التي تسببت في شوشرة الرؤية أمام عينها... وبينما هي على هذا الحال أتاها صوت الهاتف يعلن اتصالًا.. إنه عمر.. دواء العلة، وسكينة الروح، وراحة النفس، وأمان الحياة.. انتفضت تركض إليه، أفضت بكل ما تحمل من آلام على مسمعه، وسمع هو بقلب واسع، حتى إذا ما انتهت قال:
- بحبك.
انتشر الصمت المفاجئ، وتحول شعور قلبها المهترئ لقلب تعافت جروحه حتى أصبح يضرب منتظمًا، واستقر موضعه في صدرها فتلاشت آلام جسدها.. كلمة واحدة فقط من أربع حروف كان لها تأثير علاج سنوات طوال بل وأفضل.. من الجيد اختيار الكلمات في المواقف، والأكثر جمالًا أن تخرج تلك الكلمات عن لسان صادق وقلب ينبض بالحب.. حينها فقط سيسيطر الحب وحده وينهي كل معاناة قد تفسد عليه وضعه.
______________________
حلت نهاية الأسبوع، وهناك موعد عالق في الذاكرة والروح، تجهزت لرده، وتجهز هو للقرار النهائي أخيرًا، زار أمه أول الأمر، وقبل أن يخرج من بيتها تقابل وأنفال عند الباب، للحظة شعر أنه لم يُشعر تلك الفتاة بأي قرابة بينه وبينها، رغم أن هذه الحقيقة في الواقع، لكن الوضع يُحتم عليه أن يكون لها أخًا، الوحدة أمر قاسٍ للغاية، لن ينكر ذلك، فهو كان يحيا الأمر قبل إنارة يزيد لحياته، وبنهاية الأسبوع المقبل ستغادر هبة صحبة أختها سارة لبيتهما تاركين أنفال وأمه، على هذا اتفقت هبة معهم جميعًا مؤكدة أنها ستتابع وأختها جلسات الدكتور يزيد، بينما ستعود أمه وأنفال لبيتهم مع مصطفى، ستعود الفتاة وحيدة من جديد، وستفرغ الدنيا عليها إلا من اتصالات متباعدة من هبة وأختها.. لكن ماذا يستطيع أن يقدم هو لها؟ أيعرض عليها الأخوة!
____________________يتبع...
أنت تقرأ
أنفال ٢
General Fictionبين هذه السطور المرصوفة كلماتها يكمن جزء كبير من الحقيقة، والبعض الآخر يحمل زيفًا ربما مبالغ فيه، وربما هو أقل بكثير مما حدث في الواقع، المهم أن بعضًا من تفاصيل الحقيقة لا بد وأن تختفي تحت طيات الكذب؛ لئلا تثير بلبلة أصحابها الذين يخشون فضح حقيقتهم،...